شعار الموقع

شرح كتاب التحف في مذاهب السلف_3

00:00
00:00
تحميل
89

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, غفر الله لنا ولشيخنا وللحاضرين.

(المتن)

قال المؤلف رحمنا الله وإياه:

ولكننا نقتصر هَهُنَا على الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي ورد السُّؤَال عَنْهَا وَهِي مَسْأَلَة الصِّفَات وَمَا كَانَ من الْمُتَكَلِّمين فِيهَا بِغَيْر الْحق المتكلفين علم مَا لم يَأْذَن الله بِأَن يعلموه وَبَيَان أَن إمرار أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم وَأَن كل من أَرَادَ من نزاع المتكلفين وشذاذ الْمُحدثين والمتأولين أَن يظْهر مَا يُخَالف الْمُرُور على ذَلِك الظَّاهِر قَامُوا عَلَيْهِ وحذروا النَّاس مِنْهُ وبينوا لَهُم أَنه على خلاف مَا عَلَيْهِ أهل الْإِسْلَام.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

هكذا المؤلف رحمه الله يقتصر على مسألة الصفات, سبق بالأمس أنه ذكر طوائف من الذين خالفوا الطوائف, وذكر أن طائفة هي أخف الطوائف وهم طائفتان, وهم طائفة غلت في التنزيه وهم أهل التعطيل, أهل التعطيل: من الجهمية والمعتزلة وغيرهم, وطائفة غلت في إثبات القدر: وهم الجبرية, وطائفة توسطت: وهم أهل السنة.

 ثم ذكر هنا أنه يريد أن يقتصر على مسألة الصفات فقط, يعني: لا يتكلم على مسألة الجبر وإن كان أشار إليها الآن, مسألة الجبرية والقدرية, والخوارج والمعتزلة والرافضة, أراد أن يقتصر على مسألة الصفات فقط؛ لأنها هي التي ورد السؤال فيها, وقال: إن المتكلمين تكلموا فيها بغير حق, والمتكلمين يشمل المعطلة: من الجهمية, والمعتزلة, والأشاعرة, ويشمل أيضًا: المشبهة الذين غلو في الإثبات, كل هؤلاء تكلموا فيها بغير حق, وتكلفوا علم ما لم يأذن الله بأن يعلموه؛ لأن الله ما أذن لهم أن يحرفوا النصوص, ولا أن يغلو في الإثبات ولا أن يغلو في التنزيه.

ثم قال: (وَبَيَان أَن إمرار أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم) ومعنى إمرار أدلة الصفات يعني: عدم التأويل وعدم التحريف, ومعنى إمرارها: يعني إثباتها على ما ترد عليه من المعاني, وليس المراد إمرار الألفاظ أي اللفظ فقط دون المعنى فإن هذا مذهب المفوضة, والمفوضة أشر من المؤولة, المفوضة يقولون: نفوض المعنى إلى الله, ونصوص الصفات نُمر ألفاظها فقط.

 (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[طه/5], يقولون: نُمرها لفظ فقط ما ندري ما معنى استوى, "رضي الله عنهم" يمروا اللفظ ولا ندري معناه كأنها حروف أعجمية ما كأنها حروف عربية, ما ندري ما هو المعنى, ما ندري معنى: رضي الله عنهم, ولا معنى: سخط الله عليهم, ولا معنى: غضب الله عليهم, ولا معنى: يحبهم ويحبونه, ولا معنى: الرحمن على العرش استوى, كل هذه يقولون: ما ندري إيش المعنى, ما هو المعنى؟ يقول: نفوضه إلى الله, ألفاظ بدون معاني, المعاني نكلها إلى الله، هذا مذهب من؟ المفوضة.

ليس بمقصود المؤلف إمرار الصفات هنا على مذهب المفوضة, بل المراد إمرارها مع إثبات المعنى وعدم التعرض للكيفية, هذا المراد بالإمرار, وهذا هو معنى قول السلف كما جاء عن الإمام أحمد: أمروها كما جاءت بلا كيف, يعني: أمروها مثبتين المعنى بلا كيف, بلا تعرض للكيفية, الكيفية هي التي يوكل علمها إلى الله, ومعنى: إمرار الصفات, يعني: إثباتها, إثبات الألفاظ والمعاني.

مثلًا: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[طه/5], استوى معناه: استقر وعلا وارتفع وصعد, أربع معاني, وهذه كلها معاني لغوية وعلى هذه المعاني الأربع تدور تفاسير السلف في الاستواء, الله مستوٍ على عرشه بهذه المعاني الأربع بما يليق بجلاله وعظمته لا نعلم الكيفية ولكن المعنى معلوم؛ هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة: إمرار الصفات بلا كيف, يعني: إمرارها, إجراءها, إمرارها يدل عل المعنى والإمرار معناه ظاهر وواضح لكل أحد, كل عربي يفهم المعنى.

(ﭹ ﭺ ﭻ ﮉ)[المجادلة/22]؛ إثبات الرضا.

(ﮕ ﮖ ﮗ ﮜ) [المائدة/80]؛ إثبات السخط.

 (ﮨ ﮩﯤ)[المائدة/54]؛  إثبات المحبة.

(ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯨ) [البقرة/185]؛ إثبات الإرادة.

واضحة، فأمروها كما جاءت؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي وهذا المعروف للعرب ولمن تعلم اللغة العربية, تُمر آيات الصفات ونصوص الصفات يعني: إمرارها بإثبات الألفاظ والمعاني, أما الكيفية فهي التي يوكل علمها إلى الله, هذا معنى قوله: (وَبَيَان أَن إمرار أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا) وهذا هو ظاهرها, ظاهر: "ثم استوى على العرش" إثبات الاستواء, ظاهر "رضي الله عنهم" إثبات الرضا.

(على ظَاهرهَا هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم وَأَن كل من أَرَادَ من نزاع المتكلفين) النُزاع يعني: أفراد, أفراد قلائل في كل جماعة أو في كل قبيلة ينزع واحد أو اثنين, يُقال لهم: نُزاع.

(وشذاذ الْمُحدثين) المحدثين: الذين حدَثوا بعد السلف الصالح, بعد القرون المفضلة؛ هذا هم المحدثين, حدَثوا وجاءوا بعد القرون المفضلة وشذوا عن السلف الصالح وعما عليه أهل السنة والجماعة, فأول النصوص حرفوها وتأولوها على غير تأويلها إما غلو في التنزيه فعطلوا الصفات أو غلوا في الإثبات فشبهوا, هؤلاء شذاذ المحدثين, وشذاذ المتأولين.

قال: (وَأَن كل من أَرَادَ من نزاع المتكلفين وشذاذ الْمُحدثين والمتأولين أَن يظْهر مَا يُخَالف الْمُرُور على ذَلِك الظَّاهِر قَامُوا عَلَيْهِ وحذروا النَّاس مِنْهُ) من أراد أن يُظهر ما يخالف إمرار الصفات على ظاهرها,استوى إمرارها: استقر وعلا وصعد وارتفع, فإذا جاء من الشذاذ من يخالف هذا الظاهر وقال: معنى استوى: استولى؟ حذروا الناس منه وقاموا عليه.

(وبينوا لَهُم أَنه على خلاف مَا عَلَيْهِ أهل الْإِسْلَام) أهل الإسلام يثبتون المعاني ويفوضون الكيفية إلى الله ولا يحرفون ولا يتأولون.

(المتن)

وَسَائِر المبتدعين فِي الصِّفَات الْقَائِلُونَ بأقوال تخَالف مَا عَلَيْهِ السوَاد الْأَعْظَم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم فِي خبايا وزوايا لَا يتَّصل بهم إِلَّا مغرور وَلَا ينخدع بزخارف أَقْوَالهم إِلَّا مخدوع, وهم مَعَ ذَلِك على تخوف من أهل الْإِسْلَام وترقب لنزول مَكْرُوه بهم من حماة الدّين من الْعلمَاء الهادين والرؤساء والسلاطين.

(الشرح)

يعني يقول: (وَسَائِر المبتدعين فِي الصِّفَات الْقَائِلُونَ بأقوال تخَالف مَا عَلَيْهِ السوَاد الْأَعْظَم) هؤلاء هم المبتدعة, وهم الذين حذر السلف منهم, سائر المبتدعين في الصفات يشمل كل من يبتدع في الصفات, يشمل الأشاعرة حين أولوا ما عدا السبع صفات, ويشمل المعتزلة الذين أولوا الصفات وأثبتوا الأسماء بدون صفات ودون معاني, ويشمل الجهمية الذين نفوا الأسماء والصفات, ويشمل أيضًا الغلاة, الغلاة: وهم الذين سلبوا النقيضين, الجهمية ينفون الأسماء والصفات, يقول: ليس لله اسم ولا صفة, معناه: أنه موجود في الذهن, معناه: لا وجود له, إذا نفيت الأسماء والصفات بقي في الذهن؛ لأنه لا وجود للشيء إلا بالأسماء والصفات, فإذا سُلبت جميع الأسماء والصفات صار وجوده في الذهن يتخيله الإنسان ولكن لا وجود له.

غلاة الغلاة سلبوا النقيضين, لما قيل لهم: إن نفي الأسماء والصفات فيه تشبيه بالمعدوم, قالوا: نحن ننفي النفي وننفي الإثبات, فنحن ننفي النفي؛ حتى لا يلزمه التشبيه بالموجودات, وننفي النفي؛ حتى لا يلزمه التشبيه بالمعدومات, فيقولون: لا موجود ولا معدوم, لا حي ولا ميت, لا عليم ولا ليس بعليم, لا خبير ولا ليس بخبير, لا سميع ولا ليس بسميع, لماذا؟ قالوا: لا موجود؛ حتى لا يلزمه التشبيه بصفات المخلوقين, ولا معدوم؛ حتى لا يلزمه التشبيه بصفات المعدومين, قيل لهم: وقعتم في أشر مما فررتم منه, وقعتم في التشبيه بالممتنع والمستحيل, هذا هو المستحيل, والتشبيه بالمستحيل والممتنع أعظم من التشبيه بالموجود.

ولا خلاص ولا مناص إلا بأن نثبت الأسماء والصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته من أول الأمر, لذلك انظر كيف وصلت بهم الحال, وصلت بهم الحال إلى أنهم شبهوا معدومهم بالمستحيل والممتنع, ووصل بعضهم إلى القول بوحدة الوجود؛ كله بسبب التحريف, وبسبب أنهم يزعمون أو يدعون: أن إثبات الأسماء والصفات يلزمه التشبيه, من قال يلزمه التشبيه؟! إثبات الأسماء والصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته, فكما أن لله ذات لا تشبه الذوات فله أسماء لا تشبه أسماء المخلوقين, وله صفات لا تشبه صفات المخلوقين, من أول الأمر, التمثيل منفي عن الله, قوله: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ)[الشورى/11].

(ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ)[الإخلاص/4].

(ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭬ)[النحل/74].

(ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ)[مريم/65].

(ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ)[الإخلاص/4].

منفي نفاه الله عن نفسه, التمثيل منفي, فلو أثبتوا الأسماء والصفات من أول الأمر ونفوا المماثلة انتهى, لكن الشيطان استدرجهم وصار يستدرجهم من حالة إلى حالة؛ حتى أوصلهم إلى تشبيه معبودهم بالمعدوم بل بالمستحيل والممتنع؛ حتى أوصلهم إلى القول بوحدة الوجود, نعوذ بالله, الذي هو أعظم الكفر وأبغض الكفر, نسأل الله السلامة والعافية.

(المتن)

حَتَّى نجم ناجم المحنة وبرق بارق الشَّرّ من جِهَة العباسية وَمن لَهُم فِي الْأَمر وَالنَّهْي والإصدار والإيراد أعظم صولة وَذَلِكَ فِي الدولة بِسَبَب قاضيها أَحْمد بن أبي دؤاد فَعِنْدَ ذَلِك أطلع المنكسون فِي تِلْكَ الزوايا رؤوسهم وَانْطَلق مَا كَانَ قد خرس من ألسنتهم.

وأعلنوا بمذاهبهم الزائفة وبدعهم المضلة ودعوا النَّاس إِلَيْهَا وجادلوا عَنْهَا وناضلوا الْمُخَالفين لَهَا حَتَّى اخْتَلَط الْمَعْرُوف بالمنكر واشتبه على الْعَامَّة الْحق بِالْبَاطِلِ وَالسّنة بالبدعة.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: أن السف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزالوا على ما كان عليه الصحابة؛ من إمرار نصوص الصفات كما جاءت, وإثبات الألفاظ والمعاني, ونفي الكيفية, لم يزالوا من عصر الصحابة والتابعين على هذا؛ حتى نجم ناجم المحنة في زمن الخليفة المأمون العباسي.

(وبرق بارق الشَّرّ من جِهَة العباسية) وكان ذلك بعد أن تُرجمت كتب اليونان والرومان, والمعتزلة تمكنوا في زمن المأمون؛ حتى اعتنق المأمون مذهبهم وأقنعوه, وكان القاضي في زمان العباسي الخليفة المأمون هو أحمد بن أبي دؤاد وكان رئيس المعتزلة في ذلك الوقت, فطلب من الخليفة أن يُلزم الناس بمذهبهم, وأن يمتحن الناس, فأمر الخليفة بامتحان الناس, وصار يؤتى بالأئمة والعلماء ويُمتحنون, من قال القرآن مخلوق تركه, ومن قال: كلام الله منزل غير مخلوق إما يُقتل وإما يُسجن, قتل بعض الخلق, قُتل جماعة وأُتي بهم من سائر الدولة الإسلامية أمر بامتحان العلماء ويؤتى بهم إليه, فمن قال: القرآن مخلوق؛ تُرك, ومن تأول, بعضهم تأول وله أن يتأول؛ لأنه مكره, والله تعالى يقول: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮕ)[النحل/106].

  فأُكرهوا على هذا بالسجن والضرب والقتل, فبعض العلماء تأول وقال: التوراة والإنجيل والقرآن والمخلوقات على إصبع ويتأولون المراد أصابعه, يقصد أصابعه ويتأول؛ حتى يسلم من القتل وله عذر هذا, ومنهم من أبى, الإمام أحمد رحمه الله أبى أن يتأول وضُرب وسُجن ويغمى عليه ويُسحب مرات ويُخرج ويُضرب.

فجاءه بعض أصحابه فقال: يا إمام أنت الآن مكره, والله تعالى يقول: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮕ)[النحل/106]؛ تأول, فقد بلغ بك الضرب والسجن والإيذاء حدٍ عظيم فلك أن تتأول, وكان الإمام أحمد إمام أهل السنة فقال لهذا القائل: انظر إلى رحبة دار الخليفة, رحبة دار الخليفة مكان واسع ممتلئ بالكتاب وكل واحد معه ما يكتب به من قلم, كلهم يريدون أن يكتبوا كلام الإمام أحمد ماذا يقول, فقال: هل ترى أن أُضل هؤلاء؟ كلا بل أموت ولا أُضلهم, لا أتأول, وصبر على السجن والضرب؛ حتى فرج الله عنه.

وجاء بعده الواثق أيضًا وامتحن الناس وأوصى بالامتحان, ثم جاء بعده المتوكل فعند ذلك منع الفتنة وانتهت الفتنة, واعتنق مذهب أهل السنة والجماعة, ففُرج عن الإمام أحمد وعاد إلى التدريس وانتهت المحنة في زمن الخليفة المتوكل.

المؤلف يقول: السلف, والأئمة, وأهل السنة لم يزالوا على معتقد أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين؛ حتى جاء الخليفة العباسي الذي اعتنق مذهب المعتزلة, (حَتَّى نجم ناجم المحنة) اُمتحن العلماء فمنهم من تأول ومنهم من قُتل, ومنهم من سُجن وضُرب؛ حتى انتهت المحنة في زمن المتوكل.

قال: (حَتَّى نجم ناجم المحنة وبرق بارق الشَّرّ من جِهَة العباسية) الدولة العباسية, يعني: في زمن المأمون.

(وَمن لَهُم فِي الْأَمر وَالنَّهْي والإصدار والإيراد أعظم صولة وَذَلِكَ فِي الدولة بِسَبَب قاضيها أَحْمد بن أبي دؤاد) هو القاضي للمأمون, وكان هو رئيس المعتزلة في ذلك الوقت, والمأمون قد أثروا عليه حتى اعتنق المذهب, والمعتزلة عندهم أصول خمسة معروفة بدلًا من أصول أهل السنة, بدلوها، أصول الدين عن أهل السنة ستة أو خمسة.

  • ستة كما جاء في حديث جبريل:

أن تؤمن الله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره.

  • ومن العلماء من يُدخل الإيمان بالقدر في الأصل الأول, فتكون:
  1. أن تؤمن بالله وقدره.
  2. الإيمان بالملائكة.
  3. الإيمان بالكتب المنزلة.
  4. الإيمان بالرسل.
  5. الإيمان باليوم الآخر.

هذه الخمسة أصول الدين استبدلها المعتزلة بخمسة أخرى غير هذه وبدلوها, فأصول الدين عند المعتزلة: التوحيد, والعدل, والمنزلة بين المنزلتين, وإنفاذ الوعيد, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ خمسة, وكل أصلٍ من هذه الأصول ستروا تحتها معنًا باطلًا فاسد.

  • كل أصل من هذه الأصول الخمسة للمعتزلة التي بدلوا بها واستبدلوا أصول الدين الخمسة بها:

الأصل الأول: التوحيد؛ ستروا تحته نفي الصفات, والقول بخلق القرآن, وأن الله لا يُرى في الآخرة؛ هذا هو معنى التوحيد عندهم.

الأصل الثاني: العدل؛ ستروا تحته التكذيب بالقدر, والقول بأن الله لا يقدر أن يهدي ضالًا ولا أن يُضل مهتديًا, فسموها العدل, وهذان الأصلان شرعيان عندهم.

الأصل الثالث: والمنزلة بين المنزلتين؛ ستروا تحتها القول: بأن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر, بل يكون في منزلة بين الإيمان والكفر ويسمى فاسق لا مؤمن ولا كافر.

 الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد؛ ستروا تحته القول: بخلود العصاة في النار وأن أهل الكبائر يخلدون في النار.

الأصل الخامس: الأمر بالمعروف؛ ستروا تحته إلزام الناس بآرائهم واجتهادهم, وهنا ألزموا العلماء بآرائهم لما صارت لهم الدولة, وصار أحمد بن دؤاد هو القاضي ألزموا الناس باعتقاداتهم الفاسدة, وسموا هذا الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر؛ ستروا تحته الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي.

هذه أصول المعتزلة الخمسة التي بدلوا بها الدين, وهذا معنى قول المصنف: (حَتَّى نجم ناجم المحنة وبرق بارق الشَّرّ من جِهَة العباسية وَمن لَهُم فِي الْأَمر وَالنَّهْي والإصدار والإيراد أعظم صولة وَذَلِكَ فِي الدولة العباسية بِسَبَب قاضيها أَحْمد بن أبي دؤاد فَعِنْدَ ذَلِك أطلع المنكسون فِي تِلْكَ الزوايا رؤوسهم) يعني: أهل البدع أطلعوا رؤوسهم.

(وَانْطَلق مَا كَانَ قد خرس من ألسنتهم) في زمن التابعين خرست ألسنتهم, من تكلم أدبوه, كالخلفاء والسلاطين على مذهب أهل السنة والجماعة من تكلم سُجن أو ضُرب, خرست ألسنتهم، فلما كان في زمن المأمون تكلموا وزال الخرس اللي في ألسنتهم.

(وأعلنوا بمذاهبهم الزائفة وبدعهم المضلة ودعوا النَّاس إِلَيْهَا وجادلوا عَنْهَا وناضلوا الْمُخَالفين لَهَا حَتَّى اخْتَلَط الْمَعْرُوف بالمنكر واشتبه على الْعَامَّة الْحق بِالْبَاطِلِ وَالسّنة بالبدعة) نعم اشتبه الأمر وصار في اشتباه, وظن بعض الناس أن المعتزلة على الحق, ما دام هو القاضي ورئيس القضاة ويُلزم الناس بهذا، بعض العامة ظن أن هذا هو الحق, اختلط الحابل بالنابل, اختلط المعروف بالمنكر, اشتبه على العامة الحق بالباطل, والسنة بالبدعة.

(المتن)

وَلما كَانَ الله سُبْحَانَهُ قد تكفل بِإِظْهَار دينه على الدّين كُله وبحفظه عَن التحريف والتغيير والتبديل أوجد من عُلَمَاء الْكتاب وَالسّنة فِي كل عصر من العصور من يبين للنَّاس دينهم ويُنكر على أهل الْبدع بدعهم فَكَانَ لَهُم وَللَّه الْحَمد المقامات المحمودة والمواقف المشهودة فِي نصر الدّين وهتك المبتدعين.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: (وَلما كَانَ الله سُبْحَانَهُ قد تكفل بِإِظْهَار دينه على الدّين كُله) لقوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ)[الحجر/9].

فهو تكفل بحفظ القرآن والسنة كذلك؛ لأن السنة وحيٌ ثاني, من حفظ القرآن حفظ الله للسنة, فالسنة محفوظة وقيد الله علماء فطاحل محدثين يبينون وينقضون الأحاديث المكتوبة والموضوعة والزائفة؛ حتى بقيت السنة صافية ودونت الكتب الستة, وهذا من حفظ الله لهذا الدين لقوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ)[الحجر/9].

وقوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ)[الصف/9].

فلما كان الله سبحانه وتعالى قد تكفل بإظهار دينه على الدين كله, وبحفظ كتابه عن التغيير والتبديل والتحريف قيض من علماء الكتاب والسنة في كل عصر من العصور من يبين للناس دينهم, ويُنكر على أهل البدع بدعهم, فكان لهم ولله الحمد المقامات المحمودة والمشهودة في نصر الدين وهتك المبتدعين, ومنهم: الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة ثبت في المحنة؛ حتى قال العلماء: إن الله حفظ هذا الدين برجلين: بأبي بكر الصديق يوم الردة, وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.

الله سبحانه وتعالى حفظ الإسلام بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ثبت ثبات الجبال الراسيات لما ارتد الناس, وكان بعض الصحابة اشتبه عليه الأمر وقال: كيف نقاتل أناس وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ حتى عمر رضي الله عنه قال: كيف تقاتلون هؤلاء الناس وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله».

اشتبه عليهم الأمر؛ لأن بعض الناس منع الزكاة من المرتدين وقال: لا نسلمها إلا للنبي صلى الله عليه وسلم, وبعضهم قال: لو كان نبيًا ما مات, فأبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة» فإن الزكاة أخت الصلاة, «والله لو منعوني عقالًا» وهو الحبل الذي يُربط برجل البعير, وفي لفظ: «عناقًا».

«كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه» حتى شرح الله صدر عمر والصحابة ووافقوا, والصديق رضي الله عنه كأنه ما بلغه الحديث: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله».

وفي الحديث الآخر: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» فهذه اللفظة لو بلغت عمر ما اعترض على أبي بكر, «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» عمر حفظ الحديث: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» قال: كيف تقاتلونهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله؟

وكذلك أبو بكر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إلا بحق الإسلام» وهذا من حق الإسلام وحق التوحيد, لكن الحديث الآخر فيه نص على الصلاة والزكاة: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» انظر الفهم للصديق وعمر, الصديق فهم أن الزكاة من حقوق الإسلام ولم يبلغه لفظة: «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» لو بلغه ما صار مناظرة هناك.

في اللفظ الآخر قال: «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» فالله تعالى تكفل بحفظ الدين ونصر دينه, فنصر الله تعالى الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة, ونصره بالإمام أحمد يوم المحنة, ولهذا قال المؤلف رحمه الله: قيض الله في كل عصرٍ من العصور, في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قيض الله هذا الإمام وأعطاه الله من القوة على الجدال والنقاش, والقوة على الحفظ ما الله به عليم, يعني يحفظ مذاهب أهل البدع كلها وهو أعرف بمذاهبهم ثم يرد عليهم من كتبهم, الرافضة, الصوفية, الاتحادية, الحلولية, الجهمية, المعتزلة, الأشاعرة, القدرية, الجبرية, الخوارج, وغيرهم من الفرق كلهم رد عليهم رحمه الله تعالى.

ويقول رحمه الله: أنا ملتزم؛ لأن كل مبطل يستدل بدليل أقلب دليله حُجة عليه, كل دليل وكل مبطل من هؤلاء الطوائف التي سمعتم, يقول: كل واحد دليله أجعله حجة عليه, نفس الدليل الذي استدل به أجعله حجة عليه, وفعلًا هذا.

وابن القيم رحمه الله أثنى عليه في الكافية الشافية, قال:

ومن العجائب أنه أرداهم
 

 

بسلاحهم تحت الحضيض الداني
 

 

 ومن العجائب أن شيخ الإسلام أرداهم ورد عليهم بسلاحهم, سلاحهم ما هو؟ دليلهم هم, جعل دليلهم سلاحًا عليهم وقاتلهم بسلاحهم, قيض الله هذا الإمام رحمه الله, تتعجب من قراءة الصحيح "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" هذا الكتاب العظيم "منهاج السنة", "مجموع الفتاوى" جُمعت في سبعة وثلاثين مجلد آية من آيات الله, قيضه الله.

من العلماء الذين قيضهم الله لنصر دينه الإمام, ونشر مذهب أهل السنة في وقتٍ خفي ذلك المذهب؛ مذهب أهل السنة والجماعة؛ حتى صار لا يُعرف إلا مذهب الأشاعرة, ويسمون أنفسهم أهل السنة, قيض الله هذا الإمام وأظهر مذهب أهل السنة والجماعة ورد على أهل البدع بجميع أصنافهم.

 ودعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله امتداد لدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم, فهي هي نفس الدعوة, ما دعا إليه شيخ الإسلام ابن تيمية هي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب, وشيخ الإسلام وابن عبد الوهاب ما جاءوا من كيس من عندهم, قال الله وقال رسوله, من الكتاب والسنة, أظهروا الكتاب والسنة وأظهروا معاني النصوص وكأن الناس لا يعلمون معاني النصوص, ونقلوا كلام العلماء والمحدثين في معاني النصوص ما جاءوا بشيء من عندهم, لكن المناوئين الآن والمعادين ناوئوا أهل السنة والجماعة في كل زمان, الله تعالى قال: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ)[الأنعام/112].

إذا كان النبي له عدو من شياطين الإنس والجن, فلا يُستغرب أن يكون لشيخ الإسلام ابن تيمية عدو من شياطين الإنس والجن, وأن يكون للشيخ محمد بن عبد الوهاب عدو, ومنذ ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الآن وكل المبتدعة الآن إذا خالفهم أحد يقول: أنت وهابي, هذا المذهب الخامس, لماذا يقولون هذا؟ لتنفير الناس من الكتاب والسنة, محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما عنده شيء, يقول: أي مسألة أقولها ليس فيها دليل لا من الكتاب ولا من كلام السلف, فأعطوني الآن فأنا أرجع عنها, أي مسألة أتكلم فيها، إذا كان لا يوجد عليها دليل من الكتاب ولا من السنة ولا من أقوال العلماء والسلف أنا راجع عنها, ما استطاعوا أن يأتوا له بها, انظر كتب التوحيد الذي لا نظير له توحيد العبادة والألوهية على طريقة البخاري رحمه الله, اعترف بذلك المخالفون, يأتي بالباب ثم يستدل بالآيات ثم بالأحاديث ثم بأقوال السلف, ما وجدوا شيء عليه رحمه الله.

فالآن في كل مكان الآن حتى في الدول التي فيها أحد يخالف الإسلام, إذا خالفت أحد قال: أنت وهابي, ومن جهل بعض الناس قالوا: إن شيخ الإسلام ابن تيمية وهابي, شيخ الإسلام بينه وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب كم من الزمان, هذا القرن السابع الهجري, والشيخ عبد الوهاب ألف ومائة وخمسة عشر, لكن انظر الجهل العظيم قالوا: شيخ الإسلام وهابي, وشيخ الإسلام سابق للشيخ محمد بن عبد الوهاب بقرون سبعة قرون أو ثمانية قرون, لكن الجهل, هكذا يفعل الجهل بأهله والعناد والتعصب, ومنابذة الحق.

هذا قول المؤلف رحمه الله: (الله تعالى دينه (.....) أوجد من عُلَمَاء الْكتاب وَالسّنة فِي كل عصر من العصور من يبين للنَّاس دينهم ويُنكر على أهل الْبدع بدعهم فَكَانَ لَهُم وَللَّه الْحَمد المقامات المحمودة والمواقف المشهودة فِي نصر الدّين وهتك المبتدعين).

 (المتن)

وَبِهَذَا الْكَلَام الْقَلِيل الَّذِي ذكرنَا تعرف أَن مَذْهَب السّلف من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم هُوَ إِيرَاد أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا من دون تَحْرِيف لَهَا وَلَا تَأْوِيل متعسف لشَيْء مِنْهَا وَلَا جبر وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَعْطِيل يُفْضِي إِلَيْهِ كثير من التَّأْوِيل.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: (وَبِهَذَا الْكَلَام الْقَلِيل الَّذِي ذكرنَا تعرف أَن مَذْهَب السّلف من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم هُوَ إِيرَاد أَدِلَّة الصِّفَات على ظَاهرهَا) إيراد أدلة الصفات مثل: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﮊ)[السجدة/4].

توردها على ظاهرها, ظاهرها إثبات الصفات كما يليق بجلال الله وعظمته.

(ﭹ ﭺ ﭻ ﮉ)[المجادلة/22]؛ ظاهرها إثبات الرضا.

(ﮀ ﮁ ﮂ ﮍ)[الممتحنة/13]؛ ظاهرها إثبات الغضب.

(ﮨ ﮩﯤ)[المائدة/54]؛ ظاهرها إثبات المحبة.

(ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯨ)[البقرة/185]؛ ظاهرها إثبات الإرادة.

(ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﯙ)[المائدة/48]؛ ظاهرها إثبات المشيئة.

وهكذا, هذا مذهب الصحابة والتابعين, إيراد أدلة الصفات على ظاهرها من دون تحريفٍ لها.

  • والتحريف نوعان:
  1. تحريف لفظي.
  2. تحريف معنوي.

التحريف اللفظي: مثل تحريف بعض الجهمية قول الله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ)[النساء/164]؛ حرفوها قالوا: "وكلم اللهَ موسى تكليمًا" لفظ  الجلالة حرفوه وهذا تحريف لفظي, "وكلم اللهَ موسى تكليمًا" لماذا أراد هذا؟ حتى يجعل موسى هو المتكلم والله هو المُكلم؛ حتى ينكر كلام الله, الآية: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [النساء/164]؛ من المكلِم؟ الله, وموسى هو المكلَم، جعل لفظ الجلالة منصوب "وكلم اللهَ موسى تكليمًا" فرارًا من إثبات الكلام لله, هذا تحريف لفظي, وتحريف المعنى مثل قولهم: (ﯔ ﯕ ﯼ)[الأعراف/143]؛ جرحه بأظافر الحكمة, ومثل تحريف الاستواء؛ بالاستيلاء, تأويلهم الرضا بالثواب, والغضب بالعقاب, والرحمة بالإنعام.

(وَلَا تَأْوِيل) تأويلٍ لها, يؤول الآيات بما يخالف ظاهرها مثلما سبق يؤول الاستواء بالاستيلاء, يؤول الرضا بالثواب, والغضب بالعقاب.

(وَلَا جبر) يقول: بأن الإنسان مجبور, هذا في مذهب الجبرية, قولهم: أن العبد مجبور على أفعاله وأنه ليس له قدرة ولا اختيار.

(وَلَا تَشْبِيه) يعني: لا تشبه صفات الخالق بصفات المخلوقين.

(وَلَا تَعْطِيل) التعطيل: نفي الصفات وإنكارها, إنكار الصفة ونفيها.

(وَلَا تَعْطِيل يُفْضِي إِلَيْهِ كثير من التَّأْوِيل) يعني: التأويل الكثير يُفضي إلى التعطيل, إذا أول الصفات, أول الاستواء بالاستيلاء معناه أبطل الصفة, عطل الرب من صفات كماله.

(المتن)

وَكَانُوا إِذا سَأَلَ سَائل عَن شَيْء من الصِّفَات تلوا عَلَيْهِ الدَّلِيل وأمسكوا عَن القال والقيل وَقَالُوا قَالَ الله هَكَذَا وَلَا نَدْرِي بِمَا سوى ذَلِك وَلَا نتكلف وَلَا نتكلم بِمَا لم نعلمهُ وَلَا أذن الله لنا بمجاوزته.

(الشرح)

يعني يقول: (وَكَانُوا إِذا سَأَلَ سَائل عَن شَيْء من الصِّفَات تلوا عَلَيْهِ الدَّلِيل وأمسكوا عَن القال والقيل وَقَالُوا قَالَ الله هَكَذَا) إذا سأل عن الصفات, قال: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[طه/5].

قال الله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﮉ)[المجادلة/22].

قال الله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮍ)[الممتحنة/13].

 قال الله: (ﮨ ﮩﯤ)[المائدة/54].

يتلون عليه الدليل ويُمسكون عن القال والقيل, يعني: الذي فيه تحريف, وقالوا: قال الله هكذا, ظاهرها معروف نمرها على ظاهرها من إثبات الصفات, قال الله: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﮊ)[السجدة/4]؛ إثبات الاستواء.

قال الله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﮉ)[المجادلة/22]؛ ظاهرها إثبات الرضا.

(وَلَا نَدْرِي بِمَا سوى ذَلِك) يعني: ما سوى المعنى وهو الكيفية لا ندري ما معناه.

(وَلَا نتكلف وَلَا نتكلم بِمَا لم نعلمهُ) يعني: من الكيفية, (وَلَا أذن الله لنا بمجاوزته) لأن الله تعالى قال: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110]؛ فلم يحيطوا به علمًا بالصفات.

وقال: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ)[الشورى/11]؛ فنحن لا نتكلف ولا نتكلم بشيء إلا نعلمه, ولا أذن الله لنا بمجاوزته؛ وهو البحث عن الكيفية.

(المتن)

فَإِن أَرَادَ السَّائِل أَن يظفر مِنْهُم بِزِيَادَة على الظَّاهِر زجروه عَن الْخَوْض فِيمَا لَا يعنيه ونهوه عَن طلب مَا لَا يُمكن الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَّا بالوقوع فِي بِدعَة من الْبدع الَّتِي هِيَ غير مَا هم عَلَيْهِ وَمَا حفظوه عَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحفظه التابعون عَن الصَّحَابَة وَحفظه من بعد التَّابِعين عَن التَّابِعين.

(الشرح)

يقول: (فَإِن أَرَادَ السَّائِل أَن يظفر مِنْهُم بِزِيَادَة على الظَّاهِر زجروه عَن الْخَوْض فِيمَا لَا يعنيه ونهوه عَن طلب مَا لَا يُمكن الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَّا بالوقوع فِي بِدعَة من الْبدع الَّتِي هِيَ غير مَا هم عَلَيْهِ) من ذلك أن عمر رضي الله عنه لما بلغ في قصة صبيغ بن عُسل, كان يسعى في المسائل ويورد الشبه, فبلغ عمر ما فعله أنه يورد الشبه فأعد له عراجين وطلبه, فلما جعل يضربه بالعراجين حتى سال الدم من رأسه, فقال: يا أمير المؤمنين والله لقد زال ما في رأسي من البدع, إن كنت تريد قتلي فاقتلني, فأرسله إلى الكوفة وأمر الناس أن يهجروه, فكان يُهجر ولا أحد يكلمه؛ حتى تاب وظهرت توبته.

ومن ذلك الإمام مالك رحمه الله لما جاءه رجل عنده بعض الشبه, وكان الإمام مالك جالس في الحلقة فقال الرجل: يا مالك يقول الله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[طه/5]؛ كيف استوى؟.

سأله عن الكيفية, فأطرق مالك رحمه الله مليًا حتى علته الرحضاء وجعل يتصبب عرقًا من هذا السؤال, سؤال عن الكيفية هذا لا ينبغي ولا يجب, ثم بعد أن أطرق مليًا رفع رأسه وقال: أين السائل؟ فقال: أنا, فقال له مالك: "الاستواء معلوم", يعني معلوم معناه في اللغة العربية: استقر وعلا وصعد وارتفع, "والكيف مجهول" كيفية استواء الرب لا نعلمها ومجهولة, "والإيمان به واجب" لأن الله سبحانه وتعالى أنزله في كتابه, "والسؤال عنه بدعة" السؤال عن الكيفية بدعة, ثم قال: "ولا أراك إلا رجل سوء فأمر به أن يُخرج من مجلسه" وأخرجه تأديبًا له, هكذا كان السلف كما قال المؤلف رحمه الله.

 (فَإِن أَرَادَ السَّائِل أَن يظفر مِنْهُم بِزِيَادَة على الظَّاهِر) ماذا يفعلون؟ (زجروه) كما زجر الإمام مالك, وكما زجر عمر صبيغ بن عِسل.

(زجروه عَن الْخَوْض فِيمَا لَا يعنيه) قال مالك: السؤال عنه بدعة؛ السؤال عن الكيفية.

 (ونهوه عَن طلب مَا لَا يُمكن الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَّا بالوقوع فِي بِدعَة من الْبدع الَّتِي هِيَ غير مَا هم عَلَيْهِ وَمَا حفظوه عَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحفظه التابعون عَن الصَّحَابَة وَحفظه من بعد التَّابِعين عَن التَّابِعين) هذا هو مراد المؤلف يُحمل هذا, وليس المراد من كلام المؤلف أنهم يُمسكون عن قول القائل يعني لا يفسرون المعني؛ لا, فالمعاني معلومة, ليس مقصود المؤلف يعني تقرير مذهب المفوضة وأنه لا يفهم المعاني, المقصود أن المعاني معلومة, فيقرئون عليه الآيات مثبتين لمعانيها ولا يتجاوزون ذلك.

(المتن)

وَكَانَ فِي هَذِه الْقُرُون الفاضلة الْكَلِمَة فِي الصِّفَات متحدة والطريقة لَهُم جَمِيعًا متفقة, وَكَانَ اشتغالهم بِمَا أَمرهم الله بالاشتغال بِهِ وكلفهم الْقيام بِفَرَائِضِهِ من الْإِيمَان بِاللَّه, وإقام الصَّلَاة, وإيتاء الزَّكَاة, وَالصِّيَام, وَالْحج, وَالْجهَاد, وإنفاق الْأَمْوَال فِي أَنْوَاع الْبر وَطلب الْعلم النافع وإرشاد النَّاس إِلَى الْخَيْر على اخْتِلَاف أَنْوَاعه, والمحافظة على مُوجبَات الْفَوْز بِالْجنَّةِ والنجاة من النَّار وَالْقِيَام بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر, وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم بِحَسب الِاسْتِطَاعَة وَبِمَا تبلغ إِلَيْهِ الْقُدْرَة وَلم يشتغلوا بِغَيْر ذَلِك مِمَّا لم يكلفهم الله بِعِلْمِهِ وَلَا تَعَبدهم بِالْوُقُوفِ على حَقِيقَته.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: (وَكَانَ فِي هَذِه الْقُرُون الفاضلة الْكَلِمَة فِي الصِّفَات متحدة) الكلمة اللي هي لأهل السنة والجماعة, القرون المفضلة: قرن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الذي يليه ثم الذي يليه, القرون الثلاثة المفضلة الكلمة لأهل السنة ما عدا ما حصل في فتنة القول بخلق القرآن في زمن المأمون وانتهت بترك المحنة في زمن المتوكل رحمه الله, كانت في هذه القرون المفضلة الكلمة في الصفات متحدة, كلها إثبات الصفات وإمرارها كما جاءت الصفات والمعاني ونفي التحريف والتعطيل.

كلمة العلماء متفقة في هذه القرون الفاضلة, والطريقة لهم جميعًا متفقة, فلم يُشغلوا أنفسهم بالتحريف والتأويل, وإنما اشتغلوا بما كلفهم الله بالاشتغال به, كلفهم الله بالقيام بفرائض الله من الإيمان بالله, وإقام الصلاة باطنًا وظاهرًا, باطنًا: بالإخلاص وحضور القلب, وظاهرًا بأداء الواجبات والأركان, والشروط والمستحبات.

(وكلفهم الْقيام بِفَرَائِضِهِ من الْإِيمَان بِاللَّه, وإقام الصَّلَاة, وإيتاء الزَّكَاة, وَالصِّيَام, وَالْحج, وَالْجهَاد, وإنفاق الْأَمْوَال فِي أَنْوَاع الْبر وَطلب الْعلم النافع وإرشاد النَّاس إِلَى الْخَيْر على اخْتِلَاف أَنْوَاعه) الخير من الصدقة والإحسان, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد في سبيل الله, والإحسان إلى الجيران.

(والمحافظة على مُوجبَات الْفَوْز بِالْجنَّةِ والنجاة من النَّار) وهو التوحيد والإخلاص, (وَالْقِيَام بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر) لأن هذا واجب على الدولة الإسلامية, (وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم بِحَسب الِاسْتِطَاعَة وَبِمَا تبلغ إِلَيْهِ الْقُدْرَة وَلم يشتغلوا بِغَيْر ذَلِك مِمَّا لم يكلفهم الله بِعِلْمِهِ وَلَا تَعَبدهم بِالْوُقُوفِ على حَقِيقَته) يعني: ما شغلوا أنفسهم بشيء ما كلفهم الله به, إنما اشتغلوا بما أوجب الله عليهم, ما الذي أوجبه الله عليهم؟ القيام بفرائض الله: الإيمان بالله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والصيام, والحج, والجهاد, وإنفاق الأموال في أنواع البر, وطلب العلم النافع, وإرشاد الناس إلى الخير, والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة والنجاة من النار, والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة؛ هذا هو الذي كلفهم الله سبحانه وتعالى به.

(المتن)

فَكَانَ الدّين إِذْ ذَاك صافيا عَن كدر الْبدع خَالِصًا عَن شوب قذر التمذهب, فعلى هَذَا النمط كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم والتابعون وتابعوهم, بهدي رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهتدوا, وبأفعاله وأقواله اقتدوا.

(الشرح)

يقول: كان الدين في زمن القرون المفضلة صافيًا عن كدر البدع, ما في بدع ظاهرة, وكلما ظهرت بدعة أطاحوا بها وسقطت, (فَكَانَ الدّين إِذْ ذَاك صافيا عَن كدر الْبدع خَالِصًا عَن شوب قذر التمذهب) يعني: الدين صافي ما تكدره البدع, وخالص عن شوب قدر التمذهب بالمذاهب الباطلة, التمذهب بمذهب الجهمية, التمذهب بمذهب المعتزلة, التمذهب بمذهب الأشاعرة, التمذهب بمذهب القدرية, التمذهب بمذهب الجبرية, التمذهب بمذهب الخوارج, التمذهب بمذهب المعتزلة؛ هذا التمذهب, وليس المراد التمذهب بالمذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي, لا, هذا الخلاف في الفروع.

قال المؤلف: (فعلى هَذَا النمط كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم والتابعون وتابعوهم, وبهدي رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهتدوا, وبأفعاله وأقواله اقتدوا) هكذا يهتدون بهديه, ويقدون بأفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم.

(المتن)

فَمن قَالَ أَنهم تلبسوا بِشَيْء من هَذِه الْمذَاهب الناشئة فِي الصِّفَات أَو فِي غَيرهَا فقد أعظم عَلَيْهِم الْفِرْيَة وَلَيْسَ بمقبول فِي ذَلِك فَإِن أَقْوَال الْأَئِمَّة المطلعين على أَحْوَالهم العارفين بهَا الآخذين لَهَا عَن الثِّقَات الْأَثْبَات يرد عَلَيْهِ وَيدْفَع فِي وَجهه يعلم ذَلِك كل من له علم ويعرفه كل عارف.

(الشرح)

   يقول: (فَمن قَالَ أَنهم تلبسوا بِشَيْء من هَذِه الْمذَاهب الناشئة) من قال إن السلف الصالح والتابعين وتابعيهم والأئمة أنهم تلبسوا بشيء من المذاهب الناشئة في الصفات وغيرها, من قال: إن السلف أو الصحابة أو القرون المفضلة إنهم اعتنقوا مذهب المعتزلة, أو مذهب الأشاعرة, أو مذهب الجهمية, أو مذهب الرافضة, أو الخوارج, من قال ذلك: (فقد أعظم عَلَيْهِم الْفِرْيَة) الفرية: الكذب, يعني: فقد افترى عليهم افتراءًا عظيمًا.

(وَلَيْسَ بمقبول فِي ذَلِك) لا يُقبل قوله وباطل قوله, من يقول: إن السلف الصالح من الأئمة والقرون المفضلة اعتنقوا مذهب الأشاعرة أو المعتزلة باطل هذا ولا يُقبل, لماذا وما الدليل؟ قال الدليل: (إِن أَقْوَال الْأَئِمَّة المطلعين على أَحْوَالهم العارفين بهَا الآخذين لَهَا عَن الثِّقَات الْأَثْبَات يرد عَلَيْهِ) يرد عليه بأي شيء؟ بأقوال الأئمة المطلعين على أحوالهم العارفين فيها.

  (وَيدْفَع فِي وَجهه) الذي يُدفع في وجه هذا القائل ما هو؟ أقوالهم, أقوال الأئمة ليردوا عليه.

(يعلم ذَلِك كل من له علم ويعرفه كل عارف) يعني يقول: أقوال الأئمة يردوا على هذا القائل أنهم تلبسوا بأقوال الأئمة المطلعين على أحوالهم, (فَإِن أَقْوَال الْأَئِمَّة المطلعين على أَحْوَالهم العارفين بهَا الآخذين لَهَا عَن الثِّقَات الْأَثْبَات يرد عَلَيْهِ وَيدْفَع فِي وَجهه يعلم ذَلِك كل من له علم ويعرفه كل عارف).

(المتن)

فاشدد بذلك على هذا, واعلم أَنه مَذْهَب خير الْقُرُون ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ, ودع عَنْك مَا حدث من تِلْكَ التمذهبات فِي الصِّفَات وأرح نَفسك من تِلْكَ الْعبارَات الَّتِي جَاءَ بهَا المتكلمون واصطلحوا عَلَيْهَا وجعلوها أصلا يرد كتاب الله وَسنة رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِن وافقاها فقد وافقا الْأُصُول المتقررة فِي زعمهم, وَإِن خالفاها فقد خالفا الْأُصُول المتقررة فِي زعمهم ويجعلون الْمُوَافق لَهَا من قسم المقبول والمحكم والمخالف لَهَا من قسم الْمَرْدُود والمتشابه, وَلَو جِئْت بِأَلف آيَة وَاضِحَة الدّلَالَة ظَاهِرَة الْمَعْنى أَو ألف حَدِيث مِمَّا ثبت فِي الصَّحِيح لم يبالوا بِهِ وَلَا رفعوا إِلَيْهِ رؤوسهم وَلَا عدوه شَيْئا.

(الشرح)

المؤلف يوصي بالثبات على مذهب أهل السنة والجماعة قال: (فاشدد بذلك على هذا) مذهب أهل السنة والجماعة وهو: إثبات نصوص الصفات من الكتاب والسنة وإمرارها كما جاءت من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تمثيل ولا تأويل, اشدد بذلك وشد على هذا المذهب, وصية من المؤلف بلزوم مذهب أهل السنة, (فاشدد بذلك على هذا) اللي هو مذهب أهل السنة والجماعة.

(واعلم أَنه مَذْهَب خير الْقُرُون) مذهب خير القرون هو مذهب أهل السنة والجماعة, فاشدد عليه ولا تفرط فيه, خير القرون القرن الذي بُعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ) كم صارت القرون؟ أربعة على هذا, قرن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كم قرن؟ ثلاثة.

والمعروف من الأحاديث الصحيحة أن القرون المفضلة ثلاثة: القرن الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم, وقرن الصحابة, وقرن التابعين, في الأحاديث الصحيحة من ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم, ثم يجيء قومٌ يشهدون ولا يُستشهدون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمان».

لكن جاء في حديث أنهم أربعة, مثلما ذكر المؤلف قال: (ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ) قال محقق الحاشية: هذه رواية عند الإمام أحمد في مسنده من طريق شيبان عن عاصم عن خيثمة عن النعمان.

وعنده أيضًا من طريق أبي بكر عن عاصم, أولًا للحديث طرق أخرى بزيادة نفسها, الحديث له طرق بزيادة القرن الرابع, قال: فقد رواه ابن حبان في الثقات من طريق حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن عبد الله بن مولى عن بريدة, وذكر أنهم أربعة قرون, قال: وهذا إسناده صحيح رواه حماد عن الجريري قبل الاختلاط, وقال ابن حبان: هذه اللفظة: «ثم الذين يلونهم» في الرابعة تفرد بها حماد بن سلمة وهو ثقة مأمون, وزيادة الألفاظ عندنا مقبولة عن الثقات.

هذه مسألة زيادة ثقة مقبولة وهذه عند المتأخرين: الفقهاء والأصوليين يقولون: الزيادة من الثقة مقبولة, ولذلك قبلوا الزيادة في الآذان, فهو في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع المؤذن وأجاب المؤذن ثم قال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته» هذا في الصحيحين, «إلا حلت له شفاعتي».

زاد البيهقي بسند صحيح: «إنك لا تخلف الميعاد» فهذه الزيادة يقبلها مَنّ؟ الفقهاء والأصوليين, وكذلك الزيادة الأخرى يقبلونها إذا كانت من الثقة ولم تكن مخالفة.

أما المتقدمون فهم ينظرون في هذه الزيادة, إن كان هذه الزيادة رواها عدد أو رواها الحفاظ أو أكثر قبلوها, وإلا فإنهم يردونها وقالوا: شاذة, أي مخالفة للحديث الصحيح ولو كانت غير منافية, مذهب المتأخرين أرجح, وهنا ذكر أن هذه الزيادة جاءت في أحاديث عدة.

قال: وقال ابن حبان: هذه لفظة: «ثم الذين يلونهم» في الرابعة تفرد بها حماد بن سلمة وهم ثقة مأمون, وزيادة الألفاظ عندنا مقبولة من الثقات.

يقول المؤلف رحمه الله: (فاشدد بذلك على هذا) الزمه واشدد عليه, (ودع عَنْك مَا حدث من تِلْكَ التمذهبات فِي الصِّفَات) دع اترك المذاهب التي حدثت في الصفات, مذهب المعطلة, مذهب السالمية والقول بأن إثبات الصفات على ما يشبه صفات المخلوقين, يقول: اترك ما حدث من تلك التمذهبات, يعني: المذاهب في الصفات, المذاهب في الصفات عدة: مذهب الجبرية, مذهب المعتزلة, مذهب الأشاعرة, هذه المذاهب اتركها.

(وأرح نَفسك من تِلْكَ الْعبارَات الَّتِي جَاءَ بهَا المتكلمون واصطلحوا عَلَيْهَا وجعلوها أصلا يرد إِلَيْهِ كتاب الله وَسنة رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يعني: اترك طريقة المتكلمين.

(فَإِن وافقاها) يعني الكتاب والسنة، (فقد وافقا الْأُصُول المتقررة فِي زعمهم, وَإِن خالفاها فقد خالفا الْأُصُول المتقررة فِي زعمهم) هكذا المتكلمون جعلوا ما عندهم هو الأصل.

 (ويجعلون الْمُوَافق لَهَا من قسم المقبول والمحكم والمخالف لَهَا من قسم الْمَرْدُود والمتشابه) هكذا, يعني: المؤلف يحذر من التمذهب بمذاهب أهل البدع, وعلى الإنسان أن يريح نفسه, قال: (وأرح نَفسك من تِلْكَ الْعبارَات) يكفي الكتاب والسنة, لكن بعض المتكلمين اصطلحوا على نفي الصفات وعلى عدم إمرارها كما جاءت, وجعلوه أصلًا, إذا كان عندهم الأصل التشبيه, لإثبات الصفات هذا يلزمهم التشبيه, جعلوا هذا أصل عندهم يردون به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

  قال: (ويجعلون الْمُوَافق لَهَا من قسم المقبول والمحكم) يجعلون هذه المصطلحات هي الأصل عندهم, فإن وافقا الكتاب والسنة فقد وافقا الأصول وإن خالفها فقد خالفها الأصول, ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم, والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه.

(وَلَو جِئْت بِأَلف آيَة وَاضِحَة الدّلَالَة ظَاهِرَة الْمَعْنى أَو ألف حَدِيث مِمَّا ثبت فِي الصَّحِيح لم يبالوا بِهِ وَلَا رفعوا إِلَيْهِ رؤوسهم وَلَا عدوه شَيْئا) يعني يقول: إنهم ما يقبلون إلا أقوال شيوخهم ومذاهبهم, لو جئت بالمبتدع بألف آية واضحة الدلالة ظاهرة المعنى وألف حديث مما ثبت في الصحيح ما قبله حتى ينظر كلام شيخه, يُعرض الكتاب والسنة على كلام شيخه.

(لم يبالوا بِهِ وَلَا رفعوا إِلَيْهِ رؤوسهم وَلَا عدوه شَيْئا) بسبب تعصبهم لأشياخهم ومذاهبهم.

(المتن)

وَمن كَانَ مُنْكرا لهَذَا فَعَلَيهِ بكتب هَذِه الطوائف المصنفة فِي علم الْكَلَام فَإِنَّهُ سيقف على الْحَقِيقَة وَيسلم هَذِه الْجُمْلَة وَلَا يتَرَدَّد فِيهَا, وَمن الْعجب العجيب والنبأ الْغَرِيب أَن تِلْكَ الْعبارَات الصادرة عَن جمَاعَة من أهل الْكَلَام الَّتِي جعلهَا من بعدهمْ أصولًا لَا مُسْتَند لَهَا إِلَّا مُجَرّد الدَّعْوَى على الْعقل والفرية على الْفطْرَة, وكل فَرد من أفرادها قد تنازعت فِيهِ عُقُولهمْ وتخالفت عِنْده إدراكاتهم فَهَذَا يَقُول حكم الْعقل فِي هَذَا الْكَلَام كَذَا وَهَذَا يَقُول حكم الْعقل فِي هَذَا كَذَا, ثمَّ يَأْتِي بعدهمْ من يَجْعَل ذَلِك الَّذِي يعقله من تقلده ويقتدي بِهِ أصلًا يرجع إِلَيْهِ ومعيارًا لكَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يقبل مِنْهُمَا مَا وَافقه وَيرد مَا خَالفه فيا لله ويا للْمُسلمين وَيَا لعلماء الدّين من هَذِه الفواقر الموحشة الَّتِي لم يُصَب الْإِسْلَام وَأَهله بِمِثْلِهَا.

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: الذي يُنكر كلامي, وأقول له: إن أهل البدع متعصبون لبدعهم, ولا أقول الكتاب والسنة, ولو جئت بألف آية ما قبلوها ولو جئت بألف حديث ما قبلوه, إنما يقولون أقوال شيوخهم, يقول: إذا كنت لست مصدق وتُنكر لهذا الكلام أرجع إلى كتبهم تجد كلامي صحيح.

يعني يقول المؤلف: كأنك إذا ما كنت تصدقني في هذا الكلام, وتُنكر عليَ هذا الكلام تقول: ما هو بصحيح وأنت متجني عليهم وأنهم ما يقولون هذا؛ عليك بكتبهم ارجع إلى كتبهم, عليك بكتب أهل الطائفة المصنفة في علم الكلام؛ فإنك ستقف على الحقيقة وتسلم هذه الجمل, سلم لي هذا الكلام أنهم ما يقبلون الكتاب والسنة وإنما يقبلون أقوال شيوخهم.

 (فَإِنَّهُ سيقف على الْحَقِيقَة وَيسلم هَذِه الْجُمْلَة وَلَا يتَرَدَّد فِيهَا) ما هي هذه الجملة؟ قوله: لو جئتهم بألف آية وألف حديث ما يبالوا به ولا رفعوا رؤوسهم ولا أعدوه شيئًا, تصدق لو وقفت على حقيقة كلامهم لصدقت كلامي.

قال المؤلف: (وَمن الْعجب العجيب والنبأ الْغَرِيب أَن تِلْكَ الْعبارَات الصادرة عَن جمَاعَة من أهل الْكَلَام الَّتِي جعلهَا من بعدهمْ أصلًا لَا مُسْتَند لَهَا إِلَّا مُجَرّد الدَّعْوَى على الْعقل والفرية على الْفطْرَة, وكل فَرد من أفرادها قد تنازعت فِيهِ عُقُولهمْ) دليلهم العقل, والفرية على الفطرة, إذا قلت له, قال: العقل دل على هذا, ويفترون على الفطرة ويقولون: الفطرة دلت على هذا, فرية: يعني الافتراء والكذب, افتروا على الفطرة وادعوا أن العقل يوافق ما قرروه, قالوا: العقل يوافق كلامنا, والفطرة توافق, وهذه فرية, افتراء، فالفطرة ما توافق أقوالهم.

(وكل فَرد من أفرادها قد تنازعت فِيهِ عُقُولهمْ وتخالفت عِنْده إدراكاتهم فَهَذَا يَقُول حكم الْعقل فِي هَذَا الْكَلَام كَذَا وَهَذَا يَقُول حكم الْعقل فِي هَذَا كَذَا) أي عقل نأخذ به؟ عقول مختلفة متواربه, هذا عقله يقول: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮇ)[الفرقان/59] الاستواء: الاستيلاء, وينفي الاستواء.

وهذا عقله يقول: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮇاستواءً مثل استواء المخلوقين, من نأخذ منه؟ هذا يقول: دل عليه العقل, وهذا يقول: دل عليه العقل, أي عقل نأخذ به والعقول متواربة والأفهام مختلفة.

تنازعت عقولهم وتخالفت إدراكاتهم, فهذا يقول: حكم العقل إثبات استواءً كاستواء المخلوقين, وهذا يقول: حكم العقل استواء بمعنى استيلاء, وهذا يقول: كلام يدل عليه العقل ولو لم نقل كلامًا عن العقل, وهما متناقضان, أي عقل نأخذ به؟! وهذا يدل على أننا لا نرجع إلى العقول وإنما المرجع للكتاب والسنة.

قال: (ثمَّ يَأْتِي بعدهمْ من يَجْعَل ذَلِك الَّذِي يعقله من تقلده ويقتدي بِهِ أصلًا يرجع إِلَيْهِ ومعيارًا لكَلَام الله تَعَالَى) كل واحد يأخذ قول شيخه ويجعله معيار, معيارًا لكلام الله, ويجعل ذلك الشبهة الذي يعقله من تقلده ويقتدي بِهِ أصلًا يرجع إِلَيْهِ ومعيارًا لكَلَام الله تَعَالَى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم (يقبل مِنْهُمَا مَا وَافقه وَيرد مَا خَالفه) يعني: جعل الذي يعقله من تقلده ويقتدي به هو الأصل, كل واحد جعل شيخه هو الأصل وهو المعيار, المعتزلة لهم شيخ فيجعلون قول شيخهم هو المعيار, والجهمية لهم شيخ فيكون كلامهم كلام شيخهم, والأشاعرة لهم شيخ يأخذون كلامه, والمشبهة لهم شيخ, كل واحد له شيخ يقبلوا كلامه, فنحن الآن ماذا نعمل الآن؟ أي عقل نأخذ؟ العقول متواربة الآن.

ولهذا يقول: (ثمَّ يَأْتِي بعدهمْ من يَجْعَل ذَلِك الَّذِي يعقله من تقلده ويقتدي بِهِ أصلًا يرجع إِلَيْهِ ومعيارًا لكَلَام الله تَعَالَى وكلام رسوله يقبل مِنْهُمَا مَا وَافقه وَيرد مَا خَالفه) يقبل ما وافق المعيار هذا, ما هو المعيار؟ المعيار عند المعتزلة في الصفات, والمعيار عند المشبهة هو القول بأن الصفات تشبه كلام الله ومماثلة لكلام الله, كل واحد يجعل قول الطائفة التي ينتمي إليها هو المعيار.

ثم استغاث المؤلف قال: (فيا لله ويا للْمُسلمين وَيَا لعلماء الدّين من هَذِه الفواقر الموحشة الَّتِي لم يُصَب الْإِسْلَام وَأَهله بِمِثْلِهَا) الفواقر جمع فاقرة, وهي الداهية الشديدة.

يقول المؤلف رحمه الله: أي عقلٍ يُرجع إليه إذا كان كل واحد يتعصب لقول شيخه؟ ويقول: هذا هو المعيار, ويجعل قول مقلده هو المعيار, ويعرض كلام الله وكلام الرسول على هذا المعيار, يقبل منها ما وافقه ويرد ما خالفه.

(المتن)

وَأغْرب من هَذَا وأعجب وأشنع وأفظع أَنهم بعد أَن جعلُوا هَذِه التعقلات الَّتِي تعقلوها على اخْتلَافهمْ فِيهَا وتناقضهم فِي معقولاتها أصولًا تُرد إِلَيْهَا أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة جعلوها معيارًا لصفات الرب تَعَالَى فَمَا تعقله هَذَا من صِفَات الله قَالَ بِهِ جزمًا وَمَا تعقله خَصمه مِنْهَا قطع بِهِ فأثبتوا لله تَعَالَى الشَّيْء ونقيضه اسْتِدْلَالا بِمَا حكمت بِهِ عُقُولهمْ الْفَاسِدَة وتناقضت فِي شَأْنه, وَلم يلتفتوا إِلَى مَا وصف الله بِهِ نَفسه أَو وَصفه بِهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.

بل إِن وجدوا ذَلِك مُوَافقًا لما تعقلوه جَعَلُوهُ مؤيدا لَهُ ومقويًا وَقَالُوا: قد ورد دَلِيل السّمع مطابقا لدَلِيل الْعقل وَإِن وجدوه مُخَالفا لما تعقلوه جَعَلُوهُ واردًا على خلاف الأَصْل ومتشابهًا وَغير مَعْقُول الْمَعْنى وَلَا ظَاهر الدّلَالَة, ثمَّ قابلهم الْمُخَالف لَهُم بنقيض قَوْلهم فافترى على عقله بِأَنَّهُ قد تعقل خلاف مَا تعقله خَصمه وَجعل ذَلِك أصلا يرد إِلَيْهِ أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وَجعل الْمُتَشَابه عِنْد أُولَئِكَ محكمًا عِنْده والمخالف لدَلِيل الْعقل عِنْدهم مُوَافقًا لَهُ عِنْده فَكَانَ حَاصِل كَلَام هَؤُلَاءِ أَنهم يعلمُونَ من صِفَات الله مَا لَا يُعلمهُ وَكَفاك هَذَا وَلَيْسَ بعده شَيْء وعنده يتغير الْقَلَم حَيَاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

(الشرح)

يقول المؤلف: (وَأغْرب من هَذَا وأعجب وأشنع وأفظع أَنهم بعد أَن جعلُوا هَذِه التعقلات الَّتِي تعقلوها على اخْتلَافهمْ فِيهَا وتناقضهم فِي معقولاتها أصولًا تُرد إِلَيْهَا أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة جعلوها معيارًا لصفات الرب تَعَالَى) يعني يقول: من الغريب ومن العجيب ومن الشنيع والفظيع أنهم جعلوا هذه التعقلات التي تعقلوها على اختلافهم وتناقصهم في معقولاتها أصول تُرد إليها أدلة الكتاب والسنة, فمثلًا: المعتزلة ما هو الأصل عندهم؟ كلهم يعتمدون على العقل, الأصل العقل يقولون: نرجع إلى العقل, العقل يقول دليل قطعي, وأدلة الكتاب والسنة دليل ظني, ويقولون: ما عرفنا صحة دليل الشرائع إلا بالعقل وهو الأصل, فإذا خالف الكتاب والسنة العقل نأخذ بالعقل؛ لأن هو الأصل الذي عرفنا به صحة النقل؛ هكذا يقولون.

فجعلوه هو الأصل, فيقولون مثلًا: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮧ) [الأعراف/54]؛ قالوا: العقل يدل على أن الرب ما يستوي استواءً حقيقيًا؛ لأن لو استوى استواءً حقيقيًا لصار مشابهًا للمخلوق, مستوي على الدابة, فإذًا نفى الاستواء والدليل العقل, العقل دلنا على هذا.

جاء المشبهة وقالوا: العقل دل على أن استواء الرب مثل استواء المخلوق؛ لأن لا يعقل استواء إلا هذا, فاستواء الله مثل استواء المخلوق, فجعلوا هذا المعيار هو التشبيه وأن كل صفة وردت فهي مثل صفات المخلوقين, المؤلف يقول: هم متناقضان, هذا يقول العقل دل على هذا, وهذا يقول العقل دل على هذا, وهم متناقضون فأي عقل نأخذ منه؟!

قال المؤلف: (وَأغْرب من هَذَا وأعجب وأشنع وأفظع أَنهم بعد أَن جعلُوا هَذِه التعقلات الَّتِي تعقلوها على اخْتلَافهمْ فِيهَا وتناقضهم فِي معقولاتها أصولًا تُرد إِلَيْهَا أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة) هذا الأصل عندهم التنزيه, العقل دل على أن التنزيه نفي الاستواء, وهذا يقول: العقل دل على أن الاستواء مثل استواء المخلوق.

(جعلوها معيارًا لصفات الرب تَعَالَى) فالمشبه جعل المعيار لصفات الرب أن صفاته مثل صفات المخلوقين, يقول: لا نعقل إلا هذا, والمعطل جعل المعيار لصفات الرب نفيها؛ لأن العقل دل على التنزيه.

قال: (فَمَا تعقله هَذَا من صِفَات الله قَالَ بِهِ جزمًا) أنا أجزم بأن هذا هو المعقول من صفات الله, نفي الاستواء, قال المشبه: (وَمَا تعقله خَصمه مِنْهَا قطع بِهِ) فالمشبه قال: أنا أجزم أن استواء الله مثل استواء المخلوق.

قال: (فأثبتوا لله تَعَالَى الشَّيْء ونقيضه) فالمعتزلي نفى الاستواء, والمشبه أثبت نقيضه وهو استواءه كاستواء المخلوق, بأي شيء استدلوا؟ قال: (اسْتِدْلَالا بِمَا حكمت بِهِ عُقُولهمْ الْفَاسِدَة) هذا عقله أوصله إلى نفي الاستواء وهذا عقله أوصله إلى إثبات التشبيه.

(وَلم يلتفتوا إِلَى مَا وصف الله بِهِ نَفسه أَو وَصفه بِهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل إِن وجدوا ذَلِك مُوَافقًا لما تعقلوه جَعَلُوهُ مؤيدا لَهُ ومقويًا وَقَالُوا: قد ورد دَلِيل السّمع مطابقًا لدَلِيل الْعقل وَإِن وجدوه مُخَالفا لما تعقلوه جَعَلُوهُ واردًا على خلاف الأَصْل ومتشابهًا وَغير مَعْقُول الْمَعْنى وَلَا ظَاهر الدّلَالَة) شوف كيف الهوى!

يعني: إذا جاء الكتاب والسنة موافق لعقولهم ماذا يقولون؟ قالوا: الحمد لله العقل الآن الكتاب والسنة وافق العقل, فقالوا: إن الكتاب والسنة أيد العقل وأخذوا به.

قال: (إِن وجدوا ذَلِك مُوَافقًا لما تعقلوه جَعَلُوهُ مؤيدا لَهُ ومقويًا وَقَالُوا: قد ورد دَلِيل السّمع مطابقًا لدَلِيل الْعقل) هو الكتاب والسنة, سمي دليل السمع؛ لأنه يُسمع بالأذن, ودليل العقل ما يعقله الإنسان, فإذا جاء دليل الكتاب والسنة موافق لعقولهم فرحوا وقالوا: هذا الكتاب والسنة قد ورد مطابقًا لدليل العقل.

وإذا كان مخالفًا له, جاء الكتاب والسنة مخالفًا لما أرسلوه من عقولهم, (وَإِن وجدوه مُخَالفًا لما تعقلوه جَعَلُوهُ واردًا على خلاف الأَصْل) قالوا: هذا ورد على خلاف الأصل, وهذا متشابه, وهذا غير معقول المعنى, وهذا غير ظاهر الدلالة, ثم ينفونه.

  • كم الآن من شبهة يردون بها؟.

قالوا: هذا ورد على خلاف الأصل؛ الدليل الشرعي.

وقالوا: إنه متشابه.

وقالوا: أنه غير معقول المعنى.

وقالوا: أنه غير ظاهر الدلالة, ثم يردونه.

 (ثمَّ يقابلهم الْمُخَالف لَهُم بنقيض قَوْلهم) مثلًا: المخالف للمعتزلي, المخالف للمعطلة, المعطلة يقولون: عقولهم أرشدتهم إلى نفي الصفات, (ثمَّ قابلهم الْمُخَالف لَهُم بنقيض قَوْلهم) وهو المشبه, المشبهة والمجسمة مثل: السالمية, يقولون: له جسم مثل الأجسام, وصفات مثل صفات المخلوقين.

(قابلهم الْمُخَالف لَهُم بنقيض قَوْلهم فافترى على عقله بِأَنَّهُ قد تعقل خلاف مَا تعقله خَصمه) جاء المشبه وقال: عقلي يدل على خلاف ما دل عليه عقلك أيها المعتزلي, أنت عقلك دل على أي شيء؟ دلك على نفي الصفات, أنا عقلي دل على إثبات الصفات مثل صفات المخلوقين, مخالف, هذا في طرف وهذا في طرف.

  (وَجعل ذَلِك أصلا يرد إِلَيْهِ أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وَجعل الْمُتَشَابه عِنْد أُولَئِكَ محكمًا عِنْده) قال: أنتم عندكم هذا متشابه: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[طه/5]؛ أما أنا فعندي محكم, إثبات استواء مثل استواء المخلوق.

  (والمخالف لدَلِيل الْعقل عِنْدهم) يقول: أنتم خالفتم دليل العقل, أنا عندي موافق لدليل العقل.

قال المؤلف: (فَكَانَ حَاصِل كَلَام هَؤُلَاءِ أَنهم يعلمُونَ من صِفَات الله مَا لَا يُعلمهُ) كأنهم يقولون: نعلم من صفات الله ما لا يعلمه الله, على أهوائهم وشهواتهم, هذا ينفي الاستواء وهذا يُثبت الاستواء كاستواء المخلوق, وكأنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه الله.

(وَكَفاك هَذَا وَلَيْسَ بعده شَيْء) يكفي هذا دلالة على فساد عقولهم, (وعنده يتعثر الْقَلَم حَيَاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) ما أستطيع أقول أكثر من هذا, هكذا تناقضوا, وهكذا تجرئوا على الله, هذا أنكر الصفات وهذا أثبتها مماثلة لصفات المخلوقين, وكلٌ يقول: عقلي يدل على هذا, وكأنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعمله الله, فيقول: يكفينا هذا, خلاص أتوقف عند هذا الحد ولا أستطيع أكتب؛ لأن القلم يتعثر حياءً من الله تعالى.

(المتن)

وَرُبمَا استبعد هَذَا مستبعد واستنكره مستنكر وَقَالَ إِن فِي كَلَامي هَذَا مُبَالغَة وتهويلًا وتشنيعًا وتطويلًا وَأَن الْأَمر أيسر من أَن يكون حَاصله هَذَا الْحَاصِل وثمرته مثل هَذِه الثَّمَرَة الَّتِي أَشرت إِلَيْهَا, فَأَقُول خُذ جملَة الْبلوى ودع تفصيلها واسمع مَا يصك سَمعك, وَلَوْلَا هَذَا الإلحاح مِنْك مَا سمعته وَلَا جرى الْقَلَم بِمثلِهِ هَذَا أَبُو عَليّ وَهُوَ رَأس من رؤوسهم وركن من أركانهم واسطوانة من اسطواناتهم قد حكى عَنهُ الْكِبَار وَآخر من حكى عَنهُ ذَلِك صَاحب شرح القلائد "وَالله لَا يعلم الله من نَفسه إِلَّا مَا يعلم هُوَ".

فَخذ هَذَا التَّصْرِيح حَيْثُ لم تكتف بذلك التَّلْوِيح وَانْظُر هَذِه الجرأة على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّتِي لَيْسَ بعْدهَا جرْأَة فيا لأم أبي عَليّ الويل أنهيق مثل هَذَا النهيق وَيُدخل نَفسه فِي هَذَا الْمضيق وَهل سمع السامعون بِيَمِين أفجر من هَذِه الْيَمين الملعونة أَو نقل الناقلون كلمة تقَارب معنى هَذِه الْكَلِمَة المفتونة أَو بلغ مفتخر إِلَى مَا بلغ هَذَا المختال الفخور أَو وصل من يفجر فِي أيمَانه إِلَى مَا يُقَارب هَذَا الْفُجُور وكل عَاقل يعلم أَن أَحَدنَا لَو حلف أَن ابْنه أَو أَبَاهُ لَا يعلم من نَفسه إِلَّا مَا يُعلمهُ هُوَ لَكَانَ كَاذِبًا فِي يَمِينه فَاجِرًا فِيهَا؛ لِأَن كل فَرد من النَّاس ينطوي على صِفَات وغرائز لَا يحب أَن يطلع عَلَيْهَا غَيره وَيكرهُ أَن يقف على شَيْء مِنْهَا سواهُ وَمن ذَا الَّذِي يدْرِي بمَا يجول فِي خاطر غَيره ويستكن فِي ضَمِيره.

وَمن ادّعى علم ذَلِك وَأَنه يعلم من غَيره من بني آدم مَا يُعلمهُ ذَلِك الْغَيْر من نَفسه وَلَا يعلم ذَلِك الْغَيْر من نَفسه إِلَّا مَا يُعلمهُ هَذَا الْمُدَّعِي, فَهُوَ إِمَّا مصاب الْعقل يهذي بِمَا لَا يدْرِي وَيتَكَلَّم بِمَا لَا يفهم, أَو كَاذِب شَدِيد الْكَذِب عَظِيم الافتراء فَإِن هَذَا أَمر لَا يُعلمهُ غير الله سُبْحَانَهُ وتعالى، فَهُوَ الَّذِي يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه ومَا توسوس بِهِ نَفسه وَمَا يُسر عباده وَمَا يعلنون وَمَا يظهرون وَمَا يكتمون كَمَا أخبرنَا بذلك فِي كِتَابه الْعَزِيز فِي غير مَوضِع فقد خَابَ وخسر من أثبت لنَفسِهِ من الْعلم مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله من عباده, فَمَا ظَنك بِمن تجَاوز هَذَا وتعداه وَأقسم بِاللَّه سُبْحَانَهُ أَن الله لَا يعلم من نَفسه هو إِلَّا مَا يُعلمهُ هُوَ.

وَلَا يَصح لنا أَن نحمله على اختلال الْعقل فَلَو كَانَ مَجْنُونا لم يكن رَأْسا يَقْتَدِي بقوله جماعات من أهل عصره وَمن جَاءَ بعده وينقلون كَلَامه فِي الدفاتر ويحكون عَنهُ فِي مقامات الِاخْتِلَاف وَلَعَلَّ أَتبَاع هَذَا وَمن يَقْتَدِي بمذهبه لَو قَالَ لَهُم قَائِل وَأورد عَلَيْهِم مورد قَول الله عز وَجل: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه/110].

وَقَوله: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء)[البقرة/255].

وَقَالَ لَهُم هَذَا يرد مَا قَالَ صَاحبكُم وَيدل على أَن يَمِينه هَذِه فاجرة مفتراة لقالوا هَذَا وَنَحْوه مِمَّا يدل دلَالَته ويفيد مفاده من الْمُتَشَابه الْوَارِد على خلاف دَلِيل الْعقل الْمَدْفُوع بالأصول المقررة.

(الشرح)

هذا المؤلف رحمه الله يقول لك: قد يستبعد الإنسان كلامي هذا, وهو قول: أن هؤلاء جعلوا عقولهم أصولًا يردون بها الكتاب والسنة ويرجعون.

يقول: (وَرُبمَا استبعد هَذَا مستبعد واستنكره مستنكر وَقَالَ إِن فِي كَلَامي هَذَا مُبَالغَة وتهويلًا وتشنيعًا وتطويلًا) يقول: بعض الناس يقول: أنت بالغت وهذا بعيد كلامك وليس بصحيح, يقول: هذا يجعل عقله هو الأصل, وهذا جعله الأصل وأقوالهم متضاربة, بعض الناس يستبعد هذا, (وَرُبمَا استبعد هَذَا مستبعد واستنكره مستنكر) أنكر عليه, (وَقَالَ إِن فِي كَلَامي هَذَا مُبَالغَة وتهويلًا وتشنيعًا وتطويلًا)  قال: أنت مبالغ وتهول وتشنع وتطول والأمر أيسر من هذا.

(وَأَن الْأَمر أيسر من أَن يكون حَاصله هَذَا الْحَاصِل وثمرته مثل هَذِه الثَّمَرَة الَّتِي أَشرت إِلَيْهَا, فَأَقُول) أي أقول لك كلامًا يجعلك تصدق كلامي, (فَأَقُول خُذ جملَة الْبلوى ودع تفصيلها واسمع مَا يصك سَمعك) اسمع الآن سأعطيك كلام واقعًا.

  (خُذ جملَة الْبلوى ودع تفصيلها واسمع مَا يصك سَمعك, وَلَوْلَا هَذَا الإلحاح مِنْك مَا سمعته وَلَا جرى الْقَلَم) لكن لما ألححت أعطيك الآن, (هذَا أَبُو عَليّ) من هو أبو علي؟ هذا أبو علي الجُبائي المعتزلي.

(وَهُوَ رَأس من رؤوسهم) رؤوس أهل الكلام, رؤوس المعتزلة, (وركن من أركانهم واسطوانة من اسطواناتهم) لهم مرجع وإمام في الاعتزال يرجعون إليه, والمعتزلة معروف أنهم ينفون الأسماء والصفات, (قد حكى عَنهُ الْكِبَار وَآخر من حكى عَنهُ ذَلِك صَاحب شرح القلائد) ذكر المحشي يقول: هو المذكور في ضاحية المكنون لأحمد بن يحي بن مرتضى الزبيدي ترجمه المصنف رحمه الله.

قد حكى عن أبي علي الجبائي كلمة كفرية, ما هي الكلمة؟ قال: (وَالله لَا يعلم الله من نَفسه إِلَّا مَا يعلم هُوَ) يعني نفسه, يقول: إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه أبو علي الجبائي, هذا من يقوله؟ الشوكاني رحمه الله, يقول: أنت الآن ألححت عليَ, وقلت كلامي هذا ليس بصحيح وأنه فيه مبالغة وتشنيع, أنا أعطيك شيء واقع, خذ كلمة منقولة عن الكبار أن المعتزلي يقول هذا ويحلف ويقسم يقول: والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما أعلم أنا, من يقول هذا؟ الجبائي.

قال المؤلف: (فَخذ هَذَا التَّصْرِيح حَيْثُ لم تكتف بذلك التَّلْوِيح) خذ هذا التصريح, أنا لوحت لك وأعطيتك لكن أنت رددت عليَ تقول: كلامك ليس صحيح ومبالغة, خذ أعطيك التصريح حتى تصدق.

(وَانْظُر هَذِه الجرأة على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) التي ليس بعدها جرأة، جرأة, هذه لو صحت عنه فهي كلمة كفرية, يقول: إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلم أبو علي الجبائي, جعل أن أبا الجبائي يعلم علم الله الذي في نفسه, علق المؤلف عليها قال: (وَانْظُر هَذِه الجرأة على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّتِي لَيْسَ بعْدهَا جرْأَة).

ثم دعا عليه قال: (فيا لأم أبي عَليّ الويل) الويل لأمه, (أنهيق مثل هَذَا النهيق) مثل نهيق الحمار, (وَيُدخل نَفسه فِي هَذَا الْمضيق) أبو علي الجبائي, (وَهل سمع السامعون بِيَمِين أفجر من هَذِه الْيَمين الملعونة) يحلف أن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو, قال: أفجر يمين هذه اليمين.

(أَو نقل الناقلون كلمة تقَارب معنى هَذِه الْكَلِمَة المفتونة أَو بلغ مفتخر إِلَى مَا بلغ هَذَا المختال الفخور أَو وصل من يفجر فِي أيمَانه إِلَى مَا يُقَارب هَذَا الْفُجُور) ما في أحد وصل إلى هذا الفجور, الأيمان الفاجرة ما تصل إلى هذه اليمين, هذه يمين تجاوزت الأيمان الفاجرة, تجاوزت الأيمان الملعونة.

ثم أراد أن يبين هذه الجرأة, قال: لو قال شخص: (وكل عَاقل يعلم أَن أَحَدنَا لَو حلف أَن ابْنه أَو أَبَاهُ لَا يعلم من نَفسه إِلَّا مَا يُعلمهُ هُوَ لَكَانَ كَاذِبًا) ابني ما يعلم من نفسه إلا ما أعلمه أنا, يصير كاذب ولا صادق؟ كاذب, قال: والدي ما يعلم إلا ما أعلم أنا؟ يصير كاذب, فكيف يقول: إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟!

قال: (وكل عَاقل يعلم أَن أَحَدنَا لَو حلف أَن ابْنه أَو أَبَاهُ لَا يعلم من نَفسه إِلَّا مَا يُعلمهُ هُوَ لَكَانَ كَاذِبًا فِي يَمِينه فَاجِرًا فِيهَا) لماذا؟ (لِأَن كل فَرد من النَّاس ينطوي على صِفَات وغرائز لَا يحب أَن يطلع عَلَيْهَا غَيره) كل واحد له طبائع وغرائز وفي نفسه شيء ما يعلمه أبوه ولا أمه ولا أخوه ولا أخته ولا ابنه, وهو من البشر, فكيف يقول هذا المفتون: إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه أبو على الجبائي, لو قال: إن ابني ما يعلم إلا ما اعلمه لصار فاجرًا, لماذا؟ (لِأَن كل فَرد من النَّاس ينطوي على صِفَات وغرائز لَا يحب أَن يطلع عَلَيْهَا غَيره وَيكرهُ أَن يقف على شَيْء مِنْهَا سواهُ).

ثم قال: (وَمن ذَا الَّذِي يدْرِي بمَا يجول فِي خاطر غَيره ويستكن فِي ضَمِيره) إلا الله, هل أحد يدري بما يجول في خاطر الإنسان ويستكن في ضميره؟ ما يعلمه إلا الله, فإذا قال: إن أبي يعلم من نفسي ما أعلمه, أعلم من نفس أبي ما يعلمه هو؛ صار كاذب لأن في نفس والدك أشياء ما تعلم عنها, غرائز وأمور يُكنها.

قال: (وَمن ادّعى علم ذَلِك وَأَنه يعلم من غَيره من بني آدم مَا يُعلمهُ ذَلِك الْغَيْر من نَفسه وَلَا يعلم ذَلِك الْغَيْر من نَفسه إِلَّا مَا يُعلمهُ هَذَا الْمُدَّعِي, فَهُوَ إِمَّا مصاب الْعقل) لو قال شخص وادعى: أن أحدًا من بني آدم قال: إنه يعلم من هذا الشخص ما يعلمه ذلك الغير من نفسه, ولا يعلك ذلك الغير من نفسه إلا ما يعلمه هو لصار أحد أمرين: (فَهُوَ إِمَّا مصاب الْعقل يهذي بِمَا لَا يدْرِي وَيتَكَلَّم بِمَا لَا يفهم, أَو كَاذِب شَدِيد الْكَذِب عَظِيم الافتراء).

لماذا؟ قال: (فَإِن هَذَا أَمر لَا يُعلمهُ غير الله سُبْحَانَهُ) فإذا قال: أنا أعلم من هذا الشخص ما يعلمه من نفسه, ولا يعلم هذا الشخص من نفسه إلا ما أعلمه أنا, لصار هذا إما مصابٌ في العقل أو كاذبٌ شديد الافتراء.

 (فَإِن هَذَا أَمر لَا يُعلمهُ غير الله سُبْحَانَهُ فَهُوَ الَّذِي يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه وَيعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه وَمَا يُسر عباده وَمَا يعلنون وَمَا يظهرون وَمَا يكتمون كَمَا أخبرنَا بذلك فِي كِتَابه الْعَزِيز فِي غير مَوضِع) قال الله تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ)[المائدة/7]؛ الله هو الذي يعلم.

ثم قال: (فقد خَابَ وخسر من أثبت لنَفسِهِ من الْعلم مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله من عباده) من قال: إني أعلم ما يجول في خاطر فلان خاب وخسر, لماذا؟ لأنه أثبت لنفسه من العلم شيئًا لا يعلمه إلا الله, (فَمَا ظَنك بِمن تجَاوز هَذَا وتعداه وَأقسم بِاللَّه سُبْحَانَهُ أَن الله لَا يعلم من نَفسه هو إِلَّا مَا يُعلمهُ هُوَ) إيش يكون حكمه إذا كان يقول: أعلم ما يجول بخاطر شخص من بني آدم, إيش يكون هذا؟ كاذب؛ لأن هذا لا يعلمه إلا الله, فكيف يقول: إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو, وأقسم بذلك؟!

قال المؤلف: هل نقول: إن أبو علي الجبائي مختل العقل ولا ما نقول؟ قال: (وَلَا يَصح لنا أَن نحمله على اختلال الْعقل) ليش؟ (فَلَو كَانَ مَجْنُونًا لم يكن رَأْسًا يَقْتَدِي بقوله) له أتباع وصاحب مذهب, وصاحب فرقة وإمام فرقة, ما نستطيع نقول مجنون, يعني كلمة أبو علي الجبائي هل نقول مجنون ولا غير مجنون؟ قال: غير مجنون, لماذا؟ يقول: (فَلَو كَانَ مَجْنُونًا لم يكن رَأْسًا يَقْتَدِي بقوله جماعات من أهل عصره ومن جاء بعدهم) صاحب مذهب وإمام في الاعتزال وله أتباع, هذا دليل على أنه غير مجنون.

(وينقلون كَلَامه فِي الدفاتر) له مؤلفات ينقلون عنه, (ويحكون عَنهُ فِي مقامات الِاخْتِلَاف).

ثم قال بعض أتباعه المتعصبين له: بعضهم لو قلت لهم ردًا على قول المعتزلي: الله تعالى يقول: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110].

وقال: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء)[البقرة/255].

كيف يقول هذا أبو علي الجبائي: أنه يعلم من نفسه, والله تعالى يقول: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110]؛ يرد عليك بتعصب قال: هذا من المتشابه, وهذه واردة على خلاف الدليل, وهذه مدفوعة بالأصول المقررة, والذي حمله على هذا ما هو؟ التعصب.

يقول: (وَلَعَلَّ أَتبَاع هَذَا وَمن يَقْتَدِي بمذهبه) أبو علي الجبائي (لَو قَالَ لَهُم قَائِل وَأورد عَلَيْهِم مورد قَول الله عز وَجل: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه/110]) كيف أبو علي يقول: أنه يعلم من نفسه ما يعلمه الله؟!

(وَلَعَلَّ أَتبَاع هَذَا وَمن يَقْتَدِي بمذهبه لَو قَالَ لَهُم قَائِل وَأورد عَلَيْهِم مورد قَول الله عز وَجل: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه/110].

وَقَوله: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء)[البقرة/255].

وَقَالَ لَهُم هَذَا يرد مَا قَالَ صَاحبكُم) هذا يرد قول الجبائي, ماذا يقول المتعصبون؟ لو قلت له: (هذه الآيات ترد ما يقول صاحبكم, وَيدل على أَن يَمِينه هَذِه فاجرة مفتراة) ماذا يجيبون؟ (لقالوا هَذَا وَنَحْوه مِمَّا يدل دلَالَته ويفيد مفاده من الْمُتَشَابه الْوَارِد على خلاف دَلِيل الْعقل الْمَدْفُوع بالأصول المقررة).

(المتن)

وَبِالْجُمْلَةِ فإطالة ذيول الْكَلَام فِي مثل هَذَا الْمقَام إِضَاعَة للأوقات واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات لَا المضحكات وَلَيْسَ مقصودنا هَهُنَا إِلَّا إرشاد السَّائِل إِلَى أَن الْمَذْهَب الْحق فِي الصِّفَات هُوَ إمرارها على ظَاهرهَا من غير تَأْوِيل وَلَا تَحْرِيف وَلَا تكلّف وَلَا تعسف وَلَا جبر وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَعْطِيل وَأن ذَلِك هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم.

(الشرح)

يقول المؤلف: بالجملة هذه المسألة, مسألة الصفات, وتأويل الصفات, والرد على أهلها مسألة طال فيها الكلام, (فإطالة ذيول الْكَلَام فِي مثل هَذَا الْمقَام إِضَاعَة للأوقات واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات لَا المضحكات وَلَيْسَ مقصودنا هَهُنَا إِلَّا إرشاد السَّائِل إِلَى أَن الْمَذْهَب الْحق فِي الصِّفَات هُوَ إمرارها على ظَاهرهَا من غير تَأْوِيل) تُمر الصفات مثبتًا لمعانيها من غير تأويل: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﮊ)[السجدة/4]؛ إثبات الاستواء.

 (ﭹ ﭺ ﭻ ﮉ)[المجادلة/22]؛ إثبات الرضا.

(ﮀ ﮁ ﮂ ﮍ)[الممتحنة/13]؛  إثبات الغضب.

من غير تأويل, لا تتأول, لا تحرف استوى باستولى, ولا تؤول الرضا بالثواب, لا تؤول الغضب بالعقاب, ولا تحرف: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ)[النساء/164]كلمه: جرحه بأظافر الحكمة, (وَلَا تكلّف وَلَا تعسف وَلَا جبر) وليس هناك جبر كما يقول الجبرية: أن الإنسان مجبور على أفعاله, (وَلَا تَشْبِيه) لا تقول: عن الصفات تشبه صفات المخلوقين, (وَلَا تَعْطِيل) تنفي الصفات.

قال: (وَأن ذَلِك هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم)

إجراء إمرار الصفات على ظاهرها من غير تأويل, ولا تحريف, ولا تكلف, ولا تعسف, ولا جبر, ولا تشبيه, ولا تعطيل.

(المتن)

فَإِن قلت: وماذا تُرِيدُ بالتعطيل فِي مثل هَذِه الْعبارَات الَّتِي تكررها فَإِن أهل الْمذَاهب الإسلامية يتنزهون عَن ذَلِك ويتحاشون عَنهُ وَلَا نصدق مَعْنَاهُ وَلَا يُوجد مَدْلُوله إِلَّا فِي طَائِفَة من طوائف الْكفَّار وهم المنكرون للصانع؟ قلت: يَا هَذَا إِن كنت مِمَّن لَهُ إِلْمَام بِعلم الْكَلَام الَّذِي اصْطلحَ عَلَيْهِ طوائف من أهل الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا محَالة قد رَأَيْت مَا يَقُوله كثير مِنْهُم ويذكرونه فِي مؤلفاتهم ويحكونه عَن أكابرهم إِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتنزه وتقدس لَا هُوَ جسم وَلَا جَوْهَر وَلَا عرض وَلَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه, فأنشدك الله أَي عبارَة تبلغ مبلغ هَذِه الْعبارَة فِي النَّفْي وَأي مُبَالغَة فِي الدّلَالَة على هَذَا النَّفْي تقوم مقَام هَذِه الْمُبَالغَة فَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي فرارهم من شُبْهَة التَّشْبِيه إِلَى هَذَا التعطيل كَمَا قَالَ الْقَائِل

فَكنت كالساعي إِلَى مثعبٍ
 

 

موائلاً من سبل الراعد
 

 

أَو كالمستجير من الرمضاء بالنَّار والهارب من لسعة الزنبور إِلَى لدغة الْحَيَّة, وَمن قرصة النملة إِلَى قضمة الْأسد.

(الشرح)

يقول المؤلف: ورد سؤال, قال: (فَإِن قلت: وماذا تُرِيدُ بالتعطيل فِي مثل هَذِه الْعبارَات الَّتِي تكررها فَإِن أهل الْمذَاهب الإسلامية يتنزهون عَن ذَلِك ويتحاشون عَنهُ وَلَا نصدق مَعْنَاهُ وَلَا يُوجد مَدْلُوله إِلَّا فِي طَائِفَة من طوائف الْكفَّار وهم المنكرون للصانع؟) هذا اعتراض سؤال أورده المصنف على نفسه وأجاب عنه, ما هو السؤال؟ يقول: أنت تكرر التعطيل, إثبات الصفات بالتعطيل إيش مرادك بالتعطيل, أخبرنا ما مرادك بالتعطيل, أنت تكرر هذه العبارة.

(أهل الْمذَاهب الإسلامية يتنزهون عَن ذَلِك ويتحاشون عَنهُ وَلَا نصدق مَعْنَاهُ) لا نصدق أن مسلم يعطل الرب, لا يوجد التعطيل إلا في طائفة من طوائف الكفار, وهم المنكرون للصانع المنكرون لوجوده, هؤلاء اللي عطلوا, وأنت تكرر علينا هذه الكلمة: تعطيل, تعطيل, أهل الإسلام ما عندهم تعطيل, المعطلة هم الذين أنكروا وجود الخالق, وهم الكفار.

الجواب قال: (قلت: يَا هَذَا إِن كنت مِمَّن لَهُ إِلْمَام بِعلم الْكَلَام الَّذِي اصْطلحَ عَلَيْهِ طوائف من أهل الْإِسْلَام) تجد هذا الكلام, إن كنت لك إلمام وتقرأ في كتب أهل الإسلام, وتقرأ ردود أهل السنة تجد أهل التعطيل موجودين في الكفرة.

(قلت: يَا هَذَا إِن كنت مِمَّن لَهُ إِلْمَام بِعلم الْكَلَام الَّذِي اصْطلحَ عَلَيْهِ طوائف من أهل الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا محَالة قد رَأَيْت مَا يَقُوله كثير مِنْهُم ويذكرونه فِي مؤلفاتهم ويحكونه عَن أكابرهم أِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتنزه وتقدس لَا هُوَ جسم وَلَا جَوْهَر وَلَا عرض وَلَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه) هذا قاله المعطلة النفاة, النفاة؛ لأن الجهمية طائفتان:

الجهمية الأولى قالوا: الرب مختلطٌ بالمخلوقات؛ حتى قالوا في بطون السباع وأجواف الطيور.

الطائفة الثانية المتأخرون: سلبوا النقيضين قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه, ولا فوقه ولا تحته, ولا مباينٌ له ولا محايدٌ له, ولا متصل به ولا منفصل عنه, سلبوا النقيضين.

قال: (أِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتنزه وتقدس لَا هُوَ جسم وَلَا جَوْهَر وَلَا عرض وَلَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه) الجسم من المخلوقات: كل ما هو قائم بنفس يسمى جسم, مثلًا: الجدار جسم, والعمود جسم, ويسمونه أيضًا جوهر, وهو المركب من الجواهر المفردة, وهي الأشياء المركب منها, والعرض: الصفات, فمثلًا: الجدار هذا جوهر؛ لأنه قائمٌ بنفسه, والعرض يقوم بغيره, العرض مثل البياض في الجدار, البياض هذا ما يقوم بنفسه, العرض ما يقوم بغيره, والجوهر ما يقوم بنفسه.

فهم يقولون: لا هو جسم من الأجسام القائمة؛ لأنه لا يقوم بنفسه, ولا جوهر, ولا عرض لا ذات ولا صفة, ولا داخل العالم ولا خارجه, ماذا يصير؟ عدم, بل يصير مستحيل وأشد من العدم.

قال: (فأنشدك الله أَي عبارَة تبلغ مبلغ هَذِه الْعبارَة فِي النَّفْي) ما في أبلغ منها, لو قيل: صف المعدوم بأكثر من هذا ما استطعت, حتى يقول: ليس له ذات ولا صفات, ولا داخل العالم ولا خارجه, ولا فوقه ولا تحته, ولا مباينٌ له, ولا محايدٌ له, ولا متصل به ولا منفصل عنه.

قال: (وَأي مُبَالغَة فِي الدّلَالَة على هَذَا النَّفْي تقوم مقَام هَذِه الْمُبَالغَة فَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي فرارهم من شُبْهَة التَّشْبِيه إِلَى هَذَا التعطيل كَمَا قَالَ الْقَائِل) هم فروا من أي شيء لما قالوا هذا؟ فروا من التشبيه, ووقعوا في التعطيل, فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار, فروا من شيء ووقعوا في شيء أشر منه, فكانوا كما قال الشاعر:

فَكنت كالساعي إِلَى مثعبٍ
 

 

موائلاً من سبل الراعد
 

 

المثعب: هو الموضع الذي يسيل منه الماء.

الموائل: طالب النجاة.

وهو مثل يُضرب لمن يهرب من شيء فيقع فيما هو أشد منه, هرب إلى مثعب وهو موضع المسيل طالب النجاة, ووقع في شيء أشد منه وهو السيل الذي يجتاح الإنسان.

قال: (أَو كالمستجير من الرمضاء بالنَّار) هرب من الرمضاء ووقع في النار, وقع في أشد منه.

(والهارب من لسعة الزنبور إِلَى لدغة الْحَيَّة) هرب من لسعة الزنبور ووقع في لسعة الحية.

(والهارب وَمن قرصة النملة إِلَى قضمة الْأسد) فر من شيء ووقع في أشد منه, فر من التشبيه فوقع في التعطيل الذي هو أشد, هذا معناه.

(المتن)

وَقد يُغني هَؤُلَاءِ وأمثالهم من الْمُتَكَلِّمين المتكلفين كلمتان.

(الشرح)

قف على هذا ونُكمل غدًا بإذن الله, الآن يقول: يكفيكم آية من كتاب الله نتكلم عليها, إلى آخر الرسالة.

وفق الله الجميع لطاعته.

 

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد