(المتن)
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه
قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ بن جبل لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة.
(الشرح)
يعني: نذكر الله.
(المتن)
وبهذا القول كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس، يرون أعمال البر جميعاً من الازدياد في الإسلام؛ لأنها كلها عندهم منه وحجتهم في ذلك: ما وصف الله به المؤمنين في خمسة مواضع من كتابه، منها قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، وقوله: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً [المدثر:31] وقوله: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول، فاتبع أهل السنة هذه الآيات وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فهذا الباب ذكر فيه المؤلف -رحمه الله- النصوص والآثار التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه، وعلَّق عليها بما يدل على وضوحها وصراحتها في زيادة الإيمان ونقصانه، فقال: (باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه).
قال أبو عبيد هو المؤلف -رحمه الله -ثم ذكر سنده إلى معاذ بن جبل أنه قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة) يعني: نذكر الله، ومعنى: (نؤمن) يزداد إيماننا، وإلا فهم مؤمنون؛ الصحابة مؤمنون، فقوله: (اجلس بنا نؤمن ساعة) يعني: نذكر الله، فإذا ذكروا الله زاد إيمانهم، فالمؤمن إذا عمل الطاعات زاد إيمانه, وإذا عمل المعاصي نقص إيمانه، كل شيء يزيد فهو ينقص، فالمؤمن إذا ذكر الله وتلا القرآن أو أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر أو دعا إلى الله وصلى وصام وزكى وحج وجاهد في سبيل الله وأحسن إلى الناس وامتنع عن المحرمات طاعة لله ولرسوله؛ فإنه يزيد إيمانه، وإذا فعل المعاصي نقص إيمانه، ولهذا قال معاذ لرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) يعني: نذكر الله فيزداد إيماننا بذكر الله .
قال المؤلف رحمه الله أنه (وبهذا القول) -أي: القول بزيادة الإيمان ونقصانه- (كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس) وغيرهم من أهل العلم هذا مثال مثَّل لسفيان الثوري والأوزاعي ومالك بن أنس، وهذا قول جميع الصحابة التابعين والأئمة والعلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعامر الشعبي وغيرهم من أهل العلم وأهل الحديث، كلهم يقولون بهذا القول، هو أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، (يرون أن أعمال البر جميعاً من الازدياد في الإسلام)، يعني: من الزيادة في الإسلام والإيمان؛ لأنها كلها عندهم منه، لأن أعمال البر كلها من الإيمان ومن الإسلام ،فأعمال البر من الصلاة والصوم والصدقة والحج وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الناس وبذل المعروف وكف الأذى والبعد عن المحرمات، كلها هذه أعمال تسمى براً وتسمى تقوى وتسمى إيماناً، فهي إيمان وهي إسلام وهي بر وهي تقوى، وبهذا القول يقول المؤلف : (كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك) كمثال مثَّل مالك بن أنس من الصحابة والأوزاعي من التابعين وسفيان كذلك ومن بعدهم، فمثَّل لكل طبقة بواحد.
يقول المؤلف رحمه الله: (وحجتهم في ذلك ما وصف الله به المؤمنين في خمسة مواضع من كتابه) يعني: وصفهم بزيادة الإيمان، ومنه قول الله : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] هذه الآية صريحة في زيادة الإيمان قوله فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وقوله : لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، فقوله: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا دليل صريح واضح بأن الإيمان يزيد، وقوله : لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] صريح بزيادة الإيمان، وكل شيء يزيد فهو ينقص، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول) فلم يذكرهما المؤلف هنا اكتفاءً بذكرهما بما سبق, وهذان الموضعان أحدهما في سورة التوبة، وهو قول الله : وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124]، والثاني في سورة الأنفال في قول الله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، فهذه خمسة مواضع من كتاب الله تدل على زيادة الإيمان.
وإذا كان الإيمان يزيد فهو ينقص.
قال المؤلف رحمه الله: (فاتبع أهل السنة هذه الآيات وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية)، تبع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء كلهم عملوا بهذه الآيات واتبعوها، وقرروا أن الإيمان يزيد وينقص، خلافاً للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، بل هو شيء واحد، إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، وتأولوها أنَّ الزيادات هي الأعمال الزاكية ، الأعمال الزاكية :أعمال البر والتقوى والواجبات والفرائض والمستحبات إذا فعلها المسلم زاد إيمانًا, وإذا ترك قصَّر في الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات نقص إيمانه.
(المتن)
وأما الذين رأوا الإيمان قولاً ولا عمل فإنهم ذهبوا في هذه الآيات إلى أربعة أوجه: أحدها: أن قالوا: أصل الإيمان الإقرار بجمل الفرائض، مثل الصلاة والزكاة وغيرها، والزيادة بعد هذه الجمل: هو أن تؤمنوا بأن هذه الصلاة المفروضة هي خمس، وأن الظهر هي أربع ركعات والمغرب ثلاث، وعلى هذا رأوا سائر الفرائض.
والوجه الثاني: أن قالوا: أصل الإيمان: الإقرار بما جاء من عند الله، والزيادة تمكن من ذلك الإقرار.
والوجه الثالث: أن قالوا: الزيادة في الإيمان: الازدياد من اليقين.
والوجه الرابع: أن قالوا: إن الإيمان لا يزداد أبداً، ولكن الناس يزدادون منه.
(الشرح)
ذكر المؤلف رحمه الله في هذا مذهب المرجئة وتأويلهم لهذه النصوص التي فيها التصريح بزيادة الإيمان، فقال: (وأما الذين رأوا الإيمان قولاً ولا عمل)-وهم المرجئة- الذين رأوا إن الإيمان هو قول القلب، وهو التصديق والإقرار.
(ولا عمل) يعني: ولا يدخل العمل في مسماه، هذا قول المرجئة ،أما الذين رأوا الإيمان هو قول القلب وتصديقه وإقراره بدون عمل، (فإنهم ذهبوا في الآيات إلى أربعة أوجه)، يعني: تأولوا هذه الآيات الخمس الصريحة في أن الإيمان يزيد تأولوها خمسة تأويلات:
التأويل الأول: قالوا: أصل الإيمان الإقرار بجمل الفرائض، مثل الصلاة والزكاة وغيرها ، قالوا: أصل الإيمان معناه هو : أن يقر المسلم بجمل هذه الفرائض، يعني: يؤمن بها إيماناً مجملاً، يؤمن بالصلاة بأن الله فرض الصلاة، يؤمن بأن الله فرض الزكاة ،وفرض الصوم وفرض الحج، ثم جاء بعد ذلك جاءت النصوص بتفصل هذه النصوص المجملة، ففصلت الصلاة، جاء تفصيل الصلاة بأن الصلاة المفروضة خمس صلوات في اليوم والليلة، وبأن صلاة الظهر أربع ركعات، وصلاة العصر أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث ركعات، إلى آخره.
وكذلك أيضاً الزكاة جاءت تفصيلها وبيان أنصبتها، واشتراط الحول للأموال، وما يُشترَط له الحول، وهكذا الصوم جاء تفصيله بأنه صوم شهر رمضان، وبأنه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهكذا الحج جاء تفصيله بأنه لا يجب في العمر إلا مرة.
فتأولوا الزيادة في الإيمان على أن المراد تفصيل النصوص المجملة قالوا: فالنصوص المجملة النصوص جاءت بوجوب الصوم والصلاة والزكاة والحج، فآمن بها المسلمون، ثم جاء تفصيلها بعد ذلك، فالتفصيل هو الزيادة، فتأولوا الزيادة على أنها التفصيل، هذا التأويل الأول.
التأويل الثاني: قالوا: إن أصل الإيمان هو: الإقرار بما جاء من عند الله والتصديق، وأما الزيادة قوله تعالى: ليزدادوا إيماناً فتأولوها على أنها التمكن من ذلك الإقرار, ليزدادوا إيماناً يعني ليتمكنوا من الإقرار، ليتمكن الإقرار ويثبت في قلوبهم ويرسخ فعلى هذا يكون الإيمان: التصديق والإقرار. وقوله: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا يعني: ليتقوى الإيمان، ويرسخ ويثبت في قلوبهم.
والتأويل الثالث: تأولوا الزيادة على أن الزيادة : الزيادة من اليقين وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31] يعني: يزدادون يقيناً، فالإيمان واحد ، لكن الزيادة المراد بها: الازدياد من اليقين، زيادة يقين ،الإيمان موجود واليقين حاصل، لكن المراد تأويل الزيادة في الآيات الزيادة من اليقين .
التأويل الرابع: تأولوا الآيات أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولكن الناس هم الذين يزدادون منه، النَّاس هم الذين يزدادون من الإيمان ، يزدادون منه ، الإيمان لا يزيد ، لكن النَّاس هم الذين يزدادون منه.
فهذه أربع تأويلات للنصوص، وسيتعقبها المؤلف -رحمه الله- ببيان بطلانها.
(المتن)
وكل هذه الأقوال لم أجد لها مصدقاً في تفسير الفقهاء، ولا في كلام العرب فالتفسير ما ذكرناه عن معاذ حين قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، فيتوهم على مثله أن يكون لم يعرف الصلوات الخمس ومبلغ ركوعها وسجودها إلا بعد رسول الله ﷺ، وقد فضله النبي ﷺ على كثير من أصحابه في العلم بالحلال والحرام، ثم قال: يتقدم العلماء برتوة.
هذا لا يتأوله أحد يعرف معاذاً.
(الشرح)
المؤلف -رحمه الله- ناقش تأويلهم الأول، وقال: لا يمكن هذا التأويل، لايمكن يضاف إلى معاذ بن جبل –رحمه الله- الصحابي الجليل ورضي الله تعالى عنه حينما قال للرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) لأن التأويل الأول معناه أن معاذاً مقصوده: نؤمن يعني: نزداد من تفصيل النصوص المجملة والفرائض المجملة، الإيمان: هو الإيمان بوجوب الصلاة ووجوب الزكاة ووجوب الصوم ووجوب الحج, هذا هو الإيمان ،والزيادة معناها: معرفة النصوص التي فيها التفصيل، تفصيل الصلاة وهو أن الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن صلاة الفجر ركعتان، وأن صلاة الظهر أربع ركعات، إلى آخره ،وتفصيل الزكاة، وأنها لا بد لها من النصاب، ولا بد لها من الحول وتفصيل الصوم، وتفصيل... ، يقول هذا لا يمكن هذا التأويل أن ينطبق على معاذ بن جبل رحمه الله ورضي الله عنه حينما قال لصاحبه: (اجلس بنا نؤمن ساعة)؛ لأنه على هذا التأويل يكون المعنى: أن معاذ بن جبل رحمه الله لم يعرف الصلوات الخمس، ولم يعرف ركوعها ولا سجودها ولا عددها إلا بعد وفاة النبي ﷺ.
وهذا لا يمكن، لا يمكن أن يقال أنَّ معاذ رحمه الله ورضي عنه ما عرف تفاصيل الصلاة وتفاصيل شروط الزكاة وشروط الحج إلا بعد وفاة النبي ﷺ, وهو الذي قال فيه النبي ﷺ: أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل فضله النبي ﷺ على كثير من أصحابه وقال: يتقدم العلماء برتوة، يعني: برمية سهم.
فهل يقول إنسان: إن معاذ بن جبل رحمه الله ما عرف تفاصيل وجوب الصلاة، ووجوب الصوم، ووجوب الحج، وعدد ركعات الصلاة، وشروط وجوب الزكاة إلا بعد وفاة النبي ﷺ؟! هذا لا يقوله إنسان فدل هذا على بطلان هذا التأويل.
(المتن)
وأما في اللغة فإنا لم نجد المعنى فيه يحتمل تأويلهم وذلك كرجل أقر له رجل بألف درهم له عليه، ثم بينها فقال: مائة منها في جهة كذا، ومائتان في جهة كذا، حتى استوعب الألف، ما كان هذا يسمى زيادة، وإنما يقال له: تلخيص وتفصيل وكذلك لو لم يلخصها ولكنه ردد ذلك الإقرار مرات ما قيل له: زيادة أيضاً، إنما هو تكرير وإعادة؛ لأنه لم يغير المعنى الأول، ولم يزد فيه شيئاً.
(الشرح)
هذا فيه بيان بطلان التأويل الأول من اللغة، الأول بطلان التأويل الأول في تفسير الفقهاء ، عند الفقهاء وعند أهل العلم، لا يمكن أن يكون معاذ بن جبل -رحمه الله - ورضي الله عنه ما يعرف تفاصيل الصلاة والزكاة والصوم والحج إلا بعد وفاة النبي ﷺ.
وأما في اللغة فإن هذا التأويل باطل، فلو أن رجلاً أقر لشخص بألف درهم وقال: فلان له علي ألف درهم مجملة، ثم فصلها بعد ذلك وبينها، فقال: مائة منها أعطانيها في بلد كذا، ومائة منها في مكة، ومائتان مثلا في المدينة، ومائتان في الرياض، وهكذا وجعل يفصل حتى استوعب الألف، هل يسمى هذا زيادة، قوله مائتان كذا ، كلامه الصلاة ، ما يسمى زيادة في اللغة، وكذلك لو كررها وقال: له علي ألف، له علي ألف، له علي ألف ،ما يقال لهذا؟ زيادة، وإنما يقال له: تلخيص وتفصيل، إذا أقر شخص لشخص بأن له عليه ألفاً فقال: له علي ألف، ثم فصلها، وقال تفصيلها: أعطاني مائة في الرياض، ومائة في القصيم، ومائة في الدمام، ومائة في المدينة، هل يُقال حينما قال أعطاني مائة في كذا ومائة كذا ، هذه زيادة أو يقال هذا تفصيل؟ يقال: هذا تفصيل وتلخيص وكذلك لو كررها وقال: له علي ألف، له علي ألف هذا إنما هو تكريرٌ وإعادة ولا يُسمى تفصيل. .( وكأن الشيخ أراد قولا ولا تسمى ( زيادة )
وبهذا يتبين بطلان هذا التأويل عند الفقهاء، وعند أهل اللغة.
يعني: يتبين بطلان هذا التأويل شرعاً ولغة ، ومن جهة اللغة ، ومن جهة الشرع، باطل هذا التأويل .
(المتن)
فأما الذين قالوا: يزداد من الإيمان، ولا يكون الإيمان هو الزيادة فإنه مذهب غير موجود؛ لأن رجلاً لو وصف ماله فقيل: هو ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهمه الناس إلا أن يكون المائة هي الزائدة على الألف، وكذلك سائر الأشياء، فالإيمان مثلها، لا يزداد الناس منه شيئاً، إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان.
(الشرح)
وهذا أيضاً فيه إبطال لتأويلهم بقولهم: أنه يزدادون من الإيمان ولا يكون الإيمان هو الزيادة، ولكن الناس يزدادون من الإيمان تأويل الرابع، قولهم: إن الإيمان لا يزداد أبداً، ولكن الناس يزدادون منه، يقول: هذا مذهب غير موجود، وهو مذهب باطل.
وبيان ذلك لو أن رجلاً وصف ماله فقيل: هو ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهم إلا أن تكون المائة هي الزائدة على الألف، وكذلك سائر الأشياء.
فكذلك الإيمان مثلها لا يزداد الناس منه شيئاً إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان.
فهذا فيه بطلان للتأويل الرابع في قولهم: الإيمان لا يزداد ولكن الناس يزدادون منه ، الناس يزدادون من الإيمان والإيمان لا يزداد ، يقول: هذا باطل ، فهذا غير معروف وغير مفهوم.
وبيان ذلك: أنه لو وُصِفَ مال شخص فقيل: مال هذا الشخص ألف، ثم قيل بعد ذلك: زاد ماله مائة، وزاد كذا وزاد كذا، وزاد ماله سيارة، زاد عنده ألفاً ،هذا الشخص ماله ألف, ثم قيل بعد ذلك زاد ماله مائةً, وزاد ماله سيارة, وزاد ماله بيتًا، فهل يُقال: إنه لم يزدد هذا الشيء؟, هل يُقال: إن المال لا يزداد ولكن هو يزدادُ منه؟ لا يمكن أن يُقال هذا بل المال زاد، وهو ازداد منه.
فكذلك الإيمان لا يزداد الناس شيئاً منه إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان.
فإذا ازداد الناس من الإيمان زاد الإيمان، أما قولهم: إن الإيمان لا يزداد، ولكن الناس يزدادون منه باطل وهو تناقض، فكل شيء يزداد منه الإنسان فإنه يزيد، يزداد هو بنفسه.
فإذا ازداد من المال زاد المال، وإذا ازداد من الإيمان زاد الإيمان.
وأما قولهم تأويلهم إن الإيمان لا يزداد ولكن الناس يزدادون منه فهذا مذهبٌ باطل، وتفريقٌ بين متماثلين, لا فرق بين قولك: الإيمان يزداد، وقولك: الناس يزدادون من الإيمان والإيمان لا يزداد هذا تناقض لا يمكن؛ لأن الإنسان إذا ازداد من الإيمان زاد الإيمان، فكذلك المال إذا كان عندك مال ،وازددت من المال فلا بد أن يزداد المال، كل شيءٍ تزداد منه فهو يزيد فبطل هذا التأويل.
(المتن)
وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟! فكيف يزداد من شيء قد استقصي وأحيط به؟! أرأيتم رجلاً نظر إلى الناس بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه، هل كان يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار، ولو اجتمع عليه الإنس والجن؟! هذا يستحيل ويخرج مما يعرفه الناس.
(الشرح)
وهذا رد على تأويلهم الثالث في قولهم: الزيادة في الإيمان المراد بها: الازدياد من اليقين والمؤلف -رحمه الله- ما رتبها في الرد، رد عليها بغير ترتيب، فهو الآن يبطل قولهم: إن المراد من الزيادة في الإيمان: الازدياد من اليقين.
يقول: هذا باطل؛ لأن اليقين من الإيمان ،إذا قيل إن الإنسان يزداد من اليقين ، إذا ازداد يقين الإنسان زاد إيمانه ، فاليقين من الإيمان؛ اليقين من الإيمان ،فإذا ازداد اليقين زاد الإيمان ، فقولهم أن الزيادة في الإيمان الإزدياد من اليقين ، هذا يعني هذا هذان الأمران متلازمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان، وإذا نقص الإيمان نقص اليقين.
فقولهم: إن الزيادة إنما الزيادة من اليقين لا من الإيمان هذا باطل؛ لأن اليقين من الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار) عندهم يعني: المرجئة, المرجئة الإيمان كله برمته يعني كامل في القلب بالإقرار, يعني التصديق المرجئة عندهم الإيمان برمته يعني كاملا بالإقرار والإقرار مع التصديق ، الإقرار والتصديق بالقلب.
فإذا صدق وآمن وأقر بقلبه كمل الإيمان في قلبه، هذا عند المرجئة.
هذا معنى قوله : (فإذا كان معنى الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم، أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟!) مادام أن الإيمان هو التصديق والإقرار كامناً في القلب وقد استكملوه بقلوبهم فقد أحاطوه باليقين من قولهم، فكيف يقال: إن الزيادة إنما هي الزيادة من اليقين لا من الإيمان؟! ما دام أن الإيمان هو الإقرار عند المرجئة والتصديق بالقلب، وأنه كامن في القلب فهذا كامل اليقين، إذا كمل الإيمان كمل اليقين وإذا نقص الإيمان نقص اليقين ،فإذا كان الإيمان كله عند المرجئة إنما هو الإقرار ثم استكملوه ، استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم فقد أحاطوه باليقين ، فكيف يزداد من شيء قد استُقصِيَ وأُحِيطَ به؟! وكيف يزداد من شيء وهو كَمُل، هو كامل في قلبه ؟! عند المرجئة الإيمان كامل في القلب بمجرد الإقرار والتصديق.
فكيف يؤولون الآيات ويقولون: معناها الازدياد من اليقين؟ اليقين؛ اليقين هو الإيمان, الإيمان كاملٌ في القلب, فاليقين كاملٌ في القلب, فإذا كمُلَ الإيمان في القلب فقد أحاطه باليقين فكيف يزدادُ من شيءٍ قد استُقصِيَ وأُحيطَ به وكمُل؟! ثم ضرب لهذا مثلاً فقال: (أرأيتم رجلاً نظر إلى النهار بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه، هل كان يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار؟!) إذا نظر إنسان إلى النهار بالضحى يقال: إن هذا الشخص أحاط بالنهار وبضوئه، هل يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار، وإلا اليقين كامل في نفسه؟ إنسان في الضحى أحاط بضوء النهار وتيقن النهار وواقف في الضحى في الصحراء ألا يقال أن هذا أحاط بالنهار ،هذا أحاط بالنهار ،فكيف يقال أنه يزداد يقينا بأنه نهار ، لا يمكن لأن اليقين حاصل له، فلا يحتاج إلى زيادة بعد ذلك.
فكذلك قولهم: إن الإيمان كامل في القلب بمجرد الإقرار والتصديق، ثم يؤولون الزيادة في الإيمان بأنها زيادة في اليقين، يقال: هو الإيمان كامل في القلب، واليقين كامل، فكيف يزداد من شيء قد كَمُلْ؟! ولهذا قال المؤلف: (ولو اجتمع عليه الإنس والجن، هذا يستحيل ويخرج مما يعرفه الناس)، لو اجتمع عليه الإنس والجن وأرادوا أن يزيد يقيناً من النهار وهو في وسط النهار في ربيعة النهار في الصحراء لما استطاعوا أن يزيدوه يقيناً؛ لأن اليقين حاصل له وكامل له.
(المتن)
باب: تسمية الإيمان بالقول دون العمل.
قال أبو عبيد: قالت هذه الفرقة: إذا أقر بما جاء من عند الله، وشهد شهادة الحق بلسانه فذلك الإيمان كله؛ لأن الله سماهم مؤمنين، وليس ما ذهبوا إليه عندنا قولاً، ولا نراه شيئاً، وذلك من وجهين: أحدهما: ما أعلمتك في الثلث الأول أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئاً إلا إقراراً فقط.
وأما الحجة الأخرى: فإنا وجدنا الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضُلُ فيها بعضهم بعضا، وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك: أنك تجد القوم صفوفاً بين مستفتح للصلاة وراكع وساجد وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم: مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون.
وكذلك صناعات الناس، لو أن قوماً ابتنوا حائطاً وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نصفه، وثالث قد قارب الفراغ منه قيل لهم جميعاً: بناة، وهم متباينون في بنائهم.
(الشرح)
هذا الباب في تسمية الإيمان بالقول دون العمل قال أبو عبيد وهو المؤلف -رحمه الله-: (قالت هذه الفرقة) يعني: المرجئة (إذا أقر بما جاء من عند الله وشهد شهادة الحق بلسانه فذلك الإيمان كله) هذا مذهب المرجئة، أنه إذا أقر بما جاء من عند الله وصدَّق وأقر واعترف وصدَّق بقلبه وشهد بلسانه يعني نطق بلسانه فذلك الإيمان كله كامل في القلب ولو لم يعمل.
وحجتهم قالوا لأن الله سماهم مؤمنين، المؤلف رحمه الله ردَّ عليهم من وجهين: فقال: (وليس لما ذهبوا له عندنا قولاً ولا نراه شيئاً، وذلك من وجهين: أحدهما: ما أعلمتك في الثلث الأول)، يعني: من الكتاب (أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئاً إلا إقراراً فقط) يعني: أن الله فرض على المسلمين في مكة قبل الهجرة الإيمان والتوحيد فقط, ففرض عليهم الإقرار والتصديق والإيمان وتوحيد الله والبعد عن الشرك ولم تُفرَض الواجبات، ما فرضت الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، إلا الصلاة فرضت لعظم شأنها قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو ثلاث, الأذان والزكاة والصوم والحج والحدود كلها في المدينة, أما في مكة الواجب عليهم الإيمان والإقرار وتوحيد الله ، فهذا هو الوجه الأول الذي ردَّ به المؤلف -رحمه الله- على المرجئة في قولهم أنه يكفي الإقرار بالقلب والشهادة باللسان بدون العمل لأن الله سماهم مؤمنين.
يقول المؤلف رحمه الله: (لا نرى هذا القول شيئًا) ورُدَّ عليهم من وجهين: الوجه الأول: أنَّ الإيمان المفروض في صدر الإسلام إنما هو التوحيد, والعمل إنما شرع بعد الهجرة إلى المدينة، لما ثبت التوحيد ورسخ الإيمان في القلوب وابتعدوا عن الشرك، فبعد ذلك شُرِعَت الأعمال وفرضت الفرائض وشُرِعَت الحدود؛ لأن التوحيد والإيمان هو أصل الدين وأساس الملة، وهو الذي تبنى عليه الأعمال، ولا يصح العمل إلا إذا بني على التوحيد والإيمان فأصل الدين وأساس الملة: الشهادة لله تعالى بالوحدانية، وللنبي ﷺ بالرسالة, توحيد الله ، وهذا هو الواجب على المؤمنين في مكة قبل الهجرة إلى المدينة.
وأما الحجة الثانية التي ردَّ بها المؤلف -رحمه الله- قال: (فإنا وجدنا الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها, ثم يفضل فيها بعضهم بعضاً، وقد شملهم فيها اسم واحد) يعني يقول إنَّ الإنسان إذا دخل في الشيء استحق هذا الاسم مع الابتداء والدخول فيه، وإن كان الناس يتفاضلون فيها, فإذا أقر المسلم وصدَّق وآمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ﷺ نبيناً ورسولاً دخل في الإسلام وشمله اسم الإيمان، وآخر كذلك أقر ثم عمل أيضاً صلى وصام وزكَّى وحج، وآخر زاد على ذلك أدى النوافل، وفعل النوافل والمستحبات ،كلهم يشملهم اسم الإيمان من حين ابتداء دخولهم فيه، لكن يفضُلُ بعضهم بعضاً ،ومثَّل لذلك قال :من ذلك أنك تجد القوم صفوفا في الصلاة، تجد هذا كبَّر واستفتح الصلاة، وتجد الثاني راكعاً، وتجد الثالث ساجداً، وتجد الثالث الرابع قائماً، وتجد الرابع الخامس يتشهد، كلهم يسمون مصلين، وهم متفاوتون، فهذا مصلٍ في أول الصلاة في الركعة الأولى، وهذا مصلٍ في الركعة الثانية، وهذا مصلٍ في الركعة الثالثة، وهذا مصلٍ في الركعة الرابعة من حين يكبر ويدخل في الصلاة يسمى مصلياً وإن كان يتفاوتون ،بعضهم في أول صلاته وبعضهم في وسطها وبعضهم في آخره.
فكذلك المؤمن إذا دخل في الإيمان سُمِّي مؤمناً, ومَن أدَّى الواجبات وترك المحرمات سمى مؤمناً، ومن زاد وأدى النوافل والمستحبات سمى مؤمناً، ولكن يتفاضلون ، فالذي يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات هذا من المقتصدين, والذي يكون عنده نشاط بعد ذلك فيؤدي المستحبات والنوافل ويبتعد عن المكروهات وفضول المباحات من السابقين الأولين، وهو مؤمن، والمؤمن الذي يُقصِّر في بعض الواجبات ويرتكب بعض المحرمات ظالم لنفسه، وهو مؤمن، وكلهم مؤمنون, فالظالم لنفسه مؤمن، ولكنه مؤمن ناقص الإيمان, والمقتصد الذي أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات مؤمن, والسابق للخيرات الذي أدى الواجبات وفعل المستحبات والنوافل وترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات مؤمن أيضاً, وهم متفاوتون فكذلك الناس في الإيمان يتفاوتون, وكذلك الصناعات يتفاوت الناس فيها ،ومثل المؤلف -رحمه الله-: لو أن قوماً ابتنوا حائطاً وكان بعضهم يؤسس الحائط، وآخر في طرف الحائط قد بلغ نصف الحائط، والثالث قارب الفراغ منه كلهم جميعاً يبنون حائطاً واحداً لكن أولهم يحفر الأساس، والثاني في آخر الحائط مشى حتى انتصف في الحائط ، والثالث قد قارب الفراغ منه، وكلهم يسمون بناة، وهم متباينون في بنائهم هذا في أول البناء وهذا في وسط البناء ، وهذا في آخره .
فكذلك المؤمنون كلهم يسمون مؤمنين فهذا دخل في الإسلام من أوله، وهذا أدى الواجبات وترك المحرمات، وهذا فعل المستحبات والنوافل، كلهم مؤمنون.
(المتن)
وكذلك لو أن قوماً أمروا بدخول دار فدخلها أحدهم فلما تعتب الباب أقام مكانه، وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها قيل لهم جميعاً: داخلون، وبعضهم فيها أكثر مُدْخَلاً من بعض.
فهذا الكلام المعقول عند العرب السائر فيهم فكذلك المذهب في الإيمان إنما هو دخول في الدين، قال الله تبارك وتعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:1 - 3].
(الشرح)
وهذا مثال آخر ضربه -المؤلف رحمه الله- ومثَّل به, قال: وكذلك لو أن قوماً أُمِروا بدخول دار، عندك جماعة ضيوف وقفوا عند الباب فقلت لهم: تفضلوا حياكم الله، فدخل أحدهم، فلما تعتب الباب جاوز العتبة جلس، وجاوزه الآخر بخطوات وجلس، ومضى الثالث إلى المجلس، وبعضهم جلس في الحوش مثلًا, قيل لهم جميعاً: داخلون، وبعضهم فيها أكثر مُدخلاً من بعض، وهذا كلام معقول عند العرب، فكلهم في الدار؛ الذي جلس عند الباب والذي جلس في المجلس والذي جلس في الحوش والذي جلس في السطح كلهم يسمون داخلون.
فكذلك الداخلون في الإيمان يتفاوتون؛ ولذلك قال المؤلف: كذلك المذهب في الإيمان إنما هو دخول في الدين قال الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:2 - 3] فهم يدخلون في دين الله وهم متفاوتون إيمانهم متفاوت.
(المتن)
(الشرح)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ، يعني: في الإسلام: (كافة) كافة معناها: الإحاطة بالشيء، ادخلوا في السلم كافة ،ادخلوا فيه ، جميعه فهم يدخلون في الإسلام وهم متفاوتون.
(المتن)
قال رسول الله ﷺ: بني الإسلام على خمس فصارت الخمس كلها هي الملة التي سماها الله سلماً مفروضاً فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم، وتفاضل الدرجات فيها.
(الشرح)
يقول : يقول النبي ﷺ: بني الإسلام على خمس وهذا الحديث رواه الشيخان، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
قال المؤلف: (فصارت الخمس كلها هي الملة التي سماها الله).
يعني: هي الدين الذي سماه الله سلماً مفروضاً.
يعني: إسلاماً مفروضاً؛ لأن هذه الأركان هي عمود الإسلام وأسسه التي لا يقوم ولا يستكمل إلا بها, فمن استقام عليها وأداها عن صدق وإخلاص فلا بد من أن يؤدي بقية الأعمال وشرائع الإسلام.
ثمّ قال المؤلف: (فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم، وتفاضل الدرجات فيها) يعني: أعمال البر يدخل الناس فيه ويتفاوتون كما سبق، يتفاوت الناس في صدقاتهم، وكلهم متصدق, هذا يتصدق بألف، وهذا يتصدق بألفين، وهذا يتصدق بثلاثة آلاف، وهذا تصدق بريال، كلهم متصدقون كلهم يشملهم اسم المتصدق، لكنهم يتفاوتون، وكذلك المصلون يتفاوتون، وكذلك المحسنون يتفاوتون, وكذلك يتفاوتون في الصناعات، مع أنهم كلهم يشملهم اسم الصناعة, وكذلك في دخول المساكن ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم، وتفاضل الدرجات فيها)، يعني :مع تفاضل الدرجات فيها .
وهذه الأدلة إنما هي أدله من جهة النظر والعقل تُضَاف إلى الأدلة التي دلت عليها النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ.
فقد دلت النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، ودل النظر الصحيح على أن الإيمان درجات ومنازل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإن كان المؤمنون كلهم يسمون مؤمنين، إلا أنهم يتفاوتون في هذا الإيمان.
(المتن)
فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم، وتفاضل الدرجات فيه هذا في التشبيه والنظر مع ما احتججنا به من الكتاب والسنة.
(الشرح)
يعني: لقد احتججنا بالنظر والعقل, واحتججنا بنصوص الكتاب والسنة، يعني يقول : دلت النصوص من كتاب الله وسنته ﷺ على أن الإيمان درجات ومنازل، وأن والناس يتفاضلون فيه، وكذلك دل على ذلك العقل والنظر الصحيح.
(المتن)
فهكذا الإيمان هو درجات ومنازل، وإن كان سمى أهله اسماً واحدًا, وإنما هو عملٌ من أعمالٍ تعبَّد الله به عباده وفرضه على جوارحهم وجعل أصله في معرفة القلب, ثم جعل المنطق شاهدًا عليه, ثم الأعمال مُصدِّقَةً له, وإنما أعطى الله كل جارحةٍ عملًا لم يُعطِهِ الأخرى, فعمل القلب الاعتقاد, وعمل اللسان القول, وعمل اليد التناول, وعمل الرجل المشي, وكلها يجمعها اسم العمل, فالإيمان على هذا التناول إنما هو كله مبنيٌ على العمل من أوله إلى آخره إلا أنه يتفاضل في الدرجات على ما وصفنا.
(الشرح)
يقول المؤلف -رحمه الله- : الإيمان كله عمل, أعمال القلوب, وأعمال الجوارح, وأعمال اللسان؛ كلها أعمالٌ تعبَّد الله بها عباده وفرضه على جوارحهم, ففرض الله على الإنسان أن يؤمِّن ويُصدِّق ويُقِر بقلبه, وفرض عليه أن ينطق بلسانه؛ عمل اللسان النطق بالشهادتين, وعمل القلب الإقرار والتصديق, والجوارح لها أعمال, وأصله: تصديق القلب وإقراره وإيمانه.
ثم النطق بالشهادتين شاهد على ما في القلب ويُنبيءُ عما في القلب, ثم الأعمال تُصدِّق هذا الإيمان, فالإيمان أصله التصديق والإقرار, أو الاعتراف الإيمان القلب بالتصديق والإقرار هذا أصل الإيمان تصديق القلب وإقراره, ثم النطق بالشهادتين شاهد هذا الإقرار, ثم أعمال الجوارح تُصدِّق هذا الإيمان, ثم قال المؤلف: (وإنما أعطى الله كل جارحةٍ عملًا لم يُعطها الأخرى) كل جارحة من الجوارح لها عمل تعبَّدهُ الله بها, فعمل القلب الاعتقاد, وعمل اللسان القول, والنطق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وتلاوة القرآن والذكر إلى غير ذلك, وعمل اليد التناول؛ يتناول بها ويأخذ ويُعطي, وعمل الرجل المشي, وكلها يجمعها اسم العمل, فالإيمان على هذا التناول إنما هو كله مبنيٌ على العمل, فالإيمان مبنيٌ على العمل من أوله إلى آخره, إلا أنه يتفاضَل في الدرجات على ما وصفنا, عمل القلب الاعتقاد والتصديق والإقرار, وعمل اللسان النطق والجوارح أيضًا تعمل.
(المتن)
وزعم مخالفنا أن القول دون العمل، فهذا عندنا متناقض؛ لأنه إذا جعله قولاً فقد أقر أنه عمل، وهو لا يدري بما أعلمتك من العلة الموهومة عند العرب في تسمية أفعال الجوارح عملاً.
(الشرح)
(وزعم مخالفنا) وهم المرجئة (أن الإيمان هو القول دون العمل).
القول: قول القلب وإقراره وتصديقه, زعمت المرجئة أن الإيمان: هو تصديق القلب وإقراره، وأن العمل لا يدخل في مسماه.
يقول المؤلف رحمه الله: هذا متناقض؛ متناقض لماذا؟ لأنه إذا جعله قولاً فقد أقر أنه عمل؛ لأن قول القلب وإقراره وتصديقه عمل هذا عمل القلب، وذلك أن العرب تسمي أفعال الجوارح عملاً، وسيستدل المؤلف -رحمه الله- على تسمية قول اللسان عملاً، فيقول: إن المرجئة متناقضون بقولهم: إن الإيمان هو القول دون العمل؛ لأن القول الذي هو التصديق والإقرار هو عمل للقلب وقول اللسان ونطقه هو عمل يسمى عملا ، جاءت النصوص بتسمية النطق باللسان عملاً, وكذلك العرب تسمي أفعال الجوارح عملاً، فأفعال الجوارح تسمى عملاً، وأقول اللسان يسمى عملاً عمل للسان ، وإقرار القلب وتصديقه عمل القلب ، وسيستدل على هذا بالنصوص.
(المتن)
وتصديقه في تأويل الكتاب في عمل القلب واللسان قول الله في القلب: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، وقال: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، وقال: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، وقال رسول الله ﷺ: إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وهي القلب وإذا كان القلب مطمئناً مرة، ويصغي أخرى، ويوجل ثالثة، ثم يكون منه الصلاح والفساد فأي عمل أكثر من هذا؟
(الشرح)
هذه النصوص استدل بها المؤلف -رحمه الله- على تسمية عمل القلب عملاً ،وأن عمل القلب يسمى عملا ، طمأنينة القلب ، وكونه يصغي ويوجل وكونه يصلح ويفسد كل هذه أعمال، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وتصديقه في تأويل الكتاب في عمل القلب قول الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]) فوصف القلب بأنه يطمئن وهذا عمل، عمل القلب أنه يطمئن الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] ووجل القلب هذا عمل القلب ،عمل للقلب.
وفي الحديث قال النبي ﷺ: إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله والمؤلف رواه بالمعنى والحديث: إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب، فنسب الصلاح والفساد إلى القلب.
فدل على أن القلب له أعمال, فالقلب يكون يطمئن ،فيوصف بأنه مطمئن، ويوصف بأنه يصغي، ويوصف أنه يوجل، ويوصف أنه يصلح، ويوصف أنه يفسد, يقول: فأي عمل أكثر من هذا؟!
(المتن)
ثم بيَّن ما ذكرنا قوله: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8] فهذا ما في عمل القلب.
(الشرح)
وكذلك فقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ يعني: في قلوبهم أي: يقولون سراً في قلوبهم وقد ينطقون به بألسنتهم قال تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8]، فسماه قولاً وهو عمل عمل القلب وجاء في تفسير هذه الآية، وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ يعني: يقولون سراً بألسنتهم.
(المتن)
وأما عمل اللسان فقوله: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108]، فذكر القول ثم سماه عملاً ثم قال: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41] هل كان عمل رسول الله ﷺ معهم إلا دعاؤه إياهم إلى الله، وردهم عليه قوله بالتكذيب وقد أسماها هاهنا عملاً؟! وقال في موضع ثالث: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:51 - 52] إلى لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، فهل يكون التصديق إلا بالقول وقد جعل صاحبها هاهنا عاملاً؟! ثم قال: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13] فأكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان، وإن كانت المكافأة قد تدعى شكراً.
(الشرح)
هذا فيه احتجاج للمؤلف –رحمه الله-على تسمية قول اللسان عملاً، احتج عليهم بأربع حجج: الحجة الأولى: قول الله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108] فقوله: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ فعملهم ما هو؟ تبييتهم قولاً لا يرضاه الله، فسماه الله عملاً بقوله: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108] يعني: من هذا القول الذي بيتوه، فسماه عملاً فدل على أن قول اللسان يسمى عملاً، إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108]
قال المؤلف: فذكر القول ثم سماه عملاً.
س/ الطالب : (55:30)
ج/ الشيخ : (صح الآيه : وكان الله بما يعملون محيطا ) عندك يعملون،
الآية: وكان الله بما يعملون محيطا
الدليل الثاني أو الحجة الثانية: قول الله تعالى في سورة يونس: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41] فسمى قول النبي ﷺ عملاً ، الرسول عليه الصلاة والسلام عمله ما هو ؟ دعوتهم إلى الله وتبليغهم رسالة الله بلسانه، فسماه عملا في قوله : لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ [يونس:41] ما هو عمل الرسول ﷺ؟ عمل الرسول دعاؤهم إياهم إلى الله وتبليغهم رسالة الله وإنذارهم وتخويفهم، وهم ردوا على النبي ﷺ قوله المشركون ردوا قوله بالتكذيب، وسماه الله هنا عملاً فسمى دعوة النبي ﷺ لهم عملاً، وسمى تكذيبهم له بالقول عملاً, هذا عمل ، وهذا عمل فعمل النبي ﷺ دعاءه لهم بلسانه وقوله ، وعملهم تكذيبهم له بالقول ، فسمى هذا عملا ، وهذا عملا ،فقال: وإن كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41].
الدليل الثالث والحجة الثالثة: قول الله تعالى في سورة الصافات: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:50 - 61]، هذه الآيات فيها محاورة بين مؤمن وكافر, فهذا المؤمن كان له قرين في الدنيا، فكان هذا القرين يكذب بالبعث, فلما مات صار هذا القرين الكافر في النار وصار المؤمن في الجنة, فكان المؤمن يتحدث مع المؤمنين مع إخوانه المؤمنين، تذكر حال قرينه الكافر الذي ينكر البعث، قال تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:50] أي: المؤمنون قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:51] يعني: في الدنيا ينكر البعث، ويقول يخاطب المؤمن: أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:52 - 53] أتصدق بأنك إذا مت وكنت تراباً وعظاماً سوف تبعث وتجازى وتحاسب؟! فقال بعضهم: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54] يعني: هل نطلع ننظر حاله؟ فاطلعوا وهم في الجنة في أعلى عليين والنار في أسفل سافلين، فاطلع المؤمن على قرينه الكافر فوجده يتقلب في النار في وسط الجحيم، قال تعالى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55] انظر مع البعد العظيم ، كم بين الجنة والنار، الجنة في أعلى عليين، والفردوس في الأعلى أعلاها، وسقفها عرش الرحمن، والنار في أسفل سافلين، ومع ذلك المؤمن صار يتفرج على الكافر في النار، ويراه يتقلب في وسط الجحيم، والله تعالى أعطانا مثالاً في هذه الدنيا الآن ،الإنسان يشاهد من في المشرق ومن في المغرب على الشاشة ،كما تشاهدون الآن فهذا نموذج الآن فالمؤمن يخاطب الكافر مع بعد المسافة ويراه، المؤمن في الجنة في أعلى عليين والكافر في أسفل سافلين، فالمؤمن ينظر إلى الكافر وهو يتقلب في سواء الجحيم، مع بعد المسافة ، ينظر إليه كشف الله له لينظر إليه ويخاطبه أيضا ، قال له المؤمن للكافر الذي يتقلب في وسط الجحيم: قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56] كدت تظلني؛ لأنك تنكر البعث، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] ثم يخاطبه: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات:58 - 59] أنت تنكر البعث أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات:58 - 59]، ثم قال الله: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:60 - 61] هذا الشاهد، الشاهد أن المحاورة بين المؤمن والكافر قول, سماه الله عملاً فقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، هذا ما وجهه المؤلف لهذه الآيات، ولكن الآية: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] يعني: لمثل هذا اليوم العظيم الذي يلاقي الإنسان فيه ربه، ويلقى جزاءه يعمل العاملون بالتوحيد والإخلاص ،بتوحيد الله وإخلاص الدين له، وأداء الفرائض والانتهاء عن المحارم، والاستقامة على دين الله، والوقوف عند حدود الله،لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] المؤلف رحمه الله استدل بقوله: إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:51 - 52] فاستدل بقوله: (لمن المصدقين) قال: إن التصديق سماه الله عملاً بقوله: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، فهذا المؤمن صدَّق بلقاء الله وبالبعث وبالجزاء وبالنشور ووحَّد الله فسماه الله عملاً بقوله: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] يقول المؤلف: هل يكون التصديق إلا بالقول وقد جعل صاحبه هاهنا عاملاً؟!
الدليل الرابع أو الحجة الرابعة: قول الله تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13] فسمى العمل شكراً، اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وقوله رحمه الله: (أكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان وإن كانت المكافأة قد تُدعَى شكراً).
فالصواب أن الشكر يكون بالقول ويكون باللسان ويكون بالجوارح, بالقلب بتعظيم الله وخشيته وإجلاله والاعتراف بنعمه، ويكون باللسان بالتحدث بالنعم وشكر المنعم جل وعلا، ويكون بالجوارح بصرف هذه النعم في طاعة الله، واستعمالها في مراضاته .
(المتن)
فكل هذا الذي تأولنا إنما هو على ظاهر القرآن، وما وجدنا أهل العلم يتأولونه، والله أعلم بما أراد، إلا أن هذا هو المستفيض في كلام العرب غير المدفوع، فتسميتهم الكلام عملاً، من ذلك أن يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً: إذا نطق بحق وأقام الشهادة ونحو هذا، وكذلك إن أسمع رجل صاحبه مكروهاً قيل: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، ونحوه من القول، فسموه عملاً، وهو لم يزده على المنطق، ومنه الحديث المأثور: من عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما ينفعه.
(الشرح)
يقول المؤلف -رحمه الله-: كل هذه النصوص التي تأولناها إنما هو تأولناها لأن القرآن دل عليها، يعني: ظاهر القرآن يدل عليها، ووجدنا -أيضاً- أهل العلم يتأولونها بهذا التأويل، ويفسرونها بهذا التفسير، يفسرونها .النصوص قد دلت على تفسير القول بالعمل، وكذلك كلام أهل العلم، وهذا هو المستفيض أيضاً في كلام العرب, ولا يوجد ما يدفعه أنهم يسمون الكلام عملاً.
ومن ذلك في لغة العرب يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً: إذا نطق بحق وأقام الشهادة ونحو ذلك, إذا نطق الإنسان بالحق وأقام الشهادة وأدَّ تقول العرب: قد عمل اليوم عملاً كثيراً، وهو ما نطق بلسانه نطق بالشهادة ونطق بالحق، وقال الحق وتكلم بالحق، فسموا هذا عملاً، فيقولون: لقد عمل فلان اليوم عملاً, وكذلك إذا أسمع رجل صاحبه كلاماً سيئاً يكرهه تقول العرب: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، إنما تكلم بكلام سيئ، فسموه عملاً، وهو لم يزد على المنطق.
يعني المؤلف -رحمه الله-؛ تسمية الكلام عملاً دلَّت عليها النصوص ودلت عليه أيضًا لغة العرب, ومنه الحديث المأثور: مَن عَدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما ينفعه هذا المُحشِّي يقول: لم أجد هذا الحديث وأغلب الظن أنه موقوف فيحتاج إلى مراجعة الحديث ويحتمل أنه حكمة ، وأنه من الحكمة (مَن عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما ينفعه) فالشاهد في قوله عدَّ كلامه من عمله فأدخل الكلام في العمل.
(المتن)
فوجدنا تأويل القرآن وآثار النبي ﷺ وما مضت عليه العلماء وصحة النظر كلها تُصدِّق أهل السنة في الإيمان, فيبقى القول الآخر كأيُّ شيءٍ يُتبَعُ بعد هذه الحُجج الأربع.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (إنا وجدنا النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وإجماع العلماء والنظر الصحيح كلها تدل لمذهب أهل السنة والجماعة) من أنَّ الإيمان قولٌ باللسان, وتصديقٌ بالقلب, وعملٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح, وأنَّ أقوال اللسان تسمى عملًا, وكذلك أيضًا النظر الصحيح واللغة, فصارت الأدلة التي تدل لمذهب أهل السنة والجماعة أنَّ الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأن أقوال اللسان وأعمال القلوب وتصديق القلب كلها داخلة في مسمى الإيمان دلَّ على هذا القرآن الكريم والنصوص من كتاب الله تعالى والآثار من سنة النبي ﷺ وإجماع العلماء والنظر الصحيح كلها تُصدِّق أهل السنة في الإيمان, فيبقى القول الآخر يعني قول المرجئة الذين يقولون أنَّ الإيمان هو قول القلب وتصديقه, ف(أيُّ شيءٍ يُتبَّع بعد هذه الحُجج الأربع)؛ الحُجج الأربع التي استدل بها على أنَّ قول اللسان يسمى عملًا,يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) الحجج الأربع والأدلة الأربعة التي استدل بها المؤلف على أنَّ قول اللسان داخلٌ في العمل, يقول المؤلف: (فأيُّ شيءٍ يُتبَّع بعد هذه الحُجج الأربع؟!).
(المتن)
وقد يلزم أهل هذا الرأي ممن يدَّعي أن المتكلم بالإيمان مستكمِلٌ له من التبعة ما هو أشد مما ذكرنا, وذلك فيما قَصَّ علينا من نبأ إبليس للسجود لآدم فإنه قال: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] فجعله الله بالاستكبار كافرًا وهو مُقِرٌّ به غير جاحدٍ له, ألا تسمع خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] وقوله: ربي بِمَا أَغْوَيْتَنِي هذا الآن مُقِرٌّ بأن الله ربُه وأثبت القدر أيضًا في قوله أَغْوَيْتَنِي وقد تأوَّل بعضهم قوله وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أنه كان كافرًا قبل ذلك ولا وجه لهذا عندي, لأنه لو كان كافرًا قبل أن يُؤمَر بالسجود لَمَا كان في عداد الملائكة ولا كان عاصيًا إذا لم يكن ممن أُمِرَ بالسجود وينبغي في هذا القول أن يكون إبليس قد عاد إلى الإيمان بعد الكفر لقوله: ربي َبِمَا أَغْوَيْتَنِي وقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فهل يجوز لمَن يعرف الله وكتابه وما جاء من عنده أن يُثبِت الإيمان لإبليس اليوم؟!
(الشرح)
هذه مناقشة من المؤلف رحمه الله للمرجئة الذين يقولون :أنَّ الإيمان كاملٌ في القلب بمجرد الإقرار والتصديق يكمُل الإيمان في قلبه, يقول المؤلف رحمه الله: (وقد يلزم أهل هذا الرأي) وهم المرجئة ممن يدَّعي أن المتكلِّم بالإيمان مستكمِلٌ له (من التبعة) -يعني من النقد والرد- (ما هو أشد مما ذكرنا) وذلك في قصة إبليس؛ قصة إبليس التي قصَّها الله علينا في القرآن الكريم حينما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ يقول المؤلف رحمه الله: (جعله الله بالاستكبار كافرًا) جعله كافرًا بالاستكبار من استكبر وعارَض أمر الله بالاستكبار فإنه يكون كافرًا ولو كن مُقِّرًا لا ينفعه الإقرار لأن الكفر يكون بالإباء والاستكبار ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فجعله الله بالاستكبار كافرًا وهو مُقِرٌّ به غير جاحد) ألا تسمع يعني إقراره في قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَال ربي بِمَا أَغْوَيْتَنِيقَالَ أَنْظِرْنِي [الأعراف:14] إذًا معترِف بربوبية الله ومُصدِّقٌ بالأمر؛ الأمر مُصدِّق لكنه عارَض الأمر؛ عارَضَ أمر الله بالإباء والاستكبار, لم يُعارِضهُ بالتكذيب ما كذَّب الأمر ولكن عارَضَهُ بالإباء والاستكبار والرفض, ولهذا قال المؤلف: (جعله الله بالاستكبار كافرًا وهو مُقِرٌّ به غير جاحد) حيث إنه قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وقال: قَال ربي بِمَا أَغْوَيْتَنِي يعني هو عارَضَ أمر الله بالاستكبار ويقول: أنا عنصري أحسن من عنصر آدم؛ عنصر آدم الطين وعنصر إبليس النار، والنار أفضل من الطين هكذا يقول إبليس, ولا يمكن أن يخضع الفاضل للمفضول, ولهذا قال: قَالَ ربي بِمَا أَغْوَيْتَنِي قال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فإذًا هو عارَض أمر الله بالرفض والاستكبار ولم يرد أمر الله بالتكذيب فهو مُقِر ومُصدِّق بلسانه ومعترف أيضًا بقلبه بربه وأمره ومع ذلك ما نفعه لأنه عارَضَ أمر الله بالاستكبار, يقول: فهذا الآن مُقِرٌّ بأنَّ الله ربه؛ المؤلف يقول هذا يعني إبليس مُقِرٌ بأنَّ الله ربه ولم ينفعه هذا الإقرار بسبب استكباره عن عبادة الله وأثبت القدر؛ أيضًا إبليس مُثبِت القدر في قوله أَغْوَيْتَنِي يقول المؤلف : (وقد تأوَّل بعضهم قول الله تعالى: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أنه كان كافرًا قبل ذلك) يقول (ولا وجه لهذا عندي لأنه لو كان كافرًا قبل أن يُؤمَر بالسجود لَمَا كان في عداد الملائكة) لو كان كافرا قبل أن يُؤمَر بالسجود ما أُمِرَ بالسجود, ما كان داخلًا في قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ولا كان عاصيًا حينما امتنع من السجود, ثم قال يرد هذا القول: (وينبغي في هذا القول أن يكون إبليس قد عاد غلى الإيمان بعد الكفر) يعني مَن قال أنَّ إبليس كان كافرًا قبل ذلك يعني يلزمه أن يقول إنَّ إبليس كان كافرًا قبل ذلك ثم عاد إلى الإيمان بعد الكفر حيث إنه قال قَالَ ربي بِمَا أَغْوَيْتَنِي وقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ثم بيَّن شناعة هذا القول فقال: (فهل يجوز لمَن يعرف الله وكتابه ومَن جاء من عنده أن يُثبِت الإيمان لإبليس اليوم) يعني بقول خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ؟! هذا لا يمكن فدلَّ على أنَّ إبليس إنما كفره بالإباء والاستكبار بعد أن كان مُخاطَبًا مع الملائكة بالسجود.
(المتن)
باب: من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن عمل.
قال أبو عبيد: قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا في أن العمل من الإيمان، على أنهم وإن كانوا لنا مفارقين، فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد يقع الغلَط في مثله، ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعاً، ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب لله وحده، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية؛ لمعارضته لكلام الله ورسوله ﷺ بالرد والتكذيب.
(الشرح)
هذا الباب عقده المؤلف -رحمه الله- للرد على الجهمية، وهم المرجئة المحضة الغلاة الذين يرون: أن الإيمان مجرد معرفة الرّب بالقلب، يقولون الإيمان هو معرفة الرَّب بالقلب ،والكفر هو جهل الرَّب بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن عند الجهم بن صفوان، ولا يكون كافراً ولو فعل جميع المنكرات والكبائر وأنواع الردة، هدم المساجد وقتل الأنبياء والمصلحين فلا يكون كافراً إلا إذا جهل ربه بقلبه، فهذا أفسد ما قيل في حد الإيمان وتعريفه هو قول الجهمية، أفسد ما قيل في تعريف الإيمان تعريف الجهمية، يقولون :الإيمان هو معرفة الرَّب بالقلب
يقول المؤلف : قال أبو عبيد وهو المؤلف رحمه الله : (قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا) المراد بهم مرجئة الفقهاء: أبي حنيفة وأصحابه، يقول :ذكرنا فيما سبق أن مرجئة الفقهاء فارقونا في أي شيء؟ في أن العمل من الإيمان ، نحن نقول: العمل من الإيمان، وهم يقولون: العمل ليس من الإيمان.
(على أنهم وإن كانوا مفارقين لنا) ومخالفين ومذهبهم مذهب باطل إلا أن هذا المذهب قد يقع الغلط في مثله، قد يكون صاحبه له شبهة تجعله يغلط، لكن المصيبة أن فرقة حدثت وشذت عن الطائفتين جميعاً، وهي الجهمية المرجئة المحضة الغلاة، المصيبة مذهب الفرقة الثالثة التي شذت عن الطائفتين، شذت عن مذهب أهل السنة والجماعة، وشذت عن مذهب مرجئة الفقهاء أيضاً، مرجئة الفقهاء وإن كان ليس بصحيح وهو يقولون: العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، لكن يقولون: العمل مطلوب، الواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، ومَن فعل الواجبات فهو مثاب ، إذا كان عن إخلاص ومتابعة ، ويستحق الثواب والمدح، ومَن فعل الكبائر عليه الوعيد الشديد ، ويقام عليه الحد إذا كان عليها حد، وهو الغالب ،لكن الواجبات واجبات والمحرمات محرمات ،وإن كان هذا القول يعني غلطاً إلا أنه أهون بكثير من مذهب الجهمية والمرجئة المحضة، لأن هؤلاء وإن كانوا هؤلاء من أهل العلم من أهل الفقه وأهل والدين؛ أبي حنيفة وأصحابه وغيره ولهم شبهه ، لكن المصيبة أنه حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعا ،الطائفتين : أهل السنة والجماعة وطائفة المرجئة الفقهاء ،وليسوا من أهل العلم والدين ،لأنهم قالوا: الإيمان معرفة القلوب بالله وحده فقط، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، مجرد ما يعرف الإنسان ربه بقلبه ،هذا هو الإيمان عند الجهم، ولو لم يعمل ولو لم يقل شيئًا ، ولو لم يفعل شيئا من الواجبات ، حتى قالوا : إن من صدق بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان ويدخل الجنة من أول وهلة، ولو لم يفعل شيئاً من الواجبات، ولو ارتكب جميع المحرمات والكبائر.
قال المؤلف رحمه الله: (وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية)، جمع مفرده الملة الحنفية ، لأنه يعارض كلام الله ،وكلام رسوله ﷺ بالردَّ والتكذيب،
يعني: هذا انسلاخ من الدين بالكلية وإبطال للشرائع، إبطال للكتب المنزلة، وإبطال لما جاءت به الرسل، فهو مذهب باطل لانسلاخه للعلم والدين ، ولخالفته لما جاء به المرسلون وما أنزل الله به الكتب.
(المتن)
ألا تسمع قوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَالآية [البقرة:136] فجعل القول فرضاً حتماً، كما جعل معرفته فرضاً، ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم، ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان، ولم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي ﷺ في كل ما جاء به، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، وقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] يعني النبي ﷺ، فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً، ثم سئل رسول الله ﷺ عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى.
(الشرح)
هذا فيه مناقشة للجهمية والمرجئة المحضة من المؤلف -رحمه الله – ويقول : في الردِّ عليهم وبيان بطلان مذهبهم بأن الواجب الإيمان فقط دون القول والعمل، قال: (ألا تسمع قوله سبحانه): قول الله قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:136]: (قولوا) هذا أمر، والأمر للوجوب.
(فجعل القول فرضاً حتماً) كما جعل معرفته فرضا حتما ،فكما أن معرفة الله والإيمان به وتصديقه بالقلب فرض حتم، فكذلك القول فرض حتم ،النطق باللسان، لا بد أن ينطق الإنسان بالشهادتين ويشهد لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فجعل القول فرضا حتما كما جعل المعرفة فرضا حتما ،ولم يكتف الله تعالى بالمعرفة، ولهذا قال المؤلف: (ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم) بل قال: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136]، فدل على بطلان مذهب الجهمية الذين يقولون: القول غير واجب، وأنه يكفي المعرفة.
(ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:136] إلى آخر الآية، فالله تعالى أوجب القول وأوجب الإيمان بالكتب والرسل ولم يكتف بالتصديق.
(ولم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي ﷺ في كل ما جاء به، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]) فدل على بطلان هذا المذهب الفاسد وفساده، وهو مذهب الجهم القائل بأن الإيمان مجرد المعرفة؛ الله تعالى لم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي ﷺ في كل ما جاء به، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]، وكذلك -أيضاً- نفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول ﷺ في مسائل النزاع، فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، ولم يثبت الإيمان لأهل الكتاب مع كونهم يعرفون بقلوبهم أن النبي ﷺ رسول الله، ويعرفون صدقه وصفته، فقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، ثم قال: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، فأهل الكتاب يعرفونه بقلوبهم ولم تنفعهم هذه المعرفة؛ لأنهم لم يؤمنوا ولم يصدقوا، فدل على أن المعرفة لا تكفي، ولهذا علق المؤلف رحمه الله على هذه النصوص فقال: (فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً) فلم يجعل الله معرفتهم ، يعني :معرفة اليهود _ أهل الكتاب _ معرفتهم بالله ، لم يجعلها إيماناً حين تركوا الشهادة له بألسنتهم.
(ثم سئل رسول الله ﷺ عن الإيمان) في حديث جبريل ثم قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ولم يكتف بالمعرفة بالقلب، فدل على بطلان هذا المذهب وفساده.
(المتن)
قال في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى ،وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة، ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض؛ إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة، والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب، ولو كان هذا يكون مؤمناً، ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله، لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمناً مستكملاً الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين، فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لن يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط.
(الشرح)
هذا بيان من المؤلف رحمه الله لمفاسد مذهب الجهمية الذين يزعمون أن الإيمان معرفة الرَّب بالقلب فقط.
يقول: (وزعمت هذه الفرقة) وهم الجهمية (أن الله رضي منهم بالمعرفة) يعني: اكتفى بهذا وأن هذ هو الإيمان.
يقول: (ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض) لو كان الإيمان مجرد المعرفة ما عرف الإسلام من الجاهلية؛ لأن الإيمان في القلب، يعرف هذا من هذا ،ولا يعرف الفرق بين ملة اليهودية، وملة النصرانية وملة الإسلام ،ما يعرف لأن الإيمان هو معرفة الرِّب بالقلب ،يكون يعرف ربه بقلبه ولوكان يهوديا ، ويعرف ربه بقلبه ولو كان نصرانياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان وثنياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان من أهل الجاهلية، فعلى هذا المذهب ما يُعرَف الإسلام من الجاهلية، ولا يُعرَف الفرق بين ملة اليهودية وملة النصرانية وملة الوثنية.
(إن كان يرضى منهم بالدعوة على قلوبهم)، لأن الإيمان ما يدعونه في قلوبهم من المعرفة ،فلو كان الإيمان هو معرفة الرَّب في القلب كما يزعمون لرضي الله منهم بالدعوة على قلوبهم ،ولم يحصل فرق بين الإسلام والجاهلية ،ولا بين الملل ، (غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب) يعني: يقول لو كان الإيمان هو مجرد المعرفة لرضي منهم بالدعوى على قلوبهم، ولكنه لا يرضى من المؤمن إيمانه إلا إذا أقرَّ بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وتبرأ مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بقلبه ولسانه؛ لا يرضى الله من المؤمن حتى يوحد الله ويخلص له العبادة ويتبرأ من الشرك قليله وكثيره، ويؤمن بالله ورسوله ويتبرأ من الأنداد والآلهة.
يقول المؤلف –رحمه الله- (ولو كان هذا يكون مؤمناً) يعني: بمعرفته بقلبه، (ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النصارى وصلى للصليب وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمنًا مستكملًا الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين) يقول (لو) هذا إلزام للجهم؛ يلزم الجهم الذي يقول الإيمان يلزم الجهمية الذين يقولون الإيمان هو مجرد معرفة الرب بالقلب أن يكون مَن قال أن الله ثاني اثنين يكون مؤمنا لأنه يعرف ربه بقلبه ولو كان يقول ثاني اثنين, فيلزم على مذهب الجهم أن يكون المجوسي مؤمنا لأنه يعرف ربه بقلبه حتى لو كان يقول أن الله ثاني اثنين, وكذلك النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة يكونوا مؤمنين على مذهب الجهم لأنهم يعرفون الله بقلوبهم, وكذلك مَن صلَّى للصليب يكون مؤمنا على مذهب الجهم, وكذلك مَن عبد النيران يكون مؤمنا على مذهب الجهم إذا كان قلبه على المعرفة بالله, بل يكون مؤمنا مُستكمِل الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين.
يقول المؤلف رحمه الله بيان شناعة هذا القول: (فهل يلفظ بهذا أحدٌ يعرف الله؟! أو مؤمنٌ له بكتابٍ أو رسول؟!) هل يتكلم بهذا أحدٌ يعرف الله معرفةً صحيحة؟ وهل يتلفَّظ بهذا مؤمنٌ في كتاب الله ورسوله؟ يقول المؤلف: (وهذا عندنا كفرٌ لن يبلغه إبليس فمَن دونه من الكفار قط) يقول هذا كفر الجهمية تجاوَز كفر إبليس وتجاوَز كفر مَن دونه فيكون كفر الجهمية أعظم وأغلط وأشد من كفر إبليس هذا قول المؤلف لكن هذا لا يُسلَّم للمؤلف لأن إبليس رأس الكفر والضلال وكل كفر وضلال فهو من تسويله وتزيينه, كفر الجهمية من تسويل الشيطان وتزيينه, إبليس هو قائد الكفرة إلى النار ورأس الكفر والضلال, فقول المؤلف رحمه الله: (إن كفر الجهمية أشد من كفر إبليس لا يُسلَّم له) لأن كفر الجهمية إنما بسبب تسويل إبليس وتزيينه هو الذي زيَّن لهم هذا الكفر وهو الذي سوَّل لهم الكفر فيكون مقدمًا عليهم فلا يُقال إن كفر الجهمية أعظم من كفر إبليس بل يُقال مثل كفر إبليس ولا يُقال أنه أشد من كفر إبليس, إبليس هو رأس الكفر والضلال وهو القائد للكفرة إلى النار -نعوذ بالله-, فالمقصود أنَّ المؤلف رحمه الله المقصود أنه يُبيِّن فساد مذهب الجهمية وأنه مذهبٌ فاسد وهو أفسد ما قيل في تعريف الإيمان .