وأمام المقام المحمود الذي ذكر الله في كتابه وعظم شأنه فهو لنبينا محمد r.
وكذلك حق أوليائه محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان بكراماتهم، لا دعاؤهم ليجلبوا لمن دعاهم خيرًا لا يقدر على جلبه إلا الله تعالى، أو ليدفعوا عنهم سوءًا لا يقدر على دفعه إلا هو عز وجل، فإن ذلك عبادة مختصة بجلاله تعالى وتقدس.
هذا إذا تحققت الولاية رجيت لشخص معين كظهور اتباع سنة، وعمل بتقوى في جميع أحواله، وإلا فقد صار الولي في هذا الزمان من أطال سبحته، ووسع كمه، وأسبل إزاره، ومد يده للتقبيل، ولبس شكلاً مخصوصًا، وجمع الطبول والبيارق، وأكل أموال عباد الله ظلمًا وادعاء ورغب عن سنة المصطفى وأحكام شرعه؛ فنحن إنما ندعو إلى العمل بالقرآن العظيم، والذكر الحكيم، الذي فيه الكفاية لمن اعتبر وتدبر وبعين بصيرته نظر وفكر، فإنه حجة الله وعهده ووعده ووعيده؛ فمن اتبعه عاملاً بما فيه جد جده، وبان سعده، ومن خالفه واتبع هواه فقد ضل ضلالاً مبينًا.
والتوحيد ليس هو محل الاجتهاد، فلا تقليد فيه ولا عناد!
ولا نكفر إلا من أنكر أمرنا هذا ونهينا، فلم يعمل بما أنزل الله من التوحيد، بل عمل بضده الذي هو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، كما سنذكر أنواعه، وجعله دينًا، وسماه وسيلة عنادًا وبغيًا، ووالى أهله وظاهرهم علينا، ولم يقم بأركان الدين وامتنع من قبول دعوتنا، وأمر بقتالنا وإرجاعنا عن دين الله الحق إلى ما هم عليه من الشرك، والعمل بسائر ما لا يرضي رب العباد، ويأبى الله ِإلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
وما حجتهم علينا إلا أن المدعو يكون شفيعًا ووسيلة. ونحن نقول: إن هؤلاء الداعين الهاتفين بذكر الأموات والأحياء الغائبين يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم وإبراء مريضهم، ومعافاة سقيمهم، وتكثير رزقهم وإيجاده من العدم، ونصرهم على عدوهم برًا وبحرًا، ولم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة. وحقيقة قولنا أنَّ الشفاعة وإن كانت حقا في الآخرة، فلها أنواع مذكورة في محلها.
ويجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته r بل وغيره من الشفعاء، فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص ما عدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون.
فالوصف: «من مات لا يشرك بالله شيئًا».
كما في البخاري من حديث أبي هريرة t عن النبي r أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة، وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا»، وحديث أنس بن مالك الذي في الشفاعة بطوله، وحديث الذراع الذي رواه أبو هريرة المتفق عليه. وإذا كانت بالوصف فرجاؤه أن يشفع فيه نبيه هو المطلوب.
فالمتعين على كل مسلم صرف همته وعزائم أمره إلى ربه تبارك وتعالى، وبالإقبال إليه والاتكال عليه، والقيام بحق العبودية لله عز وجل، فإذا مات موحدًا شفع الله فيه نبيه.
بخلاف من أهمل ذلك وتركه، وارتكب ضده من الإقبال إلى غير الله بالتوكل عليه، ورجائه فيما لا يمكن وجوده إلا من عند الله، والالتجاء إلى ذلك الغير، مقبلاً على شفاعته متوكلاً عليها، طالبًا لها من النبي r أو غيره، راغبًا إليه فيها، تاركًا ما هو المطلوب المتعين عليه، من إخلاص للعبادة لله وطلب الشفاعة منه، فهذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم، ولم تنشأ فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد.
ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذنه وحده، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما، لأن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب لتأثيره فيه بشفاعته، ولا سيما إن كانت من غير إذنه، فجعله يفعل ما طلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه، ولهذا قال عز من قائل: ]قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا[([1]). وقال: ]وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ[([2]).
فمن طلبها من غير الله، فقد زعم أنها مشروعة بغير إذن الله ورضاه عن المشفوع له. والله يقول: ]مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ[([3]). وقال تعالى: ]وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلهُمْ يَتَّقُونَ[([4]).
والعبرة في النصوص بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع ملاحظته وعدم الاقتصار عليه.
([1]) سورة الزمر آية 44.
([2]) سورة الأنعام آية 94.
([3]) سورة السجدة آية 4.
([4]) سورة الأنعام آية 51.