بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
(المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, غفر الله لنا ولشيخنا وللحاضرين.
قال المؤلف رحمنا الله وإياه:
وَقد يُغني هَؤُلَاءِ وأمثالهم من الْمُتَكَلِّمين والمتكلفين كلمتان من كتاب الله تَعَالَى وصف بهما نَفسه وأنزلهما على رَسُوله وهما: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه/110].
وَ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى/11].
فَإِن هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ قد اشتملتا على فصل الْخطاب وتضمنتا بمَا يعين أولى الْأَلْبَاب السالكين فِي تِلْكَ الشعاب فالكلمة مِنْهَا دلّت دلَالَة بَيِّنَة على أَن كل مَا تكلم بِهِ الْبشر فِي ذَات الله وَصِفَاته على وَجه التدقيق ودعاوى التَّحْقِيق فَهُوَ مشوب بشعبة من شعب الْجَهْل مخلوط بخلوط هِيَ مُنَافِيَة للْعلم ومباينة لَهُ فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد أخبرنَا أَنهم لَا يحيطون بِهِ علمًا, فَمن زعم أَن ذَاته كَذَا أَو صفته كَذَا فَلَا شكّ أَن صِحَة ذَلِك متوقفة على الْإِحَاطَة وَقد نُفيت عَن كل فَرد من الْأَفْرَاد علما.
فَكل قَول من أَقْوَال الْمُتَكَلِّمين صادر عَن جهل إِمَّا من كل وَجه أَو من بعض الْوُجُوه, وَمَا صدر عَن جهل فَهُوَ مُضَاف إِلَى جهل وَلَاسِيمَا إِذا كَانَ فِي ذَات الله وَصِفَاته فَإِن ذَلِك من المخاطرة فِي الدّين مَا لم يكن فِي غَيره من الْمسَائِل, وَهَذَا يُعلمهُ كل ذِي علم ويعرفه كل عَارِف وَلم يحط بفائدة هَذِه الْآيَة وَيقف عِنْدهَا ويقتطف من ثمراتها إِلَّا الممرون الصِّفَات على ظَاهرهَا المريحون أنفسهم من التكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات وهم السّلف الصَّالح كَمَا عرفت, فهم الَّذين اعْتَرَفُوا بالإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حَيْثُ أوقفها الله وَقَالُوا الله أعلم بكيفية ذَاته وَمَاهية صِفَاته بل الْعلم كُله له وَقَالُوا كَمَا قَالَ من قَالَ مِمَّن اشْتغل بِطَلَب هَذَا الْمحَال فَلم يظفر بِغَيْر القيل والقال
الْعلم للرحمن جلّ جَلَاله |
|
وسواه فِي جهلاته يتغمغم |
مَا للتراب وللعلوم وَإِنَّمَا |
|
يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم |
بل اعْترف كثير من هَؤُلَاءِ المتكلفين بِأَنَّهُ لم يستفد من تكلفه وَعدم قنوعه بِمَا قنع بِهِ السّلف الصَّالح إِلَّا مُجَرّد الْحيرَة الَّتِي وجد عَلَيْهَا غَيره من المتكلفين فَقَالَ:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها |
|
وسيرت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم |
فَلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر |
|
على ذقن أَو قارعا سنّ نادم |
(الشرح)
بسم الله, والحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف رحمه الله يقول: (يُغني هَؤُلَاءِ المتكلمين وأمثالهم كلمتان من كتاب الله) يعني: لو عملوا بهاتين الآيتين لأغناهم واستراحوا, هاتان الآيتان وصف الله بهما نفسه.
- لأن صفات الله نوعان:
- صفات ثبوتية.
- وصفات نفي.
قوله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110]؛ لا يحيطون به علمًا لكمال عظمته وكمال علمه.
و(ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ)[الشورى/11]؛ لأنه أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء.
- فالصفات نوعان:
- صفات ثبوتية.
- وصفات سلبية.
فالصفات الثبوتية مثل: وهو العليم الخبير, وهو العزيز الحكيم, وهو الغفور الودود, يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.
والصفات السلبية: هي التي تتضمن إثبات ضدها من الكمال, لا يكون النفي كمالًا إلا إذا تضمن إثبات ضده من الكمال؛ لأن النفي المحض والصرف لا يفيد كمالًا؛ لأنه يوصف به المعدوم.
والمعدوم لا يوصف بالكمال ومنه قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ)[البقرة/255]؛ نفي السِنة والنوم لكمال حياته وقيوميته, هذا النفي (السلب) يتضمن إثبات ضده من الكمال وهو كمال الحياة والقيومية.
(لاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا)[البقرة/255]؛ يتضمن كمال قوته وقدرته.
( ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [سبأ/3]؛ لكمال علمه.
( ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الكهف/49]؛ لكمال عدله.
(ﭥ ﭦ ﭧ ﭯ)[الأنعام/103]؛ لكمال عظمته وأنه فوق كل شيء.
هنا كلمتان وصف الله بهما نفسه من الصفات السلبية: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [طه/110]؛ لكمال عظمته, وكونه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء.
والثانية: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ) [الشورى/11].
يقول: (هَاتان الْكَلِمَتَانِ اشتملتا على فصل الْخطاب وتضمنتا بمَا يعين أولى الْأَلْبَاب) يعني: أصحاب العقول, (السالكين فِي تِلْكَ الشعاب) يعني: الذين يتكلمون في الصفات, فالكلمة الأولى وهي: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110].
هذه الكلمة: (فالكلمة مِنْهَا) كأنه يقول: (.....) الكلمة الأولى, الكلمة الأولى وهي الآية الأولى وهي: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110].
(دلّت دلَالَة بَيِّنَة على أَن كل مَا تكلم بِهِ الْبشر فِي ذَات الله وَصِفَاته على وَجه التدقيق ودعاوى التَّحْقِيق فَهُوَ مشوب بشعبة من شعب الْجَهْل) المراد: أن كلامهم في ذات الله يعني: في الكيفية والصفات, (مَا تكلم بِهِ الْبشر فِي ذَات الله وَفي صِفَاته) يعني: تكلموا في معنى الكيفية وليس المراد معنى الصفات, معنى الصفات ثابتة, الصفات معانيها ثابتة, بدليل أنه ذكر بعد ذلك أنه قال: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته, دل على أن المراد الكلام في الكيفية, كل ما تكلم به البشر في الكيفية في ذات الله وصفاته مشوبٌ بشعبة من شعب الجهل, أما المعنى ومعاني الصفات معروفة, فالله تعالى أثبت لنفسه العلم, والعلم معناه ضد الجهل, أثبت لنفسه القدرة وهي ضد العجز, أثبت لنفسه السمع وهو ضد الصمت, أثبت لنفسه البصر وهو ضد العمى؛ وهكذا كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
الاستواء: الاستقرار والعلو والارتفاع والصعود, فالمعاني معلومة, لكن الذي لا يُعلم هو الكيفيات, ولهذا قال المؤلف: (كل مَا تكلم بِهِ الْبشر فِي ذَات الله وَصِفَاته فَهُوَ مشوب بشعبة من شعب الْجَهْل) من يعلم كيفية ذات الله! من يعلم كيفية صفاته! كل من تكلم فهو جاهل, ومتجاوزٌ للحد أيضًا, جاهل ومبتدع ويؤدب.
يقول المؤلف: (كل مَا تكلم بِهِ الْبشر فِي ذَات الله وَصِفَاته على وَجه التدقيق ودعاوى التَّحْقِيق فَهُوَ مشوب بشعبة من شعب الْجَهْل مخلوط بخلوط هِيَ مُنَافِيَة للْعلم ومباينة لَهُ) ما عنده علم, الله أعلم بكيفية ذاته وكيفية صفاته, هذا مما اختص الله بعمله, ولهذا قال: (كل مَن تكلم ... فَهُوَ مشوب بشعبة من شعب الْجَهْل مخلوط بخلوط هِيَ مُنَافِيَة للْعلم ومباينة لَهُ).
قال المؤلف: (فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد أخبرنَا أَنهم لَا يحيطون بِهِ علمًا) قال: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110].
(وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء)[البقرة/255].
(فَمن زعم أَن ذَاته كَذَا) يعني: كيفيتها, (أَو صفته كَذَا) يعني: كيفيتها, (فَلَا شكّ أَن صِحَة ذَلِك متوقفة على الْإِحَاطَة وَقد نُفيت عَن كل فَرد من الْأَفْرَاد علمًا يعني: الكلام في ذات الله وفي صفاته لا يكون متوقفا على الإحاطة, من يستطيع أن يتكلم في ذات الله إلا من أحاط بذات الله وصفاته, وهل يستطيع البشر أن يحيطون بذات الله وصفاته؟ لا يستطيعون.
ولهذا قال: (فَلَا شكّ أَن صِحَة ذَلِك متوقفة على الْإِحَاطَة) والإحاطة منفية عَن كل فَرد من الْأَفْرَاد (وَقد نُفيت عَن كل فَرد من الْأَفْرَاد علمًا) قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110].
(وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء)[البقرة/255].
وما دام الإحاطة منفية عن كل فرد إذًا لا سبيل إلى معرفة الكيفية.
قال: (فَكل قَول من أَقْوَال الْمُتَكَلِّمين صادر عَن جهل) يعني: في كيفية الصفات والذات, (صادر عَن جهل إِمَّا من كل وَجه أَو من بعض الْوُجُوه, وَمَا صدر عَن جهل فَهُوَ مُضَاف إِلَى جهل وَلَاسِيمَا إِذا كَانَ فِي ذَات الله وَصِفَاته) إذًا الكلام في ذات الله وصفاته ممنوع؛ لأنه لا يعلم الكيفية إلا الله, وهو من العلم الذي طواه الله عن خلقه لا يعلمونه.
قال المؤلف: (وَلَاسِيمَا إِذا كَانَ فِي ذَات الله وَصِفَاته فَإِن ذَلِك من المخاطرة فِي الدّين مَا لم يكن فِي غَيره من الْمسَائِل, وَهَذَا يُعلمهُ كل ذِي علم ويعرفه كل عَارِف) الكلام في ذات الله وصفاته من المخاطرة في الدين ما لم يكن في غيره من المسائل, وهذا واضح لكل أحد من أهل العلم وأهل البصيرة: أنه لا يجوز لأحد أن يكيف ذات الله وصفاته.
قال: (فَإِن ذَلِك من المخاطرة فِي الدّين مَا لم يكن فِي غَيره من الْمسَائِل) يعني: المسائل الفرعية: الصلاة, الزكاة, الصوم, لو غلطت سهل تتكلم وقد تغلط, لكن كونك تتكلم في ذات الله وصفاته وكيفيته؛ هذا كما قال المؤلف فيه مخاطرة, قال: (فَإِن ذَلِك من المخاطرة فِي الدّين مَا لم يكن فِي غَيره من الْمسَائِل) إذًا هذا فيه مخاطرة فلا يتكلم الإنسان في ذات الله وفي كيفية صفاته, أما معاني الصفات فهذه معلومة كما سبق. قال: (فَإِن ذَلِك من المخاطرة فِي الدّين مَا لم يكن فِي غَيره من الْمسَائِل). وهذا يعلمه كل ذي علم ويعرفه كل عارف.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَلم يحط بفائدة هَذِه الْآيَة وَيقف عِنْدهَا ويقتطف من ثمراتها إِلَّا الممرون للصِّفَات على ظَاهرهَا) الذين أمروا الصفات على ظاهرها, وسبق أن قلنا: إمرارها على ظاهرها معناه إثبات المعاني التي دلت عليها, (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [طه/5]؛ أمرها على ظاهرها مثبتًا للاستواء, هذا ظاهره إثبات الاستواء.
(ﭹ ﭺ ﭻ ﮉ)[المجادلة/22]؛ تُمرها مثبتًا صفة الرضا لله.
(غضب ﮖ ﮗ ﮜ)؛ تُمرها مثبتًا صفة الغضب.
وهكذا
يقول: الذي أحاط بفائدة هذه الآية ووقف عندها واقتطف من ثمراتها هم الممرون الصفات على ظاهرها.
(المريحون أنفسهم من التكلفات) إذا لم يحيطوا بفائدة هذه الآية, يعني قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110]؛ وَيقف عِنْدهَا ويقتطف من ثمراتها إِلَّا الممرون الصِّفَات على ظَاهرهَا, من هم هؤلاء؟ أهل السنة والجماعة, قال الإمام أحمد: أمروها كما جاءت بلا كيف, أمروها: يعني أثبتوا معانيها بلا كيف (بلا تعرض للكيفية), الممرون للصفات على ظاهرها هم أهل السنة والجماعة, أمروها على ظاهرها يعني: أثبتوا ظاهرها اللفظ والمعنى جميعًا: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[طه/5]؛أمرها على ظاهرها مثبتًا الاستواء لله عز وجل.
قال: (المريحون أنفسهم من التكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات) هذا من صفات أهل السنة والجماعة, لا يتكلفون ولا يتعسفون ولا يتأولون ولا يحرفون؛ لا يتأولون تأويلًا باطلًا, ولا يحرفون تحريفًا باطلًا.
قال: (وهم السّلف الصَّالح كَمَا عرفت) الذين يمرون الصفات على ظاهرها من هم؟ هم السلف الصالح, (فهم الَّذين اعْتَرَفُوا بالإحاطة) لله وحده قالوا: الله تعالى هو المحيط.
(الممرون للصفات على ظاهرها) هم أهل السنة والجماعة، هم الذين يثبتون اللفظ والمعنى (الألفاظ والمعاني) (المريحون أنفسهم من التكلفات) لا يتكلفون ولا يتعسفون ولا يتأولون ولا يحرفون لا تحريفا لفظيا ولا تحريفا معنويا
قال: (وهم السّلف الصَّالح كَمَا عرفت فهم الَّذين اعْتَرَفُوا بالإحاطة) يعني لله وحده
(وأوقفوا أنفسهم حَيْثُ أوقفها الله وَقَالُوا الله أعلم بكيفية ذَاته وَمَاهية صِفَاته) (.....) الآن الاصطلاح بالكيفية وهي التي لا تعلم (وَقَالُوا الله أعلم بكيفية ذَاته وَمَاهية صِفَاته) الماهية هي الكيفية, ولكنها كلمة منطقية, الماهية كلمة منطقية معناها الكيفية ماهية الصفات يعني كيفية الصفات. (.....) بكيفية ذاته وماهية صفاته يعني كيفية صفاته
بل الْعلم كُله لله وَقَالُوا كَمَا قَالَ من اشْتغل بِطَلَب هَذَا الْمحَال فَلم يظفر بِغَيْر القيل والقال
الْعلم للرحمن جلّ جَلَاله |
|
وسواه فِي جهلاته يتغمغم |
مَا للتراب وللعلوم وَإِنَّمَا |
|
يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم |
يعني: العلم للرحمن سبحانه, (ﯻ ﯼ ﰂ) [البقرة/282]؛ هو الذي علمنا سبحانه, الأسماء, والذوات, والصفات,
وسواه فِي جهلاته يتغمغم (مَا للتراب وللعلوم) التراب يعني: الآدميون المخلوقون من تراب.
مَا للتراب وللعلوم وَإِنَّمَا |
|
يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم |
(مَا للتراب وللعلوم) يعني ما الذي خُلق من تراب وهو آدم وذريته,
مَا للتراب وللعلوم وَإِنَّمَا |
|
يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم |
يعني يقول ما من خلق من التراب -وهم الآدميون وهم آدم وبنوه- ليس عندهم علم إلا ما علمهم الله, لكنه (يسْعَى ليعلم أَنه لَا يعلم) يسعى لإزالة الجهل, - يسعى ليعلم أنه لا يعلم - هذا هو الجهل, حينما يسعى ويتكلم في الكيفية هو ينادي على نفسه بأنه لا يعلم, ما للتراب ومن خُلق من التراب وهم بنو آدم ليس لهم وللعلوم, ليس لهم سبيلٌ إلى معرفة علوم الكيفيات: كيفية الصفات, كيفية الذات, كيف (.....) الآخرة, وإنما يسعى الواحد منهم ليعلم أنه لا يعلم, يسعى لينادي على نفسه بالجهل.
قال المؤلف: (بل اعْترف كثير من هَؤُلَاءِ المتكلفين بِأَنَّهُ لم يستفد من تكلفه وَعدم قنوعه بِمَا قنع بِهِ السّلف الصَّالح إِلَّا مُجَرّد الْحيرَة الَّتِي وجد عَلَيْهَا غَيره من المتكلفين فَقَالَ) يعني: المتكلمون الذين تكلفوا وحرفوا وأثبتوا معاني مخالفة للظاهر, هؤلاء اعترفوا في الأخير بأنهم لا يستفيدون من تكلفهم, ولا يستفيدون من عدم قنوعهم بما قنع به السلف الصالح إلا مجرد الحيرة التي وجدوا عليها غيرهم من المتكلفين.
أصابهم حيرة فقالوا: هو "الشهرستاني", له كتاب: الملل والنحل , وله كتاب: نهاية الإقدام في علم الكلام, ماذا قال:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها |
|
وسرحت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم
|
فَلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر |
|
على ذقن أَو قارعا سنّ نادم |
هذا كلام الشهرستاني, يقول: (طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم) يعني: طفت بين الناس وسافرت ورأيت الناس, فلم أرى إلا الحيرة على كثيرٍ من الناس الذين تكلموا في الصفات ودخلوا فيها.
فَلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر |
|
على ذقن أَو قارعا سنّ نادم |
يفكر ويتأمل من الحيرة, حائر, وهو يقول: طفت في تلك المعاهد كلها ودخلت في العلوم المتعددة, ولكن في النهاية خرج.
قال: فلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر على ذقن أَو قارعا سنّ نادم
(المتن)
وَهَا أَنا أخْبرك عَن نَفسِي وأوضح لَك مَا وَقعت فِيهِ فِي أمسي فَإِنِّي فِي أَيَّام الطّلب وعنفوان الشَّبَاب شُغلت بِهَذَا الْعلم الَّذِي سموهُ تَارَة علم الْكَلَام, وَتارَة علم التَّوْحِيد, وَتارَة علم أصُول الدّين, وأكببت على مؤلفات الطوائف الْمُخْتَلفَة مِنْهُم ورمت الرُّجُوع بفائدة وَالْعود بعائدة فَلم أظفر من ذَلِك بِغَيْر الخيبة والحيرة وَكَانَ ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي حببت إِلَيّ مَذْهَب السّلف على أَنِّي كنت قبل ذَلِك عَلَيْهِ وَلَكِن أردْت أَن أزداد مِنْهُ بَصِيرَة وَبِه شغفًا.
وَقلت عِنْد ذَلِك فِي تِلْكَ الْمذَاهب:
وَغَايَة مَا حصلته من مباحثي |
|
وَمن نَظَرِي من بعد طول التدبر |
هُوَ الْوَقْف مَا بَين الطَّرِيقَيْنِ حيرة |
|
فَمَا عِلمُ من لم يلق غير التحير |
على أنني قد خضت مِنْهُ غماره |
|
وَمَا قنعت نَفسِي بِغَيْر التبحر |
(الشرح)
يقول لنا المؤلف الشيخ الشوكاني رحمه الله: (وَهَا أَنا أخْبرك عَن نَفسِي وأوضح لَك مَا وَقعت فِيهِ فِي أمسي فَإِنِّي فِي أَيَّام الطّلب) يعني: طلب العلم الشرعي وتحصيله, (وعنفوان الشَّبَاب) لما كان شاب ونشيط, قال: (شُغلت بِهَذَا الْعلم) يعني: بعلم الكلام, (الَّذِي سموهُ تَارَة علم الْكَلَام, وَتارَة علم التَّوْحِيد, وَتارَة علم أصُول الدّين, وأكببت على مؤلفات الطوائف الْمُخْتَلفَة مِنْهُم).
(ورمت) يعني: أردت, (الرُّجُوع بفائدة وَالْعود بعائدة فَلم أظفر من ذَلِك بِغَيْر الخيبة والحيرة) يقول: الأول هو دخل مع أهل الكلام, ظاهره أنه في أول حياته دخل في علم الكلام, ولهذا هنا بيَّن، قال: (أخْبرك عَن نَفسِي ... إِنِّي فِي أَيَّام الطّلب وعنفوان الشَّبَاب شُغلت بِهَذَا الْعلم الَّذِي سموهُ تَارَة علم الْكَلَام, وَتارَة علم التَّوْحِيد, وَتارَة علم أصُول الدّين, وأكببت على مؤلفات الطوائف الْمُخْتَلفَة مِنْهُم ورمت الرُّجُوع بفائدة وَالْعود بعائدة فَلم أظفر من ذَلِك بِغَيْر الخيبة والحيرة).
قال: (وَكَانَ ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي حببت إِلَيّ مَذْهَب السّلف) يعني يقول: في الأول كان عنده انحراف وموافقة لأهل البدع لما كان في أيام الطلب وعنفوان الشباب, وشُغف بهذا العلم, أصابه شغف بهذا العلم الَّذِي سموهُ تَارَة علم الْكَلَام, وَتارَة علم التَّوْحِيد, وَتارَة علم أصُول الدّين, في أيام طلب الشوكاني رحمه الله شُغف بهذا العلم.
قال: (وأكببت على مؤلفات الطوائف الْمُخْتَلفَة مِنْهُم ورمت الرُّجُوع بفائدة وَالْعود بعائدة فَلم أظفر من ذَلِك بِغَيْر الخيبة والحيرة) لأنه كان ظاهره أنه دخل في علم الكلام, وانخدع لأنهم يسمونه تَارَة علم الْكَلَام, وعلم التَّوْحِيد, وعلم أصُول الدّين, فقال: (أكببت على مؤلفات الطوائف الْمُخْتَلفَة مِنْهُم ورمت الرُّجُوع بفائدة وَالْعود بعائدة فَلم أظفر من ذَلِك بِغَيْر الخيبة والحيرة) ما في عند أهل الكلام إلا الخيبة والحيرة, دخل معهم ودرس علم الكلام, وعلم التوحيد, وعلم أصول الدين.
قال: (وَكَانَ ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي حببت إِلَيّ مَذْهَب السّلف) يعني: هذه القصة, (على أَنِّي كنت قبل ذَلِك عَلَيْهِ) كيف يعني؟ كان قبل ذلك على مذهب السلف! وهو يقول: (وَهَا أَنا أخْبرك عَن نَفسِي ...) -أني شُغلت بِهَذَا الْعلم-ثم يقول هنا في آخره ذكر أنه كان في أول شبابه كان ليس على معتقد أهل السنة والجماعة.
قال شغلت بهذا العلم الذي سموه علم التوحيد وعلم الكلام ثم (أكببت على مؤلفات الطوائف الْمُخْتَلفَة مِنْهُم) وأردت (الرُّجُوع بفائدة ... فَلم أظفر من ذَلِك بِغَيْر الخيبة والحيرة) حاول مرتين أن يبقى على مذهب أهل السنة والجماعة فلم يظفر, قال: (وَكَانَ ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي حببت إِلَيّ مَذْهَب السّلف) يعني: كونه عرف ما عليه أهل البدع من الانحراف.
قال: (على أَنِّي كنت قبل ذَلِك عَلَيْهِ) يعني: ظاهره أنه كان على مذهب السلف الصالح, ثم دخل في علم الكلام, ثم رجع إلى مذهب السلف.
قال: (على أَنِّي كنت قبل ذَلِك عَلَيْهِ وَلَكِن أردْت أَن أزداد بَصِيرَة وَبِه شغفًا.
وَقلت عِنْد ذَلِك فِي تِلْكَ الْمذَاهب) قال هذه الأبيات يبين أن هذه المذاهب كلها مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة وينبغي تركها:
وَغَايَة مَا حصلته من مباحثي |
|
وَمن نَظَرِي من بعد طول التدبر |
هُوَ الْوَقْف مَا بَين الطَّرِيقَيْنِ حيرة |
|
فَمَا عِلمُ من لم يلق غير التحير |
على أنني قد خضت مِنْهُ غماره |
|
وَمَا قنعت نَفسِي بِغَيْر التبحر |
إذًا يبين المؤلف أنه غاية ما حصل من المباحث ومن النظر بعد طول التدبر: هو التوقف ما بين الطريقين.
(المتن)
وَأما الْكَلِمَة وَهِي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى/11]؛ فبها يُسْتَفَاد نفي الْمُمَاثلَة فِي كل شَيْء فَيُدْفَع بِهَذِهِ الْآيَة فِي وَجه المجسمة وتعرف بِهِ الْكَلَام عِنْد وَصفه سُبْحَانَهُ بالسميع الْبَصِير وَعند ذكر السّمع وَالْبَصَر وَالْيَد والاستواء وَنَحْو ذَلِك مِمَّا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة, فتُقرر بذلك الْإِثْبَات لتِلْك الصِّفَات لَا على وَجه الْمُمَاثلَة والمشابهة للمخلوقات فَيُدْفَع بِهِ جَانِبي الإفراط والتفريط وهما الْمُبَالغَة فِي الْإِثْبَات المفضية إِلَى التجسيم وَالْمُبَالغَة فِي النَّفْي المفضية إِلَى التعطيل فَيخرج من بَين الْجَانِبَيْنِ وغلو الطَّرفَيْنِ أحقية مَذْهَب السّلف الصَّالح وَهُوَ قَوْلهم بِإِثْبَات مَا أثْبته لنَفسِهِ من الصِّفَات على وَجه لَا يُعلمهُ إِلَّا هُوَ فَإِنَّهُ الْقَائِل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير)[الشورى/11].
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله وتكلم عن الكلمة الأولى وهي قوله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[طه/110]؛ وبين أن البشر لا يمكن أن يحيطون بذات الله ولا بصفاته, لا يعلموا الكيفية, فلا يعلمها إلا هو, وأما معاني الصفات فهي معلومة.
الكلمة الثانية قوله: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ)[الشورى/11].
قال: هذه الآية يستفاد منها (نفي الْمُمَاثلَة فِي كل شَيْء) وأن الله لا يماثله أحدٌ من خلقه.
قال: (فَيُدْفَع بِهَذِهِ الْآيَة فِي وَجه المجسمة) المجسمة: الذين يقولون: إن الله جسم, وهم الكرامية وأشباههم, لأنهم مشبهة, هذه الآية: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ)[الشورى/11]؛ قال: يُدفع بهذه الآية في وجه المجسمة.
(وتعرف بِهِ الْكَلَام عِنْد وَصفه سُبْحَانَهُ بالسميع الْبَصِير وَعند ذكر السّمع وَالْبَصَر وَالْيَد والاستواء) يعني يقول: إن هذه الآية وهي قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ)[الشورى/11]؛ يُرد بها على المشبهة, يُرد بها على الممثلة, (ﭡ ﭢ ﭣ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)[الشورى/11].
(ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ)[الشورى/11]؛ يُرد به على من شبه الله بخلقه, (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)[الشورى/11]؛ يُرد به على من عطل الصفات ونفاها؛ صفات السمع والبصر.
- فهذه الآية يُرد بها على طائفتين:
صدر الآية: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭨ)[الشورى/11]؛ يُرد به على المشبهة والممثلة.
(ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)[الشورى/11]؛ يُرد به على المعطلة الذين نفوا صفات الله وعطلوا الله من صفاته.
فالمؤلف يقول: (فَيُدْفَع بِهَذِهِ الْآيَة فِي وَجه المجسمة) المجسمة: الذين يقولون: إن الله جسم, والجسم هذا لم يرد لا نفيًا ولا إثباتًا, ما ورد في الكتاب ولا في السنة, ولا يُقال: إن الله جسم ولا يقال ليس بجسم, فهذا مما يُلاحظ على المؤلف: (فَيُدْفَع بِهَذِهِ الْآيَة فِي وَجه المجسمة) مراده المشبهة.
يقول هذه الآية ترد بها على المجسمة يعني: المشبهة.
(وتعرف بِهِ الْكَلَام عِنْد وَصفه سُبْحَانَهُ بالسميع الْبَصِير وَعند ذكر السّمع وَالْبَصَر وَالْيَد والاستواء) تقول: هذه النصوص أثبتت هذه الصفات, ولا نعلم الكيفية؛ لأن الله يقول: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)[الشورى/11].
قال المؤلف: (فتُقرر بذلك ... لتِلْك الصِّفَات لَا على وَجه الْمُمَاثلَة والمشابهة للمخلوقات) يعني: تقرر بها إثبات الصفات, لكن على وجه لا تماثل صفات المخلوقين, ولا تشابه المخلوقات.
قال: (فَيُدْفَع بِها جَانِبي الإفراط والتفريط وهما الْمُبَالغَة فِي الْإِثْبَات المفضية إِلَى التجسيم وَالْمُبَالغَة فِي النَّفْي المفضية إِلَى التعطيل) يقول هذه الآية ترد بها على مَنّ؟ على المشبهة والمعطلة ولهذا قال: فيدفع بها جانبي الإفراط والتفريط وهما المبالغة في الإثبات والمبالغة في النفي، يقول هذه الآية يرد بها على الممثلة المشبهة, الذين مثلوا الله بخلقه, وسماهم المؤلف مجسمة, (.....) ويُرد بعاجزها على المعطلة: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)[الشورى/11].
فالممثلة مثلوا أثبتوا الصفات؛ حتى مثلوها بصفات الله, والمعطلة نزهوا؛ حتى أفضوا من التنزيه إلى التعطيل, فهؤلاء أفرطوا وهؤلاء فرطوا, فهذه الآية يُرد بها على هؤلاء وعلى هؤلاء يُدفع بها جانبي الإفراط والتفريط, جانب الإفراط في الإثبات, المشبهة الذين أثبتوا الصفات وأثبتوا مماثلة الله للمخلوقات؛ هذه الآية طرف.
والطرف الثاني: المعطلة؛ الذين نفوا الصفات, فهذه الآية يُرد بها على هؤلاء وعلى هؤلاء, ولهذا قال: هذه الآية (تُقرر بذلك الْإِثْبَات لتِلْك الصِّفَات لَا على وَجه الْمُمَاثلَة والمشابهة للمخلوقات فَيُدْفَع بِها جَانِبي الإفراط والتفريط) الإفراط: الزيادة على الحد, والتفريط: التقصير, جَانِبي الإفراط والتفريط وهما المبالغة في الإثبات والمبالغة في النفي, المبالغة في الإثبات المفضي إلى التجسيم, والمبالغة في النفي, المبالغة في الإثبات هذا مذهب المشبهة بالغوا في الإثبات؛ حتى قالوا: لله صفات كصفات المخلوقين, ويقابلهم الطرف الثاني بالغوا في النفي؛ حتى عطلوا الله من صفات الكمال.
هنا قال المؤلف: (فَيُدْفَع بِهِ جَانِبي الإفراط والتفريط) فإذا قلت: المشبهة أفرطوا وزادوا عن الحد فأثبتوا الصفة وزادوا فقالوا: تشبه صفات المخلوقين أو مثل صفات المخلوقين, والمعطلة نزهوا لكن غلوا في هذا التنزيه؛ حتى عطلوا الله من صفات كماله, وأهل السنة توسطوا فأثبتوا الصفات لله على ما يليق بجلاله وعظمته, أثبتوها لله ولم يرتبطوا بغيرهم
قال رحمه الله: (فَيُدْفَع بِهِ جَانِبي الإفراط والتفريط) الإفراط: الزيادة في الإثبات حتى الوصول إلى مذهب المشبهة, والتفريط: المبالغة في التنزيه حتى الوصول إلى مذهب المعطلة.
ولذا قال وهما المبالغة في الإثبات المفضية إلى التجسيم هذا مذهب المشبهة
والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل، وهذا مذهب المعطلة
(فَيخرج من بَين الْجَانِبَيْنِ وغلو الطَّرفَيْنِ أحقية مَذْهَب السّلف الصَّالح) يخرج من هذين المذهبين، هؤلاء أفرطوا وهؤلاء فرطوا من بينهما يخرج مذهب أهل السنة والجماعة, فأهل السنة أخذوا من المشبهة الإثبات, المشبهة معهم حق ومعهم باطل, والمعطلة معهم حق ومعهم باطل, أهل السنة أخذوا الحق الذي مع المشبهة ونفوا الباطل, وأخذوا الحق الذي مع المعطلة ونفوا الباطل فخرج مذهب أهل السنة من بين فرثٍ ودم, من بين فرث التشبيه ودم التعطيل, لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.
ما هو الحق الذي مع المشبهة؟ الإثبات, إثبات الصفات, أخذوه، والباطل اللي معهم: التشبيه نفوه.
وما هو الحق الذي مع المعطلة؟ التنزيه, أخذوه، ما هو الباطل؟ المبالغة في التنزيه حتى نفوا الصفات, فقالوا: نُثبت الصفات وننزه الله عن مماثلة المخلوقات.
فهذا مذهب أهل السنة خرج من بين المذهبين, هذا ما يقوله المؤلف: (فَيخرج من بَين الْجَانِبَيْنِ وغلو الطَّرفَيْنِ أحقية مَذْهَب السّلف الصَّالح وَهُوَ قَوْلهم بِإِثْبَات مَا أثْبته لنَفسِهِ من الصِّفَات على وَجه لَا يُعلمهُ إِلَّا هُوَ فَإِنَّهُ الْقَائِل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير)[الشورى/11]).
(المتن)
وَمن جملَة الصِّفَات الَّتِي أمرهَا السّلف على ظَاهرهَا وأجروها على مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة من دون تكلّف وَلَا تَأْوِيل صفة الاسْتوَاء الَّتِي ذكرهَا السَّائِل, يَقُولُونَ: نَحن نثبت مَا أثْبته الله لنَفسِهِ من استوائه على عَرْشه على هَيْئَة لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ وَكَيْفِيَّة لَا يدْرِي بهَا سواهُ وَلَا نكلف أَنْفُسنَا غير هَذَا فَلَيْسَ كمثله شَيْء لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا يحيط عباده بِهِ علمًا.
(الشرح)
يقول المؤلف: (وَمن جملَة الصِّفَات الَّتِي أمرهَا السّلف على ظَاهرهَا وأجروها على مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة من دون تكلّف وَلَا تَأْوِيل صفة الاسْتوَاء الَّتِي ذكرهَا السَّائِل, يَقُولُونَ: نَحن نثبت مَا أثْبته الله لنَفسِهِ من استوائه على عَرْشه) يعني: نُثبت اللفظ والمعنى, المعنى هو إيش؟ الاستقرار, والعلو, والارتفاع, والصعود, استقر وعلا وصعد وارتفع.
(على هَيْئَة) هذه الكيفية (لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ وَكَيْفِيَّة لَا يدْرِي بهَا سواهُ) فالكيفية منفية واللفظ والمعنى مثبت.
قال: (وَلَا نكلف أَنْفُسنَا غير هَذَا) ما نزيد على إثبات المعنى, (فَلَيْسَ كمثله شَيْء لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا يحيط عباده بِهِ علمًا).
(المتن)
وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي مَسْأَلَة الْجِهَة الَّتِي ذكرهَا السَّائِل وَأَشَارَ إِلَى بعض مَا فِيهِ دَلِيل عَلَيْهَا والأدلة فِي ذَلِك طَوِيلَة كَثِيرَة فِي الْكتاب وَالسّنة.
(الشرح)
المؤلف يقول: مسألة الجهة كذلك, هل يُقال: الله في جهة أو ليس في جهة؟ نقول: فيه تفصيل: أن يُقال ما مرادك بالجهة أيها السائل؟ إن أردت بالجهة أمرٌ وجودي مخلوق فالله فوق المخلوقات كلها وسقفها عرش الرحمن, وإن قلت بالجهة أمرٌ عدمي وهما فوق العرش فالله فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات.
فإذا قال السائل: الله في جهة وقصد أمرًا مخلوق, نقول: هذا باطل, الله ليس فيه شيئًا من مخلوقاته, وإن أردت بالجهة أمرٌ عدمي فهذا صحيح, وذلك أن المخلوقات تنتهي بالعرش فما فوقها ما في مخلوقات, والله فوق العرش هذا معناه, ولابد من التفصيل هذا.
فالذي يقول الله في جهة أو ليس في جهة لا يُقر لا على هذا ولا على هذا حتى يُستفصل منه ما المراد منها, (وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي مَسْأَلَة الْجِهَة الَّتِي ذكرهَا السَّائِل وَأَشَارَ إِلَى بعض مَا فِيهِ دَلِيل عَلَيْهَا والأدلة فِي ذَلِك طَوِيلَة كَثِيرَة فِي الْكتاب وَالسّنة) وعلى هذا, فإذا أراد بالجهة أمرٌ وجودي كان مخلوقًا والله تعالى فوق خلقه لا يحصره ولا يُحيط به شيئًا من مخلوقاته؛ لأنه مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه, وإن أراد بالجهة أمرٌ عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده؛ لأن بعد العرش خلاص انتهت المخلوقات فصار أمره عدمي ما في مخلوقات, والله فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات.
(المتن)
وَقد جمع أهل الْعلم مِنْهَا لَاسِيمَا أهل الحَدِيث مبَاحث طولوها بِذكر آيَات قرآنية وَأَحَادِيث صَحِيحَة, وَقد وقفت من ذَلِك على مؤلف بسيط فِي مُجَلد جمعه مؤرخ الْإِسْلَام الْحَافِظ الذَّهَبِيّ رَحمَه الله استوفى فِيهِ كل مَا فِيهِ دلَالَة على الْجِهَة من كتاب أَو سنة أَو قَول صَاحب.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: أهل العلم جمعوا في هذا مباحث: الصفات, والأسماء, وألفوا مؤلفات, الطحاوي ألف العقيدة الطحاوية, شيخ الإسلام ألف العقيدة الواسطية, الحموية, التدمرية, هكذا, الإمام أحمد ألف كتاب السنة, الإيمان لأبي عبيد, وهكذا, الإيمان لأبي شيبة, فجمع أهل العلم مؤلفات في الصفات.
قال: (وَقد وقفت من ذَلِك على مؤلف بسيط فِي مُجَلد جمعه مؤرخ الْإِسْلَام الْحَافِظ الذَّهَبِيّ رَحمَه الله استوفى فِيهِ كل مَا فِيهِ دلَالَة على الْجِهَة من كتاب أَو سنة أَو قَول صَاحب) وهو كتاب: العلو للعلي الغفار, للحافظ الذهبي.
ثم اختصره الألباني رحمه الله, يقول: إن المؤلف الذهبي سرد الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة, فعليك أن تراجعه.
(المتن)
وَالْمَسْأَلَة أوضح من أَن تَلْتَبِس على عَارِف وَأبين من أَن يحْتَاج فِيهَا إِلَى التَّطْوِيل وَلكنهَا لَما وَقعت تِلْكَ القلاقل والزلازل الكائنة بَين بعض الطوائف الإسلامية كثر الْكَلَام فِيهَا وَفِي مَسْأَلَة الاسْتوَاء وَطَالَ سيما بَين الْحَنَابِلَة وَغَيرهم من أهل الْمذَاهب فَلهم فِي ذَلِك الْفِتَن الْكُبْرَى والملاحم الْعُظْمَى، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: المسألة واضحة وهي: إمرار الصفات كما جاءت على حد قوله: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)[الشورى/11]؛ ما تحتاج إلى كلامٍ طويل.
قال: (وَالْمَسْأَلَة أوضح من أَن تَلْتَبِس على عَارِف وَأبين من أَن يحْتَاج فِيهَا إِلَى التَّطْوِيل وَلكنهَا لَما وَقعت تِلْكَ القلاقل والزلازل الكائنة بَين بعض الطوائف الإسلامية كثر الْكَلَام فِيهَا وَفِي مَسْأَلَة الاسْتوَاء وَطَالَ سيما بَين الْحَنَابِلَة وَغَيرهم من أهل الْمذَاهب) هذا يُشعر بأن الحنابلة مخالفون لغيرهم, الحنابلة على مذهب أهل السنة والجماعة ويوافقون جميع الطوائف الإسلامية.
قال: (فَلهم فِي ذَلِك الْفِتَن الْكُبْرَى والملاحم الْعُظْمَى وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر) المؤلف مقصوده: الحنابلة معروف أنهم عُرفوا بالتوسط في مذهب أهل السنة والجماعة, فالفتن التي حدثت بينهم وبين أهل البدع, وليس للحنابلة مذهبٌ خاص, بل مذهب الحنابلة هو مذهب أهل السنة والجماعة, فتخصيص الحنابلة مثل ما ذكر المؤلف وأنهم بينهم وبين غيرهم فتن كبرى، وملاحم وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر, إن كان مقصوده أهل البدع فنعم, ويشاركهم في ذلك بقية أهل السنة والجماعة, وإن كان كما يدعي بعض الناس أن الحنابلة مشبهة وليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة وخالفهم الفرق الإسلامية؛ هذا باطل ليس بصحيح.
(المتن)
وَالْحق هُوَ مَا عرفناك من مَذْهَب السّلف الصَّالح, فالاستواء على الْعَرْش والكون
فِي تِلْكَ الْجِهَة قد صرح بِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم فِي مَوَاطِن يكثر حصرها وَيطول نشرها, كَذَلِكَ صرح بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غير حَدِيث بل هَذَا مِمَّا يجده كل فَرد من أَفْرَاد النَّاس فِي نَفسه ويحسه فِي فطرته وتجذبه إِلَيْهِ طَبِيعَته كَمَا ترَاهُ فِي كل من اسْتَغَاثَ بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتجأ إِلَيْهِ وَوجه أدعيته إِلَى جنابه الرفيع وعزه المنيع.
فَإِنَّهُ يُشِير عِنْد ذَلِك بكفه أَو يَرْمِي إِلَى السَّمَاء بطرفه وَيَسْتَوِي فِي ذَلِك عِنْد عرُوض أَسبَاب الدُّعَاء وحدوث بواعث الاستغاثة وَوُجُود مقتضيات الإزعاج وَظُهُور دواعي الالتجاء عَالم النَّاس وجاهلهم والماشي على طَريق السّلف والمقتدي بِأَهْل التَّأْوِيل الْقَائِلين بِأَن الاسْتوَاء هُوَ الِاسْتِيلَاء كَمَا قَالَ جُمْهُور المتأولين والأقيال كَمَا قَال أَحْمد بن يحيى ثَعْلَب والزجاج وَالْفراء وَغَيرهم أَو كِنَايَة عَن الْمُلك وَالسُّلْطَان كَمَا قَالَه آخَرُونَ.
فالسلامة والنجاة فِي إمرار ذَلِك على الظَّاهِر والإذعان بِأَن الاسْتوَاء والكون على مَا نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة من دون تكييف وَلَا تكلّف وَلَا قيل وَلَا قَالَ وَلَا قُصُور فِي شَيْء من الْمقَال, فَمن جَاوز هَذَا الْمِقْدَار بإفراط أَو تَفْرِيط فَهُوَ غير مقتدٍ بالسلف وَلَا وَاقِف فِي طَرِيق النجَاة وَلَا معتصمٌ عَن الْخَطَأ وَلَا سالك فِي طَرِيق السَّلامَة والاستقامة.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (الْحق هُوَ مَذْهَب السّلف الصَّالح) وهو إمرار الصفات, صفات الألفاظ والمعاني, ونفي الكيفية, قال: (فالاستواء على الْعَرْش والكون فِي تِلْكَ الْجِهَة قد صرح بِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم) لقوله تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮧ) [الأعراف/54].
(ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[طه/5].
(ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)[الأنعام/18].
(ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ)[النحل/50].
(ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)[الأعلى/1].
(ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯹ)[فاطر/10].
(ﯤ ﯥ ﯦ ﯯ)[المعارج/4].
وهكذا, أدلة كثيرة حتى زادت الأدلة في إثبات العلو على ألف دليل, وما دام الأدلة واضحة فالحمد لله.
قال: (بل هَذَا يجده كل فَرد من أَفْرَاد النَّاس فِي نَفسه) يعني: هذا دليل الفطرة, كل إنسان مفطور على أن ربه في السماء فإذا أصابه شيء استغاث طلب جهة العلو؛ حتى الحيوانات العجماء إذا أصابها شيء رفعت رأسها إلى السماء.
ولهذا قال المؤلف: (بل هَذَا مِمَّا يجده كل فَرد من أَفْرَاد النَّاس فِي نَفسه ويحسه فِي فطرته وتجذبه إِلَيْهِ طَبِيعَته كَمَا ترَاهُ فِي كل من اسْتَغَاثَ بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتجأ إِلَيْهِ وَوجه أدعيته إِلَى جنابه الرفيع وعزه المنيع فَإِنَّهُ يُشِير عِنْد ذَلِك بكفه أَو يَرْمِي إِلَى السَّمَاء بطرفه) يعني: هذه أدلة العلو دل عليها الكتاب, والسنة, والفطرة, والعقل, أن الله في العلو, وهذا دليل الفطرة؛ أن كل إنسان, كل من استغاث بالله والتجأ إليه ووجه أدعيته إليه فإنه يُشير إلى السماء, ويرمي إلى السماء.
(وَيَسْتَوِي فِي ذَلِك عِنْد عرُوض أَسبَاب الدُّعَاء وحدوث بواعث الاستغاثة وَوُجُود مقتضيات الإزعاج وَظُهُور دواعي الالتجاء عَالم النَّاس وجاهلهم) يقول: يستوي العالم والجاهل, كل واحد إذا أصابه شيء طلب العلو سواء عالم أو جاهل.
(والماشي على طَريقَة السّلف والمقتدي بِأَهْل التَّأْوِيل الْقَائِلين بِأَن الاسْتوَاء هُوَ الِاسْتِيلَاء) يقول: حتى من قالوا أن الاستواء هو الاستيلاء, حتى الجاهل والعالم كلهم فُطروا على أن الله في العلو, فإذا استغاث أحدًا طلب الله في العلو، حتى من قال إن الاستواء هو الاستيلاء.
(كَمَا قَالَ جُمْهُور المتأولين والأقيال) الأقيال: جمع قيل وهو الرئيس أو الملك عند أهل حِمير, فالآن المصنف رحمه الله شبه أهل التأويل بالرؤساء الذين يقولون ما شاءوا ولو كان باطلًا, فينفذ أتباعهم ما يسمعون دونما جدال أو بحث، يقول حتى الرؤساء وحتى الأقيال كلهم إذا أصابهم شيء رفعوا رؤوسهم إلى السماء، هذا دليل الفطرة.
(كَمَا قَالَه أَحْمد بن يحيى ثَعْلَب والزجاج وَالْفراء وَغَيرهم أَو كِنَايَة عَن الْمُلك وَالسُّلْطَان كَمَا قَالَه آخَرُونَ) فدليل الفطرة موجود في أنفسهم إذا أصابهم شيء رفعوا رأسهم إلى السماء.
ثم قال رحمه الله: (فالسلامة والنجاة فِي إمرار ذَلِك على الظَّاهِر) لأنها على ظاهرها مثبتة للمعنى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﮉ)[المجادلة/22]؛ تُمرها على ظاهرها إثبات الرضا.
(ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮧ) [الأعراف/54]؛ تُمرها على ظاهرها بالاستواء.
(ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ)[النحل/50] ؛ تُمرها على ظاهرها تُثبت الفوقية, وهكذا.
(فالسلامة والنجاة فِي إمرار ذَلِك على الظَّاهِر والإذعان بِأَن الاسْتوَاء والكون على مَا نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة من دون تكييف وَلَا تكلّف وَلَا قيل وَلَا قَالَ وَلَا قُصُور فِي شَيْء من الْمقَال) يعني: تُثبت الاستواء هكذا على ما جاء في الكتاب والسنة, ولا تتعرض للكيفية, ولا التكلف، ولا قيل ولا قال ولا قصور في شيء من المقال.
قال: (فَمن جَاوز هَذَا الْمِقْدَار بإفراط أَو تَفْرِيط فَهُوَ غير مقتدٍ بالسلف) من تجاوز إمرار الصفات بأن أثبت التعرض للكيفية هذا غير مقتدٍ بالسلف, (وَلَا وَاقِف فِي طَرِيق النجَاة وَلَا معتصمٌ عَن الْخَطَأ وَلَا سالك فِي طَرِيق السَّلامَة والاستقامة).
(المتن)
وكما نقُول هَكَذَا فِي الاسْتوَاء والكون فِي تِلْكَ الْجِهَة فَكَذَا نقُول فِي مثل قَوْله سُبْحَانَهُ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير)[الحديد/4].
وَقَوله: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ)[المجادلة/7].
وَفِي نَحْو: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين)[البقرة/153].
(إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون)[النحل/128].
إِلَى مَا يشابه ذَلِك ويماثله ويقاربه ويضارعه فَنَقُول فِي مثل هَذِه الْآيَات هَكَذَا جَاءَ الْقُرْآن أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ هَؤُلَاءِ وَلَا نتكلف تَأْوِيل ذَلِك كَمَا يتَكَلَّف غَيرنَا بِأَن المُرَاد بِهَذَا الْكَوْن وَهَذِه الْمَعِيَّة هُوَ كَون الْعلم ومعيته فَإِن هَذِه شُعْبَة من شعب التَّأْوِيل تخَالف مَذَاهِب السّلف وتباين مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة والتابعون وتابعوهم وَإِذا انتهيت إِلَى السَّلامَة فِي مداك فَلَا تجاوزه
وَهَذَا الْحق لَيْسَ بِهِ خَفَاء |
|
فَدَعْنِي من بنيات الطَّرِيق |
وَقد هلك المتنطعون وَلَا يهْلك على الله إِلَّا هَالك وعَلى نَفسهَا براقش تجني,
وَفِي هَذِه الْجُمْلَة وَإِن كَانَت قَليلَة مَا يُغني من شَح بِدِينِهِ وتحرص عَلَيْهِ عَن تَطْوِيل الْمقَال وتكثير ذيوله وتوسيع دَائِرَة فروعه وأصوله وَالْهِدَايَة من الله, وَالله أعلم.
انتهت الرسالة والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على رسوله الأمين.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (وكما نقُول هَكَذَا فِي الاسْتوَاء والكون فِي تِلْكَ الْجِهَة) بأن نُثبت صفة الاستواء على ما يليق بجلال الله وعظمته ونفي الكيفية, فكذلك نقول في المعية, صفة العلو وصفة المعية لا منافاة بينهما, صفة المعية أن الله تعالى مع المخلوقات حقيقة.
- والمعية نوعان:
- معية عامة.
- معية خاصة.
المعية العامة: عامة للمؤمن والكافر, فالله مع جميع المخلوقات؛ بعلمه وقدرته وإحاطته, ونفوذ قدرته ومشيئته, يراهم ويبصرهم من فوق عرشه, والمعية العامة يُراد بها الإحاطة وتأتي في سياق المحاسبة والجزاء, والوعيد, كقوله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ)[المجادلة/7]؛ وعيد ينبئهم بأعمالهم ويجازيهم عليها.
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)[الحديد/4]؛ هذه معية عامة تأتي في سياق المحاسبة والجزاء.
وأما المعية الخاصة: فهي خاصة بالمؤمنين: الرسل, الأنبياء, المتقين, الصابرين, المؤمنين, وهي معية تأتي في سياق المدح والثناء, معية حفظ وكلاءة, وتأييد ونصر, وتوفيق وتسديد, مثالها: المؤلف رحمه الله مثل المعية العامة: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)[الحديد/4]؛ هذا مثال المعية العامة.
والمعية الخاصة: مثل: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ)[البقرة/153]؛ هذه معية خاصة, يعني: مهم بنصره وتأييده وكلأته وحفظه وهو فوق العرش.
ومثل: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ)[النحل/128]
فهو مع المتقين ومع المحسنين بنصره وتأييده وكلأته.
قال: (إِلَى مَا يشابه ذَلِك ويماثله ويقاربه ويضارعه) أراد المؤلف يقول: هذه أمثلة, والأمثلة في القرآن كثيرة, ومن الأمثلة في القرآن قول الله تعالى عن موسى وهارون: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ)[طه/46]؛ هذه معية خاصة.
ولما دخل على فرعون جاءت المعية العامة: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)[الشعراء/15]؛ جاءت المعية العامة لما دخل معهم فرعون, ولما أفرد موسى وهارون جاءت المعية الخاصة: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ)[طه/46].
ومن المعية الخاصة قول الله تعالى لنبيه: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯴ)[التوبة/40]؛ معية خاصة في الغار, رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر, الله تعالى معهم بنصره وتأييده وحفظه وكلأته, وهو فوق العرش ولهذا حفظهما من المشركين, حاولوا وجاءوا فوق الغار, وأعملوا الحيل وأرسلوا الطلب من جميع الجهات ومع ذلك ما استطاعوا, وحفظ الله نبيه والصديق, وهذه معية خاصة.
والمعية ليس معناها الاختلاط بالمخلوقات, لا تفيد الاختلاط وإلا الامتزاج, وإنما معناها في لغة العرب: مطلق المصاحبة, المعية مصاحبة، مطلق المصاحبة، وغاية ما في المعية المقرر في أمرٍ من الأمور, فالعرب تقول: ما زلنا نسير والنجم معنا, لا زلنا نسير والقمر معنا, والقمر فوقهم, يعني مصاحبٌ لنا, ما زلنا نسير والقمر معنا هذه معية, هل تقتضي الاختلاط؟ ما تقتضي الاختلاط, والجيش يسير ويتصل به الملك ويقول: أنا معكم, وتقول: هذا المتاع معي وإن كان فوق رأسك, والأب يطلع على ابنه من الدور السادس أو العاشر وهو يبكي في الأرض فيقول: أنا معك, وبينه وبينه مسافات, فيسكت الطفل, يعني: أنا منتبه لك, معتني بك, مهتم بك، بشأنك.
إذًا المعية لا تفيد الاختلاط والامتزاج, وأهل البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم قالوا: المعية تدل على الاختلاط, الله تعالى مختلطٌ بمخلوقاته, وأبطلوا نصوص الفوقية, والاستواء, والعلو بنصوص المعية, ضربوا النصوص بعضها ببعض, فقالوا: نصوص المعية تبطل نصوص العلو والفوقية, أنكروا أن الله فوق المخلوقات وقالوا: أن الله مختلط بالمخلوقات ممتزجٌ بهم؛ حتى قالوا: إن الله في بطون السبع وأجواف الطيور, تعالى الله عما يقولون, وهذا من أبطل الباطل لا منافاة, فالله تعالى فوق العرش وهو معهم مع المخلوقات بعلمه وإحاطته وإطلاعه, ومع المؤمنين بنصره وتأييده وهو فوق العرش, لا منافاة, فهي لا تقتضي المخالطة والامتزاج, وإنما تقتضي المصاحبة، تقتضي إيش؟ المصاحبة.
وأيضًا من أمثلة المعية: يُقال: فلانٌ زوجته معه, وهو في المشرق وهي في المغرب, كيف زوجته معه الآن؟ يعني في عصمته ولو كان بينهما مسافة, ومن اللطائف في هذه المسألة أن الأحناف يقولون: لو تزوج مشرقية مغربية ثم أتت بولد بعد ستة أشهر يُنسب إليه ولو لم يثبت أنه اتصل بها, ولو لم نعلم أنه اتصل بها, كيف؟ قالوا: لجواز أن يكون من أهل الخطوة, يعني: من أهل الكرامة, ذهب إليها وجاء معها وأتت بولد, هذا في زمانهم, لكن في زماننا الآن سهل المواصلات, في زمانهم صعب, الآن في ساعات تروح من المشرق للمغرب, ولو أراد في كل يوم يذهب ذهب, المواصلات الآن يسيرة, ما كان الناس يدور في خلدهم هذه المواصلات الهائلة, الاتصال, المراكب الفضائية, الطائرات, القطارات, هذه ما كانوا يحلمون بها.
ولهذا يقولون: لو تزوج مشرقية مغربية ثم أتت بولد بعد ستة أشهر يُنسب الولد إلى أبيه ولو لم نعلم أنه اتصل بها, لجواز أن يكون من أهل الخطوة, أهل كرامة.
المقصود: أن العلو والمعية صفتان ولا منافاة بينهما, فالله مع خلقه بعلمه واطلاعه وإحاطته, وهو مع المؤمنين بنصره وتأييده وهو فوق العرش لا منافاة بينهما.
المؤلف، الشوكاني يقول: (فَنَقُول فِي مثل هَذِه الْآيَات هَكَذَا جَاءَ الْقُرْآن أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ هَؤُلَاءِ وَلَا نتكلف تَأْوِيل ذَلِك كَمَا يتَكَلَّف غَيرنَا بِأَن المُرَاد بِهَذَا الْكَوْن وَهَذِه الْمَعِيَّة هُوَ كَون الْعلم ومعيته, فَإِن هَذِه شُعْبَة من شعب التَّأْوِيل تخَالف مَذَاهِب السّلف وتباين مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة والتابعون وتابعوهم) هذا المؤلف يقول: ليست معية علم, بل هي معية علم؛ (.....) لأن الآية افتتحها الله بالعلم واختتمها بالعلم فدل على أنها معية علم, ولا يسمى هذا تأويل انظر آية المجادلة: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﮃ)[المجادلة/7]؛ هذا العلم, افتتحها الله بالعلم.
ثم قال: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ)[المجادلة/7]؛ فافتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم, فدل على أنها معية علم ولا يسمى هذا تأويل.
فالمؤلف غلط لقوله: إن هذه الشعبة من شعب التأويل, والمحشي يقول: إن المؤلف في كتابه في التفسير: في فتح القدير, أثبت أن المعية معية علم, وهنا نفى, يقول هنا: قد تقدم في تنبيهات قول الإمام عمرو بن عبد البر في نقل هذا الكلام من المصنف, ونقله عنه الذهبي في العلو, قال: في هذا النص ردٌ صريح لِما ذهب إليه الإمام الشوكاني في آخر تحفته أن تأويل هذه الآية: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭸ)[الحديد/4]؛ بالمعية العلمية إنما هو شعبة من شعب التأويل المخالفة لمذهب أهل السلف وما كان عليه الصحابة والتابعون, كذا قال.
وكأنه لم يقف على هذا النص من الحافظ ابن عبد البر ولا على مَن سبقه من الأئمة الفحول كسفيان الثوري, ومالك, ومقاتل بن حيان؛ الذين فسروا الآيتين بمثل ما نقل ابن عبد البر إجماع الصحابة ومن بعدهم عليه, فلا تغتر إذًا بما زعمه الشوكاني من المخالفة, فإن لكل عالمٍ زلة ولكل جادٍ كبوة.
وذكر هنا في المحشي: أنه في كتاب التفسير أثبت أنها معية علم, في التعليقات التي نقلها المحشي.
قال التنبيه الثاني: ذكر الشوكاني رحمه الله في نهاية تحفته: أن تفسير المعية بالعلم شعبة من شعب التأويل الذي علمه السلف, فخالف السلف ولكن أيها القارئ لا يهولنك هذه المخالفة فإنها كبوة قلم وهفوة عالم, ولعل الشوكاني رحمه الله لم يقف على أقاويل السلف في هذه الآيات عن تحرير الجواب وإلا لَما قال ما قال, ومما يقوي هذا الوجه أن الشوكاني رحمه الله ذهب إلى القول بأن هذه المعية معية علم في تفسيره الموسوم: بفتح القدير, فقال: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭸ)[الحديد/4]؛ أي بقدرته وسلطانه وعلمه.
ومعنى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭸ)[الحديد/4]؛ إحاطة علمٍ بكل تناجٍ يكون منهم في أي مكان, ويزداد قوة إذا عُلم أن فتح القدير أُلف بعد هذه الرسالة, يستنبط ذلك من كلام الشوكاني على مؤلفاته في ترجمته التي كتبها بنفسه في "البدر الطالع".
على كل حال المعية هي معية حقيقية, الله مع عباده حقيقة, ولكن ليست معية ذاتية ليس معهم بذاته, الجهمية يقولون: معهم بذاته مختلط بالمخلوقات, نقول: معية حقيقة لكن هي معية علم وإحاطة، وإطلاع.
- والمعية كما سبق نوعان:
- معية عامة: وهي معية علم وإحاطة ونفوذ القدرة والمشيئة, وهذه عامة للمؤمن والكافر.
- ومعية خاصة: وهي معية كلاءة وحفظ وتأييد, وتوفيق وتسديد, وهذه خاصة كما قال الله: مع المتقين, مع الصابرين, مع المؤمنين, مع الرسل والأنبياء.
قال المؤلف: (وَإِذا انتهيت إِلَى السَّلامَة فِي مداك فَلَا تجاوزه) يعني: لا تتعدى طريق السلامة.
وَهَذَا الْحق لَيْسَ بِهِ خَفَاء |
|
فَدَعْنِي من بنيات الطَّرِيق |
بنيات الطريق: هي الطرق الصغيرة المتشعبة من الجادة, يريد بها ضعيف الكلام الذي يرد الحق, ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «خط خطًا مستقيمًا وخط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذا الخط المستقيم سبيل الله, وهذه الطرق عن يمينه وشماله على كل سبيلٍ منها شيطان يدعو إليها, ثم قرأ: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)[الأنعام/153]».
قال المؤلف: (وَقد هلك المتنطعون) المتنطعون:الذين يتنطعون ويتجاوزن الحد, فيقول المؤلف: لا تتجاوز الحد في إثبات الاستواء, وفي إثبات الصفات.
قال: (وَلَا يهْلك على الله إِلَّا هَالك وعَلى نَفسهَا براقش تجني) هذا مثل, يُقال: إن براقش اسم كلبة سمعت وقع حوافر دواب فنبحت فاستدلوا بنباحها على القبيلة وهذا مثل يُضرب لمن عمل عملًا يرجع ضرره عليه, على نفسها جنت براقش، لما نبحت علم أعداؤها بها وجاءوا وأخذوهم واجتاحوهم.
قال: (وَفِي هَذِه الْجُمْلَة وَإِن كَانَت قَليلَة مَا يُغني من شح بِدِينِهِ) يعني: من أراد حفظ دينه, شح يعني: بخل بدينه وأراد أن يحفظ دينه عما ينافيه.
(وتحرص عَلَيْهِ عَن تَطْوِيل الْمقَال وتكثير ذيوله وتوسيع دَائِرَة فروعه وأصوله) يقول: هذا يكفي, من أراد أن يحفظ دينه ويبتعد عن الكلام الكثير, ويكتفي بهذا القليل.
(وَالْهِدَايَة من الله وَالله أعلم) ولله الحمد أولًا وآخرًا, وظاهرًا وباطنًا, وأصلي وأسلم على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.