بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: ...
(المتن)
قال الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى أجمعين:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا، ونصب الأدلة على صحته وبينها تبيينًا، وأعان من أراد هدايته على طاعته، وكفى بربك هاديًا ومعينًا.
(الشرح)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فهذه الرسالة ابتدأها الشيخ العلامة رحمه الله، قال: (بسم الله الرحمن الرحيم) كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبتدئ كتبه ورسائله بالبسملة. (بسم الله الرحمن الرحيم) الباء للاستعانة، يستعين باسم الله، (بسم الله الرحمن الرحيم) بركة واستعانة، تُكتب في مقدمة الرسائل، وتستفتح بها المواعظ والخطب، فلهذا فإن الشيخ العلامة رحمه الله استفتح الرسالة بقوله: (بسم الله الرحمن) يعني: أستعين بالله.
و(بسم الله) جار ومجرور متعلق بمحذوف يناسب المقام، والمعنى: باسم الله أؤلف، أو باسم الله أكتب، والجار والمجرور متعلق بمحذوف يناسب المقام، فالذي يأكل يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، التقدير: باسم الله آكل، والذي يدخل المسجد بسم الله أدخل، والذي يؤلف بسم الله أؤلف، والذي يقرأ بسم الله أقرأ، يستعين بالله، هنا: بسم الله أؤلف وأكتب.
ولفظ الجلالة أعرف المعارف، لا يسمى به غير الله سبحانه وتعالى، والله اسم الإله، حذفت الهمزة، والتقى اللام، لام الكلمة، واللام الزائدة في الله، والله له الألوهية والعبودية على الخلق أجمعين، الله هو المألوه، إله بمعنى المألوه، والذي تألهه القلوب محبةً وإجلالًا، وتعظيمًا وخوفًا ورجاءً.
الرحمن والرحيم: اسمان من أسماء الله عز وجل، وأسماء الله مشتقة، مشتملة على صفات، والرحمن والرحيم مشتملان على صفة الرحمة، (...) والرحمن عام، والرحيم خاص بالمؤمنين قال: (ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ)[الأحزاب/ 43]؛ ولهذا قال: رحمن الدنيا والآخرة رحيمهما، والرحمن من أسماء الله التي لا يسمى بها غيره، والرحيم مشترك.
- لأن أسماء الله نوعان:
النوع الأول: نوع لا يسمى به إلا هو: الله، الرحمن، ذو الجلال والإكرام، المانع، المعطي، الخافض، الرافع، النافع، الضار، ذو الجلال والإكرام، مالك الملك، رب العالمين، الإله.
النوع الثاني: وهناك أسماء مشتركة بين الخالق والمخلوق، فإذا سمي بها الله؛ كان له ما يليق به من الكمال، وإذا سمي بها المخلوق؛ كان له ما يليق به، مثل: الرحيم، والعزيز، والحي، والسميع، والبصير، والسيد، وغيرها من الأسماء.
والرحمن من الأسماء الخاصة بالله، والرحيم من الأسماء المشتركة.
ثم قال: (وبه نستعين)؛ به: يعني بالله، نستعين: نطلب العون، (به نستعين)؛ يعني: نسأله العون، والاستعانة هو التوكل على الله، التوكل والاعتماد عليه في طلب الإعانة.
(ولا حول ولا قوة إلا بالله) يعني: لا نتحول من حال إلى حال إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، كما ثبت في حديث أبي موسى الأشعري، أتى إلى النبي وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟، قلت: بلى يا رسول الله، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله»، ومعنى: (لا حول)؛ يعني: لا تحول من حال إلى حال، فلا يستطيع الإنسان أن يتحول من حال إلى حال إلا بمعونة الله.
فيتحول من المرض إلى الصحة أو من الشر إلى الخير أو من المعصية إلى الطاعة إلا بالله. (لا حول ولا قوة) يعني: لا قوة لي يا الله على التحول من حال إلى حال إلا بك؛ فلهذا شُرع للمسلم إذا سمع الأذان أن يتابع المؤذن ويقول مثلما يقول، إذا قال: الله أكبر؛ قال: الله أكبر، وإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله؛ قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، إلا في الحيعلتين؛ إذا قال: حي على الصلاة؛ تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح؛ تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
الأذان يقول: حي على الصلاة، أي: أقبل على الصلاة، فأنت شُرِع لك أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ يعني: لا أستطيع أن أجيب المؤذن وأؤدي الصلاة إلا بمعونتك وإعانتك، لا حول ولا قوة إلا بالله، حي على الفلاح كذلك، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال المؤلف: (الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا) سبق معنا الحمد، وهو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه، تثني على المحمود بصفاته الاختيارية، والله هو المحمود؛ لما له من الصفات العظيمة، ولما له من النعم على عباده، إنه ينعم على عباده: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [النحل/53] و(ال) للاستغراق، والمعنى: المحامد كلها لله، ممكنة استحقاقًا، الحمد لله، والحمد أكمل من المدح؛ المدح وصف الإنسان بصفاته، وصف الشيء بصفاته، قد تكون هذه الصفات ليست اختياريةً، أما الحمد فهو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية وحبه وإجلاله وتعظيمه.
(الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا) الإسلام: هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك, ودين الإسلام معناه العام هو دين الأنبياء جميعًا، الإسلام هو توحيد الله، وطاعة كل نبي في زمانه، فالإسلام في زمن نوح: توحيد الله وطاعة نوح بما جاء به من الشريعة, والإسلام في زمن هود: توحيد الله وطاعة هود فيما جاء به من الشريعة, والإسلام في زمن إبراهيم: توحيد الله وطاعة إبراهيم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن موسى: توحيد الله وطاعة موسى بما جاء به من الشريعة.
أما الإسلام بمعناه الخاص، فهو توحيد الله بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة الخاتمة، فالله تعالى رضي الإسلام؛ لأن الدين هو ما يدين به الإنسان، ويعتقده من العقائد والعبادات والأعمال والأخلاق، فالله تعالى رضي الإسلام دينًا لعباده، فالإسلام دين الله، ودين الأنبياء جميعًا، ولا يقبل الله من أحد دينًا سوى دين الإسلام، كما قال الله تعالى في كتابه العظيم: ( ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [المائدة/ 3].
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا) يعني: أخذه من قول الله تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮓ) [المائدة/ 3]؛ وكل من تدَيَّن بدين فهو مردود عليه؛ إلا دين الإسلام، لا يقبل الله دينًا إلا دين الإسلام في كل زمان، قال الله تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [آل عمران/ 85]، فالمؤلف حمد الله سبحانه وتعالى الذي رضي لنا الإسلام دينًا.
قال: (ونصب الأدلة على صحته وبينها تبيينًا) الأدلة: البراهين والحُجج، نصبها على صحته؛ على صحة دين الإسلام، وعلى استحقاق الله تعالى للعبادة والألوهية، الأدلة كلها تدل على ذلك، الأدلة العقلية، والأدلة الشرعية، والأدلة الكونية.
الأدلة الكونية: السموات، والأرضين، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، هذه الأدلة كلها شاهدة ودالة على أن الله هو المستحق للعبادة.
والأدلة القرآنية والعقل والفطرة، كلها تدل على أن الله هو المستحق للعبادة، وأن العبادة الصحيحة هي توحيد الله، وإخلاص الدين له، أما عبادة غيره فكلها باطلة، كل معبود سوى الله فهو معبود بالباطل، كما قال سبحانه وتعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الحج/ 62].
(ونصب الأدلة على صحته وبينها تبيينًا) الأدلة الشرعية وكذلك الأدلة الكونية كلها ناطقة وشاهدة وبينة واضحة على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وأعان من أراد هدايته على طاعته) أعان من أراد هدايته؛ وهم المؤمنون، المؤمنون أعانهم الله، خصهم بالنعمة الدينية دون الكافر، بخلاف الكافر؛ فإن الله خذله حكمةً وعدلًا: (ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ) [فصلت/ 46]؛ ما ظلمه الله؛ لأنه لما لم يقبل الحق، وليس له إرادة في معرفة الحق وطلبه؛ خذله الله والعياذ بالله، والمؤمن خصه بنعمة دينية دون الكافر؛ فضلًا منه وإحسان، وخذل الكافر؛ عدلًا منه وحكمةً، وليس بظالم سبحانه وتعالى؛ لأنه ما منعه شيئًا يملكه.
الظلم: وضع الشيء في غير موضعه؛ كأن يمنع أحدًا من ثواب حسناته، أو يُحَمِّل أحدًا أوزار غيره، هذا الظلم، أما هدايته للمؤمنين هذا فضلٌ منه وعدل، وخذلانه للكافرين عدلٌ منه وحكمة، كما قال الله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الحجرات/ 8].
وقال سبحانه: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ) [النحل/ 93]؛ وأعان من أراد هدايته على طاعته، أعانه الله على طاعته.
قال: (وكفى بربك هاديًا ومعينًا) كفى بالله هاديًا، هو الهادي، وهو الموفق سبحانه وتعالى، والهادي هداية الدلالة والإرشاد لكل أحد، كل أحد هداه الله هداية الدلالة والإرشاد، بين له طريق الخير وطريق الشر بما أنزله في كتابه من البيان، وبما جاء به الأنبياء والرسل، وهذه هداية التوفيق والتسديد للمؤمنين خاصةً، هداهم هداية التوفيق والتسديد، حيث نور قلوبهم، وقذف في قلوبهم قبول الحق، والرضا به، واختياره، ولذلك قال: (وكفى بربك هاديًا ومعينًا)؛ فهو المعين للمؤمن والموفق والمسدد.
(المتن)
من إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: عبد الله آل أحمد، وفقنا الله وإياه لسلوك الطريق الأحمد.
(الشرح)
هذه الرسالة ابتدأها المؤلف رحمه الله، بقوله: (من إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: عبد الله آل أحمد) فبدأ بالكتابة بنفسه، فقال: (من إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: عبد الله آل أحمد)؛ الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابته للرسائل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يكتب الرسائل للملوك ورؤساء القبائل والعشائر؛ يبدأ بنفسه.
لما كتب إلى هرقل عظيم الروم، قال: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم» فبدأ بنفسه، فأنت إذا أردت أن تكتب رسالةً تبدأ بنفسك، من فلان إلى فلان، وإذا بدأت باسم المكتوب إليه فلا حرج أيضًا، جاء ما يدل على هذا، أكتب إلى فلان، إلى حضرة الأخ المكرم فلان ابن فلان، ثم تكتب في الآخر: إلى فلان بن فلان من فلان بن فلان، أو تكتب في آخر الخطاب نفسك وأنك المرسل، لا حرج، والمؤلف ابتدأ بنفسه، فقال: (من إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: عبد الله آل أحمد) اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابته الرسائل.
ثم دعا له قال: (وفقنا الله وإياه لسلوك الطريق الأحمد) وفقنا: أي سددنا وهدانا إلى الطريق المستقيم، بدأ بنفسه، فقال: (وفقنا الله وإياه) وإن بدأ بالدعاء إلى المخاطب وقال: وفقه الله وإيانا؛ فلا بأس أيضًا، حسن.
قال: (وفقنا الله وإياه)؛ (وفقنا) هذا خبر بمعنى الدعاء، والمعنى: اللهم وفقنا؛ اللهم وفقنا وإياه (لسلوك الطريق الأحمد) الطريق الأحمد المحمود الذي يحمده الله، فهو يدعو لنفسه، ويدعو لمن كتب له أن يوفقه الله لسلوك الطريق الأحمد، الطريق الذي يحمده أهل الحق.
والمراد بالطريق هنا: الطريق المعنوي، ليس الطريق الحسي، (الطريق الأحمد) هو: الطريق الموصل إلى الله وإلى دار كرامته وجنته، فالناس سائرون إلى الله، سائرون في الطريق، الطريق المعنوي، الطريق الحسي أنك تمشي في الشارع، هذا الطريق الحسي، والطريق المعنوي أنت سائر إلى الله، كل إنسان سائر إلى الدار الآخرة يسير، الدار الآخرة سفر وطريق، لكن منهم من يكون طريقه أحمد، ومنهم من يكون طريقه مذموم، منهم من يكون طريقه محمود وهو الحق، الذين استقاموا على توحيد الله وطاعته هذا طريقهم محمود، وأما أهل الباطل الذين أشركوا بالله، وابتدعوا في دين الله؛ فإن طريقهم الطريق المذموم؛ لأن طريقهم إلى النار أعوذ بالله، أما أهل الحق فطريقهم أحمد محمود، وأما أهل الباطل فطريقهم مذموم؛ لأنهم أشركوا بالله، وعصوا الله، صار طريقهم مذمومًا؛ لأنه يوصلهم إلى النار، أما أهل الحق فطريقهم محمود؛ لأنه يوصلهم إلى الجنة.
ولهذا قال: (وفقنا الله وإياه لسلوك الطريق الأحمد) ولهذا سمى المؤلف رحمه الله هذه الرسالة: "سلوك الطريق الأحمد" سلوك: يعني السير والذهاب، فأنت حينما تمشي في الشارع تكون سلكت الطريق، ما معنى سلكت الطريق؟ يعني مشيت في الطريق، هذا الطريق قد يكون محمودًا وقد يكون مذمومًا، فإذا كان الطريق مستقيم يوصل إلى الحق؛ صار طريقًا محمودًا، فهو الطريق المحمود، وإذا كان موصل إلى الباطل، أو طريق لا يوصل إلى المطلوب؛ سمي طريقًا مذمومًا.
والمؤلف رحمه الله سأل الله أن يوفقه ومن كتب له إلى الطريق المحمود، وهو الطريق الأحمد، وسمى هذه الرسالة: "سلوك الطريق الأحمد" وهو السير في الطريق المحمود الذي يوصل إلى الله، وإلى دار كرامته وجنته، هو توحيد الله، وأداء الفرائض، وترك المحارم، والاستقامة على ذلك.
(المتن)
أما بعد؛ فقد كتبت تسألني عن الصواب عندنا، في حكم بلدان المشركين، وهل يجوز السفر إليها لمن أظهر دينه؟ وما إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة؟ وأرسلت إليّ بما أملاه بعض المنتسبين في إباحة ذلك، وإنه صار عندكم مانعٌ ومجيز، ونعوذ بالله من التفرق والاختلاف.
وليس هذا بمستغربٍ في هذا الزمان، الذي ضعف فيه الإسلام والإيمان، وعظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان، ومن على سبيلهم من كل منافق شيطان، حتى بلغت الشبهات من أكثر الناس كل مبلغ، فهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد: "والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدرِ، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة بمن فتن به" إلى آخر كلامه.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله بعد أن وجه الخطاب إلى المكتوب له، قال: (أما بعد)؛ أما بعد هذه يؤتى بها للانتقال من شيء إلى شيء، انتقل من توجيه الخطاب إلى المكتوب له إلى الدخول في صلب الموضوع.
و(أما بعد) كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بها في رسائله وفي خطبه، كان إذا خطب الجمعة يوم الجمعة قال: «أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم» وكذلك في كتابة الرسائل، لما كتب إلى هرقل قال: «من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ أسلم تسلم» واختُلِف في أول من قالها، فقيل: أول من قالها داود عليه الصلاة والسلام، قالوا: هي من الحكمة وفصل الخطاب، وقيل أول من قالها قيس بن ساعدة الإيادي وقيل غير ذلك. وأحسن من قول: وبعد.
(أما بعد، فقد كتبت تسألني عن الصواب عندنا، في حكم بلدان المشركين) هذا فيه بيان سبب تأليف هذه الرسالة، بين المؤلف رحمه الله سبب تأليف هذه الرسالة، سببها جواب عن سؤال، السؤال وُجِّه مِن مَن؟ من عبد الله آل أحمد، وجه سؤالًا إلى الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وجه عبد الله آل أحمد سؤالًا إلى الشيخ يسأله عن الصواب في حكم بلدان المشركين، فأجابه المؤلف بهذه الرسالة الطويلة، عبد الله بن أحمد وجه سؤالًا إلى الشيخ إسحاق يسأله عن الصواب في حكم بلدان المشركين.
ثم فصَّل هذا السؤال، قال: (وهل يجوز السفر إليها لمن أظهر دينه؟ وما إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة؟) الشيخ يبين له أن بعض المنتسبين أباح السفر إلى بلاد المشركين بإطلاق، وأن الناس انقسموا إلى قسمين: منهم من يمنع السفر إلى بلاد المشركين، ومنهم من يجيز، فهذا هو سبب تأليف الرسالة، أن المكتوب إليه وهو عبد الله آل أحمد وجه سؤال إلى الشيخ إسحاق يسأله عن الصواب في حكم بلدان المشركين، وهل يجوز السفر إليها لمن أظهر دينه أو لا يجوز؟ وما معنى إظهار الدين؟ ما هو إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة؟
وأرسل إليه أن الشيخ يبين له أن الناس بعض المنتسبين إلى الإسلام أباح السفر إلى بلاد المشركين بإطلاق، ومنهم من منع، وأن الناس انقسموا إلى قسمين: قسم يبيح السفر إلى بلاد المشركين، وقسم يمنع، فما الصواب؟
قال المؤلف رحمه الله: (ونعوذ بالله من التفرق والاختلاف) تفرقوا واختلفوا، منهم من أجاز، ومنهم منع، وهذا اختلاف، فالواجب على الناس إذا اختلفوا في شيء من مسائل الدين أن يردوا هذا الاختلاف إلى الكتاب والسنة، وينظروا ماذا حَكَم الله في هذا الأمر وحَكَم رسوله؟ فالنزاع الذي يكون بين الناس يجب أن يرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ حتى ينقطع النزاع، ويؤخذ بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله تعالى في كتابه العظيم: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [النساء/ 59].
وقال سبحانه: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الشورى/ 10].
قال المؤلف رحمه الله الشيخ إسحاق: (وليس هذا بمستغربٍ في هذا الزمان الذي ضعف فيه الإسلام والإيمان، وعظمت الفتنة بعباد الأوثان) يقول: لا يُستغرب هذا الاختلاف والتفرق، بعض الناس يجيز السفر إلى بلاد المشركين، وبعض الناس يمنع، بعض الناس يجيز السفر إلى بلاد المشركين بإطلاق، وبعضهم يمنع، فتفرقوا واختلفوا، فقال المؤلف رحمه الله: فهذا الاختلاف والتفرق لا يستغرب، يقول: لأنَّا في زمان ضعف فيه الإسلام والإيمان، وإذا ضعف الإسلام والإيمان؛ كثرت الشبهات، وقل من يعرف الحق؛ بسبب الشبهات والشهوات وضعف الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: أننا نحن الآن في زمن الغربة، في زمانه، مع أنه في زمان الشيخ رحمه الله فيه قوة، وفيه علم وعلماء، من قوة ونشاط، فكيف لو رأى زماننا هذا؟ في زمان الشيخ رحمه الله: العلم انتشر والعلماء والتلاميذ، وفيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، فكيف إذا رأى زماننا هذا؟
قال: (وليس هذا بمستغرب في هذا الزمان الذي ضعف فيه الإسلام والإيمان، وعظمت الفتنة بعباد الأوثان) بعض الناس كثر عُبَّاد الأوثان الذين يعبدون القبور، أصحاب القبور هناك من يدعونهم من دون الله، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويطوفون بقبورهم؛ فعظمت الفتنة بعُبَّاد الأوثان؛ حتى صار بعض الناس يظن أن عبادة الأوثان توحيد ودين، يدعو الميت من دون الله، وهو الشرك الأكبر، كما بين لهم الكتاب أن من دعا غير الله فقد أشرك، ويذبحوا له من دون الله، ويظن هذا توحيدًا، ويقول: هذا محبة للصالحين، هذا إعطاء لحقوقهم، هذا تشفع بهم، نحن نطلب منهم الشفاعة، نقول: حوائجنا إلى الله، ويظنون أن هذا دين، وأن هذا محبة للصالحين، وأن من منع من الشرك، وحذر منه، وقال إن هذا الدعاء لغير الله شرك، والذبح شرك هذا يتنقص الصالحين، هذا يبغض الصالحين، لا يعطيهم حقوقهم، (...) الجهل والعياذ بالله! التبس الشرك على كثير من الناس.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وعظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان) عظمت الفتنة بسبب الجهل الذي خفي فيه الحق، في أعظم واجب وفي أساس الدين والملة اشتبه الأمر على بعض الناس، فظنوا أن الشرك توحيد.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (عظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان، ومن على سبيلهم من كل منافق وشيطان) عظمت الفتنة بسبب عباد الأوثان، هؤلاء المشركون ومن على سبيلهم من المنافقين والعصاة وأهل البدع الذين شاركوهم في الجهل، وكل منافق نفاقًا اعتقاديًّا، وهم المنافقون الذين يُظهِرون الإسلام ويُبطِنون الكفر، أو منافقون نفاقًا عمليًّا، وهو العاصي، كل منافق شيطان، الشيطان هو المتمرد الخارج الذي خرج عن الصراط المستقيم.
وأصل الشيطان سمي شيطانًا من (شطن) بمعنى: بعد عن الخير، أو من (شاط) يعني: احترق، والشيطان هذا كله متمرد، كل خارج عن جنسه، فشيطان الجن هو الكافر، ومن أسلم من الجن لا يسمى شيطانًا، وشيطان الإنس هو المتمرد العاصي، العاصي الذي عصى الله، وابتدع في الدين، وحاد عن الصراط المستقيم؛ يقال له: شيطان، وكذلك من خرج عن طبيعة غيره في الحياة يسمى شيطانًا، ولهذا قال النبي: «إن الكلب الأسود شيطان»، أمر بقتل الكلب الأسود لأنه شيطان؛ لخروجه عن طبيعة غيره بالإيذاء وترويع الناس؛ فسمي شيطانًا، الشيطان: كل من خرج عن طبيعة غيره.
ولهذا قال: (عظمت فيه الفتنة بعباد القبور، ومن على سبيلهم من كل منافق شيطان، حتى بلغت الشبهات من أكثر الناس كل مبلغ) يقول: حتى أن الشبهات عظمت واستحكمت ووصلت النهاية عند بعض الناس، عند كثير من الناس كثرت الشبهات وعظمت حتى بلغت النهاية عند كثير من الناس، من أكثر الناس ضال ومنحرف، أكثر الناس لا يحب الحق، أكثر الناس جاهل، أكثر الناس غير مؤمن، أكثر الناس لا يعلم، أكثر الناس لا يشكر الله، كما قال الله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯬ) [الأنعام/ 116].
(ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [هود/ 17].
(ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [يوسف/ 38].
(ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [يوسف/ 40].
قال: (فهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد: "والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق).
- هذه أقسام الناس:
القسم الأول: العالم الرباني؛ هو الذي علم الحق بدليله، تبصر وتفقه وتعلم في شريعة الله، ثم نشر علمه، فصار يعلم الناس، ويبين لهم طريق الحق، ويربيهم في صغار العلم قبل كباره، سمي عالمًا ربانيًّا، هو الذي يربي الناس في صغار العلم قبل كباره، وفي مقدمة هذا: الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهم أعلم الناس، وهم العلماء الربانيون، ثم الصحابة، والتابعون, والأئمة، ومن بعدهم من أهل العلم الذين علموا الحق بدليله وعملوا به، ودعوا الناس إليه، ونصحوا الناس، وربوا الناس في صغار العلم قبل كباره، ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم لما عمل بنو إسرائيل المعاصي: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [المائدة/ 63].
(ﯔ ﯕ ﯖ) يعني: العلماء العاملون، الداعون لله على بصيرة، هذا القسم الأول من الناس، عالم رباني، يعني عالم عرف الحق بدليله، وعمل به، ودعا الناس إليه، ونصح لهم، ورباهم بصغار العلم قبل كباره، هؤلاء هم الرسل وأتباعهم على الحق.
القسم الثاني: متعلم على سبيل النجاة؛ متعلم يطلب الحق، ويسأل عنه، ويبحث عنه ويتعلمه، ويسأل عما أشكل عليه، هذا ناجٍ أيضًا، على خير، الأول: عالم يربي الناس ويعلمهم، والثاني: متعلم يتبصر، ويطلب العلم، ويحضر مجالس العلم، ويسأل عما أشكل عليه، ويعمل بما علم منه؛ فهو ناجٍ على سبيل النجاة، ثم الصنف الأول العلماء الربانيون، والصنف الثاني المتعلمون الذين تعلموا ويبذلون وسعهم وجهدهم في معرفة الحق، والعمل به والسؤال عنه، هؤلاء ناجون.
القسم الثالث: همج رعاع أتباع كل ناعق؛ همج لا يعلم ولا يتعلم، ليس عالمًا ولا متعلمًا، مشغول بدنياه وشهواته، يعيش كما تعيش البهائم؛ ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، كما قال الله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [محمد/ 12]؛ هذا القسم الثالث من الناس، لا يتعلم دينه، ولا يسأل عما أشكل عليه، لا يهمه إلا بطنه وفرجه، لا يهمه إلا دنياه، مشغول بدنياه وشهواته، هؤلاء هالكون، هؤلاء همج رعاع، همج ورعاع، وهم سائر الناس، كثيرًا من الناس.
وهذه أقسام الناس الثلاثة: عالم رباني، ومتعلم ناج، وهمج رعاع كالبهائم، كالأنعام.
(وهمج رعاع أتباع كل ناعق) يعني: يتبعون كلما سمعوا ناعقًا ينعق بدعوة يتبعونه، ولا يميزون بين الحق والباطل، فإذا دعا شخص مثلًا إذا دعاهم إلى الشرك تبعوه، وإذا دعاهم آخر إلى الإلحاد تبعوه، ودعاهم آخر إلى طريق الباطل تبعوه، وهكذا يتبع كل ناعق، كلما سمع صوتًا تبعه من غير بصيرة، هؤلاء هالكون.
لذلك قال في القسم الثالث: (همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح) كل ما سمعوا صوت مالوا معه، سمع صائحًا يصيح من هنا تبعه، سمع صائحًا يصيح هنا تبعه، هذا يدعو إلى كذا، وهذا يدعو إلى كذا، وهذا يدعو إلى طريقٍ منحرف في العلم، وهذا يدعو إلى طريق منحرف في العبادة، وهذا يدعو إلى طريق منحرف في الأخلاق، يتبع هذا وهذا، وهذا ليس عنده بصيرة.
(أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم) ما عندهم علم ولا بصيرة، بل على جهل، (ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) الركن الوثيق هو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هو المعتمد عليه، الذي يعتمد الإنسان، الركن الوثيق: هو المنصوص من الكتاب والسنة، الذي يعتمد عليها المسلم، العلم والبصيرة.
(أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه) يعني: الهمج الرعاع، أو حامل حق لكن ليس عنده بصيرة في إحياء هذا الحق، يحمل الحق لكن ليس عنده بصيرة في إحياء هذا الحق واستخراجه، وإحيائه ونشره.
(ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة) تأتيه الشكوك والأوهام تقدح في قلبه، تأتيه الشبه والشكوك، وأول عارض يعرض له في الأمور؛ تنقدح الشكوك في نفسه، ولا يدري أين الحق، يأتيه شكوك هل هذا حق؟ هل هذا صحيح؟ هل هذا حلال؟ هل هذا حرام؟ هل هذا حق؟ يشك.
(لا يدري أين الحق)؛ هل هو معه، هل في هذا أو في هذا؟ هل الحلال هذا أو الحرام هذا؟ هل هذا الحق أو هذا الباطل؟ (ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبه، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدرِ) إن تَكلم تكلم بالخطأ، وإن أخطأ لم يدري بخطئه، ما يعلم أنه مخطئ.
(مشغوف بما لا يدري) يعني: شغف قلبُه وأحب هذا الأمر، وهو لا يدري هل هو حق أو باطل؟ (مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة بمن فتن به" إلى آخر كلامه) كان هذا آخر كلام علي بن أبي طالب رحمه الله لكميل بن زياد.
قال: (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، ولم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، أو حامل حق، ولا صلة له بإحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدرِ، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة بمن فتن به" إلى آخر كلام الإمام الخليفة علي بن أبي طالب رحمه الله لكميل بن زياد).
(المتن)
هذا والمسألة المذكورة ظاهرة بحمد الله، لا تخفى على من عرف أصل دين الإسلام ومبانيه، وما تضمنته شهادة لا إله إلا الله، أو تقتضيه; ولأئمة هذه الدعوة في ذلك ما يشفي العليل، ويروي الغليل، مستدلين له من السمع، بما لو جمع لقارب حد التواتر المعنوي; وهو ما حَصَّل العلم عنده، مع ما علمتم من حالهم لما ابتلى الله بتلك العساكر المصرية.
فمن حاد عن طريقهم وتخلف عن رفيقهم، فلسوء حظه في الدين، ولجناية منه على نفسه, والعجب ممن التمس الترجيح منا، وكلام هؤلاء الأئمة موجود بين يديه؛ ونحن لم نصل إلى ساحل ما حققوه وقرروه، ولم نبلغ شأوهم في ميدان ما وضحوه وحرروه، بل نحن معهم كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
ولمثلي خاصة أن يتوقى الأجوبة عن المسائل، اكتفاءً بمشائخي الأفاضل، وإخواني الأماثل; لكن لحسن ظني، وبعد السائل، أسعفك بمطلوبك؛ لأن للسائل حقا وإن جاء على فرس; وإني أتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجمعنا على كلمة الإسلام، ويلم بها شعثنا، وبجودها في قلوبنا حتى نلاقي الحُمام.
هذا واعلم: أنه بعد التسليم لحكم السنة والقرآن، ووجوب الرد إليهما على كل فرد من أفراد نوع هذا الإنسان، فقد أجمع علماء السنة أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة وصريح العقل على إثبات حكم، فلا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح البتة.
بل إن كان المعارض سمعيًّا كان كذبًا قطعًا، أو كان المعارض به أخطأ في فهمه، أو عقليًا فكذلك.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله بعد أن ذكر ما تقدم من المقدمة قال: (هذا والمسألة المذكورة ظاهرة بحمد الله)؛ والمسألة المذكورة هي السفر إلى بلاد المشركين، حكم السفر إلى بلاد المشركين، وما معنى إظهار الدين؟ يقول: (هذا والمسألة ظاهرة بحمد الله)؛ ظاهرة؛ لأن النصوص دلت عليها، دلت على هذه المسألة، كما استدل المؤلف رحمه الله، وأنه لا يجوز السفر إلى بلاد المشركين لمن أظهر دينه، وأن المراد بإظهار الدين هو أن يستطيع أن يكون الإنسان عنده حصانة دينية، يستطيع رد الشبهة التي ترد عليه، ولا يكفي إن كان هو يصلي ويصوم، بل لابد من معرفة دين الإسلام وأدلته، ولابد من أن يكون الإنسان عنده فطرة على رد الشبة التي ترد عليه، وعلى بيان حاصل الإسلام، وبيان بطلان ما عليه المشركون من الدين.
ثم يبين المؤلف رحمه الله يقول: هذه المسألة المذكورة، وهي حكم السفر إلى بلاد المشركين، ومعنى إظهار الدين هذه المسألة ظاهرة بحمد الله، ظاهرة للمسلم الذي عنده بصيرة.
قال: (لا تخفى على من عرف أصل دين الإسلام ومبانيه) وأصل دين الإسلام الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ومن عرف هذه المسألة، أصل دين الإسلام، وأن الشهادة لله تعالى بالوحدانية، وأن يعلم الإنسان معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله، يعرف معناها وشروطها، وأن كلمة التوحيد مشتملة على النفي والإثبات، نفي الإلهية عن غير الله، وإثباتها لله.
ولابد من العلم المنافي للجهل، ولابد من اليقين المنافي للشك والريب، ولابد من الإخلاص المنافي للشرك، ولابد من الصدق المنافي للنفاق، ولابد من المحبة للتوحيد ولأهله، ولابد من الانقياد لحقوق التوحيد وهي الأعمال الواجبة، ولابد من الاستسلام لشرع الله ودينه، وعدم الكبر والتعصب، ولابد من الكفر بما يعبد من دون الله، فمن عرف أصل دين الإسلام ومبانيه، وأن الإنسان له مباني، ومبانيه العظام: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج.
(وما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله) من إخلاص الدين لله، ونفي الشرك، وما تقتضيه، ما تخفى عليه هذه المسألة، لا يخفى عليه حكم هذه المسألة، وهو السفر إلى بلاد المشركين، ومعنى إظهار الدين.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولأئمة هذه الدعوة في ذلك ما يشفي العليل، ويروي الغليل) أئمة الدعوة هم الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأبناؤه وأحفاده وتلاميذه من العلماء والمشايخ الذين بينوا هذه المسألة من كتاب الله وسنة رسوله، وقرروها، وذكروا الأدلة، قال: لهم في ذلك بيان وإيضاح ورسائل كتبوها، بينوا هذه المسألة، وبينوا دليلها من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: (لأئمة هذه الدعوة في ذلك ما يشفي العليل، ويروي الغليل) يعني: أدلتهم في ذلك واضحة وكافية، يقتدي بها المسلم، ويتضح بها الحق، كما أن العليل يُشفى إذا أراد الله شفاءه بالعلاج النافع، فكما أن العلاج النافع يشفي العليل بإذن الله، فكذلك أئمة الدعوة بينوا الأدلة في هذه المسألة، واتضحت لكل أحد، حتى يزول اللبس والشك عن كل أحد، ويُروي الغليل، الظمآن يحتاج إلى الماء، ثم يشرب الماء فإنه يروى، ويزول ما به من الحاجة إلى الشرب، فكذلك أئمة الدعوة بينوا هذه المسألة بيانًا واضحًا يزول معه الحاجة إلى البيان.
ولهذا قال: (أئمة هذه الدعوة في ذلك ما يشفي العليل، ويروي الغليل، مستدلين له من السمع بما لو جُمع لقارب حد التواتر المعنوي) مستدلين له من السمع؛ المراد بالسمع: الأدلة المسموعة، وهي أدلة الكتاب والسنة، يقال لها: أدلة سمعية، يقال: أدلة السمع؛ لأنها تُسمع بالأذن، تسمع من الكتاب والسنة، أما الأدلة العقلية فهي تسمى أدلة العقل؛ لأنها تُعْلم بالعقل، والأدلة: قد تكون سمعيةً، وقد تكون عقليةً، قد تكون بأدلة الفطرة.
لو أئمة الدعوة استدلوا بالأدلة من الكتاب والسنة، بما لو جُمع؛ لقارب حد التواتر المعنوي؛ يعني: لو جُمِعَت الأدلة لوصلت إلى حد التواتر في المعنى، والتواتر هو الأدلة الكثيرة التي كثرت حتى بلغت حد اليقين لمن سمعها، وإذا كثرت هذه الأدلة وتواترت؛ لا يكون عندك شك، يزول معها الشك، حتى يصل الإنسان إلى اليقين، فمثلًا لو أخبرك إنسان ثقة بأن الوادي سال، وهو ثقة، فأنت تصدق أو لا تصدق؟ تصدق، ثم أخبرك بعده اثنان ثقتان، يزيد التصديق أم لا يزيد؟ ثم أخبرك عشرة أيضًا بعدهم أن الوادي سال، ثم أخبرك مائة، ثم أخبرك ألف، ثم أخبرك مليون، أن الوادي سال، هل تشك؟ هل يكون عندك شك؟ كلهم ثقات، يزول الشك، تصل إلى درجة اليقين.
فكذلك الأدلة في هذه المسألة، السفر إلى بلاد المشركين، ومعنى إظهار الدين، يقول المؤلف رحمه الله: العلماء علماء الدعوة ذكروا الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بحيث لو جُمِعت لوصلت إلى حد التواتر المعنوي، حتى إن من سمعها لا يكون عنده شك، بل يكون عنده يقين لاشك فيه.
قال: (وهو ما حصَّل العلم عنده) اليقين: هو ما يحصل العلم، والعلم: هو حكم الذهن الجازم، يجزم الإنسان بصدق هذا الخبر، بخلاف الشك، الإنسان الشاك الذي يتردد بين أمرين، لا يرجح أحدهما على الآخر يسمى شك، فإن ترجح أحد الأمرين؛ فالراجح يسمى: ظن، والمرجوح يسمى: وهم، أما لو كان عنده يقين ليس عنده شك، هذا يسمى: علم، فتكون المعلومات إما علم، أو شك، أو ظن، أو وهم، فالشك:، هو أن يشك بين أمرين لا ترجيح لأحدهما عن الآخر؛ فإن ترجح أحدهما عن الآخر؛ فالراجح يسمى: ظن، والمرجوح يسمى: وهم، وأما العلم هو الذي ليس معه شك، يجزم به(.....) لو جمع لقارب حد التواتر المعنوي وهو ما حصل العلم عنده.
قال المؤلف رحمه الله: (مع ما علمتم من حالهم لما ابتلى الله بتلك العساكر المصرية) هذا يشير إلى الهجمة التي هجمتها الدولة التركية على الدرعية، وعلى أئمة الدعوة، ووكلت المهمة إلى العساكر المصرية، وهو إبراهيم باشا لما جاء وغزى الدرعية، وغزى أئمة الدعوة، وغزى الدعوة، وكانت العاصمة، عاصمة الدولة السعودية الأولى هي الدرعية، الأمير محمد بن سعود رحمه الله هو الذي ناصر دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
لما سقطت الدولة التركية كانت في آخر أمرها تحارب التوحيد، وتقر الوثنية، وَكَل السلطان باشا المهمة إلى عامله في مصر وهو إبراهيم باشا، فسار بالجيش من مصر، جيش المصرية؛ لغزو أهل التوحيد في نجد، والإطاحة بدولة الأمير محمد بن سعود، الإمارة في الدرعية.
معروف في التاريخ أنه لما غزى إبراهيم باشا أهل التوحيد وقاتلهم؛ قُتِل كثير من العلماء، ومن ذلك الشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ قتل رميًا بالرصاص، وسقطت الدولة السعودية الأولى، ثم بعدها قامت الدولة السعودية الثانية، ثم الدولة السعودية الثالثة؛ فيشير إلى هذا.
يقول: (مع ما علمتم من حالهم لما ابتلى الله بتلك العساكر المصرية، فمن حاد عن طريقهم وتخلف عن رفيقهم، فلسوء حظه في الدين) الذي حاد مال، من مال عن طريق العلماء والأئمة، وتخلف عن رفيقهم؛ فلأن حظه سيء في الدين، ولأنه جنى على نفسه، فالذي لا يقبل الحق، ولا يلتفت إلى الأدلة الشرعية؛ فهذا حظه من الدين سيء والعياذ بالله، سببه سوء حظه من الدين، لم يوفق؛ لكونه ما قبل الحق، ولكونه هو الذي جنى على نفسه، فلا يلومن إلا نفسه، حظه من الدين سيء، وهو الذي جنى على نفسه، هذا لم يقبل الحق، ولم يعمل به.
ثم قال: (والعجب ممن التمس الترجيح منا، وكلام هؤلاء الأئمة موجود بين يديه) والعجب من بعض الناس يطلب مني أن أرجح في هذه المسألة، مع أن كلام الأئمة والعلماء موجود، لهم رسائل وكتابات بينوا فيها الأدلة من كتاب الله والأدلة من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بيان هذه المسألة، وهو السفر إلى بلاد المشركين، والدليل على إظهار الدين، يتعجب من هؤلاء، يتعجب ممن يأتي إلى الشيخ إسحاق، ويقول: أعطني الأدلة، والأدلة موجودة برسائل الأئمة، مكتوبة منتشرة، كيف يلتمس مني الترجيح وكلام الأئمة موجود! لا حاجة لكلامي مع كلام الأئمة؛ لأن الأئمة وضحوا وذكروا الأدلة.
قال المؤلف رحمه الله: (ونحن لم نصل إلى ساحل ما حققوه وقرروه، ولم نبلغ شأوهم في ميدان ما وضحوه وحرروه) وهذا تواضع من المؤلف، المؤلف يقول: أنا ما وصلت إلى ما وصل إليه العلماء، ما وصلت إلى الساحل، الساحل ساحل البحر، هم بحر، ونحن ما وصلنا إلى الساحل، يعني هم فاقوا, علماء تبحروا في العلم، أما نحن نسير، لكن ما وصلنا إلى الساحل، ما زلنا نسير في البر، وهم تبحروا، فكيف يطلب ممن في البر، ويترك البحر؟ هذا تواضع، إذا كان هذا الإمام العلامة الشيخ إسحاق يقول عن نفسه، كيف يكون حالنا الآن؟ كيف نحن الآن؟
إذا كان الشيخ إسحاق يقول: أنه الآن ما وصل إلى الساحل، ما وصل إلى ساحل البحر، فكيف حالنا نحن الآن؟ لا نساوي شيئًا بالنسبة إليه، هذا تواضع منه رحمه الله، وإلا فهو عالم فاضل إمام كبير، لكن أهل الحق وأهل البصيرة إذا تواضعوا، ينقص من بنفسه، وإلا فهو رحمه الله قد وصل إلى ما وصل إليه أهل العلم.
قال: (ونحن لم نصل إلى ساحل ما حققوه وقرروه، ولم نبلغ شأوهم في ميدان ما وضحوه وحرروه) لم نبلغ مكانتهم في الميدان، الميدان: المكان الواسع، (بل نحن معهم كما قيل) كما قال قبل قليل، (أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها) الخيام مثل خيامهم، لكن هناك خلاف وفرق بين خيامنا وخيام الحي، أما الخيام فإنها كخيامهم، فإذا رأيت خيامًا وخيامًا، لكن هناك اختلاف كثير، ولهذا قال: (وأرى نساء الحي غير نسائها).
قال المؤلف رحمه الله: (ولمثلي خاصة أن يتوقى الأجوبة عن المسائل، اكتفاءً بمشائخي الأفاضل، وإخواني الأماثل) يقول: مثلي أنا قاصر العلم، فالذي ينبغي أن يتوقى الإجابة، وأكتفي بأجوبة مشايخي العلماء الكبار، يقول: أنا لا أجيب على مثل هذا السؤال، لماذا؟ لأني قاصر، علمي قاصر؛ فأتوقى الإجابة، وأكتفي بإجابة مشايخي الذين ذكروا هذه المسألة، وقرروها، وبينوها، واستدلوا بالنصوص.
- لكن أجيب السائل لأمرين:
الأمر الأول: أن السائل حسن الظن بي.
والأمر الثاني: أن السائل مكانه بعيد، قد لا تصل إليه الأدلة، قد ما وصلت إليه المؤلفات؛ فأنا أسعفه، أسعفه يعني: أُجيب طلبه لو هو محتاج، مثل الإسعاف في المستشفى لـمَّا يسعف المريض والمحتاج للضرورة والحاجة.
فيقول: لضرورة السائل، لكون السائل بعيد، ولما وصلته الأدلة، ومحتاج إلى أن يعرف إجابة هذه المسألة، وأحسن الظن بي، فأنا أسعفه وأجيبه دفعًا لضرورته.
- فأجابه لأمرين:
الأمر الأول: حسن ظن السائل.
الأمر الثاني: حاجة السائل وضرورة حيث لم يبلغه الجواب.
فقال: (ولكني لحسن ظني، وبعد السائل، أسعفك بمطلوبك)، قال: (لأن للسائل حقًّا وإن جاء على فرس) هذا سائل والسائل له الحق ولو جاء على فرس، هذا يشير إلى حديث ضعيف رواه أبو داود في سننه، النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للسائل حق، وإن جاء على فرس»؛ ما دام أنه جاء يسأل أعطه شيئًا، أعطه ما تيسر، ولو جاء على فرس، الفرس كانت هي المركوب، الآن نقول: وإن جاء على سيارة فخمة، أعطه شيئًا، السائل له الحق، هذا إذا لم تعلم حاجته، إذا لم تعلم أنه غير محتاج.
أما إذا علمت أنه غير محتاج، وأنه غني فلا تعطه، يُزجر، ويُمنع، ويُوبَّخ، وهو لا يجوز لك، لكن إذا جهلت حاله ولم تعلم؛ أعطه ولو كان عليه ثياب جميلة، ومعه سيارة، ما تدري حاله، قد تكون السيارة جميلة استعارها، قد تكون السيارة ليست له، قد يكون الفرس ليس له، قد يكون استدان، ما دام لا تعلم حاله أعطه شيئًا، أعطه ما تيسر.
- فالسائل له ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن تعلم أنه غير محتاج وأنه غني؛ فهذا لا تعطه، وهذا تزجره وتوبخه، وترفع أمره إلى ولاة الأمور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس تكثرًا؛ فإنما يسألهم جمرًا».
الحالة الثانية: سائل تعلم أنه محتاج وأنه فقير؛ هذا تعطيه.
الحالة الثالثة: سائل تجهل حاله، ما تدري هل هو فقير أم غني؟ تعطيه ما تيسر، هذا له حق، والله تعالى وصف المتقين بأن في أموالهم حقًّا للسائل والمحروم: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [المعارج/ 24-25].
فهذا سائل؛ يقول: إن هذا سائل سألني، فأنا أسعفه بالجواب، والسائل له حق؛ لأن للسائل حقًّا وإن جاء على فرس.
قال: (وإني أتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجمعنا على كلمة الإسلام، ويلم بها شعثنا، وبجودها) هكذا عندكم: (وبجودها)؟
الطالب: إي نعم.
الشيخ: (وبجودها في قلوبنا حتى نلاقي الحمام) المؤلف توسل إلى الله بأسمائه الحسنى؛ عملًا بقوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ) [الأعراف/ 180]؛ فتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وهذا توسل مشروع.
- التوسل نوعان:
- توسل مشروع.
- وتوسل بدعي
التوسل المشروع: أن تتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، بصفاته العلا، بعملك الصالح، بدعاء الحي الحاضر، كما في قصة الثلاثة الذين توسلوا إلى الله، كانوا من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة، توسل أحدهم ببره لوالديه، والثاني بعفته عن الزنا، والثالث بأمانته، ففرج الله كربتهم؛ فانحدرت الصخرة، فخرجوا يمشون.
فالمؤلف يقول: (أتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى) هذا توسل مشروع.
التوسل البدعي: أما التوسل بحق فلان، أو بحرمة فلان، أو بجاه فلان، أو بجاهة فلان؛ هذا بدعة، والتوسل بدعاء الميت، أو الذبح له أو البذل له هذا شرك بالله عز وجل.
لكن التوسل المشروع أن نتوسل إلى لله بأسمائه الحسنى، وبصفاته العلى، توسل إلى الله بفقرك وحاجتك، توسل إلى الله بدعاء الحي الحاضر؛ هذا توسل مشروع، توسل له بعملك الصالح، فالمؤلف توسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
قال: (أن يجمعنا على كلمة الإسلام) كلمة الإسلام هي كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" توسل له سبحانه أن يجمعنا على التوحيد، على توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأداء حقه سبحانه، قال: أسأل الله وأتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنا على كلمة التوحيد على الحق، (ويلم بها شعثنا) ويلم بكلمة التوحيد شعثنا، الشعث هو التفرق والاختلاف، والمعنى: أن يجمعنا على الحق وعلى كلمة التوحيد؛ حتى لا نتفرق، وحتى لا نختلف.
(وبجودها في قلوبنا حتى نلاقي الحمام) العبارة فيها إشكال، إما أن تكون: أو بوجودها في قلوبنا، أو يجود بها علينا في قلوبنا، فهو قال: يلم بها شعثنا، يعني: يقرها في قلوبنا؛ يعني: تستقر كلمة الإسلام وكلمة التوحيد في قلوبنا ونتيقنها فلا نختلف، (حتى نلاقي الحمام) والحمام: الموت، فهو يسأل الله أن يجمعنا على كلمة التوحيد، وأن تستقر كلمة التوحيد في قلوبنا، ويلم بها شعثنا، وأن يوفقنا للثبات عليها حتى الموت، حتى نلاقي الحمام ونحن على كلمة التوحيد، وعلى الحق، وعلى الإسلام.
ثم قال: (هذا واعلم: أنه بعد التسليم لحكم السنة والقرآن، ووجوب الرد إليهما على كل فرد من أفراد نوع هذا الإنسان)، يقول: (هذا)؛ يعني أن ذكر هذا المقال، يقول: (اعلم)؛ يعني: تيقن، لا تشك، ولا تتوهم، ولا تظن، اعلم أنه بعد أن تسلم بحكم السنة والقرآن، بعد أن ترد إليهما التنازع، الواجب على كل مسلم أن يسلم بحكم الله ورسوله، قال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ)[النساء/ 65].
لا يتم الإيمان إلا بالتسليم بحكم الله ورسوله، ويجب رد ما تنازع فيه الناس إلى الكتاب والسنة، قال تعالى: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ)[النساء/ 59].
يجب التسليم بحكم السنة والقرآن، ويجب رد ما تنازع فيه الناس إلى الكتاب والسنة، على كل فرد، على كل شخص، هو قال: (على كل فرد من أفراد نوع هذا الإنسان)، بعد أن تعرف هذا الأصل.
قال المؤلف رحمه الله: (فقد أجمع علماء السنة أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة، وصريح العقل على إثبات حكم، فلا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح البتة) هذا قاعدة، هذا أصل يقره المؤلف.
يقول: اعلم أنه (أجمع علماء السنة أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة، وصريح العقل على إثبات حكم) يعني: إذا دل كتاب الله وسنته على حكم من الأحكام، دل عليه الكتاب والسنة والعقل؛ صار أمرًا قطعيًّا.
إذا كان في أمر من الأمور تواطأ الكتاب والسنة والعقل؛ يعني اتفقت الأدلة على ثبوته، تواطأ القرآن والسنة والعقل على ثبوته، صار حكمًا قطعيًّا؛ فلا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح البتة، لا يمكن أن يعارض فإذا جاء ما يعارضه ماذا نعمل؟ هذا أمر قطعي تواطأ عليه الكتاب والسنة والعقل، ثم جاء دليل إما من الشرع أو من العقل بخلافه، ماذا نعمل؟ قال المؤلف رحمه الله: (لا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح البتة) لا يمكن أن يعارض؛ إنما هو أمر قطعي.
(بل إن كان المعارض سمعيًّا فهو كذبا) إذا عارض الأمر القطعي يكون مكذوبًا على الرسول عليه الصلاة والسلام، كان دليل بل حديث وضعت على النبي صلى الله عليه وسلم، إذا عارض الأمر القطعي الذي لا شك فيه، الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة والرجال، ثم عارضه دليل من السنة، يكون هذا مكذوبًا على الرسول، فنطرحه.
أو أن يقال: إن هذا المعارض أخطأ الفهم، ما فهم النص، ما فهم الحديث، الحديث يكون صحيح لكن فهمه هو الخاطئ، فهم منه فهمًا يخالف الأمر القطعي، والواقع أن الحديث يدل على ما دلت عليه هذه الأدلة القطعية، فهو بين أحد أمرين: إما أن يكون هذا الحديث كذبًا على الرسول عليه الصلاة السلام، أو أن يكون الذي استدل به فهمه خطأ، هو الذي أخطأ، والحديث صحيح.
وكذلك إذا عارضه عارض عقلي، وادعى أن العقل يعارضه، فيقال: العقل فاسد، العقل ليس سليمًا، فإذا قال: أنا عندي العقل يدل على خلاف هذا الأمر القطعي، تقول: هذا العقل عقلٌ فاسد، عقل أفسدته الشبهات أو الشهوات، أما العقول السليمة فلا تخالف هذا الأمر القطعي، العقل السليم هو الذي يسلم من الشبهات والشهوات، هذا لا يمكن أن يعارض، فإذا قال شخص: أنا عندي دليل عقلي يعارض هذا الأمر القطعي الذي دلت عليه النصوص، نقول: هذا العقل إما عقل فاسد، أفسدته الشبهات أو الشهوات، هات العقل السليم، لا تجد العقل السليم يخالف، لكن العقل الذي فسد بالشبهات أو الشهوات هذا ليس سليمًا، قال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)[الشعراء/ 89]؛ السليم من الشبهات والشهوات.
فالمؤلف رحمه الله يقر الأصل، ويقول: الأمر الذي تواطأ على ثبوته الكتاب والسنة والعقل هذا قطعي، فإذا خالفه دليل شرعي أو عقلي فهذا فيه تفصيل، فهذا الدليل العقلي الذي خالفه بين أحد أمرين: إما أنه كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن الشخص الذي استدل به فهمه سقيم أخطأ في الفهم، وكذلك إذا عارضه دليل عقلي، نقول: هذا العقل ليس صريح، بل هو عقلٌ ليس سليمًا، بل عقلٌ أفسدته الشبهات أو الشهوات.
(المتن)
إذا تقرر هذا الأصل، فالسؤال عن حكم الدار، ليترتب عليه ما زعم المجيز فاسد الاعتبار من وجهين:
الوجه الأول: أن أهل العلم رتبوا حكم الهجرة على وجود الشرك، والبدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها.
ومن المعلوم بالضرورة: أن الشرك بالأموات والغائبين، والتعلق على الأنبياء والصالحين، بل: على المجاذيب والمجانين، قد ظهر في ديارهم شعاره، وتطاير فيها شراره، وثار فيها قتامه وغباره، وعُدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره، مع ما هم عليه من البدع في العبادات والاعتقادات، وأصناف المعاصي التي تشيب اللمم والنواصي.
فالسؤال عن الدار: هل هي دار إسلام أم لا؟ بمعنى أن المقيم فيها، كالمقيم في أبلد سالمة من ذلك، خطأ ظاهر؛ وقد تقرر في عبارات أئمتنا الحنابلة وغيرهم: أنهم يوجبون الهجرة بمشاهدة ما دون ذلك، حتى من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع، كالمعتزلة والخوارج والروافض.
وقد حكى ابن العربي المالكي، عن ابن القاسم رحمه الله قال: سمعت مالكا رحمه الله يقول: لا يحل لأحدٍ أن يقيم بأرض يُسب فيها السلف؛ وقال في "الإقناع وشرحه" لما ذكرها: فيخرج منها وجوبًا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها، فعلق الحكم بالوصف الذي هو وجود البدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها، لا بالدار.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله لما قرر هذا الأصل، وهو أن ما توطأ الكتاب والسنة وصريح العقل عليه، لا يمكن معارضته، بدأ في الجواب على هذه المسألة، قال: (إذا تقرر هذا الأصل، فالسؤال عن حكم الدار، ليترتب عليه ما زعم المجيز فاسد الاعتبار، من وجهين) يعني: الدار التي يريد أن يقيم فيها، هل هي دار إسلام أم دار شرك؟ سبق أنه قال: انقسم الناس إلى قسمين، منهم المجيز ومنهم المانع، منهم المجيز للاستقرار في بلاد المشركين، والبقاء في بلاد المشركين، ومنهم المانع.
فقال المؤلف رحمه الله: (السؤال عن حكم الدار) نسأل عن حكم الدار، هل هذه الدار دار إسلام أو دار شرك؟ حتى يترتب عليها ما زعم المجيز؛ المجيز الذي يقول: يجوز للإنسان البقاء في بلاد المشركين، أو السفر إلى بلاد المشركين.
يقول المؤلف: أولًا نسأل عن الدار، هل الدار التي يكون فيها، هل هي دار إسلام أم دار شرك؟ فإن كانت دار شرك؛ وجب الهجرة منها، وإن كانت دار إسلام؛ جاز البقاء فيها.
ولهذا قال: (وإذا تقرر هذا الأصل، فالسؤال عن حكم الدار) الدار يعني البلد، البلد التي يقيم فيها تسمى الدار، البلد التي يقيم فيها هل هي بلاد مشركين بلاد مسلمين؟ (ليترتب عليه ما زعم المجيز) الذي يجيز البقاء في بلاد المشركين.
(فاسد الاعتبار من وجهين: الوجه الأول يقول: إن أهل العلم رتبوا حكم الهجرة على وجود الشرك، والبدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها) أهل العلم قالوا: إن من أقام في بلد يوجد فيه الشرك أو البدع والمعاصي، وهو لا يستطيع إنكارها تجب عليه الهجرة، (...) إذا كان فيه شرك، ولا تستطيع إنكار الشرك، أو فيه بدع ومعاصٍ ولا تستطيع إنكارها؛ فإنك تهاجر، فإن كنت تستطيع إنكار الشرك ويزول الشرك إذا أنكرته، أو تستطيع إنكار البدعة وتزول، أو تستطيع إنكار المعصية وتزول؛ فإنك تبقى، كأن يكون عالم داعيًا إلى الله، يدعو إلى التوحيد، ويُستجاب له، ويزول الشرك والبدع والمعاصي؛ تبقى.
إذًا المؤلف رحمه الله قرر أولًا، قال: نعرف هذا البلد التي يقيم فيه الإنسان، هذا البلد هل هي بلد شرك أو بلد توحيد؟ إن كانت هذه البلد فيها شرك أو فيها بدع ومعاصي ولا تستطيع إنكارها؛ وجب عليك أن تهاجر، فالمؤلف رحمه الله قرر أن ما قاله بعض الناس من أنه يجوز البقاء في بلاد المشركين فاسد الاعتبار من وجهين:
الوجه الأول: يقول إن أهل العلم رتبوا حكم الهجرة على وجود الشرك، والبدع، والمعاصي التي لا يستطيع إنكارها، فقالوا: إذا كان في بلد فيه الشرك والبدع والمعاصي ولا يستطيع إنكارها، وجب عليه أن يهاجر، يهاجر إلى بلد ليس فيه شرك ولا بدع ولا معاصٍ، والهجرة هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فالهجرة تجب في البلاد التي فيها شرك ولا نستطيع إنكاره.
قال المؤلف رحمه الله: (ومن المعلوم بالضرورة: أن الشرك بالأموات والغائبين، والتعلق على الأنبياء والصالحين، بل: على المجاذيب والمجانين، قد ظهر في ديارهم شعاره) يقول أن هؤلاء الذين يسألون الشيخ، يقول: بلادهم فيها الشرك، الشرك بأي شيء؟ الشرك بالأموات، فيها قبور تُعبد من دون الله، ويسألون الناس أصحاب القبور الشفاعة، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ويسألون الغائبين، ويتعلقون بالأنبياء والصالحين، بل يتعلقون بغير الأنبياء والصالحين، بالمجاذيب والمجانين.
المجاذيب عند الصوفية، يسمونه مجذوب؛ إذا انجذب قلبه إلى صاحب القبر، يسمونهم مجاذيب، يقال: يجذب قلبك، مجاذيب مثل المغناطيس، فإذا اشتد تعلقهم بالميت، قالوا: هؤلاء الأموات هم المجاذيب، فهو يجذب قلبك إليه وتتعلق به.
والمجانين، بعضهم يتعلق بالمجانين، والمجانين وضعفاء العقول، يقول هؤلاء: هذا المجنون، أو هذا ضعيف العقل، يقول: هذا الصوفية، يسمونه المجنون أو ضعيف العقل، يقولون: هؤلاء هم الذين لهم التصرف، المجاذيب والمجانين، يقول: هم لهم التصرف ويجعلونهم يدبرون مع الله، ويجعلون الأركان، وهم يسمونها أقطاب وأوتاد، يقولون: ما تدري، هذا المجنون قد يكون قطبًا، أو وتدًا، فهو تجده مجنونًا أو ضعيف العقل، وتجده عليه ثياب مخرقة، وشعره طويل، ومرمي في مزبلة، يقول: ما تدري، لعل هذا قطب يتصرف في الكون وأنت ما تدري.
هذا المرمي في مزبلة، أو المجنون أو ضعيف العقل، قد يكون قطب أو وتد يتصرف في الكون، هكذا يقول الصوفية، يسمونهم مجاذيب ومجانين، تعلقوا بهم، إذا كان الشرك في بلادهم، يتعلقون بالأموات، يتعلقون بالصالحين، يتعلقون بالمجانين، يتعلقون بالمجاذيب، ظهر في ديارهم، كيف يقولون: هذه الديار دار إسلام وهي فيها الشرك؟ الشرك بالأموات، الشرك بالغائبين، الشرك بالمجانين، بالمجاذيب.
يقول: (ظهر في ديارهم شعاره، وتطاير فيها شراره، وثار فيها قتامه وغباره) وهذه كلها كلمات فيها بلاغة، فيها تأكيد لوجوه الشرك، ظهر فيها الشعار: الشيء الذي يعلم، يقول: يعلم الشرك فيها، (وتطاير فيها شراره) يعني ظهر الشرك، كما أن النار لها شرر يتطاير، فإذا رأيت الشرار من بعيد عرفت أن في نار، فكذلك هؤلاء، (وثار فيها قتامه) قتام الرائحة، مثل قتام القدر والطعام، وغباره.
(وعُدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره) يقول: ليس فيها موحدون، ولا فيها من يصل التوحيد، يقول: يجب الهجرة.
(مع ما هم عليه من البدع في العبادات والاعتقادات، وأصناف المعاصي التي تشيب اللمم والنواصي) يقول: هؤلاء عندهم شرك بالقبور والصالحين، يتعلقون بهم، ويذبحون لهم ويعبدونهم، ويتعلقون بالأنبياء، تعلقوا بالمجاذيب، تعلقوا بالمجانين، ظهر ووضح من كل حدب، زيادة على البدع والمعاصي في العبادات، بدع في العبادة، بدع في الصلاة، بدع في الحج، بدع في الزكاة، بدع في الأعمال، بدع في الاعتقادات، مع أصناف المعاصي من الزنا والسرقة وشرب الخمر.
التي تشيب اللمم من كثرة المعاصي يشيب لها اللمم، واللمم: جمع لمة، وهي شعر الرأس ولمة الرأس، (والنواصي) الناصية: هي جانب الرأس، يقول: لكثرة الشرك والبدع والمعاصي؛ كثرت عندهم حتى شابت لها الرؤوس والنواصي، فكيف يُجيز بعض الناس البقاء في هذه البلاد وهذه حالها؟ بدع ومعاصي وشرك تشيب لها الرؤوس؟
قال المؤلف رحمه الله: (فالسؤال عن الدار هل هي دار إسلام أم لا) أولًا: نسأل عن الدار، هذه البلد، يعني الدار المراد بها البلد، هل هذه بلد إسلام أم لا؟ إن كان فيها التوحيد ظاهر؛ فهي بلد إسلام، وإن كان فيها الشرك ظاهر؛ فهي بلد شرك يجب الهجرة منها.
قال المؤلف: (السؤال عن الدار: هل هي دار إسلام أم لا؟ بمعنى أن المقيم فيها كالمقيم في أبلد سالمة من ذلك، خطأ ظاهر) أبلد: جمع بلد، هذه دار إسلام، فإذا كانت دار شرك، الشرك ظاهر؛ فالمقيم فيها ليس كالمقيم في بلد سالمة من الشرك، فالذي يجعل الإقامة في بلد الشرك مثل الإقامة في بلد التوحيد هذا خطأ ظاهر.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وقد تقرر في عبارات الحنابلة وغيرهم: أنهم يوجبون الهجرة بمشاهدة ما هو دون ذلك، حتى من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع، كالمعتزلة والخوارج والروافض) العلماء الحنابلة وغيرهم قرروا أنه يجب الهجرة بمشاهدة المعاصي التي هي أقل من الشرك، حتى إن بعض العلماء قرر أنه يجب الهجرة من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع، عقيدة الخوارج، عقيدة المعتزلة الذين يرون أن العاصي يدخل في الكفر ويخلد في النار، وكذلك الخوارج الذين يُكَفِّرون أهل الإسلام بالبدع، وكذلك الروافض الذين يعبدون أهل البيت ويكفرون الصحابة، حكى العلماء أنه يجب الهجرة من هذا البلد الذي فيه المعاصي، فكيف إذا كان فيها شرك؟ من باب أولى.
قال: (وقد حكى ابن العربي المالكي عن ابن القاسم رحمه الله قال: سمعت مالكًا رحمه الله يقول: لا يحل لأحدٍ أن يقيم بأرض يُسَبُّ فيها السلف) يسب فيها السلف الصالح، لا يجوز للإنسان الإقامة ببلد يسب فيها السلف، وهي بلد الروافض، يسبون فيها الصحابة، ويكفرونهم.
قال: (وقال في "الإقناع وشرحه") كتاب الإقناع من كتب الحنابلة، كتب المتأخرين، وشرحه منصور البهوتي، لما ذكر الهجرة، قال: (فيخرج منها وجوبًا) يخرج منها أي من بلد, (يخرج منها وجوبًا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها) قال: يجب أن يخرج منها؛ يعني من البلد التي فيها البدع.
(يخرج منها وجوبًا إذا عجز عن إظهار مذهب أهل السنة) إذا عجز عن إظهار مذهب أهل السنة، وغلب أهل البدع، فلا يستطيع إظهار مذهب أهل السنة، بل غلب فيها مذهب الخوارج، أو مذهب المعتزلة، أو مذهب الروافض؛ فيجب الخروج منها، ويهاجر منها إلى بلد يستطيع فيه إظهار مذهب أهل السنة والجماعة، فكيف إذا كان فيها شرك؟ من باب أولى.
قال: (يخرج منها وجوبًا إذا عجز عن إظهار مذهب أهل السنة، قال: فعلق الحكم بالوصف الذي هو وجود البدع والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها، لا بالدار) علق الحكم بالوصف، (لا بالدار) يعني: لا بالبلد، يقول: ينظر الوصف، إذا كان في بلد فيه بدع ومعاصٍ ولا يستطيع إنكارها فيهاجر، (لا بالدار)، ليست العبرة بالبلد؛ العبرة بالوصف، إن كنت في بلد تستطيع إنكار الشرك والبدع والمعاصي تبقى فيها، وإن كنت في مكان لا تستطيع إنكار الشرك والمعاصي فهاجر.
فإذًا الحكم معلق بأي شيء؟ الوصف لا بالبلد، الوصف في أي مكان أنت؟ في مكان فيه شرك، أو بدع ومعاصٍ لا تستطيع إنكارها هاجر، يجب عليك أن تهاجر، وإن كنت في مكان تستطيع إنكار الشرك ويزول، وتستطيع إنكار البدع والمعاصي فابْقَ فيها؛ لأنك على خير، (...) فالعبرة بالوصف لا بالبلد، قد يكون الإنسان في بلد ولو كان فيها بعض الشرك، لكن يستطيع أن ينكر الشرك، ويُقبَل منه، يستطيع إنكار البدع والمعاصي، يكون داعيةً يدعو إلى الله، يبقى فيها، وقد يكون في بلد لا يُسمع منه، فالشرك ظاهر، والبدع ظاهرة، ولا أحد يقبل منه، فهذا يجب أن يهاجر، فالعبرة بالوصف لا بالدار.
ولهذا قال المؤلف: (علق الحكم بالوصف الذي هو وجود البدع والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها، لا بالدار).
وفق الله الجميع لطاعته، وثبت الله الجميع على الهدى، وصلى الله على محمد وآله وسلم.