الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني، أشهد أنه رسول الله حقا وأنه رسول الله إلى الثقلين الجن والإنس، العرب والعجم، أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه من ربه اليقين فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى أتباعه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فاني أحمد الله وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله،وإن هذه الرسالة:"صريح السنة" والتي هي من تأليف الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري،والمراد بصريح السنة: الخالص الذي لا لبس فيه، والمعنى: السنة الصحيحة التي ليس في ثبوتها شك.
·ترجمة المؤلف:
هو الإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب،أبو جعفر الطبري، من أهل آمل بـطبرستان، ولد سنة 225 هـ، وتوفي سنة 310من الهجرة النبوية ، والمؤلف إمام من الأئمة؛ بل هو شيخ المفسرين وإمامهم.
·شيوخه وتلاميذه:
- من شيوخه:محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وأحمد بن منيع، وأبو كريب محمد بن العلاء.
- من تلاميذه: أحمد بن كعب القاضي، ومحمد بن عبد الله الشافعي.
·ثناء أهل العلم عليه:
- قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد:
كان أحد أئمة العلماء يُحكم بقوله ويُرجع إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم مالم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني ، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها ، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وله معرفة في الأحكام وفي مسائل الحلال والحرام وله معرفة بأيام الناس وأخبارهم ، وفقيه مفسر ومؤرخ.أ.هـ([1])
- نقل السبكي في طبقات الشافعية الكبرى قول الفرغاني:
كان محمد بن جرير ممن لا تأخذه في الله لومة لائم ـ يعني يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ـ مع عظيم ما يلقى من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد ، فأما أهل العلم والدين فغير منكرين علمه وزهده في الدنيا ورفضه لها وقناعته بما كان عليه من حصة خلفها أبوه بطبرستان يسيرة . ا.هـ([2])
·مصنفاته:
1- أعظم مصنفاته رحمه الله تفسيره المسمى: (جامع البيان في تأويل آي القرآن) وهو كتاب عظيم في عدةأجزاء، وهو متداول ومعروف،وهو تفسير بالأثر، وإليه يرجع المفسرون.
وقد اختصر تفسيره: الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ وأحيانا يتعقبه وأحيانا يوافقه فيما يقرره وما يختاره من الآراء والأقوال.
2- (تاريخ الأمم والملوك) وهو كتاب كبير في التاريخ، فذلك كتابان كبيران عظيمان: كتاب التفسير وكتاب التاريخ.
3- (تهذيب الآثار وتفصيل المعاني الثابتة عن الرسول ﷺمن الأخبار) .
4- كتاب خفيف في أحكام شرائع الإسلام:(اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام ).
5- كتاب لطيف وهو: (القول في أحكام شرائع الإسلام ).
6- (التبصير في معالم الدين).
·الرد على من رماه بالتشيع:
اتُّهِمَ الإمام ابن جرير بالتشيّع، حيث اتهمه أبو بكر بن أبي داود وأصحابه.
وليس عندهم دليل، وذلك:
أ- لأن ابن أبي داود مُتهم فلا يقبل طعنه في ابن جرير؛فقد نسب إليه شيء من النصب.
ب- مما يدل أيضا على براءته ما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء،فقال([3]):
[كان الإمام الطبري من رجال الكمال وشُنّع عليه يسير تشيع وما رأينا عليه إلا الخير، وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء ولم نر ذلك في كتبه] .
ج- أنه من المعروفين بالرد على الروافض حتى إنه يكفر من يقول أن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى، ويقول بقتله([4]).
-على كل حال ابن جرير إمام، ونسبة التشيع إليه هذه قد تنسب إلى كثير من الأئمة بمعنى: الميل إلى أهل البيت ومحبة أهل البيت.
وكل أهل السنة يحبون أهل البيت ويميلوا إليهم والنبي ﷺ حث على العناية بأهل بيته ، فقالr:(أذكركم الله وأهل بيتي)([5]).
والميل من ابن جرير إلى أهل البيت ، قد يكون شيئاً يسيراً، فقد يؤخذ عليه-كما سيأتي- أنه لما ذكر الخلفاء الأربعة ذكر أبا بكر وعمر و عثمان–رضي الله عنهم- بكناهم، ثم لما وصل إلى ذكرعلي– رضي الله عنه- ، قال: إمام المتقين وأمير المؤمنين.
- المقصود أن ابن جرير رحمه الله: سلفي المعتقد، وهذا الذي نسب إليه شيء يسير لا يضره، وله عذر بأنه يرد على الرافضة، أو كما قيل: أنه ألّفها للرد على من رماه بالتشيع.
·موضوع الرسالة:
بيّن الإمام ابن جرير في هذه الرسالة معتقد أهل السنة والجماعة وابتدأها بمقدمة، وذكر في هذه المقدمة:
أن الله تعالى أكرم رسله والمقربين من أولياءه بالمحن الآجلة والعاجلة، ليستوجبوا بصبرهم عليها الكرامة من الله، والمنزلة العالية التي كتبها لهم.
ثم خَلَف الأنبياءَ والرسلَ علماءُ كلِّ أمة، وبين رحمه الله فضل العلم والعلماء في كل أمة وعلماء هذه الأمة بالخصوص، وذكر فضلهم ومزيّتهم فهم ورّاث الأنبياء وأنهم يحملون وراثة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
فضلهم الله بالعلم وكرمهم بالحلم، وجعلهم قدوة وأسوة للناس، وأجزل الأجر والثواب، و ابتلاهم الله بالأشرار، وامتحنهم بالسفهاء والوضعاء؛ لكنهم صبروا، ولم يثنهم ذلك عن الدعوة إلى الله، وإظهار دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم بعد ذلك تكلم عن معتقد أهل السنة والجماعة في القرآن وأنه كلام الله.
ثم تكلم عن القول في رؤية الله عز وجل.
ثم تكلم عن القول في أفعال العباد ،حسناتهم وسيئاتهم.
ثم تكلم عن الصحابة وبيان معتقد أهل السنة والجماعة وما دلت عليه النصوص.
ثم تكلم عن القول في الإيمان وزيادته ونقصانه خلافاً للمرجئة.
ثم تكلم عن القول في ألفاظالعبادة في القرآن.
ثم تكلم عن القول عن الاسم أهوَ المسمى أو غير المسمى.
ثم ختم ذلك في تحريم تقويل أحد مالم يقله؛بأن يتقول على الناس -وخصوصاً أهل العلم- مالم يقولوه.
هذا موضوع هذه الرسالة وهي رسالة مختصرة لكنها شامله وجامعة لمعظم معتقد أهل السنة والجماعة في أمور الاعتقاد.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا وأموالنا ونياتنا وذرياتنا، كما أسأله أن يرزقنا جميعا العلم النافع والعلم الصالح، وأسأله أن يرزقنا جميعاً الإخلاص في العمل، والصدق في القول.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه
عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن الراجحي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ، أَنْبَأَنَا جَدِّي أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ, أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي نَصْرٍ أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الدَّيْنَوَرِيُّ، قَالَ: قَرِئَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَنَا أَسْمَعُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابتدأتلميذ المؤلف ـ رحمه الله -الرسالةَ بالبسملة:
- اقتداءً بالكتاب العزيز؛فإن الله سبحانه افتتح كتابه بـ ﭽﭑﭒﭓﭔﭼ الفاتحة: ١.
- كان النبي يفتتح كتبه ورسائله بـ ﭽﭑﭒﭓﭔﭼ إذا كتب إلى الملوك ورؤساء القبائل والعشائر، ومن ذلك كتابه إلى هرقل، لأنه لما كتب ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى هرقل قال: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ....»([6])
فـ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»يُبتدأ بها في الرسائل المؤلفة وفي الخطب والمواعظ.
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الباء للاستعانة، يعني:أستعين باسم الله.
و(الله) أعرف المعارف، ولا يُسمى به غيره.
- وأصل الله: الإله،والإله على وزن فِعَال، حُذفت الهمزة فالتقت اللام الأولى الزائدة واللام الثانية التي هي عين الكلمة، ففُخّمت فصارت: الله.
والله هو: المألوه تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً وخوفاً ورجاءً،والقلوب فيها فقر ذاتي لا يُسد هذا الفقر إلا بتألّهها لله، وبمحبتها له وإجلاله وتعظيمه ، فلا يزيل الإنسان هذا الفقر إلا إذا أَلِهَ ربه، وعَبَدَه وخضع له، وأخلص له العبادة، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: "الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين"([7]).
- وتأتي الأسماءُ كلها صفاتٍ لله ، فيقال:الله الرحمن الرحيم العلي العظيم السميع البصير؛ كما في الآية:ﭽﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﭼالحشر: ٢٣، كلها من الأسماء التي تعتبر أوصافاً لله.
فكل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة؛ لأن أسماء الله مشتقة وليست جامدة، فـ"الله" اسم مشتمل على صفة الألوهية، و"الرحمن" مشتمل على صفة الرحمة، و"العليم" مشتمل على صفة العلم، و"الحكيم" مشتمل على صفة الحكمة، و"القدير" مشتمل على صفة القدرة، و"السميع" مشتمل على صفة السمع، و"البصير" مشتمل على صفة البصر، وهكذا ..
فكل اسم من أسماء الله متضمن على صفة ولا عكس، فلا يُشتق من الصفة: اسم، فلا يُشتق من صفة الغضب: الغاضب، ولا يشتق من صفة الرضا: الراضي، بل الاسم متضمن للصفة ، والصفة لا يلزم منها الاسم.
·أسماء الله نوعان:
النوع الأول: أسماء خاصة به لا يسمى بها غيره، مثل:
الله - الرحمن - خالق الخلق - مالك الملك - رب العالمين - القابض - الباسط - الخافض - الرافع - المعطي - المانع -ذو الجلال والإكرام .
النوع الثاني: أسماء لله مشتركة، يسمى الله بها ، ويسمى بها المخلوق ، فإذا سمي الله بها فـلهُ الكمال، مثل:
العزيز - الرحيم - السميع - البصير - الحي - الغفور - الودود، فكل هذه مشتركة،فإناسم: العزيز،من اسم من أسماء الله، وقد قال الله:ﭽﯵ ﯶ ﯷﭼيوسف: ٥١، والرحيم والرؤوف من أسماء الله، ويسمى بهما المخلوق:ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼالتوبة: ١٢٨، فـسمّى الله نبيه بالرؤوف الرحيم، وسمّى نفسه بالرؤوف الرحيم.
قوله: (الرحيم) اسم آخر من أسماء الله بعد اسم الله الرحمن، وقد قيل: الرحيم خاص بالمؤمنين.
وقيل: الرحيم عام، كما في الحديث:«رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا»([8]).
قوله:(وصلى الله على سيدنا) أصح ما قيل في صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملإ الأعلى ، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي العالية أنه قال: «صَلاَةُ اللَّهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ المَلاَئِكَةِ»([9]) فأنت تقول: اللهم صل على محمد، يعني: اللهم أثنِ عليه في الملإ الأعلى.
أما الصلاة من العباد فهي: الدعاء.
والسيد هو الإمام والقدوة الذي يُقتدى به، فالرسول ـﷺـ هو سيد الناس وأفضلهم قال الرسول ﷺ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ »([10])
قوله:(وآله)في المراد بالآل قولان:
- قيل: ذريته.
- وقيل: أتباعه على دينه.
والثاني هو الأشمل، ويدخل في ذلك ذريته وأزواجه دخولاً أولياً، ويدخل أيضا: أصحابه رضوان الله عليهم.
وإذا عَطَف فقال: وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، فسيكون العطف للأصحاب وللأزواج والذرية، منعطف الخاص على العام.
ولعل في النسخة سقْط وأنه هكذا: وصحبه وسلم.
(ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم) هذه كلمة عظيمة قال فيها النبي r كما في حديث أبي موسى أنها كنز من كنوز الجنة؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ r فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ r: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا» ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، قُلْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ " أَوْ قَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»([11])
ومعنى (لا حول ولا قوة إلا بالله)لا تحوّل من حال إلى حال، ولا قوة لي يا لله على فعل أي شيء إلا بمعونتك، إلا بك يا الله ، ولهذا شُرع للمسلم إذا سمع المؤذنَ يقول:(حي على الصلاة، حي على الفلاح) أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله([12])؛ لأن المؤذن ينادي: حي على الصلاة، أقبل على الصلاة، فأنت تقول: يا الله لا أستطيع أن أجيب المؤذن ولا أتحول من حال إلى حال إلا إذا أعنتني. فلا حول ولا قوة على فعل الشيء إلا بالله.
(العلي) اسم من أسماء الله يشتمل على صفة العلو، والله سبحانه له العلو بأنواعه الثلاثة:
- علو الذات فذاته علية فوق العرش .
- علو القدر والشأن والعظمة .
- علو القهر والسلطان .
فالعلو ثلاثة أنواع كلها ثابت لله ، كما قال العلامة ابن القيم في النونية :
والفوق أنواع ثلاث كلها ثابتة لله بلا نكران([13])
- وأهل البدع أثبتوا نوعين من العلو وأنكروا نوعا؛فأثبتوا:
1- علو القدر والعظمة والشأن.
2- علو القهر والسلطان.
وأنكروا: علو الذات؛قالوا: إن الله ليس فوق العرش - نعوذ بالله– وهم طائفتان من الجهمية:
الجهمية الأولى:يقولون:إن الله في كل مكان.
الجهمية الثانية:سلبواالنقيضين؛فقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته ، فأنكروا علو الذات، وحملوا النصوص الواردة في علو الذات على علو القدر والشأن، وعلو القهر والسلطان.
(العظيم) اسم من أسماء اللهالمشتركة،مشتمل على صفة العظمة .
***
ثم ذكر سند هذه الرسالة فقال:(أخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن الحسن الأسدي أنبأنا جدي أبو القاسم الحسين بن الحسن بن محمد الأسدي أنبأنا أبو القاسم علي ابن أبي العلاء أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر أنبأنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن يحيى الدينوري قال قُرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وأنا أسمع)
قُرِأت هذه الرسالة على المؤلفأبيجعفر ابن جرير الطبري، وهذا يسمى العرض عند أهل الحديث ، والعرض هو أن يقرأ التلميذ على الشيخ وهو يسمع.
PPP
مقدمة الكتاب
الْحَمْدُ لِلَّهِ مُفْلِجِ الْحَقِّ وَنَاصِرِهِ، وَمُدْحِضِ الْبَاطِلِ وَمَاحِقِهِ، الَّذِي اخْتَارَ الْإِسْلَامَ لِنَفْسِهِ دِينًا، فَأَمَرَ بِهِ وَأَحَاطَهُ، وَتَوَكَّلَ بِحِفْظِهِ وَضَمِنَ إِظْهَارَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ رُسُلًا ابْتَعَثَهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا نَابَهُمْ فِيهِ مِنْ جَهَلَةِ خَلْقِهِ، وَامْتَحَنَهُمْ مِنَ الْمِحَنِ بِصُنُوفٍ، وَابْتَلَاهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ بِضُرُوبٍ، تَكْرِيمًا لَهُمْ غَيْرَ تَذْلِيلٍ، وَتَشْرِيفًا غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، فَكَانَ أَرْفَعَهُمْ عِنْدَهُ دَرَجَةً أَجَدُّهُمْ إِمْضَاءً مَعَ شِدَّةِ الْمِحَنِ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفًا، وَأَحْسَنُهُمْ إِنْفَاذًا لِمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مَعَ عَظِيمِ الْبَلِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أول ما ابتدأ المؤلف ابن جرير – رحمه الله –رسالته بقول:(الحمد لله) ؛ وذلك لأن الله تعالى افتتح كتابه بالحمد لله رب العالمين وهي سورة الفاتحة، وذلك باعتبار ان البسملة ليست من الفاتحة، والحمدأكمل من المدح:
فالحمد: الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه.
والمدح: أن تثني على الممدوح بصفاته، وقد تكون هذه الصفات ليست اختيارية، وإنما صفات ليس له دخل فيها.
فالإنسان فيه صفات اختيارية وفيه صفات اضطرارية،فالصفات الاضطرارية مثل كون الإنسان طويل أو قصير أو أبيض أو أحمر أو أسود، فهذه صفات اضطرارية ليس له دخل فيها.
والصفات الاختيارية مثل: الكرم والشجاعة والإيثار، وحب الخير، والإقدام وحسن الخلق.
والأسد يُمدح بأنه: قوي ومفتول الساعدين،وهذه القوة ليس له فيها اختيار، بل قد جبل عليها.
فالحمد هو: الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه ، فإذا اجتمع ثناء على صفات اختيارية مع الحب والإجلال هذا هو الحمد.
أما المدح فهو أن تُخبر وتثني بصفاته سواء كانت اختيارية أو اضطرارية،فهذا يسمى مدح، ولهذا جاء الحمد في الرب سبحانه وتعالى،فأخبر عن نفسه بالحمد، فقال: ﭽ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼالفاتحة: ٢، ولم يقل: أمدح الله رب العالمين .
و(أل) للاستغراق، فأنواع المحامد كلها مستغرقة لله فهي ملك لله ومستَحقة له؛ فمعنى (الحمد لله): أُثني على الله بصفاته، مع حبه وإجلاله وتعظيمه.
قوله: (مفلج الحق وناصره) وصف الله أنه مفلج الحق يعني: مظهر الحق.
أفلج أي:أظهر،ومنه أنه إذا اختصم شخصان وخصم أحدهما الآخر يقال : فلج أحدهما الآخر ، فلجه بمعنى: غلبه بالحجة وظهر عليه.
فمعنى (الحمد لله مفلج الحق) مُظهر الحق ، أظهره وبينه في كتبه.
وأعظم الحق استحقاق الله للعبادة ، بيّن الله في كتابه أنه مستحق العبادة وأنه معبود بالحق وغيره معبود بالباطل، كما قال الله سبحانه: ﭽ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼالحج: ٦٢.
فأعظم الحق هو عبودية الله وإظهار أنه ـ سبحانه وتعالى ـ مستحق للعبادة في كتبه وعلى ألسنة رسله.
فالحمد لله مظهر الحق وناصره، نصر الحق بأن أمر بفعل الحق.
والحق هو: ما جاء في كتاب الله، فالحق أحقه اللهوأظهره ونصر أهله وهم أهل الإيمان، وأهل التوحيد، نصر الحق الذي بيّنه في كتابه ، ونصر أهل الحق الذين عبدوه، هم وأتباعهم، فنصرهم الله على غيرهم من الكفرة والمشركين وأهل البدع.
قوله: (وَمُدْحِضِ الْبَاطِلِ وَمَاحِقِهِ) مُدحض يعني: مزيل ومبطل، دحض الشيء أزاله وأبطله وأذهبه.
والله تعالى يظهر الحق ويعليه ويؤيده وينصره ويدحض الباطل، كما قال سبحانه:ﭽ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛﭼالأنبياء: ١٨، فالله ينصر أهل الحق الموحدين والمؤمنين، ويبطل الباطل وأهل الباطل ويدمغه ويدحضه ويزيله ويذهبه.
قوله: (الَّذِي اخْتَارَ الْإِسْلَامَ لِنَفْسِهِ دِينًا)الإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة ، استسلم انقاد ، مثل: الجمل منقاد ومستسلم ، فاستسلم أي: انقاد وذل وخضع، فالمسلم خاضع لله ذليل محب لله منقاد لأوامره ، بخلاف الكافر فهو غير مستسلم ، فالكافر إما مستكبر وإما مشرك، فالناس ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مسلم مستسلم لله ومنقاد خاضع له، هؤلاء أهل الإيمان والإسلام.
القسم الثاني:مستكبر عن عبادة الله ومستنكف ، ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭼالنساء: ١٧٣
القسم الثالث: مشرك عبد الله وعبد معه غيره.
فالمستكبر والمشرك كلاهما في النار، والمستسلم هو الموحّد وهو في الجنة .
- استدراك:
قول المؤلف:(الَّذِي اخْتَارَ الْإِسْلَامَ لِنَفْسِهِ دِينًا) فيه إشكال؛ من جهة أن الدين هو ما يدين به الإنسان ربه ويعتقده ، فالله لا يدين لأحد ، الله هو المعبود بالحق ، والدين ما يدين به الإنسان ربه ويعبد به ربه ولو قال المؤلف: اختار الإسلام لعباده ديناً أو رضي الإسلام لعباده ديناً كما قال الله لكان أولى:ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆﭼالمائدة: ٣ فهو رضيه لعباده.
أو أن المؤلف قال: الدين عنده الإسلام، كما قال الله: ﭽ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽﭼآل عمران: ١٩.
وقال سبحانه:ﭽﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭼآل عمران: ٨٥وذلك في حق من يبتغي من المخلوقين، أما هو سبحانه فهو الخالق، وهو المشرّع وهو الآمر والناهي.
ويُمكن تأويل هذه العبارةبأن يكون المراد: الذي اختار الإسلام لعباده وأمرهم به، لكن الأولى أن يقول: الذي اختار الإسلام لعباده ديناً، أو الذي رضي الإسلام لعباده ديناً، كما قال الله في الآية الكريمة ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆﭼالمائدة: ٣،
قوله: (فَأَمَرَ بِهِ وَأَحَاطَهُ، وَتَوَكَّلَ بِحِفْظِهِ وَضَمِنَ إِظْهَارَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، الله تعالى أمر بالإسلام ، أمر به عباده وهذا يؤيد أن الأولى أن يقول: اختار لعباده ديناً،فقوله: (فَأَمَرَ بِهِ) أي: أمر به عباده بدل أن يقول: اختار لنفسه ديناً.
فالله أمر بالإسلام عباده وأحاطه، وتوكل بحفظ هذا الدين، فهذا الدين باق إلى قيام الساعة وهو محفوظ بحفظ مصادره، وهي الكتاب والسنة، قال الله تعالى:ﭽﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼالحجر: ٩، فالله تعالى توكل بحفظه .
والإسلام له معنيان:
المعنى العام دين الأنبياء جميعا: فالإسلام دين آدم عليه السلام ومن بعده فهو دين نوح وهود وصالح وعيسى وإبراهيم وموسى ومحمد ، دين الأنبياء جميعاً، والإسلام في زمن آدم توحيد الله، وما جاء به آدم من الشريعة،والإسلام في زمن نوح هو توحيد الله، وما جاء به نوح من الشريعة، والإسلام في زمن هود توحيد الله، وما جاء به هود من الشريعة، والإسلام في زمن إبراهيم هو توحيد الله، وما جاء به إبراهيم من الشريعة، والإسلام في زمن موسى هو توحيد الله، وما جاء به موسى من الشريعة، والإسلام في زمن عيسى هو توحيد الله، وما جاء به عيسى من الشريعة، والإسلام بعد بعثة محمد r هو توحيد الله، وما جاء به محمد من الشريعة الخاتمة.
المعنى الخاص توحيد الله والعمل بالشريعة الخاتمة: فالله تعالى حفظ هذا الدين وتكفل به، بخلاف الأمم السابقة، فحفظ القرآن وتوكل بحفظه وضمن حفظه فـبقي، أما الكتب السابقة ما تكفّل بحفظها فلهذا التوراة حُرّفت والإنجيل حُرّف ؛ لأن الله وكَل حفظه إلى علمائهم والربانيين، قال تعالى ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﭼالمائدة: ٤٤، استحفظوا : طُلب منهم أن يحفظوا التوراة فلم يحفظوها، فدخل التغيير والتبديل للتوراة، وكذلك الإنجيل حُرّف.
أما القرآن ما وكّل الله إلى الناس أو العلماء حفظه ، بل توكّل بحفظه فحفظه بنفسه، قال سبحانه:ﭽﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼالحجر: ٩فالقرآن محفوظ بحفظ الله.
وحفظ القرآن يتضمن حفظ السنة، لأن السنة وحي ثاني، وهذا يتضمن أن الحق باق والشريعة باقية، والحق لا يمكن أن يضيع في أي زمن من الأزمنة ، بل لا بد أن يبقى على الحق طائفة، كما قال الرسول r:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ»([14]).
إذن فالدين محفوظ، والقرآن محفوظ، والسنة محفوظة، ولايمكن أن يضيع الحق، ولا يمكن أن يخلو زمن من الأزمنة بألا يوجد فيه مُوحّد أبداً ؛ لأنه إذا خلا العالم من التوحيد والإيمان، قامت القيامة، و هذا يكون في آخر الزمان، بعد وجود علامات الساعات الكبرى، فتأتي ريح طيبة من اليمن تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، وفي الحديث الصحيح أنه لا يبقى أحد إلا قبضته حتى لو دخل أحدكم في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه([15]).
فلا يبقى إلا الكفرة ، والكفرة غير موحدين، فيخلو الزمان من موحّد فتقوم الساعة ، وهم في ذلك حسن رزقهم دارٌ عيشهم، يتمثلهم الشيطان ويأمرهم بعبادة الأوثان([16]) فعليهم تقوم الساعة.
وبهذا يتبين أن القرآن محفوظ، والسنة محفوظة، والشريعة محفوظة، وهذا الدين محفوظ، وأهل الإيمان والتوحيد باقون إلى قرب قيام الساعة، هذا معنى قول المؤلف: ) فَأَمَرَ بِهِ وَأَحَاطَهُ، وَتَوَكَّلَ بِحِفْظِهِ وَضَمِنَ إِظْهَارَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، كما قال الله سبحانه وتعالى ﭽ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼالتوبة: ٣٣، هذا وعد من الله ، فعلى رغم أنوف المشركين، فهذا الدين ظاهر ومنصور، كما قال العلامة ابن القيم في الكافية الشافية :
والدين ممتحن ومنصور فلا تعجب فهذه سنه الرحمن([17])
فالدين ممتحن ومنصور لكن لا بد من الإمتحان .
قوله: (ثُمَّ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ رُسُلًا): اصطفى يعني اختار سبحانه رسلا هم أفضل الناس نسباً وخَلقاً وخُلقاً وعلماً، ﭽﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭﭼ القصص: ٦٨ ، وهو عليم بالذوات التي تصلح لغرس الكرامة، كما قال سبحانه: ﭽﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﭼالحج: ٧٥، فاختار من خلقه رسلاً لحمل الرسالة ، وهو سبحانه وتعالى أعلم بأحوال عباده وما يصلحهم وعليم بمن يختار.
قوله: (ابْتَعَثَهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِهِ)، يدعون إلى الله على بصيرة، فيدعون الناس إلى توحيد الله، يأمرونهم بالتوحيد ويحذرونهم من الشرك، وأمرهم بالقيام به، وأمرهم بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمرهم بالصبر على جهلة خلقه؛ لأن الداعية لابد يصيبه أذى.
قوله: (وَالصَّبْرِ عَلَى مَا نَابَهُمْ فِيهِ مِنْ جَهَلَةِ خَلْقِهِ)والرسل هم قدوة الناس أصيبوا
بالأذى ، فنوح ـ عليه السلام ـ صبر وصابر ودعى الله، ومكث يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً قال الله تعالى عنه: ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ العنكبوت: ١٤ ، وهم يؤذونه ويسبونه ويضربونه، يقولون إنه مجنون فيقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا عدد قليل، ركبوا معه في السفينة ، قال الله عنه أنه: ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹﯺﭼ نوح: ٥ - ٩، فصبر وصابر ولم يضره، وكذلك تتابع الأنبياء والرسل، وقد عُرضوا على النبي r ليلة الإسراء قال :« عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ r وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ...»([18])
فبعض الأنبياء ما تبعه إلا الرهط من ثلاثة إلى عشرة وبعضهم ما تبعه إلا واحد
وبعضهم ما تبعه أحد، وبعضهم قُتِل، قال الله تعالى: ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ البقرة: ٨٧ . فزكريا عليه السلام قُتل ، ويحيى عليه السلام قُتل ولم يضرهم ذلك؛ لأنهم أدوا ما عليهم وبلغوا رسالات ربهم.
ونبينا محمد ـﷺ ـ حصل له من الأذى الشيء الكثير، فوضع سلا الجزور على ظهره وهو ساجد([19]) ، وخنقه أبو جهل حتى كاد أن يقتله، حتى جاء أبو بكر فأزال يديه و قال رضي الله عنه: أتقتل رجلاً قال ربي الله ؟([20])، وتآمروا على قتله([21]).
ثم أمره ربه عز وجل بالهجرة، وحصل عليه صنوف من الأذى من المنافقين واليهود ، آذوه وتكلموا فيه, وقيل له:اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ([22])!!إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله([23])، ولما أخبره ابن مسعود عما قيل احمرّ وجهه حتى كان كالصرب، ثم قال : «.... رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»([24])، وفي يوم أحد جُرح عليه ـ الصلاة والسلام ـ وكسرت رباعيته وجرحت وجنتاه ([25])،وسقط في حفره ، وصاح الشيطان إن محمد قد قتل([26]).
فلا بد من الصبر على الأذى؛لأن الداعية يقف ضد رغبات الناس ويمنعهم من
أهوائهم وشهواتهم، فلابد يأذوه بقول أو بفعل فإذا لم يصبر انقطع، فالله تعالى يسلّي نبيه r فيقول سبحانه: ﭽﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﭼالأحقاف: ٣٥، وقال: ﭽ ﯩ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﭼآل عمران: ١٢٠، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فالإمامة في الدين تنال بأمرين:
الأمر الأول: الصبر.
الأمر الثاني: اليقين.
والله تعالى بيّن صفات المؤمنين فقال: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭼالعصر: ١ - ٣، لابد من الصبر ولهذا أمرهم بالقيام به، والصبر على ما أصابهم فيه من جهلة خلقه، وامتحنهم من المحن بصنوف وألوان، وما ذاك لهوانهم عليه ، بل لكرامتهم عليه ليعلي شأنهم ويرفع درجتهم، ويعظم أجرهم، ويجعلهم قدوة للناس وأسوة ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﭼالأحزاب: ٢١،
قوله: (وَامْتَحَنَهُمْ مِنَ الْمِحَنِ بِصُنُوفٍ، وَابْتَلَاهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ بِضُرُوبٍ) يعني: أنواع فالرسل وهم أشرف الخلق، ابتلوا بصنوف وضروب وأنواع من البلاء و المحن، هل هذا لهوانهم على الله ؟
الجواب: لا؛ بل كمال قال المؤلف: (تَكْرِيمًا لَهُمْ غَيْرَ تَذْلِيلٍ، وَتَشْرِيفًا غَيْرَ تَخْسِيرٍ)، فهو كرامة لهم؛ لأن العاقبة تكون حميدة، وفي أول الأمر تكون الشدة، والعاقبة حميدة، (تَكْرِيمًا لَهُمْ غَيْرَ تَذْلِيلٍ) فيرفع الله درجتهم ويعلي شأنهم، وليكونوا قدوة وأسوة.
(وَتَشْرِيفًا غَيْرَ تَخْسِيرٍ) فهذا تشريف لهم ليس خسارة، قال تعالى: ﭽ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﰑﭼالأنعام: ١٦٥، الرسل يتفاوتون قال الله تعالى:ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭼالبقرة: ٢٥٣، قال سبحانه: ﭽ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍﰎﰏﰐﰑﭼ الأنعام: ١٦٥.
قوله: (فَكَانَ أَرْفَعَهُمْ عِنْدَهُ دَرَجَةً أَجَدُّهُمْ إِمْضَاءً)وإنفاذاً للحق، ومسارعة إليه وتنفيذا له،(مَعَ شِدَّةِ الْمِحَنِ) فأرفعهم درجة الذي يمضي في الحق، ويجدّ في طلبه وفعله، ويسارع في تنفيذه، مع شدة المحن والبلاء والمصائب، ويصبر على الشدة والألم وما يكرهه ويمضي في سبيله، ويصبر ويصابر ولا يتأخر، ولهذا لما أقبل المشركون في غزوه أحد جمع النبي r الصحابة رضوان الله عليهم، وشاورهم وقال: "هل نقاتلهم في المدينة،أو نخرج إليهم؟" فاختلف الناس، فبعضهم قال : نبقى في المدينة نقاتلهم ونحتمي، وبعضهم قال: نخرج إليهم، فكأن الذين قالوا نخرج كانوا أكثر، فأخذ r بقولهم ودخل لابسا لَأْمَتَه، فقال بعضهم: لعلنا أكرهنا رسول الله، وقالوا: يا رسول الله لو قاتلناهم في المدينة، فقال r: "ما كان لنبي لبس لأمة الحرب أن يتأخر حتى يحكم الله بينه وبين عدوه"، ثم خرج ـ عليه الصلاة السلام ـ ، فهذا من الإمضاء في المحن.
قوله: (وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفًا، وَأَحْسَنُهُمْ إِنْفَاذًا لِمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مَعَ عَظِيمِ الْبَلِيَّةِ) أقربهم إليه زلفى يعني: مكانة.
كأن حذف الواو أولى فيكون: أقربهم إليه زلفى أحسنهم إنفاذاً لما أرسله به مع عظيم البلية، فأقربهم إلى الله مكانه أحسنهم تنفيذاً لما أمره به ربه، ولما أرسله به ربه مع عظيم البلية.
وأولو العزم الخمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، لهم القِدْحُ المعلى، وهم أفضل الناس ولهم المكانة العالية، فهم أقرب الناس زلفى.
وأفضل أولي العزم: الخليلان؛ إبراهيم ومحمد، وأفضل الخليلين: إمامنا ونبينا محمد r.
فأفضل الناس: نبينا محمد r، ثم يليه: جده إبراهيم، ثم يليه: موسى الكليم، ثم بقية أولو العزم: عيسى ونوح، ثم بقية الرسل ثم بقية الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء ثم الصالحون المؤمنون الأمثل فالأمثل.
PPP
حث الرسول r وأتباعه على الصبر
يقول الله عز وجل في محكم كتابه لنبيه r:ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ الأحقاف: ٣٥، وقال له ﷺولأتباعه رضوان الله عليهم:ﭽﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ البقرة: ٢١٤وقال:ﭽﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﭼ الأحزاب: ٩ – ١٢،وقال تعالى ذكره:ﭽﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ العنكبوت: ٢ – ٣.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الآيات أمر الله فيها بالصبر والتحمل، والله تعالى وجه الخطاب إلى نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو خطاب له ولأمته وللدعاة من بعده قال ـ سبحانه ـ :
ﭽﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﭼالأحقاف: ٣٥، هذه تسلية للنبي r وأَمْرٌ له بالاقتداء بأولي العزم، وألو العزم خمسة وهم المذكورون في آيتين :
- في آية الأحزاب:ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭼالأحزاب: ٧.
- والآية الثانية في سورة الشورى ﭽ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ الشورى: ١٣، هؤلاء أولو العزم الخمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ والله تعالى يأمر نبيه بأن يتأسى بأولي العزم قال: ﭽﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﭼالأحقاف: ٣٥، وقال له ولأتباعه رضوان الله عليهم :ﭽ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﭼ البقرة: ٢١٤، فالله تعالى يبين أنه لابد من الابتلاء والامتحان ﭽﯔﯕﯖﯗﯘﭼ بدون امتحان وابتلاء؟ﭽ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﭼﯠ، ماذاحصل لهم؟؟ ﭽﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮﭼفمن شدة البلاء والامتحان استبطؤوا النصر، قال الله: ﭽﯯﯰﯱﯲﯳﭼالبقرة: ٢١٤، وكما في قوله تعالى: ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﭼيوسف: ١١٠،وفيها قراءتان:
القراءة الأولى: بالتشديد، أي: كُذّبوا من قبل إتباعهم.
القراءة الثانية: بالتخفيف - كما هي قراءة حفص- أي:كُذِبوامن قبل أنفسهم.
وأصح ما قيل في معنى الآية :ﭽﯖﯗﯘﯙﭼأي:استبطؤوا النصر من شده البلاء، وظنوا أنهم قد كُذِبوا من قبل أنفسهم ،وذلك من شدة المحن وصنوف البلاء، فالمعنى أنهم ظنوا أنهم قد كُذِبوا من قبل أنفسهم لا من قبل الله؛لأنهم استبطؤوا النصر، ولهذا أنكرت عائشة ذلك لما سألها عروة, فقالت:"معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها" أخرجه البخاري([27])
وقال الله تعالى:ﭽﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭼالأحزاب: ٩ وهذه الآية نزلت في غزوة الأحزاب ﭽﭵ ﭶ ﭷﭼوهم المشركون، والأحزاب الذين تحزبوا وتجمعوا على حرب النبي r والمسلمين، وأحاطوا بالمدينة، أبو سفيان ومن معه من القبائل الذين اجتمعوا فقال الله:ﭽﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭼالأحزاب: ٩، وهم: الملائكة تحزبوا حتى همّ النبيﷺ أن يصالحهم على ثلثي ثمار المدينة فأبى ذلك السعدان([28])
فـالله تعالى أرسل عليهم ريحا تقلعهم وتقلع خيامهم وتزلزلهم وتلقي في قلوبهم الرعب ، وأرسل عليهم جنودا لم يروها وهم: الملائكة، حتى انقلبوا خائبين.
قال الله مبيناالشدة التي إصابتهم: ﭽ ﮅ ﮆ ﭼ أي: الأحزاب ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ا لأبصار ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﭼالأحزاب: ١٠ - ١1 فأصابتهم شدة عظيمة وخوف عظيم، بعد ذلك جاء الفرج بعد الشدة،فالمنافقون قالوا: ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﭼالأحزاب: ١٢، أما المؤمنون فقالوا:ﭽ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒﰓﭼالأحزاب: ٢٢.
ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ العنكبوت: ٢ – ٣.
بيّن سبحانه أنه لابد من الفتنة ، والفتنة هي الاختبار والامتحان ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼأي: بدون افتتان، فلا بد من الافتتان، وبعد الفتنة والاختبار والامتحان تظهر النتيجة ، فإذا خرج من الامتحان سليماً معافى دلّ على تقواه، مثل الذهب الذي يُحمى على النار فهذا يُسمى فتنة ، فعندئذ يزول الزغل والزيف الذي لصق بالذهب، ويخرج صافيا نقيا خالصا ليس فيه غش. فكذلك الإنسان يُمتحن فالمؤمن يظهر إيمانه فيخلص ويصفو ويقوى إيمانه.
وبعض الناس ضعيف الإيمان فيرتدّ عن دينه إذا جاءت الفتنة فلا يصبر على البلاء، قال تعالى : ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﭼالحج: ١١، فليس كل الناس يقوى عند الفتنة إيمانه، قال تعالى: ﭽﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼالعنكبوت: ٣، فالنتيجة بعد الفتنة أن يتبين الصادق من الكاذب ، الصادق في إيمانه وهو المؤمن: الذي تُطابق أقواله أفعاله، وتُصَدِّقُ أفعالُه ما يدعيه وما يقوله وما يعتقده، والكاذب ضدّ ذلك.
فبين سبحانه أنه لابد من الابتلاء والامتحان، ولابد من الصبر والتحمل، وهذه هي سبيل الرسل وأتباعهم.
وليس طريق الدعوة إلى الله مفروش بالورود؛ إذ لو كان مفروشاً بالورود لدخل فيه كل أحد ؛ لكن أمامه عقبات ونكبات ومحن وبلاء وأذيّة، فيمتحن في نفسه وماله وأهله وولده، وعليه أن يصبر.
فقد امتحن الأنبياء والرسل،فهذا إبراهيم ـ عليه السلام ـ امتحنه الله:
1- فأُلقي في النار، وصبر.
2- وامتحن بذبح ولده فنفذ أمر الله، فماذا كانت النتيجة بعد الابتلاء والامتحان؟ صار إماماً: ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﭼ البقرة: ١٢٤.
وكذلك الأئمة والصالحون، كالإمام أحمد بن حنبل فقد امتحن في فتنة في القول بخلق القرآن ، وأوذي وسُحب وضُرب حتى أغمي عليه وصبر وصابر حتى أظهر الله الحق على يديه، فماذا كانت النتيجة؟ صار إماما.
فالإمام أحمد صار إماما بعد الامتحان والابتلاء، وأصبح إمامَ أهل السنة والجماعة، بعد الصبر على الحبس والضرب والإيذاء، فصبر، وكان له رخصة، لكن لم يتأول خشية أن يُضل الناس.
PPP
الرسل وأتباعهم معرضون للمحن
فَلَمْ يُخْلِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَحَدًا مِنْ مُكْرَمِي رُسُلِهِ، وَمُقَرَّبِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ مِحْنَةٍ فِي عَاجِلَةٍ دُونَ آجِلَةٍ؛ لِيَسْتَوْجِبَ بِصَبْرِهِ عَلَيْهَا مِنْ رَبِّهِ مِنَ الْكَرَامَةِ مَا أَعَدَّ لَهُ، وَمِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْهِ مَا كَتَبَهُ لَهُ، ثُمَّ جَعَلَ تَعَالَى، جَلَّ وَعَلَا ذِكْرُهُ، عُلَمَاءَ كُلِّ أُمَّةِ نَبِيٍّ ابْتَعَثَهُ مِنْهُمْ وُرَّاثَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَالْقُوَّامَ بِالدِّينِ بَعْدَ اخْتِرَامِهِ إِلَيْهِ وَقَبْضِهِ، الذَّابِّينَ عَنْ عُرَاهُ وَأَسْبَابِهِ، وَالْحَامِينَ عَنْ أَعْلَامِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَالنَّاصِبِينَ دُونَهُ لِمَنْ بَغَاهُ وَحَادَّهُ، الدَّافِعِينَ عَنْهُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَضَلَالَهُ.
فَضَّلَهُمْ بِشَرَفِ الْعِلْمِ، وَكَرَّمَهُمْ بِوَقَارِ الْحِلْمِ، وَجَعَلَهُمْ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ أَعْلَامًا، وَلِلْإِسْلَامِ وَالْهُدَى مَنَارًا، وَلِلْخَلْقِ قَادَةً، وَلِلْعِبَادِ أَئِمَّةً وَسَادَةً، إِلَيْهِمْ مَفْزَعُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَبِهِمُ اسْتِغَاثَتُهُمْ عِنْدَ النَّائِبَةِ، لَا يُثْنِيهُمْ عِنْدَ التَّعَطُّفِ وَالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِمْ سُوءُ مَا هَمَّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُوَلُّونَ، وَلَا تَصُدُّهُمْ عَنِ الرِّقَّةِ عَلَيْهِمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ قُبْحُ مَا إِلَيْهِ، مَا يَأْتُونَ مُحَرَّمًا مَنَعَهُمْ طَلَبُ جَزِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَتَوَخِّيًا طَلَبَ رِضَا اللَّهِ فِي الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول المؤلف رحمه الله:(فَلَمْ يُخْلِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَحَدًا مِنْ مُكْرَمِي رُسُلِهِ، وَمُقَرَّبِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ مِحْنَةٍ)المعنى أن الأنبياء والرسل وليس هناك من الرسل الذين كرمهم اللع إلا امتحن، والأولياء بعدهم كلهم امتحنوا، فلا أحد يسلم من المحنة، إذ سنة الله الامتحان للرسل والأنبياء والأولياء المقربيين.
وقوله: (فِي عَاجِلَةٍ دُونَ آجِلَةٍ) يعني: ما خلا أحد منهم إلا وأصابه محنة ، والرسل مكرمون وهم أفضل الناس، ثم المقربون من الأولياء، وكل واحد منهم امتحن في عاجلة دون آجلة ، لماذا امتحنه الله ؟
قال المؤلف رحمه الله: (لِيَسْتَوْجِبَ بِصَبْرِهِ عَلَيْهَا مِنْ رَبِّهِ مِنَ الْكَرَامَةِ مَا أَعَدَّ لَهُ) هذه الحكمة في الابتلاء أنه إذا صبر نال المنزلة العظيمة، والكرامة التي أعدها الله له، ولهذا الأنبياء أرفع الناس منزلة في الجنة؛ فالنبي r له الوسيلة وهي أعلى بيت ومنزله في الجنة، وسقفها عرش الرحمن، لذلك أُمِرْنا بعد الأذان أن نقول:"اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ "([29])
بعض العامة يزيد يقول: (آت محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة ، والدرجة الرفيعة) وهذه الزيادة ما وردت.
كما أن بعض العامة ـ وهذا من باب الفائدة ـ يزيد في الإستفتاح يقول:«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ»([30]) فيقول: (ولا معبود سواك). وهذا غلط؛ فإن "لا إله غيرك" هي نفسها (لا معبود سواك)، الإله هو المعبود والزيادة لا أصل لها.
قوله: (ثُمَّ جَعَلَ تَعَالَى، جَلَّ وَعَلَا ذِكْرُهُ، عُلَمَاءَ كُلِّ أُمَّةِ نَبِيٍّ ابْتَعَثَهُمِنْهُمْ وُرَّاثَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَالْقُوَّامَ بِالدِّينِ بَعْدَ اخْتِرَامِهِ إِلَيْهِ وَقَبْضِهِ) جعل الله سبحانه في كل أمة علماء يرثون الأنبياء، كل نبي يرثه العلماء من بعده، ويقومون بالدعوة ويحملونها.
وقوله: (الذَّابِّينَ عَنْ عُرَاهُ وَأَسْبَابِهِ، وَالْحَامِينَ عَنْ أَعْلَامِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَالنَّاصِبِينَ دُونَهُ لِمَنْ بَغَاهُ وَحَادَّهُ، الدَّافِعِينَ عَنْهُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَضَلَالَهُ) العلماء بعد الأنبياء هم الذين يرثون علم الأنبياء ، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، ولهذا في الحديث :«....وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»([31]).
فالعلماء ورّاث الأنبياء وهم الذينيقومون بالدين بعد موتهم ، وهم الذين يذبون عن الدين ويحمونه ويدافعون عنه وينصبون العداوة لمن عادى وطعن وبغى على هذا الدين ، ويدفعون كيد الشيطان وضلاله.
وقوله: (فَضَّلَهُمْ بِشَرَفِ الْعِلْمِ، وَكَرَّمَهُمْ بِوَقَارِ الْحِلْمِ) هذا من تفضيل الله فهم شرفوا بالعلم.
وقوله: (وَجَعَلَهُمْ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ أَعْلَامًا، وَلِلْإِسْلَامِ وَالْهُدَى مَنَارًا) يعني: جعلهم أُسوة للناس كالأعلام، والأعلام هي الجبال يراها كل أحد.
وقوله: (وَلِلْخَلْقِ قَادَةًوَلِلْعِبَادِ أَئِمَّةً وَسَادَةً)أي: يقودون الناس للحق، سادة للناس، وأئمة يقتدى بهم.
وقوله: (إِلَيْهِمْ مَفْزَعُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ) أي: عندمايحصل للناس حاجة فإنهم يفزعون إلى أهل العلم ليقضون حاجاتهم.
وقوله: (وَبِهِمُ اسْتِغَاثَتُهُمْ عِنْدَ النَّائِبَةِ) الإستغاثة هي: دعاء الملهوف والمكروب، والاستغاثة بالحي الحاضر لا بأس بها كاستغاثة الغريق عندما يقول للسباح: أغثني، فلا بأس به، إنما الممنوع: الإستغاثة بالميت أو بالغائب.
والمعنى أنهم يستغيثون بالعلماء في قضاء حوائجهم التي يقدرون عليها، وليس المراد الاستغاثة بهم بعد الموت. أو فيما لا يقدرون عليه.
وقوله: (لَا يُثْنِيهُمْ عِنْدَ التَّعَطُّفِ وَالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِمْ سُوءُ مَا هَمَّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُوَلُّونَ) يعني: كونهم يحنّون عليهم بقلوبهم، ويعطفون عليهم، لا يثنيهم عن هذا سوء ما هم في أنفسهم يولون، أي: إذا كان الناس يعلمون من أنفسهم ما يعملون من السيئات والأعمال، لا يمنعهم هذا من كونهم يسألون العلماء، ويطلبون عطفهم والتحنن عليهم.
وقوله: (وَلَا تَصُدُّهُمْ عَنِ الرِّقَّةِ عَلَيْهِمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ قُبْحُ مَا إِلَيْهِ، مَا يَأْتُونَ ُمحَرَّمًا) يعني: هؤلاء الناس وإن كان بعضهم يعمل المحرمات، لا يمنع من كونهم يلجأون لأهل العلم، ويطلبون منهم الرأفة والرحمة، وحل المشاكل وقضاء الحوائج.
وقوله: (مَنَعَهُمْ طَلَبُ جَزِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَتَوَخِّيًا طَلَبَ رِضَا اللَّهِ فِي الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِمْ) وذلك لأن العلماء يحتسبون ذلك عند الله، ويطلبون جزيل الثواب عند الله، ويتوخون رضى الله فيما يأخذونه ويأتونه مما يكون لهم فضل على عباد الله.
PPP
تكريم الله للأنبياء وأتباعهم
ثُمَّ جَعَلَ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَذِكْرُهُ، عُلَمَاءَ أُمَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَفْضَلِ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهَا فِيمَا كَانَ؛ قَسَمَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ وَالْمَرَاتِبِ وَالْكَرَامَاتِ فَشَمِلَ، وَأَجْزَلَ لَهُمْ فِيهِ حَظًّا وَنَصِيبًا، مَعَ ابْتِلَاءِ اللَّهِ أَفَاضِلَهَا بِمَنَافِعِهَا، وَامْتَحَانِهِ خِيَارَهَا بِشِرَارِهَا، وَرُفَعَائِهَا بِسِفْلِهَا وَضُعَاتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ يُثْنِيهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مِنْهُمْ يُبْتَلُونَ، وَلَا كَانَ يَصُدُّهُمْ مَا فِي اللَّهِ مِنْهُمْ يَلْقَوْنَ عَنِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِمْ، بَلْ كَانُوا بِعِلْمِهِمْ عَلَى جَهْلِهِمْ يَعُودُونَ، وَبِحِلْمِهِمْ لِسَفَهِهِمْ يَتَعَمَّدُونَ، وَبِفَضْلِهِمْ عَلَى نَقْصِهِمْ يَأْخُذُونَ، بَلْ كَانَ لَا يَرْضَى كَبِيرٌ مِنْهُمْ مَا أَزْلَفَهُ لِنَفْسِهِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ فَضْلٍ ذَلِكَ أَيَّامَ حَيَاتِهِ وَادَّخَرَ مِنْهُ مِنْ كَرِيمِ الذَّخَائِرِ لَدَيْهِ قَبْلَ مَمَاتِهِ، حَتَّى تَبْقَى لِمَنْ بَعْدَهُ آثَارًا عَلَى الْأَيَّامِ بَاقِيَةً، وَلَهُمْ إِلَى الرَّشَادِ هَادِيَةً، جَزَاهُمُ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِمْ أَفْضَلَ مَا جَزَى عَالِمَ أُمَّةٍ عَنْهُمْ، وَحَبَاهُمْ مِنَ الثَّوَابِ أَجْزَلَ ثَوَابٍ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ قَسَمَ لَهُ مِنْ صَالِحِ مَا قَسَمَ لَهُمْ، وَأَلْحَقَنَا بِمَنَازِلِهِمْ، وَكَرَّمَنَا بِحُبِّهِمْ وَمَعْرِفَةِ حُقُوقِهِمْ، وَأَعَاذَنَا وَالْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا مِنْ مُرْدِيَاتِ الْأَهْوَاءِ، وَمُضِلَّاتِ الْآرَاءِ، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثُمَّ جَعَلَ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَذِكْرُهُ، عُلَمَاءَ أُمَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَفْضَلِ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهَا) لما كان العلماء ورثة الأنبياء،فعلماء هذه الأمة بالخصوص أفضل من علماء الأمم التي خلت.
وقوله: (قَسَمَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ وَالْمَرَاتِبِ وَالْكَرَامَاتِ فَشَمِلَ، وَأَجْزَلَ لَهُمْ فِيهِ حَظًّا وَنَصِيبًا) منازلهم وكراماتهم أفضل الكرامات ، قسم لهم أفضل ما يقسمه لعباده المؤمنين، وجعل لهم من الأجر والفضل حظا كبيرا ونصيباً، مع أن الله ابتلى الأخيار بالأشرار، والمؤمنين بالكفار، وابتلى الأفاضل بالمنافقين. ولهذا قال: (مَعَ ابْتِلَاءِ اللَّهِ أَفَاضِلَهَا بِمَنَافِعِهَا، وَامْتَحَانِهِ خِيَارَهَا بِشِرَارِهَا، وَرُفَعَائِهَا بِسِفْلِهَا وَضُعَاتِهَا) فالله تعالى ابتلى وله الحكمة، لكن هذا ما يثنيهم، وذلك لا يصدهم عن دعوتهم إلى الله، وإسداء الخير للناس والنصح ، ولهذا قال المؤلف: (وَلَا كَانَ يَصُدُّهُمْ مَا فِي اللَّهِ مِنْهُمْ يَلْقَوْنَ عَنِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِم) فهذا الابتلاء والامتحان لا يمنعهم من النصيحة لعباد الله؛ لأنهم يعملون بعلمهم ويتحملون الجاهل، ويتفضلون على الناقص(وَبِحِلْمِهِمْ لِسَفَهِهِمْ يَتَعَمَّدُونَ) يحلمون على الجاهل والسفيه، ويعلمون الجاهل ويتفضلون على الناقص، ولهذا قال المؤلف: (وَبِفَضْلِهِمْ عَلَى نَقْصِهِمْ يَأْخُذُونَ، بَلْ كَانَ لَا يَرْضَى كَبِيرٌ مِنْهُمْ مَا أَزْلَفَهُ لِنَفْسِهِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ فَضْلٍ ذَلِكَ أَيَّامَ حَيَاتِهِ وَادَّخَرَ مِنْهُ مِنْ كَرِيمِ الذَّخَائِرِ لَدَيْهِ قَبْلَ مَمَاتِه) يعني: الكبير والعالم لا يثنيه ما أعد الله له من الكرامة،فما يثنيه ذلك عن الإفضال على عباد الله في أيام حياته، وكذلك لا يثنيه ما ادخر الله له من ذخائر حتى يبقى له أثر على من بعده في تعليم ونصح وتحمل الناس وإطعام جائعهم ، كل هذه آثار باقية، ولهم إلى الرشاد هادية.
وقوله: (جَزَاهُمُ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِمْ أَفْضَلَ مَا جَزَى عَالِمَ أُمَّةٍ عَنْهُمْ) هذا دعاء لهم ، يدعوا لهم بأن يجازيهم الله بأفضل الجزاء ، وحباهم من الثواب أجزل ثواب، وجعلنا ممن قسم له من صالح ما قسم لهم ،يعني جعلنا منهم واشركنا معهم، وقسم لنا نصيباً مما قسم لهم ، وألحقنا بمنازلهم وكرمنا بحبهم ومعرفة حقوقهم،وأعاذنا والمسلمين جميعاً من مرديات الأهواء ومضلات الآراء(مُرْدِيَاتِ الْأَهْوَاءِ) يعني: البدع التي تردي الإنسان، والآراء التي تضله إنه سميع الدعاء .
([1]) تاريخ بغداد ج2/535، لأبي بكر أحمد بن على الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ .
([2]) طبقات الشافعية الكبرى ج3/125، لتاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي المتوقى سنة 771هـ .
([3]) سير أعلام النبلاء ج11/171، للإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قيماز الذهبي المتوفى سنة 758 هـ .
([4]) انظر: سير أعلام النبلاء ج11/170.
([5]) روى مسلم في كتاب فضائل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ باب من فضائل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، رقم (2408) عن زيد بن أرقم قال: قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺيَوْمًا فِينَا خَطِيبًا، بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ " فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي»... الحديث
([6]) متفق عليه البخاري في كتاب تفسير القرآن ، باب (قل يا أهل الكتاب...) رقم (4553) ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام ، رقم (1773).
([7]) رواه ابن جرير في تفسيره ج1/123، قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على هذا الأثر في التفسير المذكور: إسنادهذاالخبرضعيف، قال : ونقلهابنكثيرفيالتفسير 1: 30 عنهذاالموضعمنالطبري،وقال: "وهذاالأثرغريب! وإنماذكرناهليعرف،فإنفيإسنادهضعفًاوانقطاعًا. ا. هـ تفسير ابن جرير ج1/113
([8])روى الطبراني في الكبير ج20/154عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ﷺ قال له:يَا مُعَاذُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ؟ فَلَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِنَ الدِّينِ مِثْلُ جَبَلِ صَبِرٍ أَدَّاهُ اللهُ عَنْكَ - وَصَبِرٌ جَبَلٌ بِالْيَمَنِ - فَادْعُ بِهِ يَا مُعَاذُ قُلِ: اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكِ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمَا، وتَمْنَعُ مَنْ تَشَاءُ، ارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِيني بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ "
([9]) ذكره البخاري في كتاب التفسير ، باب قوله تعالى: ( إن تبدوا شيئا أو تخفوه...) بين رقمي (4796،4797).
([10]) أخرجه عن أبي سعيد الخدري الترمذي في كتاب أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، رقم (3148)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، رقم (4308)، والإمام أحمد ج17/10، رقم (10987).وصححه الألباني.
([11]) متفق عليه، البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، رقم (6384)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، رقم (2704). واللفظ للبخاري.
([12])انظر: صحيح مسلم ، كتاب الصلاة، باب القول مثل القول المؤذن لمن سمعه.... رقم (385)
([13]) نونية ابن القيم ص75
([14]) متفق عليه من حديث معاوية البخاري في كتاب المناقب، باب بدون عنوان ، برقم (3641)، ومسلم في كتاب الإمارة ، باب قول ﷺ: لا تزال طائقة... رقم (1037)، وللفظ له.
([15]) أخرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب خروج الدجال، رقم (2940) وفيه أن الريح تخرج من قبل الشام وهو كذلك في مسند الإمام أحمد ج2/166
([16]) جزء من الحديث السابق في مسلم
([17]) نونية ابن القيم ص17، ونص البيت في نونية ابن القيم ، والمعروقة بالشافية الكافية:
والحق منصور وممتحن فلا ... تعجب فهذي سنة الرحمن.
([18]) متفق عليه من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ البخاري في كتاب الطب، باب من أكتوى أو كوى غيره...رقم (5705)، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب الدليل عل دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، رقم (220)، واللفظ له.
([19]) انظر البخاري ، كتاب الطهارة، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر..... رقم (240).
([20])انظر البخاري كتاب المناقب ، باب قول النبي ﷺ لو كنت متخذا خليلا.... رقم (3678).
([21]) انظر دلائل النبوة للبيهقي ج2/468.
([22]) حديث: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟» أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه عن جابر بن عبد الله، في الإيمان وفضائل الصحابة، باب في ذكر الخوارج، رقم (172)، وهو في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، بغيرهذ اللفظ.
([23]) هذا من حديث ابن مسعود الآتي تخريجه.
([24]) حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وما قيل أثناء تقسيم الغنائم يوم حنين، متفق عليه أخرجه البخاري في أكثر من موضع منها: في كتاب فرض الخمس ، باب ما كان النبي ﷺ يعطي المؤلفة قلوبهم...رقم (3150) ومسلم في كتاب الكسوف، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام...رقم(1062).
([25]) أنظر البخاري كتاب الجهاد والسير، باب لبس البيضة، رقم (2911)، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، رقم(1790).
([26]) انظر مسند الإمام أحمد ج1/287، مستدرك الحاكم ج2/324. غيرهما
([27]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) حديث رقم (3389).
([28]) السعدان هما: سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة سيد الخزرج، وسعد بن معاذ بن النعمان الأوسي سيد الأوس ـرضي الله عنهما. انظر ترجمة لهما، اسد الغابة ج2/441، 461.
([29]) أخرجه البخاري من حديث جابر بن عبد الله ، في كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، رقم (614)
([30]) أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري ، أبوداود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح ب(سبحانك اللهم وبحمدك، رقم (775)، والترمذي في كتاب أبواب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، رقم (242)، وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب افتتاح الصلاة، رقم (804)، والنسائي في كتاب الافتتاح، باب نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة والقراءة، رقم (900).وصححه الألباني.
([31]) أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء في كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم(3641)، والترمذي في كتاب أبواب العلم، باب ماجاء في فضل الفقه على العبادة، رقم (2682)، وابن ماجه في كتاب في الإيمان وفضائل الصحالة، رقم (223)،والإمام أحمد ج36/46، رقم (21715).قال في التلخيص الحبير ط العلمية 3 / 357 :حديث "العلماء ورثة الأنبياء" 1 أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان عن حديث أبي الدرداء وضعفه الدارقطني في العلل وهو مضطرب الإسناد قاله المنذري وقد ذكره البخاري في صحيحه بغير إسناد.