شعار الموقع

الإيمان لأبي عبيد القاسم 3 من قوله: "فإن قال قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة والسبعون؟.." إلى قوله: "إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله..."

00:00
00:00
تحميل
279

(المتن)                                   

قال أبو عبيد: فإن قال لك قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟ قيل له: لم تُسمَّ لنا مجموعة فنسميها، غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه، وإن لم تُذكَر لنا في حديث واحد، ولو تُفُقِدَت الآثار لوجدت متفرقة فيها، ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان وكذلك قوله في حديث آخر: الحياء شعبة من الإيمان، وفي الثالث: الغيرة من الإيمان، وفي الرابع: البذاذة من الإيمان، وفي الخامس: حسن العهد من الإيمان؟! فكل هذا من فروع الإيمان.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد..

فهذا اعتراض اعتُرِضَ على المؤلف -رحمه الله- حينما قال إنَّ شعب الإيمان وأجزاء الإيمان كثيرة وكلها داخلة في مسمى الإيمان, يقول فإن قال لك قائل ، قال -أبو عبيد المؤلف -رحمه الله- أبو عبيد القاسم بن سلام ،قال أبو عبيد يعني: نفسه-: (فإن قال لك قائل واعترض عليك معترض: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟)، يشير إلى حديث: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فهذا الحديث فيه بيان أن الإيمان شعب متعددة وأنه بضع وسبعون، والبضع: من ثلاثة إلى تسعة، ولهذا الإمام البيهقي رحمه الله جمع في كتابه الذي سماه (شعب الإيمان) تسعاً وسبعين شعبة، في كتابه الذي سماه شعب الإيمان .

وقول المؤلف -رحمه الله-: (فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون) في الحديث الذي يظهر لي أنه ليس في الحديث تخصيص بأنها ثلاث وسبعون، وإنما (بضع وسبعون)، والبضع من ثلاثة إلى تسعة، ليست ثلاثة ، (فما هذه الأجزاء لأنه قال :البضع والسبعون) قسم هذه الأجزاء البضع والسبعون  لأنها ؛ في هذا الحديث لم تحدد ثلاث ، وإنما قال النبي ﷺ: بضع وسبعون في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: بضع وستون.

قيل -يعني في الجواب-: (لم تسم لنا مجموعة فنسميها), يعني: هذه الأجزاء البضع والسبعون ، لم تسمى لنا مجموعة فنسميها ،ما سماها لنا الشارع، وقال الجزء الأول كذا والجزء الثاني كذا والثالث كذا ما سماها في مكان واحد وفي حديث واحد.

(غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه)، يعني: غير أننا نجزم بأنها هذه الشعب كلها من طاعة الله وتقواه بضعٌ وسبعون وإن لم تُذكَر لنا في حديث واحد، لكن تؤخذ من مجموع الأحاديث ،من مجموع النصوص من الكتاب والسنة، وهي لم تسم لنا في حديث واحد ،وإن لم تذكر لنا في حديث واحد لكنها سميت في عدة نصوص من الكتاب ومن السنة ، ولهذا قال المؤلف : (ولو تُفُقِدَت الآثار لوجدت متفرقة فيها) يعني لو تفقدت الأثار والنصوص ، الأثار يعني :النصوص، لوُجِدَت متفرقة فيها ، وأقول: ليس خاصة بالآثار، بل كذلك نصوص القرآن الكريم، لو بحثت عنها وتفقدتها في نصوص الكتاب والسنة لوجدت هذه البضع والسبعين، ثم مثَّل -رحمه الله-: (ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان؟!)، في نفس الحديث: الإيمان بضع وسبعون شعبة، قال: فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.

فإذا مثَّل النبي ﷺ في هذا الحديث لأعلاها ولأدناها وللحياء، وقال: أعلاها قول لا إله إلا الله فكلمة التوحيد هي أعلاها، وهي من قول اللسان مع الاعتقاد في القلب، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهذا عمل بدني، والحياء شعبة من الإيمان وهذا عمل قلبي، فمثل للشعبة القولية، ومثل للشعبة العملية، ومثل للشعبة القلبية، فدل على أن شعب الإيمان تكون من أعمال القلوب، ومن أعمال البدن، ومن أقوال اللسان، وكلها داخله في مسمى الإيمان، وهذا يدل على أن مسمى الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح.

يقول: (ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان، وقوله في حديث آخر: الحياء شعبة من الإيمان) في نفس الحديث ، قال والحياء شعبة من الإيمان يعني هذه من أجزائها، وهذا الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ ، رواه الشيخان : البخاري ومسلم -رحمهما الله- الإيمان بضع وسبعون في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: بضع وستون شعبة، فأعلاها وفي لفظ: فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، في نفس الحديث .

 (وفي الثالث: الغيرة من الإيمان ) يعني: في حديث آخر: الغيرة من الإيمان.

المؤلف -رحمه الله- ، المحشي ، المحقق قال: رواه البزار وابن بطة في الإبانة عن أبي سعيد وصله بسند فيه مجهول الحال، لكن جاء في الحديث الآخر في الصحيح أن النبي ﷺ قال: ألا تعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أَغْيَرُ منه، والله أَغْيَرُ مني ،فوصف الله بالغيرة.

(وفي الرابع)، في حديث رابع ، (البذاذة من الإيمان) جعلها من الإيمان ،البذاذة من التقشف يعني ترك الأشياء الجميلة ، والثياب الجميلة ،في بعض الأحيان ،من الأفضل للمسلم أنه إذا أنعم الله عليه بنعمة أن تظهر هذه النعمة عليه ، عليه، كما في الحديث: إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمته على عبده. لكن إذا ترك أحيانا الجمال أو الثياب الجميلة في بعض الأحيان كسراً للنفس وتواضعاً ،فهذا مطلوب، وهذا هو معنى البذاذة، فالبذاذة: هي ترك الثياب الجميلة في بعض الأحيان والتواضع كسرًا للنفس وبعدا لها عن العجب فهذا أحيانا هو من البذاذة؛ البذاذة من الإيمان.

 (وفي الخامس) يعني: في الحديث الخامس: ( حسن العهد من الإيمان، فكل هذه من فروع الإيمان) ولو تتبعت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ كما تتبعها البيهقي رحمه الله لوجدت هذه الشعب، فكل الشعب هذه التي وردت في هذه النصوص من فروع الإيمان.

(المتن)

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

ومنه حديث عمار: ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار والإنصاف من نفسك، وبذل السلام على العالم.

 

(الشرح)

هذا التخريج يقول المحقق: روي مرفوعاً وموقوفاً، والراجح أنه موقوف، على أن في سنده من كان اختلط، ولكن فات على المؤلف الشيخ ناصر الدين الألباني أن أثر عمار هذا رواه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به، قال: (صح عن عمار أنه قال: ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم) ،هذا رواه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به ، ومن المعلوم أن البخاري إذا رواه معلقا مجزوما به ، فهو صحيح إلى من علقه، قال البخاري في صحيحه ، ((وصح عن عمار أنه قال: ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم)، ثلاث من الإيمان أو(10:36) ،أو ثلاث من استكمل الإيمان "نسيت" ، فالمقصود أن هذا الأثر رواه البخاري معلقا في صحيحه مجزوما به إلى عمار فصح أن عمار أنه قال : ثلاث منكم قد استكمل الإيمان أو ثلاث من الإيمان ،الإنفاق من الإقتار يعني: تنفق مع قلة ذات اليد ، الإنفاق مع الإقتار ، يعني ينفق الإنسان ويتصدق ويحسن ولو كان ماله قليلاً، الإقتار: يعني : الضيق والفقر، لينفق الإنسان ،إذا كان عنده درهمان ينفق درهماً ويبقى لأهله درهماً، فهذا هو الإنفاق مع الإقتار، وقد يسبق هذا الدرهم الآلاف، ولهذا جاء في الحديث الآخر: سبق درهم ألف درهم، كيف ؟! هذا إنسان عنده درهمان فتصدق بدرهم وأبقى لأهله درهماً، وذاك عنده ملايين وأنفق من هذه الملايين ألفاً، فيكون هذا أنفق نصف ماله درهمين أنفق نصفا ،وذاك أنفق ألفاً من ملايين، فيكون سبق درهم ألف درهم، فدرهم هذا سبق الألف الذي أنفقه ذاك ، هذا الإنفاق مع الإقتار ،يعني الإنسان يضغط على نفسه ،ويتصدق ولو كان قليلا.

وكان الصحابة لما حثهم النبي ﷺ على الصدقة يحاملون ، يعني: يشتغل حمالي ، يحمل على ظهره، فإذا أعطي الأجرة درهمين تصدق بدرهم وأبقى لأهله درهماً , الإنفاق مع الإقتار.

والثاني: الإنصاف من نفسك، تُنصِف من نفسك فتقول الحق ولو كان على نفسك، وهذا لا يستطيعه إلا أهل العدل، الإنصاف أن تنصف من نفسك ،وتُخبِر بالواقع وتقول الحق ولو على نفسك هذا من استكمال الإيمان.

والثالث: بذل السلام للعالمَ، أي: للناس جميعاً، فبعض الناس لا يسلم إلا على من يعرف، والذي لا يعرفه لا يسلم عليه، وهذا غلط، فالسنة إفشاء السلام على كل من لقيت حاول أن تبدأه تسلم عليه ، إلا إذا عرفت أنه كافر فلا تبدأه بالسلام؛ لقول النبي ﷺ: لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وإذا سلم عليك ولو غير مسلم فرد عليه تقول: وعليكم؛ لقول النبي ﷺ: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم، فبذل السلام للعالم جاء في حديث في سنده بعض الشيء في آخر الزمان يكون السلام للمعرفة، فبعض الناس يسلم على مَن يعرف، أما الذي لا يعرف يمر ما كأن مسلما أمامه ، وهذا غلط وإن كان ابتداء السلام سنة، لكنه من أسباب المحبة، وفي الحديث: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.

(المتن)

ثم الأحاديث المعروفة عند ذكر كمال الإيمان حين قال: أي الخلق أعظم إيماناً؟ فقيل: الملائكة، ثم قيل: نحن يا رسول الله، فقال: بل قوم يأتون بعدكم، فذكر صفتهم.

(الشرح)

هذا الحديث ذكر المحشِّي أنه أخرجه الحسن بن عرفة في جزئه، وأن سنده ضعيف، وهو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(المتن)

ومنه -أيضاً- قوله: إن أكمل -أو من أكمل المؤمنين- إيماناً أحسنهم خلقاً.

(الشرح)

هذا فيه ذكر كمال الإيمان، هذه الأحاديث التي جاء فيها ذكر كمال الإيمان تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت، وأنه أجزاء وأنه متعدد، وهذا فيه ردٌ على المرجئة، وهذا هو الذي يريده المصنف _رحمه الله_، فالأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان تدل على أن الإيمان يكون كاملاً عند بعض الناس ويكون ناقصاً عند بعض الناس، وإذا كان الإيمان يكمل وينقص ، يدل على أنه متعدد وليس شيئاً واحداً كما تقوله المرجئة، المرجئة يقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص،  هو كامل في القلب وهو التصديق، تصديق القلب  لكن الأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان ترد هذا المذهب، مذهب المرجئة ،وتدل على أن الإيمان يكون كاملاً ويكون ناقصاً عند بعض الناس؛ لأنه متعدد؛ لأنه عمل بالقلب وعمل بالجوارح وقول باللسان وتصديق بالقلب، فهذا هو مقصود المؤلف رحمه الله من ذكر الأحاديث في كمال الإيمان، الرد على المرجئة .

(المتن)

وكذلك قوله: لا يؤمن الرجل الإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقاً.

(الشرح)

يعني قوله : (لا يؤمن الرجل الإيمان كله )،هذا فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت، وأن بعض الناس يؤمن الإيمان كله، وبعضهم لا يؤمن الإيمان كله فدل على أنه متفاوت وأنه متبعض وأنه متعدد، وليس شيئاً واحداً كما تقول المرجئة.

وفيه نفي الإيمان الكامل عمن لم يدع الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقاً، هذا إيمانه ناقص، الذي يدع الكذب والمراء وإن كان صادقاً مع أداء الواجبات وترك المحرمات إيمانه كامل، فدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان خلافاً للمرجئة الذين يقولون: إيمان أهل الأرض وإيمان أهل السماء سواء ، شيء واحد لا يزيد ولا ينقص. وهذا باطل.

(المتن)

وقد رُوِيَ مثله أو نحوه عن عمر بن الخطاب وابن عمر، ثم من أوضح ذلك وأبينه حديث النبي في الشفاعة حين قال: فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، وبرة من إيمان، ومثقال ذرة من إيمان.

 (الشرح)

(من أوضح ذلك وأبينه) ،يعني: من أوضح الأدلة وأبينها في رد مذهب المرجئة الذين يقولون: فإن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاوت ولا يتبعض، من أوضح ذلك أحاديث الشفاعة ، فإن أحاديث الشفاعة متواترة ، نصوص الشفاعة متواترة في إخراج العصاة -عصاة الموحدين- من النار، ثبت عن النبي ﷺ يشفع أربع شفاعات في العصاة، وفي كل مرة يحد الله له حداً بعد أن يسجد لربه ويأتيه الإذن من الله ويقول الله له: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع.

قال: (فيحد الله له حداً) بالعلامة، فيخرجهم من النار إلى الجنة، وجاء في بعضها: أن النبي ﷺ يقال له في المرة الأولى: أخرِج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان)، وفي بعضها مثقال نصف دينار وفي بعضها مثقال ذرة من إيمان وفي بعض الأحاديث ثلاث مرات، الأولى: مثقال ذرة من إيمان والثانية أدنى مثقال ذرة من إيمان والثالثة: أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان والرابعة فيمن قال: لا إله إلا الله، فدل هذا على أن الإيمان يتفاوت، فبعض الناس لا يكون في قلبه من الإيمان إلا مثقال ذرة، وبعضهم مثقال شعيرة، وبعضهم مثقال برة، وبعضهم مثقال دينار، وبعضهم أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، هذه النصوص نصوص الشفاعة ، دليل واضح وبيِّن على بطلان قول المرجئة الذين يقولون: إيمان الناس واحد، وإيمان أهل الأرض وأهل السماء واحد, وإيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد، هذا باطل نصوص الشفاعة وهي متواترة ترد مذهب المرجئة الذين يقولون الإيمان شيءٌ واحد لا يزيد ولا ينقص .

(المتن)

ومنه حديثه في الوسوسة حين سئل عنها فقال: ذلك صريح الإيمان.

(الشرح)وحديث الوسوسة حين قال الصحابة رضوان الله عليهم: يا رسول الله! إنا لنجد في أنفسنا ما لئن يخر الإنسان من السماء خيرٌ له من أن ينطق به، وفي لفظ: ما يحب أن يكون حممة أي: فحمة ولا يتكلم به، فقال النبي ﷺ: وقد وجدتموه؟! قالوا: نعم يا رسول الله.قال: ذاك صريح الإيمان، صريح الإيمان كتم الوسوسة ومحاربة الوسوسة واستعظامها وعدم التكلم بها هو صريح الإيمان؛ كونه يحارب الوساوس التي ترِد عليه؛ يُحارِبُها ويُدافِعُها ويكتمها ويستعظمها، هذا صريح الإيمان.

ولهذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تميزوا على المتأخرين، فالصحابة والتابعون إذا وجدوا وسوسة في النفوس حاربوها ودافعوها وكتموها ولم يتكلموا بها، أما المتأخرون فإنهم تكلموا بها وسودوا بها الكتب وشبهوا بها على الناس، وأوردوا الشبه على الناس ، فاضطر أهل العلم من أهل السنة والجماعة إلى الرد عليهم،لما تكلموا بالباطل، وكان الناس في العصر الأول في عافية ، ولهذا كلم المعتزلة والخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم تكلموا بالوساوس التي تكون في نفوسهم والتي تخالف النصوص، أما الصحابة والتابعون ومن بعدهم فإنهم حاربوا الوسوسة وكتموها ودافعوها، فقال النبي ﷺ: ذاك صريح الإيمان يعني: محاربة الوساوس ودفعُها وكتمانُها وعدم التكلُّم بها.

وهذا يدل على أي شيء؟ يدل على بطلان مذهب المرجئة؛ لأنه قال: صريح الإيمان، فالإيمان فيه صريح وغير صريح، والمرجئة يقولون: الإيمان واحد، فكل الناس إيمانهم صريح. وهذا من أبطل الباطل.

(المتن)

وكذلك حديث علي .

(تصحيح)

وعلي ،كل الصحابة لا يُخصَص علي بغير ، كل الصحابة ،هذه بعض الواضعين يكتبونها .

(المتن)

وكذلك حديث علي : إن الإيمان يبدأ لمظة في القلب، فكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياض عظماً.

(الشرح)

هذا موقوف على علي ، يعني أن الإيمان يبدأ شيئاً بعد شيء نكته  ثم يزداد حتى يكبر.

(المتن)

في أشياء من هذا النحو كثيرة يطول ذكرها تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال.

(الشرح)

يعني: هناك أدلة وآثار ونصوص غير هذه النصوص التي ذكرها من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ومن أقوال الصحابة ومن أقوال التابعين والأئمة والعلماء، كلها تبين أن الإيمان يتفاضل في القلوب والأعمال، وذلك لأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذه كلها ترد وتُبطِل مذهب المرجئة الذين يقولون: الإيمان شيء واحد لا يتفاضل، وإيمان البر والفاجر سواء. وهذا من أبطل الباطل.

(المتن)

وكلها يشهد -أو أكثرها- أن أعمال البر من الإيمان، فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكذيب؟!.

(الشرح)

وكلها ..!؟ وكلها تشد..، لا لعلها "يدل" ، لعل الإيمان يدل، لو قال وكلها يدل أو أكثرها على أن أعمال البر من الإيمان، أو وكلها تشهد أو أكثرها ، أمَّا "تشد" ما تجي ، إمَّا تشهد.. أو..!

(فكيف تعاند هذه الأثار بالإبطال والتكذيب )، من قبل المرجئة ، المرجئة عاندوا هذه الآثار، فبعضها أبطلوها وبعضها كذبوها، والواجب على المسلم أن يقبل شرع الله ودينه وأن يقبل الآثار إذا صحت ، الأحاديث إذا صح سندها وعُدِّلَت رواتها فيجب على المسلم أن يقبلها، يقبل الحديث إذا صح سنده وعُدلت رواته، كما أنه يقبل كتاب الله، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

(المتن)

ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، إلى قوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4].

(الشرح)

(ومما يصدق تفاضله بالأعمال ) يعني: ومما يدل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال هذه الآيات الكريمة من سورة الأنفال، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ يعني: إنما المؤمنون الكمل الذين اتصفوا بهذه الصفات الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وهذا عمل قلبي، وجل القلب عند ذكر الله وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا، وهذا من عمل القلب، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وهذا عمل القلب وعمل الجوارح، فالتوكل يجمع أمرين: فعل الأسباب والاعتماد على الله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وإقامة الصلاة من أعمال الجوارح، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، ثم قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، فهذا فيه بيان المؤمنين الكمل، فالذين كمل إيمانهم هم الذين اتصفوا بهذه الصفات، فدل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال.

(المتن)

فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط.

(الشرح)

هذا وجه الاستدلال من الآيات ،قوله: (لم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط) المذكورة، -كما سبق- ،فوجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، والتوكل على الله، وإقام الصلاة، والإنفاق، فجعل الله للإيمان حقيقة ،بالعمل بهذه الشروط ،الحقيقة كامله.

(المتن)

والذي يزعمه أنه بالقول خاصة يجعله مؤمناً حقاً وإن لم يكن هناك عمل، فهو معاند لكتاب الله والسنة.

(الشرح)

(والذي يزعمه أنه بالقول خاصة )، يعني المرجئة ، المرجئة :الواحد من المرجئة يزعم أن الإيمان بالقول خاصة، والذي يزعم أن الإيمان بالقول خاصة يجعله مؤمناً حقاً كامل الإيمان، بمجرد القول ، بجرد قول القلب واقراره وتصديقه، وإن لم يكن هناك عمل، يقول عنه: إنه معاند لكتاب الله وسنة رسوله؛ لأن النصوص -كما سمعتم واضحة-، هذا الكتاب ففي القرآن: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، وفي الحديث: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، فالذي يقول إن الإيمان هو القول خاصة، وإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان بمجرد القول، عاند الكتاب وعاند السنة ، عاند كتاب الله وعاند سنة رسول الله، وهم المرجئة، والمؤلف -رحمه الله- اشتد عليهم؛ لأن النصوص واضحة في هذا.

(المتن)

ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة:10]، ألست ترى أن هاهنا منزلاً دون منزل؟ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ  [الممتحنة:10].

(الشرح)

يعني يقول : أن هذا مما يدل على أن الإيمان يتفاضل في القلب، خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الإيمان في القلب شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ومما يدل عليه آية الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10]، دل على أن الإيمان يتفاضل في قلوبهن، تمتحن ، تمتحن المهاجرة ، فإذا جاءت المرأة مهاجرة إلى المدينة تمُتحَن حتى يُعلَم ما في قلبها من الإيمان هل يُعلم أنها مؤمنة صادقة أو مؤمنة غير صادقة، ولهذا قال: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة:10]، والمعنى: وإن لم تعلموهن مؤمنات فترجع إلى الكفار، ولذلك قال: ألست ترى أن هاهنا منزلاً دون منزل ، يعني: منزل للإيمان، فالمنزل الأول: فَامْتَحِنُوهُنَّ، والمنزل الثاني: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ. يعني: هناك منزلان: منزل: أن تُعلَم أنها مؤمنة، والمنزل الثاني: أن تُعلَم أنها ليست مؤمنة، ولهذا قال :( ألست ترى أن هاهنا منزلاً دون منزل ) هذا وجه الدلالة من الآية على أن الإيمان يتفاضل في القلب.

(المتن)

كذلك ومثله قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ  [النساء:136]، فلولا أن هناك موضعَ مزيدٍ ما كان لأمره بالإيمان معنى.

(الشرح)

وهذا دليل آخر مع بيان وجه الدلالة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] ووجه الدلالة هم مؤمنون وقال لهم: آمنوا، كيف الله تعالى ينادي المؤمنون ويقول :يا أيها الذين آمنوا آمنوا؟!،أليسوا مؤمنين ،يا أيها الذين آمنوا آمنوا، آمنوا يعني : ازدادوا إيماناً، فدل على أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا قال المؤلف في بيان وجه الدلالة: (فلولا أن هناك موضعَ مزيدٍ ما كان لأمره بالإيمان معنى) لو كان الإيمان لا يزيد فكيف يأمرهم بالإيمان؟! والمرجئة يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لو كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص لم يأمرهم الله بالإيمان، كيف يقول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا وهم آمنوا !! والإيمان لا يزيد ولا ينقص ، يكون الأمر ما له معنى، فلولا أن الإيمان يزيد لما قال الله يا أيها الذين آمنوا آمنوا وهذا واضح في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإنما هو شيء واحد في القلب.

(المتن)

ثم قال أيضاً: الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1 - 3].

(الشرح)

وهذه الآية واضحة في أن الإيمان يزيد وينقص، قال الله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا  يعني: في إيمانهم وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.

إذاً: هناك مؤمن صادق وهناك مؤمن غير صادق، فالمؤمن ضعيف الإيمان لا يقال له: صادق الإيمان، يقال: غير صادق الإيمان، والمؤمن قوي الإيمان يقال: صادق الإيمان، فدل على أن الإيمان يتفاوت، فالعاصي إيمانه غير صادق والمطيع إيمانه صادق، ولهذا يقال في العاصي: مؤمن ناقص الإيمان، ويقال: ليس بمؤمن حقاً، وليس بصادق الإيمان، ولهذا قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] في الآية الأخرى، وهنا قال: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. صدقوا في إيمانهم وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.

(المتن)

وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10].

(الشرح)

وهذا فيه بيان ضعف الإيمان، حيث يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ، فهذا ضعيف الإيمان، فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، وفي الآية الأخرى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11] على طرف.

إذاً: الناس يتفاوتون، منهم ضعيف الإيمان فإذا أوذي افتتن عن دينه ونكص على عقبيه، ومنهم الصادق في إيمانه الذي يتحمل ، فدل على أن الإيمان يتفاوت وأن الناس يتفاوتون في الإيمان.

(المتن)

وقال: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].

(الشرح)

إذاً: في تمحيص يمحص الله تعالى الذين آمنوا ، حتى يتبين المؤمن الصادق من المؤمن غير الصادق، فدَّل على أنَّ الناس يتفاوتون في الإيمان، وهذا يدل على يعني دقة هذا المؤلف -رحمه الله- أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله- دقيق الفهم والاستنباط من الآيات والنصوص ، من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فهو إمام رحمه الله, هذه النصوص دقيقة في فهمها وبيان إبطال مذهب المرجئة.

(المتن)

أفلست تراه تبارك وتعالى قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل.

(الشرح)

ولذا قال: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، فالصادق في إيمانه هو الذي يُصدِّق عمله قوله؛ بعض الناس يقول آمنا بالله، فإذا جاءت الفتنة نكص على عقبيه، يقول: آمنا بالله، فإذا طُلِبَ منه الجهاد امتنع، ومن الناس من يقول: آمنا بالله، ثم يجاهد، هذا صدَّق إيمانه بالعمل، والثاني كذَّب عمله ما يدعيه من الإيمان.

(المتن)

أفلست تراه تبارك وتعالى قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل ولم يرض منهم بالإقرار دون العمل.

(الشرح)

 لا يرضى بالإقرار بالقلب فقط، بل لا بد من العمل، ولهذا قال: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [العنكبوت:3]، يعني: الذين صدقوا بالأعمال ،التي صدقت إيمانهم.

(المتن)

حتى جعل أحدهما من الآخر، فأي شيء يتبع بعد كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة؟!.

(الشرح)

يقول الله  لم يرض بالإقرار دون العمل حتى جعل أحدهم من الآخر ،جعل القول من العمل ،كل منهما إيمان، ، فأي شيء يتبع الإنسان بعد كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، التي دلت على دخول الأعمال في مسمى الإيمان؟! وكذلك أجمع على هذا السلف الصالح الذين هم موضِع القدوة والإمامة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ما بعد هذا؟ كيف يترك الإنسان ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم الذين هم موضع القدوة؟

(المتن)

فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان، كما قال رسول الله في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءاً، فإذا نطق بها القائل وأقرَّ بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه، بالاستكمال عند الله .....

(مداخلة)

 تصحيح الشيخ للقارئ  :( لا ،لا بالاستكمال .. ساقطة كلمة  لا ، لا بالاستكمال ما يستقسم المعنى هنا ، لا بالاستكمال ، بالدخول فيه لا بالاستكمال ) ، وأقرَّ بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه، لا بالاستكمال عند الله.

ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد به إيماناً.

(الشرح)

هذا يعتبر خلاصة ، هذه الأسطر ، ستة أسطر هذه خلاصة لمعتقد أهل السنة والجماعة تكتب بماء الذهب، ولو كتبنا بماء الذهب ،لم يكن كثيراً، هذه الأسطر السته -التي سمعتم- هي خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة ،وهي بيان القاعدة العظيمة عند أهل السنة والجماعة في الإيمان، فجدير بالمسلم أن ينبغي أن تكتب هذه الأسطر ينبغي على المسلم يكتبها في ورقة ويجعلها في جيبه دائمًا، حتى إيش ؟! يتبين له مذهب أهل السنة والجماعة ويرد على المرجئة في هذا ،يقول المؤلف رحمه الله: (فالأمر الذي عليه السنة عندنا) يعني عندنا معشر أهل السنة والجماعة والأئمة والعلماء (ما نص عليه علماؤنا) يقول المحشي: ما مضى عليه علماؤنا، ما مضى لها وجه ،ما مضى عليه علماؤنا يعني: ما استمروا عليه واعتقدوه وقرروه ، وجهه ما مضى ، فالأمر الذي عليه السنة عندنا، (ما مضى عليه علماؤنا ،مما اقتصصنا في كتابنا هذا) يعني: مما ذكرنا في كتابنا هذا من الأدلة والنصوص (أن الإيمان بالنية والقول والعمل) يكون .. كم جزء ؟ ثلاثة أجزاء: النية، والقول، والعمل، النية يعني :لا بد من النية ، يعني لما يكون الإنسان ينوي في الصلاة، وفي الزكاة، في الصوم، في الحج ، العبادات لا بد لها من نية؛ إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فلا تصلح الأعمال إلا بالنية، فالنية من الإيمان، والقول يشمل قول اللسان وهو النطق، وقول القلب، وهو التصديق والإقرار، والعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فصار الإيمان مكوناً من أي شيء ؟ من النية والقول يشمل أمرين: قول القلب وقول اللسان ، والعمل يشمل أمرين عمل القلب وعمل الجوارح .

فيقول الإمام أبو عبيد رحمه الله: (الأمر الذي عليه أهل السنة عندنا ما مضى عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا ؛ أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وأنه درجات بعضها فوق بعض) خلافاً للمرجئة الذين يقولون: شيء واحد ،المرجئة يقولون : الإيمان شيء واحد ، ما في درجات ، ولا نية ولا عمل، ولا ما فيه إلا قول القلب وتصديق القلب فقط، (وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها) أول الدرجات وأعلاها ماهي ؟ كلمة التوحيد ، لأنها أصل الدين وأساس الملة، الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه ﷺ بالرسالة ،هذا أصل الدين وأساس الملة ، هذا أول الإيمان ،أول درجات الإيمان وأصلها وأُسُّها الذي تنبني عليه الأعمال، هو الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. هذا أولها و أعلاها : الشهادة باللسان ،كما قال الرسول الله ﷺ في الحديث (الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءاً) في الحديث (الذي جعله) والضمير يعود إلى الإيمان، (فيه بضعة وسبعين جزءًا) يشير إلى الحديث الذي في الصحيحين السابق ،حديث أبي هريرة: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق فإذا نطق بها القائل؛ إذا نطق بكلمة التوحيد ، قال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) وأقرَّ بما جاء من عند الله ، يعني التزم ، أقر واعترف وصدق بما جاء من عند الله من الأوامر والنواهي نطق بالشهادتين ، وقال :أشهد أن لا اله إلا الله ، وأشهد أن محمد رسول الله ،هذا مسلم مؤمن وملتزم بالشريعة ، إذا نطق بها وأقرَّ بما جاء من عند الله ،(لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه) صار يسمى مؤمناً ، ويسمى دخل في الإيمان ،لا بالاستكمال فيه ، (لا بالاستكمال عند الله) ما نقول أن إيمانه مستكمل ، حتى ننظر حتى يعمل ، كونه نطق بالشهادتين ، والتزم بأحكام الإسلام ،هذا دخل في الإسلام ،ودخل في الإيمان ، لكن ما يكون مستكملا للإيمان ، حتى يعمل ، حتى يتمثل الأوامر ويجتنب النواهي ،ولهذا قال المؤلف : (فإذا نطق بها) يعني :بالشهادتين (القائل وأقرَّ بما جاء من عند الله ، لزمه اسم الإيمان في الدخول فيه ) صار يسمى مؤمنا ، أي دخل فيه، لا بالاستكمال فيه ، لا نقول أنه استكمل عند الله، (لا بالاستكمال عند الله ولا على تزكية النفوس) وليس له أن يقول: أنا مؤمن، فيزكي نفسه، بل أنه مؤمن الآن ، لزمه اسم الإيمان ،لكن لا يكون مستكمل الإيمان حتى يؤدي الفرائض وينتهي عن النواهي ، وليس له أن يزكي نفسه فيقول أن مؤمن ، ولكن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله أرجوه، كما قال بعض السلف، وكما سيأتي.

 (وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد إيماناً)، كل ما زاد في الطاعات ،في النوافل ، في الصدقات ،نوافل العبادة ،زاد من الفرائض يصلي الصلوات الخمس ، هذا مؤمن ، لكن إذا زاد صلى السنن الرواتب وصلى الضحى، وصلى تحية المسجد، وسنة الوضوء، وصلى في الليل صلاة الليل، وكذلك أيضا زاد في الصلاة ، في الصوم ، صام ثلاثة أيام من كل شهر، وصام الاثنين والخميس، وصام تسع ذي الحجة، وستاً من شوال، والتاسع والعاشر من محرم زاد تقواه وإيمانه، وكذلك الزكاة أداها وتصدق الصدقات ،كل ما زاد لله طاعة وتقوى ، زاد إيمانه ، خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص, وهذه الأسطر الستة تُكتَب بماء الذهب وهي تُمثِّل معتقد أهل السنة والجماعة وينبغي أن تُكتَب.

(المتن)

باب: الاستثناء في الإيمان

قال أبو عبيد: حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي الأشهب عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود: أنا مؤمن. فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟! فقال: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟

(الشرح)

هذا الحديث أو هذا الأثر، عن ابن مسعود وإن كان قال المحشي: إن سنده منقطع له شواهد تقويه وتشده ، كما ذكر المؤلف -رحمه الله - أنه (قال رجل عند ابن مسعود: أنا مؤمن) يعني ما استثنى، فكأنه يزكي نفسه، ما قال إن شاء الله، فقال ابن مسعود: (أفأنت من أهل الجنة؟!) تستطيع أن تقول: إنك من أهل الجنة؟! قال: أرجو ،قال: لماذا لم تقل في الإيمان: أن مؤمن أرجو أن أكون مؤمنًا، أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى ، أفلا وكلت الأولى إلى مشيئة الله كما وكلت الأخرى إلى مشيئة الله؟! لما قال له : أنت من أهل الجنة ؟ قال : أرجو، يعني : إن شاء الله ، ولما قال أنت مؤمن ؟ قال أنا مؤمن فسكت ، قال اجعل الأولى مثل الثانية ، استثني قول أنا مؤمن إن شاء الله ، أو قل أرجو ، لأنك لا تزكي نفسك ، لأن شعب الإيمان متعددة، ولا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه ، فالإنسان محل النقص والتقصير، يتطرق إليه النقص والخلل في أداء الواجبات أو في فعل شيءالمحرمات، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، ولا يزكي نفسه، ولهذا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فلهذا أنكر ابن مسعود عليه وقال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟! أفلا وكلت الأولى إلى مشيئة الله كما وكلت الأخرى ، الأولى قال أن مؤمن ،والثانية لما قال له : أنت من أهل الجنة ؟ ، استثنى في الثانية ولم يستثن في الأولى.

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن سعيد عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: بينا نحن نسير إذ لقينا ركباً، فقلنا: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون؟ فقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟!

(الشرح)

وهذه كذلك، يعني: أنكر عليهم قولهم: نحن المؤمنون يعني لماذا لم يستثنوا؟! لمَ لم يقولوا نحن مؤمنون إن شاء الله؟! فلما (جاء رجل قال: بينا نحن نسير إذ لقينا ركباً، فقلنا: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون؟) فأنكر عليهم عبد الله, (فقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟!) يعني: من جزم بأنه مؤمن فليجزم بأنه من أهل الجنة، يعني لمَ لم تقولوا نحن مؤمنون إن شاء الله؟! فمعنى إنك لا تجزم أنك من أهل الجنة ، فلا تجزم أنك مؤمن بإطلاق وأنك أديت ما عليك ، بل أنت محل النقص والتقصير، فينبغي أن تستثني وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله: أنا مؤمن، فقال عبد الله: فقل: إني في الجنة، ولكن آمنا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله.

(الشرح)

وهذا فيه ، أنَّ أنكر عبد الله ، علقمة من أصحاب عبد الله بن مسعود، أنكر عبد الله بن مسعود على من قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن، فقال عبد الله: (فقل: إني في الجنة!) يعني: إذا جزمت بأنك مؤمن فاجزم بأنك في الجنة، ولكن قل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا أصل الإيمان.

 ولهذا قيل لبعض السلف: أنت مؤمن؟ قال: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. يعني: أصل الإيمان، أما أن يجزم بأنه مؤمن كامل الإيمان فلا، الإنسان لا يجزم ولا يزكي نفسه .

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن مُحِلّ بن محرز قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله.

(الشرح)

لعل إبراهيم هنا هو إبراهيم النخعي، يقول: (إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله)، هذا أصل الإيمان ، هل تجزم بأنك مؤمن أصل الإيمان؟ لكن ما تجزم بأنك أديت الواجبات وتركت المحرمات فتقول: أنا مؤمن بإطلاق، ولهذا قال: (آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله).

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله.

(الشرح)

طاوس عن أبيه ، طاوس بن كيسان اليماني التابعي الجليل، روى ابن طاوس عن أبيه طاوس أنه قال: (إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله).

وهذا هو أصل الدين، أما أن تقول: أنا مؤمن وتسكت لا، فلا تزك نفسك.

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136].

(الشرح)

 أبو عبيد هو المؤلف -رحمه الله-, قال أبو عبيد: ثم ذكر الأثر عن  محمد  بن سيرين أنه قال: (إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ).  يعني: أصل الإيمان.

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن إبراهيم قال: قال رجل لـ علقمة: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو إن شاء الله.

(الشرح)

(قال رجل لعلقمة) وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود ، قيل له: أمؤمن أنت؟ فلم يجزم واستثنى وقال: (أرجو إن شاء الله). لأن الإنسان محل التقصير، فلا يجزم بأنه أدى ما عليه، الخلل حاصل والتقصير حاصل في أداء الواجبات وترك المحرمات، ولهذا قال: أرجو إن شاء الله، وهذا مذهب جمهور أهل السنة والجماعة.

(المتن)

قال أبو عبيد: ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه، وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعَين.

(الشرح)

هذا تعقيب من المؤلف -رحمه الله- على هذه الآثار ليبين وجه ذلك، فقال أبو عبيد (ولهذا كان يأخذ سفيان) سفيان الثوري ،ومن وافقه الاستثناء فيه ، يستثني في الإيمان، فإذا قيل له: أمؤمن أنت؟ يقول: إن شاء الله، ولا يجزم فيقول هذا مؤمن ، يكره أن يقول: أنا مؤمن ويسكت، ووجه ذلك قال: (وإنما كراهتهم عندنا أن يبتّوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم به في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله)، هذا وجه كونهم يستثنون، وجه كونهم يستثنون أنهم يستثنون ،لا يجزمون لأنفسهم بالإيمان ، لا يجزمون لأنفسهم أنهم قد أدوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم، يخشون من تزكية النفس؛ لأن الإنسان محل تقصير، ولهذا قال : (وإنما كراهتهم عندنا أن يبتّوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم به في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله) يعني من قال: (أنا مؤمن) يعني قد زكى نفسه، وشهد على نفسه أنه كامل الإيمان عند الله، وهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم به.

قال: (وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين) يعني: بالنسبة للأحكام فإنهم يقولون: إن الناس كلهم مؤمنون، الفاسق والعاصي والمطيع كلهم مؤمنون ،يسمونهم مؤمنين (لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان) فولي المرأة الذي يعقد النكاح لها يشترط أن يكون مؤمناً، ولو كان فاسقاً ولو كان عاصياً، فالولاية ليست هي مجرد اسم الإيمان، والذبائح تصح ذبيحة المؤمن ولو كان عاصياً، والشهادة كذلك، والنكاح يزوج ولو كان عاصياً.

وقوله: (وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان) أي: هذه الأحكام إنما تتعلق بأصل الإيمان، أعني الولاية، والذبائح، والشهادات، والنكاح، أما الجزم بأن الإنسان مؤمن وأنه أدى ما عليه فهذا لا بد من الاستثناء فيه.

(المتن)

ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعَين.

قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن؛ لقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون.

(الشرح)

يعني يقول أن الجمهور من السلف والصحابة والتابعين يرون الاستثناء، وبعض العلماء كـ الأوزاعي يرى أن الأمر واسع، لك أن تستثني ولك ألا تستثني ، ولهذا يرى الاستثناء وتركه جميعا واسعَين .

ولهذا روى أبو عبيد بالسند عن الأوزاعي أنه قال: (من قال: أنا مؤمن) يعني: بدون استثناء (فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن) يعني مخير، واستدل بقول الله : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون، فدَّل على أنه لا بأس بالاستثناء، فمن استثنى فقد استدل بالآية.

(المتن)

وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين. إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

(الشرح)

يقول المؤلف: (وهذا عندي وجه حديث عبد الله) هو ابن مسعود -(حين أتاه صاحب معاذ فقال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله ﷺ ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر): ذكرهم الله في أول سورة البقرة، فذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين، والمنافقين -وهم الكفار باطناً والمؤمنون ظاهراً- في ثلاث عشرة آية.

قال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله ﷺ ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين) ولم يقل من المؤمنين إن شاء الله ،يقول : هذا وجه ذلك أنه على مذهب الأوزاعي أنه يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء، قال: (فإنما نراه أنه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين) يعني مقصوده: أني كنت من أهل الإيمان، من صنف المؤمنين لا من الآخرين المنافقين والكافرين؛ لأن الإيمان في مقابل الكفر والنفاق، الناس ثلاثة أصناف مؤمن وكافر ومنافق ،فمن أيهم ،قال أنا من المؤمنين ، لا من الآخرين يعني المنافقين والكفار ، وليس مقصوده أنه يشهد عند الله أنه مؤمن كامل الإيمان أو أنه يزكي نفسه، ولهذا قال: (فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده) من أن يريد أنه كامل الإيمان، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

(المتن)

والشاهد على ما نظن أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين.

(الشرح)

يقول (الشاهد على ما أظن) يعني في قوله هذا ، عندي وجه في حديث عبد الله ،الشاهد على ذلك أنه يريد أصل الإيمان ولا يريد التزكية أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن بإطلاق على تزكية ولا غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، (إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله لا يزيد على هذا اللفظ)؛ لأن هذا أصل الإيمان، وأما إطلاق الإيمان ويقول أنا مؤمن يريد التزكية فهذا لا يمكن لا يظن به ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان ، لأن الأوزاعي وجماعة يرون الاستثناء وعدمه سواء، أن الاستثناء وعدم الاستثناء الأمر فيهما واحد ، (وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين) كلهم يرون أنه يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء.

(المتن)

ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن، فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك.

(الشرح)

(ثم أجاب عبد الله) بعد ذلك فقال :أنا مؤمن ، في الأول ينكر أن يقول: أنا مؤمن، ثم قال : وأجاب: أنا مؤمن، فإن صح هذا عنه وثبت عنه ،فهذا وجهه ، وجهه أنه إما أن يريد أصل الإيمان، وإما يريد أن الأمر واسع على ما ذهب إليه إبراهيم وطاوس وابن سيرين والأوزاعي.

(المتن)

فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك, وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره، ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه.

 

(الشرح)

يعني هذا الأثر _كما قال المؤلف_ هذا الأثر ضعيف لأن في سنده رجلاً لم يسم، ولهذا يقول المؤلف: قد رأيت يحيى بن سعيد ينكر هذا الأثر عن عبد الله، أنه سكت ،أجاب أنه لما سئل قال: أنا مؤمن وسكت، يقول هذا ما ثبت عن عبد الله؛ لأن يحيى بن سعيد أنكر هذا الأثر وطعن في إسناد هذا اللأثر، لأن أصحاب عبد الله بن مسعود على خلاف ذلك، وأنه لا بد من الاستثناء، لكن لو صح فهذا وجهه ،لو صح فهو يُحمَل على " إيش " على المراد أصل الإيمان أو المراد أن الأمر واسع على مذهب هؤلاء ابن سيرين وطاوس وإبراهيم والأوزاعي، لو صح ، لكنه لا يصح "لأن في سنده" ، لأنه مطعون في سنده، ويدل على ذلك أن أصحاب عبد الله على خلاف ذلك وأنه لا بد من الاستثناء.

(المتن)

وكذلك نرى مذهب الفقهاء الذين كانوا يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء، فيقولون: نحن مؤمنون، منهم عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله ومن بعدهم مثل: عمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام ومن نحا نحوهم، إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان لا على الاستكمال.

(الشرح)

يعني يقول "إننا نرى" يؤيد أن هذا الأثر لم يصح عن ابن مسعود، لأنه مطعون في سنده أن مذهب الفقهاء الذين يتسمَّون بهذا الاسم بلا استثناء –يعني يقول الواحد منهم : أنا مؤمن ولا يستثني ولا يقول إن شاء الله ، ومقصودهم أن مؤمن يعني : الإيمان العام بالدخول فيه لا على الإيمان الكامل، فيقولون نحن مؤمنون -من هؤلاء الفقهاء: عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله وعمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام, كلهم يقول الواحد منهم: أنا مؤمن, يعني مقصوده الدخول في الإيمان, وليس مقصوده أنا مؤمن كامل الإيمان, ولهذا قال (لا على استكمال الإيمان).

ثم أيد ذلك بتأييد بعده.

(المتن)

 إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان لا على الاستكمال، ألا ترى أن الفرق بينهم وبين إبراهيم وبين ابن سيرين وطاوس إنما كان أن هؤلاء كانوا به أصلا.

 (تصحيح)

 الشيخ للقارئ: لعلها كانوا لا يتسمون به أصلا.

(المتن)
 

كانوا لا يتسمون به أصلاً وكان الآخرون يتسمون به.

(الشرح)

يقول: هم مما يؤيد هذا أن الفرق بينهم - بين الذين يطلقون الإيمان وبين الذين يستثنون- الفرق بين من يقول أنا مؤمن ، وبين من يقول أن مؤمن إن شاء الله،  إنما كان أن هؤلاء كانوا يعني : الفرق بينهم وبين إبراهيم النخعي وابن سيرين وطاووس ، إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً، وكان الآخرون يتسمون به، الذين منعوا من قول: (أنا مؤمن إن شاء الله ) إنما يقصدون الكمال ، (أنا مؤمن) إذا قصد كمال الإيمان واستكماله، فلا بد من أن يقول: (إن شاء الله)، ومن أجاب وقال: أنا مؤمن مراده التسمي بالإيمان والدخول في الإيمان ،فمن أرد وقال أنا مؤمن التسمي بالإيمان والدخول في الإيمان، فلا يلزمه الاستثناء، فيقول: أنا مؤمن، يعني: دخلت في الإيمان وتسميت به، وأما من أراد (أنا مؤمن) يعني: استكملت الإيمان ويزكي نفسه فلا بد من أن يستثني.

(المتن)

فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء.

(الشرح)

يعني: أما من قال: أنا مؤمن إيماناً كاملاً كإيمان الملائكة وإيمان النبيين -فمعاذ الله -أن يقوله أحد من أهل العلم، ما يقولون هذا،  وكيف يجزم الإنسان بأن إيمانه كإيمان النبيين والملائكة؟!" ليس مقصودهم " من قال: أنا مؤمن وسكت ليس مقصوده الإيمان الكامل كإيمان الملائكة والنبيين، وإنما مقصوده التسمي بالإيمان والدخول فيه، ولهذا قال: (فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، وليس هذا طريق العلماء).

(المتن)

وقد جاءت كراهيته مفسرة عند عدة منهم.

(الشرح)

يعني: جاءت كراهية إطلاق الإيمان بدون استثناء مفسرة عن عدة من السلف من العلماء .

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا هشيم -أو حدثت عنه- عن جويبر عن الضحاك: أنه كان يكره أن يقول الرجل: أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام.

(الشرح)

وهذا دليل على الأثر أنه يكره أن يقول الإنسان: أنا مؤمن كإيمان جبريل وميكائيل، يكره يعني ظاهر الكراهة ،المراد به المنع، يعني: يمنع ويحرم، الكراهة تقصد عند السلف على كراهة التحريم.

(المتن)

قال أبو عبيد: حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري عن نافع عن عمر الجمحي قال: سمعت ابن أبي مليكة وقال له إنسان: إن رجلاً في مجالسك يقول: إن إيمانه كإيمان جبرائيل، فأنكر ذلك وقال: سبحان الله! والله قد فضل جبريل في الثناء على محمد ، فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19 - 21].

(الشرح)

يعني: أنكر عليه لما قال رجل في مجالسه : قال إن إيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل أنكر عليه وقال: سبحان الله! تعجب، أنكر ذلك فقال :كيف يقول: إيماني كإيمان جبرائيل والله تعالى فضَّل جبريل بالثناء على محمد فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19 - 21]؟! يعني :وصفه بهذه الأوصاف، ووصف نبيه بقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة:40 - 41]، وأمَّا مسألة تفضيل جبريل على النبي ﷺ عن الملائكة هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، "هل الملائكة" هل الأنبياء وصالحوا البشر  أفضل من الملائكة أو الملائكة أفضل؟ والصواب أن النبي ﷺ أفضل من الملائكة، لكن ليس المقام مقام بحث هذه المسألة، إنما المقصود الإنكار على من قال: إيماني كإيمان جبريل.

(المتن)

قال أبو عبيد: حُدِّثنا عن ميمون بن مهران أنه رأى جارية تغني فقال: من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب.

(الشرح)

ميمون بن مهران رأى جارية تغني -والغناء معلوم أنه فسق، ولاسيما الغناء الذي يلهب النفوس ويقعدها- هذا من الفسق ،(فقال: مَن زعم أنه هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب)؛ لأن مريم بنت عمران صديقة، وإيمانها كامل، وهذه الجارية فاسقة إيمانها ناقص، فكيف يكون إيمان هذه الجارية الفاسقة التي تغني مثل إيمان مريم بنت عمران؟!

(المتن)

وكيف يسع أحداً أن يشبه البشر بالملائكة، وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب، وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يُعلم فعل بالملائكة من ذلك شيئاً فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ۝ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29 - 30]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278 - 279]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2]، وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

فأوعدهم النار في آية، وآذنهم بالحرب في أخرى، وخوفهم بالمقت في ثالثة، واستبطأهم في رابعة، وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين، فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟! إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه.

(الشرح)

هذا التعقيب على الأثر تعقيب جيد من المؤلف -رحمه الله-، ومناقشة حادة للمرجئة، وبيان واضح في بطلان مذهب المرجئة الذين يقولون: إن إيمان الناس شيء واحد ، إن إيمان الملائكة وإيمان البشر واحد، وإيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد، إيمان الملائكة وإيمان الفاسق واحد ،هذا قول المرجئة ، المؤلف يناقشهم ويردَّ عليهم مناقشة حادة قوية مبنية على فهم النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، فيقول: (كيف يسع أحداً أن يشبه البشر بالملائكة؟!) ويقول إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة ، من الذي شبه هذا ؟! المرجئة ، المرجئة يقولون: إيمان البشر مثل إيمان الملائكة، فيقول الواحد منهم: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر وعمر! إيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد! لأن المؤلف يتعجب ،كيف ؟مع استفهام إنكار ، كيف يأتي واحد يشبه البشر بالملائكة ، ويقول إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة ،؟!والملائكة إيمانهم كامل، مطيعون لله، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، الملائكة ما يعصون الله، إيمانهم كامل فلا يعصون الله طرفة عين، كما قال الله تعالى : لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]،  أما بنو آدم يعصون الله في الأرض ويقصرون في الواجبات، ويرتكبون بعض المحرمات، أمَّا الملائكة كما قال الله تعالى لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]،كيف يشبه بنو آدم الذين فيهم العصاة والظلمة والفساق ويقول: إن إيمانهم مثل إيمان الملائكة الذين: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]؟

والمؤمنون من البشر عاتبهم الله ،ولم يعاتب الملائكة ، فقال في عتاب المؤمنين من البشر في غير موضع ، عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب وأوعدهم أغلظ الوعيد " العصاة"، ولا يُعلم أنه توعد الملائكة أو أغلظ لهم ، لا يُعلم فعل بالملائكة من ذلك شيئاً، فقال في عتاب المؤمنين من البشر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ فالذي يأكل المال بالباطل يعاتب، وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] وهذا عتاب: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:30]، فتوعده الله بالنار وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:30]، ولم يتوعد الملائكة بشيء من ذلك، وقال أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:178 - 179]، هذا وعيد، ولم يتوعد به الملائكة، وقال في الوعيد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2 - 3]، والمقت هو أشد البغض، وقال ولم يقل هذا في الملائكة،: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]،ثمَّ قال معقبا عليهم ، فأوعدهم النار في آية ،قال الله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(سورة النساء:30) وآذنهم بالحرب في أخرى وقال : فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (البقرة:279) وخوفهم بالمقت في ثالثة: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف: 3]، واستبطأهم في رابعة: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16]،  وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين ،يسميهم مؤمنين مع أفعالهم هذه ، هل هم مؤمنون كاملون الإيمان أم عندهم أصل الإيمان؟!أصل الإيمان، لكن الملائكة ؟! كيف نشبه هؤلاء العصاة بالملائكة؟! ولهذا قال: (فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟!) كيف نشبه هؤلاء الذين توعدهم الله بإصلاء النار، وتوعدهم بالمقت، وتوعدهم بالحرب ، نشبههم بالملائكة بجبريل وميكائيل مع قربهما ومكانتهما من الله؟! ثم قال: المؤلف رحمه الله: (إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه) إني لخائف على المرجئة الذين يقول أحدهم: إيمان أفسق الناس مثل إيمان الملائكة خائف أن يكون هذا من الجرأة على الله ومن الجهل بكتابه ،أنا خائف عليه، يقول المؤلف إني خائف على المرجئ الذي يقول أن إيمان هؤلاء الفساق العصاة الذين وعدهم الله بالحرب آذنهم بالحرب ،والمقت ،ووعدهم بالنار خائف أن يكون هذا من الإجتراء على الله والجهل بكتابه.

والحاصل مسألة الاستثناء في الإيمان ،الاستثناء في الإيمان هو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، هذه يقال لها : مسألة الاستثناء في الإيمان ، مسألة الاستثناء في الإيمان فيها ثلاثة مذاهب للناس: مذهب طرفان ووسط، مذهب يوجب الاستثناء فيقول: فيجب أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومذهب يحرم الاستثناء فيقول: يحرم ولا يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومذهب متوسط يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا القول الوسط هو الصحيح.

أما من يوجب الاستثناء في الإيمان ، ويجب أن تقول (أنا مؤمن إن شاء الله ) فلهم مأخذان: المأخذ الأول: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، وهو غير معلوم للإنسان، والإنسان لا يدري ما يختم له، إذاً: يجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا مأخذ الكلابية، واستدلوا بقول الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، قالوا: يجب على الإنسان أن يقول: (أنا مؤمن إن شاء الله)، ووجه ذلك قالوا : الإيمان المعتبر عند الله هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان ما يدري هل يموت على الإيمان أو لا يموت ،إذًا يجب أنا يقول :(أنا مؤمن إن شاء الله) ،وتوسعوا في هذا ،حتى قالوا :إن الله يحب من عّلِم أنه يموت على الإيمان ولو كان كافراً، وإن الله يبغض من يموت على الكفر ولو كان في الحال مؤمناً، فيقول الكافر الذي علم الله أنه يموت على الإيمان يحبه الله ولو في وقت كفره، هذا باطل ليس بصحيح، والمطيع الذي يطيع الله وقد علم أنه يموت على الكفر، هذا يبغضه الله ولو كان مطيعاً، فيقولون: إن إبليس هذا ، إن إبليس يبغضه الله ولو كان قبل أن يعصيه ، لما كان مطيعاً مع الملائكة فهو مبغوضاً لله وعدواً لله؛ لأن الله يعلم أنه يموت على الكفر، والكافر الذي عاش في زمن كفره كافراً، لكن الله علم أنه سيُختَم له بالإيمان فالله يحبه في زمن كفره؛ لأن العبرة بالإيمان بالشيء الذي يموت عليه الإنسان، لكن هذا ليس بصحيح هذا باطل؛ فالمؤمن المطيع يحبه الله في حال طاعته، فإن عصى صار مبغوضاً عند الله.

والمأخذ الثاني: قالوا: الإيمان مطلق يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي، وهذا من تزكية النفس، ولأنه لو جُوِّز للإنسان أن يشهد لنفسه بالإيمان لجُوِّز له أن يشهد لنفسه بالجنة، وهذا ليس بصحيح ،لا يجوز للإنسان أن يشهد لنفسه ولا لغيره بالجنة، إلا لمن شهدت له النصوص، فلو جاز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن بإطلاق لجاز له أن يقول: أنا في الجنة، والثاني ممتنع فيكون الأول ممتنعاً، وهذا هو مأخذ كثير من السلف.

أما من يحرم الاستثناء في الإيمان ويقول: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، فكلهم من يجعل الإيمان شيئاً واحداً من المرجئة وغيرهم، فالمرجئة يقولون: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقولون: إن من قال: من يقول :"أنا مؤمن إن شاء الله فقد زكى نفسه "، من يقول :أنا مؤمن إن شاء الله فقد شك في إيمانه، يقولون شاك في إيمانه، ويسمون أهل السنة والجماعة في مذهبهم الشكاكة، تشك في إيمانك ! أنت تعلم أنك مؤمن ، كما تعلم أنك صليت وتعلم أنك قرأت الفاتحة ،إذا قرأت الفاتحة تقول : قرأت الفاتحة إن شاء الله ؟! ما تقول ، فكذلك ما تقول: أنا مؤمن إن شاء الله ،تعلم من نفسك أنك مؤمن وأنك مصدق؛ لأن الإيمان شيء واحد، وقالوا من استثنى بالإيمان فهو شاك في إيمانه، إيمانه غير صحيح شاك ،ولا تشك في نفسك ، ولا يشك الإنسان في الموجود، وإنما يشك بالشيء الذي لم يحصل ، أما الإيمان الذي حصل في قلبك كيف تشك فيه؟ لكن قال لهم جمهور أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعين قالوا : إن الاستثناء يجوز في حالات، يجوز في الاعتبار ولا يجوز في الإنكار، وهذا هو الصحيح، تصديق ،فالذي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله إن قصد الشك في أصل إيمانه هذا ممنوع، إن قصد الشك في أصل إيمانه وأصل تصديقه هذا ممنوع ،وإن قصد ان لا يزكي نفسه وأن واجبات الإيمان متعددة، الواجبات الإيمان متعددة ،ولا يجزم الإنسان بأنه أدى ما أوجبه الله عليه وترك ما حرم الله عليه؛ لأنه محل نقص وتقصير، ولا يزكي نفسه؛ فلا بأس بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذلك -أيضاً- إذا استثنى وقال: أنا مؤمن إن شاء الله وقصد عدم علمه بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله، فلا بأس ، وكذلك إذا قصد التبرك بذكر اسم الله جاز له أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، والدليل على جواز الاستثناء قول الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، مع أنه معلوم دخولهم، ومع ذلك استثنى الله، وفي الحديث الذي أرشد النبي ﷺ فيه الزائر إلى القبر قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لا لاحقون، هذا استثنى مع أنه يجزم بأنه سيلحق الموتى، هل في شك أنك تموت ،أو يجزم ؟ يجزم فلما قال: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون؟ دل على الجواز، وكذلك -أيضاً- قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له، مع أنه يجزم بأنه هو أتقى الناس ، والرسول ﷺ أتقى الناس ،وأخشى الناس، ومع ذلك استثنى فقال: (أرجو) فدل على الجواز.

فالخلاصة في هذا أن من الناس من يوجب الاستثناء، وهذا مذهب طوائف من الكلابية، ويقولون: يجب على الإنسان أن يستثني؛ لأن الإنسان لا يعلم بما يموت عليه، والعبرة بما يموت عليه، وحتى أنهم توسعوا في الاستثناء وزاد بعضهم على هذه الطائفة ، وصاروا يستثنون في الأشياء الواضحة التي لا استثناء فيها، فيقول بعضهم: صليت إن شاء الله وهو صلى ، صليت إن شاء الله ،توضأت إن شاء الله، ويقول: هذا لا شك فيه ، صليت أنا وتوضأت ما فيه اشكال ، إلا إن قصد القبول عند الله، وحتى تغالى بعضهم وقال في الجمادات: هذا حبل إن شاء الله، هذا دلو إن شاء الله، هذا كتاب إن شاء الله! فإذا أقنعناه ما فيه اشكال إنه كتاب ؟! قال: لو شاء الله أن يغيره لغيره، فهذا غلو.

فالمقصود أنَّ طائفة أن هناك بعض طائفة ترى الوجوب مطلقا ،وطائفة تمنع وتحرم الاستثناء، وهم المرجئة، وأما أهل الحق فيقولون: يجوز الاستثناء باعتبار ويمتنع بالاعتبار، يجوز في حالة أن تستثني ، وفي حالة لا تستثني ،والحالة التي لا يجوز الاستثناء إذا قصدت الشك في أصل إيمانك، إذا قصدت الشك في أصل إيمانك ، لا يجوز أن تستثني ، قلأنا مؤمن ،والحالات التي يجوز الاستثناء ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا أردت أن الاستثناء راجع إلى تزكية النفس وإلى تعدد الأعمال الواجبة في الإيمان، الواجبات وترك المحرمات، وأنك لا تجزم بأنك أديت ما عليك ولا تزكي نفسك، فلا تستثن.

الحالة الثانية: إذا قصدت عدم علمك بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله، فتستثني وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

الحالة الثالثة: أن تقصد التبرك بذكر اسم الله، فتقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ثلاث حالات تستثني وحالة لا تستثني.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد