بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: ...
(المتن)
قال رحمه الله تعالى: وأما ما نقله عن الشيخ عبد الله بأن بلدهم بلد إسلام، فقد قدمنا أنه لا يدل على ما قصدوا؛ والشيخ درج على ما درج عليه الرعيل الأول من نصر التوحيد والرد على من ناوأه من أهل الشرك والتنديد، وكلامه يُحمل على أنها ليست بلاد كفر أصلي، يترتب عليها ما يترتب عليه، وهو الذي يُفهم من كلام الأصحاب وغيرهم؛ لكن أتظنه يشك في كفر من تظاهر بدعاء الصالحين وعبادتهم، بالاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر والتوكل وغير ذلك، على أنهم وسائط بينهم وبين الله في الحاجات والملمات.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وغيره من الأئمة: أن هذا هو الكفر الصريح، وهو دين المشركين وفعل الجاهلين الضالين؛ وهؤلاء زادوا عليهم، بأن طلبوا الحاجات منهم استقلالًا كما شاهدناه؛ فظهر لك أن قول المجيز: البلد بلد إسلام، تمهيدًا لجواز الإقامة فيها، خطأ لا يُتابع عليه، كما تقدم لك مرارًا: أن الشارع أناط الحكم بمشاهدة الكفر والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها.
وما أحسن ما قيل:
العلم بالرأي إجمال ومغلطة والعلم بالنص تحقيق وتفصيل
وقد تقدم لك أن المدعى أعم من كون البلد بلد إسلام، أو بلد كفر إذا كانت العلة عدم المنع من العبادة، وأن السؤال مُلغى من أصله، فلا حاجة إلى فتوى أبا بطين وغيره.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن المؤلف رحمه الله يقرر أنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في بلد المشركين إذا كان لا يستطيع إظهار دينه، وإن كان لا يستطيع إنكار الكفر، ولا يستطيع إنكار المعاصي، ولا يستطيع أن يرد الشبه التي ترد عليه، ولا يستطيع أن يبين محاسن الإسلام، ولا يستطيع أن يرد على الشبه التي تَرِد عليه؛ فإنه لا يجوز له ذلك.
وهو يَرُدُّ على من قال: أنه يجوز للإنسان المقيم في بلد الكفار إذا كان يستطيع أن يصلي ويصوم، ومن يقول: إن العبرة بالبلد، أنه إذا كانت البلد بلد إسلام؛ جازت الإقامة فيها، وإن كانت البلد بلد كفر؛ لم تجز الإقامة فيها، يعني: إذا كان المسلمون كثيرين؛ جاز أن يقيم.
والمؤلف رحمه الله قال: إن الحكم مُنَاط بكون المسلم يشاهد الكفر والمعاصي ولا يستطيع إنكاره، فالحكم منوط بهذا، يقول: الإنسان لا يستطيع إنكار الكفر، ولا يستطيع إنكار المعاصي، ولا يستطيع أن يرد الشبه التي تَرِد عليه، ولا يكون بحصانة دينية، بحيث أنه لا يأمن الفتنة على نفسه، ففي هذه الحالة يجب عليه الهجرة.
وكونه يَدَّعِي أن البلد بلد إسلام، أو بلد كفر، ليست هذه العلة؛ العلة إنما هي القدرة على إظهار الدين، فمن قدر على إظهار الدين، وأمن على نفسه من الفتنة؛ جاز له الإقامة في بلاد الكفر، ومن لم يقدر على إظهار دينه، أو كان لا يأمن الفتنة على نفسه، فإنه يجب عليه أن يهاجر.
(المتن)
وأما دعواه: أن إظهار الدين إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، أي: من الصلاة والعبادة الخاصة، مستدلًا بما رواه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يُدخله الجنة، هاجر أو جلس في أرضه التي وُلد فيها»، وحديث صاحب الخضرمة.
فجوابه أن يقال:
أولًا: ليس في الحديثين دلالةٌ على أن البلد بلد شرك، غاية ما فيها إثبات الإيمان لمن أسلم ومات في بلده.
الثاني: أنهما يدلان على كمال الإيمان، فهما على حد قوله: «وإن زنى وإن سرق»، ونحن نقول: بموجبه، فمن أقام في بلاد الشرك مع القدرة على الخروج منها شحًا بالوطن، أو غير ذلك من الأعذار، فهو مرتكب كبيرة، فيقال: هو مؤمن ناقص الإيمان.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يَرُدُّ على دعوى من أجاز الإقامة في بلاد المشركين، وادعى أن إظهار الدين هو أداء الصلاة والزكاة والصوم، وأن المشركين إذا لم يمنعوك من إقامة الصلاة والزكاة والصوم؛ فإنه يجوز لك البقاء، وهذا يعتبر إظهارًا للدين، واستدل بحديث البخاري: «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، هاجر أو جلس في أرضه».
- أجاب المؤلف على هذا عدة أجوبة:
الجواب الأول: أن الحديث أو الحديثين ليس فيهما دلالة على أن البلد بلد شرك، قال: «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، هاجر أو جلس في أرضه»، وليس فيه أن البلد بلد شرك، بل يقول: غاية ما فيها إثبات الإيمان لمن أسلم ومات في بلده، نحن لا نقول: من أسلم ومات في بلده، فهو مسلم وليس فيه تعارض(...).
الجواب الثاني: يقول: (أنهما يدلان على كمال الإيمان,ونحن نقول: بموجبه، فمن أقام في بلاد الشرك مع القدرة على الخروج منها شحًا بالوطن، أو غير ذلك من الأعذار، فهو مرتكب كبيرة، فيقال: هو مؤمن ناقص الإيمان)، ولا يكون كافرًا، يعني: إذا لم يهاجر شُحًّا بوطنه؛ فإنه لا يكون كافرًا، وإنما يكون مرتكب كبيرة، ويكون ناقص الإيمان، وضعيف الإيمان، يعني كونه يبقى في بلاد الكفار في بلاد الحرب، وهو لا يوالي الكفار، ولا يحبهم، ولكنه أقام شحًّا لوطنه، لا يكون كافرًا، لكن يكون ناقص الإيمان، وضعيف الإيمان، ومرتكبًا لكبيرة.
(المتن)
الثالث: أن الاستدلال بهما وما في معناهما، خروج عن المقصود، إذ هي فيمن أسلم في بلده، أما الذهاب إلى أوطانهم اختيارًا، واللحاق بهم استقرارًا، فلا تدل عليه بوجه من الوجوه؛ إذ الاستدلال بالنصوص فرع ثبوتها أولًا، ثم مطابقتها للمستدل عليه معنى، كما هو مقرر في مواضعه؛ وإذا كان من آمن ولم يُهاجر من الأعراب ناقصًا، فكيف بمن آمن ولم يهاجر من بلدان المشركين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: في اقتضاء الصراط المستقيم لما ذكر النهي عن مشابهة المشركين: قرب من هذا مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب، لأن كمال الدين بالهجرة، فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقصًا.
(الشرح)
الجواب الثالث: يقول: إن هذا الحديث فيه أنه أسلم في بلده ولم يهاجر، وأما الأحاديث التي فيها المنع من السفر لبلاد المشركين فيها النهي عن كونه يسافر إلى بلادهم، وأما هذا فيه أنه أسلم في بلده ومات فيها، فيكون الدليل ليس فيه حُجة، فرق بين من يسلم ويبقى في بلده، ويكون من الأعراب الذين بقوا في مكانهم؛ فيكون ناقص الإيمان، وبين من يذهب إلى الكفار باختياره، ويبقى في بلدهم وهو لا يستطيع إظهار دينه.
(المتن)
الرابع: أن قوله: هاجر أو جلس، هو معنى قوله: جاهد وجلس، يدل على ذلك: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا: «من أقام الصلاة وآتى الزكاة، ومات لا يشرك بالله شيئًا، كان حقًا على الله أن يغفر له، هاجر أو مات في مولده، فقلنا يا رسول الله: أفلا نخبر الناس فيستبشروا، فقال: إن للجنة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله» الحديث.
ثم قال النسائي بعده: ما لمن آمن وهاجر وجاهد؟ يعني: من الأجر, فدل على أن الهجرة هناك بمعنى الجهاد، وقد جاء في رواية البخاري بلفظ: «جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه»، وترجم له في الجهاد لأنها تطلق أيضًا ويراد بها الجهاد، كما روى أحمد عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه مرفوعًا: «أي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد».
فتبين على كلا التقديرين أن المقصود إثبات الإيمان لمن أسلم ولم يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجاهد، وإن انتفى كماله؛ فمن أين له: أن الحديث يدل على جواز الإقامة بين ظهراني المشركين؟ ومن درأ بمثل هذه المحتملات في نحر ما تقدم من النصوص الصريحة الصحيحة، كحديث حكيم بن حزام مرفوعًا: «لا يقبل الله من مسلمٍ عملًا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين» رواه النسائي، وحديث أبي مالك الأشجعي مرفوعًا: «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بها»، وذكر الهجرة رواه أحمد وغيره، وما في معناها، فليس بمنصف.
(الشرح)
فليس بمنصف، عدل فليس بمنصف، هنا ليس بمصَنِّف، وهي ليس بِـمُنْصِف.
هذا الجواب الثالث، وفيه الخلاصة أن المؤلف يقول: إن ما استدلوا به ليس في محل النزاع، والحديث الذي فيه الوعد بالجنة لمن أسلم، وآمن، وجلس في أرضه، وفيه أنه ترك الجهاد، والجهاد مستحب ولا يكون فرضًا إلا في أحوال، فيكون هناك فرق بين من آمن وأسلم وجلس في بلده ولم يهاجر ولم يجاهد؛ فاته أجر الجهاد، الجهاد أجره عظيم: «إن للجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله».
وأما الأحاديث التي فيها الوعيد على من لم يهاجر من بلاد المشركين، فيها دليل على أنه لا يجوز له السفر إلى بلاد المشركين والبقاء فيها وهو لا يستطيع إظهار دينه، وفرقٌ بين الأمرين.
(المتن)
الخامس وهو من أظهرها: أن الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث المطلقة، ولو بلغت حد التواتر، يستدعي بطلان حكم النصوص المصرحة بفراق المشركين، كما هنا، وكما في حديث نهيك الآتي: «وعلى زيال المشركين».
(الشرح)
(وعلى زيال المشركين) يعني: مزاولتهم ومفارقتهم، زيال: يعني يزاولهم، (...) أو يزايل المشاركين، زيال المشاركين يعني مفارقتهم والبعد عنهم.
(المتن)
فيحمل المطلق مما احتج به المجيز، ولو صح وتعدد على هذا المقيد من مفهوم الوصف المانع من الإقامة؛ فبزوال هذا المانع الذي تسبب عنه الحكم بفراق الوطن يوجد المقتضي، وإلا فلا، وهذا ظاهر بحمد الله، يتعين المصير إليه توفيقًا بين النصوص، إذ لا مجال للرأي في مثل هذا، مع وجود الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على أن من أسلم ولم يهاجر، يكون كأعراب المسلمين وتسمى منازله داره, حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعًا: «ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين».
وفي بعض ألفاظه: «فإن أبوا واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين» الحديث، إلا في حق الأعرابي الذي أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الهجرة، في قوله: «اعمل من وراء البحار» يعني: القرى «فإن الله لن يتَرك من عملك شيئًا».
(الشرح)
فإن الله لن يتَرك؛ يعني: لن ينقص من عملك شيئًا، مثل قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [محمد/ 35]؛ لن يتَرك , أي: لن ينقصك من ثواب عملك شيئًا.
(المتن)
أي: لا يحرم أجر الهجرة ولا تنقص، لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من قلة صبره على سكنى المدينة، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)[الأحزاب: 43].
وكذلك إذنه لأسلم القبيلة المعروفة فيما رواه الإمام أحمد وغيره: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ابدوا يا أسلم، قالوا يا رسول الله: إنا نخاف أن يقدح في هجرتنا، قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم»، ومعناه: أن تكونوا في البادية وهم في إذنه صلى الله عليه وسلم لا من سواهم؛ لأن من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك له حكم المهاجرين؛ لأن مفهوم الإذن لهم، عدم الإذن لغيرهم.
(الشرح)
هذا الجواب الخامس: يقول المؤلف: (وهو من أظهرها) أن هذه الأحاديث التي فيها أن من أسلم من الأعراب، وبقي في بلده ولم يهاجر، تختلف عن الأحاديث التي فيها الأمر بفراق المشركين، ومزاولتهم والبعد عنهم، فهذا شيء وهذا شيء، فلا يهتدي بهذه الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بالبقاء، الأعراب الذين أذن لهم بالبقاء في بلدهم، هذه تختلف عن الأحاديث التي فيها النهي عن البقاء في بلاد المشركين إذا كان لا يستطيع إظهار دينه، فلا يُحتج بهذه على جواز البقاء في بلاد المشركين؛ لأن الدليل في غير محل النزاع.
(المتن)
وأما الأعراب، فالأمر في حقهم أخف، وليس لهم فضل المهاجرين لضعف إسلامهم، وسرعة ميلهم مع الباطل، يدل عليه ما رواه النسائي قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحكم، قائل: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر، وهجرة البادية؛ فأما البادي فيجيب إذا دعي، ويطيع إذا أمر؛ وأما الحاضر فهو من أعظمها يليه وأعظمها أجرًا».
ما رواه النسائي أيضا بسنده، عن فضالة بن عبيد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا زعيم والزعيم الحميل لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى غرف الجنة» الحديثين؛ فتبين أن المقصود: إثبات الإيمان لمن لم يهاجر ولم يجاهد بعد ما أسلم، وأن من جاهد وهاجر فقد كمل إيمانه؛ فأي دليل فيه على جواز الإقامة بين ظهراني المشركين؟!
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبين أن ما استدلوا به في غير محل النزاع، الأحاديث التي فيها الإذن لمن آمن من الأعراب وبقي في مكانه ولم يهاجر؛ غير الأدلة التي فيها النهي عن الإقامة في بلد المشركين، وهو لا يستطيع إظهار دينه، هذا شيء وهذا شيء.
(المتن)
وإذا كان المرتد بعد هجرته أعرابيًا ملعونًا من أجل خوف الجفا ونسيان العلم، ولمصالح الإسلام، كما رواه الطبراني من حديث جابر بن سمرة، مرفوعًا: «لعن الله من بدا بعد هجرته إلا في الفتنة».
وما رواه النسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: «لعن الله آكل الربا وموكله» الحديث، وفيه «والمرتد بعد هجرته أعرابيًا»، قال ابن الأثير في النهاية: كان من رجع بعد هجرته إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، انتهى من الفتح.
ومثله: ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع، أنه لما دخل على الحجاج، قال: يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو؛ فإذا كان كذلك فهو يدل بالفحوى على البعد عن المشركين لمن أسلم، أما من كان مسلم ثم لحق بهم، واختارهم من غير مصلحة في الدين، فيطالب هذا بدليله، ولو من كلام إمام يُعتد به، وإلا فقد قدمنا لك أن الاستدلال بمثل هذه المحتملات خروجٌ عن المقصود.
(الشرح)
يبين المؤلف رحمه الله أنه إذا توعد الشخص الأعرابي إذا أسلم، ثم جاء وجلس في بلاد، وهاجر إلى البلد، هاجر من البادية وجلس في الحاضرة، ثم رجع مرةً أخرى إلى البادية، فإنه ملعون، لعنه النبي لماذا؟ لما فيه من الجفاء، يكون بعيدًا عن العلم، بعيدًا عن الجمعة والجماعة وسماع العلم وسماع الذكر؛ فيكون ملعونًا، فإذا كان الشخص الأعرابي إذا أسلم، ثم جاء إلى البلد، ثم ذهب إلى أهله ملعون، ثم ذهب إلى البادية وسكن فيها وترك البلد فهو ملعون، فكيف بالذي يذهب إلى المشركين ويبقى بينهم وهو لا يستطيع إظهار دينه، ولا يستطيع رد الشبه، ولا يأمن على نفسه الفتنة؟ هذا أعظم وأعظم.
(المتن)
وأما حديث الأعرابي فقد تقدمت الإشارة إليه، وأنه من القضايا العينية المتعلقة بالأشخاص والأحوال والأزمان. قال القرطبي على حديث الأعرابي: يُحتمل أن يكون ذلك خاصًا بهذا الأعرابي لما علم من حاله وضعفه عن المقام بالمدينة، أشفق عليه صلى الله عليه وسلم: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)[الأحزاب: 43]، انتهى.
ومن المعلوم: أن هذه القضية إن كانت بعد الفتح، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره، لما فتح مكة: «لا هجرة بعد الفتح»، فعُلم أنه قبل الفتح، والهجرة واجبة إليه بالإجماع؛ ولم يفهم أحدٌ أن قصة هذا الأعرابي أبطلت حكم الهجرة، وإن كانت بعد الفتح، فالجواب عنها هو الجواب عن الحديثين قبلها.
ووجه آخر، وهو: أن لأول الإسلام من اللين والهوادة ما ليس لآخره؛ وقد تقدم لك حديث جرير، ومعاهدته النبي صلى الله عليه وسلم على مفارقة المشركين، وقد تأخر إسلامه.
وبالجملة: فليس في حديث الأعرابي ولا غيره من الأحاديث ولو كانت صحيحة ما يدل على مساكنة مشرك البتة، بل هي صريحة في سُكنى البادية لمن أسلم ولم يهاجر، ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم اعمل في القرى؛ لأن القرى إذ ذاك لم تكن بلاد إسلام، ولكن قال له: اعمل من وراء القرى، أي: اعبد الله، وحل منها حيث شئت، وأنت على هجرتك، رفقًا به.
(الشرح)
المؤلف يجيب على حديث الأعرابي الذي أسلم، وطلب أن يهاجر، وقال: ويحك إن شأن الهجرة لشديد، وقال: هل تستطيع إقامة الصلوات والزكاة؟ قال: نعم, قال: «اعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئًا» قال هذا للأعرابي، النبي صلى الله عليه وسلم أذن له أن يبقى في بلده؛ رفقًا به.
فقال المؤلف رحمه الله: فيحتمل أن هذا خاص به، ويحتمل أن هذا كان بعد فتح مكة، ثم قال: وبالجملة فهذا الحديث وغيره لا يدل على جواز السكنى في بلاد المشركين، وهو لا يستطيع إظهار دينه، فرق بين هذا، وهذا حديث خاص في هذا الأعرابي، حيث أذن له أن يبقى في بلده ولا يهاجر، ولا يبطل النصوص التي فيها أنه لا يجوز مساكنة المشركين إذا خشي على نفسه الفتنة، أو كان لا يستطيع إظهار دينه.
(المتن)
وأما حديث نهيك بن عاصم، فإنه لا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له في مساكنة مشرك، بل أذن له في سكنى البادية فقط، وأن يحل حيث شاء ولا يجني إلا على نفسه؛ وقد أشار إلى ذلك، ما رواه البخاري عن الصعب بن جثامة مرفوعًا: «لا حجر إلا لله ورسوله», هذا معنى حديث نهيك وما في معناه من الأخبار، أن أهل الجاهلية كان لهم حدود حجر يمنعون منه من شاءوا، وقد أبدل الله ذلك بالإسلام؛ لأن الإسلام يقتضي السلامة، ويأمن به كل أحد.
ولما ساق العلامة ابن القيم القصة بطولها وفي آخرها: قلت: «يا رسول الله: على ما أبايعك؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال: على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشركين، وأن لا تشرك بالله شيئًا، قلت يا رسول الله: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، وظن أني مشترط ما لم يعطه، قال: قلت نحل منها حيث شئنا، ولا يجني امرؤ إلا على نفسه».
قال في الكلام: وقوله في عقد البيعة: «وزيال المشرك» أي: مفارقته ومعاداته، فلا تجاوره ولا تواله، كما في حديث السنن: «لا تراءى ناراهما» انتهى كلام ابن القيم بحروفه.
وقوله في الحديث: «نحل منها حيث شئنا» مع قوله: «وزيال المشركين» بالميم، يبين لك مراد الشارع. فانظر إلى هذا المجيز عافانا الله يحتج بما هو حجة عليه، ويقول ذكره ابن القيم في الهدي؛ وأما استدلاله بقصة هجرة الحبشة.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله أجاب عنها استدلالًا بحديث نهيك بن عاصم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له، وأجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له بسكون البادية، وأن يحل فيها حيث شاء، وليس فيه دليل على جواز البقاء في بلاد المشركين وهو لا يستطيع إظهار دينه لو يخشى الفتنة، فرق بين هذا وبين الأحاديث التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم أذن لبعض الأعراب أن يبقوا في مكانهم، إذا كانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وأذن لهم في عدم الهجرة، هذا ليس الدليل على أنه يجوز البقاء في بلاد المشركين، والإنسان لا يستطيع إظهار دينه أو يخشى على نفسه الفتنة.
(المتن)
وأما استدلاله بقصة هجرة الحبشة فهو من إحدى الرزايا، وعكس القضايا، ولا أعلم أحدًا سبقه إليه، إلا بعض من اعترض على إمام الدعوة.
وقوله: إنهم هاجروا ليأمنوا لا ليفتتنوا؛ مجرد تمويه صدر ممن لم يعرف قدر الشرك، الذي هو أعظم هضم لجناب الربوبية، وإبطال لما دعت إليه الرسل، من توحيد الإلهية؛ فأين الأمان واستقرار الجنان، لمن يشاهد عبادة الأوثان، ومسبة الديان، في كل حال وأوان؟!
ومن استدل بقصة الهجرة على هذا، فتصوره فاسد، وذهنه كاسد، إذ كل من عقل عن الله شرعه، وسبر أحوال الصحابة وما هم عليه من نصر الدين وزيال المشركين، علم قطعًا أن هجرة الحبشة حجة عظيمة في وجوب الهجرة؛ وهو من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وإطلاق لفظ الهجرة عليهما كاف في المطلوب على قدر الوسع، وإن لم يتم المقصود كله.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء دعوته أمر بالإعراض، ثم أمر بالصدع، ثم أمر بالجهاد، وظهور الدين يُطلق ويراد به ظهوره بالقهر والغلبة والجهاد؛ وهذا قد تأخر، ويُطلق ويراد به ظهوره وشهرته، وعدم منع الداخل فيه؛ وهذا قد حصل بأرض الحبشة، وتسمى هجرةً وانتقال، كما حكاه النووي في شرح الأربعين له.
وحكاه مجتهد عصره إبراهيم بن حسن الكردي عن الحافظ بن حجر، أنه قال: وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين:
الأول: الانتقال عن دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرة الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة، وانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيًا، انتهى.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يرد على من أجاز الإقامة في بلاد المشركين، ويحتج بهجرة الصحابة إلى الحبشة في أول الإسلام، لما اشتد عليهم أذى المشركين أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجروا إلى الحبشة، والحبشة بلاد نصارى، لكن فيها ملكٌ عادل لا يُظْلَم الناس عنده، ويستدل على أنه يجوز البقاء في بلاد المشركين.
يقول المؤلف رحمه الله: هذا انتقال المشركين أو هجرة المؤمنين إلى الحبشة من باب ارتكاب أخف الضررين وأدنى المفسدتين لدفع أعلاهما؛ لأن المسلمين في أول الإسلام آذوهم كفار قريش وعذبوهم، فانتقلوا إلى الهجرة، هاجروا إلى الحبشة؛ حتى يخف عليهم العذاب؛ لأنه في الحبشة وإن كانوا من النصارى إلا أنها فيها ملك عادل وهو النجاشي، أكرمهم وآواهم، ثم أيضًا تسمية الهجرة كافٍ، تسمية الهجرة من مكة إلى الحبشة، تسميتها هجرةً يكفي في أن الدليل على وجوب الهجرة من بلاد الهجرة.
- والهجرة أقسام:
- هجرة من دار الخوف إلى دار الأمان.
- وهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
(المتن)
وذكر عن الأسيوطي: أن الهجرة ثمانية أقسام:
الهجرة الأولى: إلى الحبشة، عندما آذى الكفار الصحابة، أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى أرض الحبشة، وأذن لهم مرةً ثانية وهي الثانية.
والثالثة: من مكة إلى المدينة.
الرابعة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتعلُّم الشرائع، ثم يرجعون إلى قومهم لينذروهم.
الخامسة: هجرة من أسلم من مكة، ليأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة: هجرة من كان مقيما بدار الكفر، ولا يقدر على إظهار الدين، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلد الإسلام؛ هذا لفظ السيوطي، في المنتهى.
واقتصرنا على المقصود منه، وقد صرح بذلك أصحابنا، وقريبٌ منه لفظ النووي في شرحه لأربعينه.
ولما قرر هذا المقام من سطعت بحمد الله للدين أنواره وطلعت ببرهان دعوته شموسه وأقماره، وتضاحكت في عرصات المجد كمائمه وأزهاره، اعترضه من اشترى الضلالة بالهدى، وتحول عن السلامة إلى الردى إن لم يتداركه الله برحمته، فقال: قال محمد ابن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى في مواضعه التي كتبها على السيرة: اعلم أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء.
قال المعترض: فظاهر كلامه أن النجاشي كافر، حيث لم يُصرح بعداوة قومه، وكذلك جعفر وأصحابه كفَّار بهذه العبارة .. إلى آخر كلامه، الذي لا يصدر ممن شم للعلم النافع رائحة، أو له في واديه غادية ورائجة.
وقد أجابه من أجاد وأفاد، ووفق في كلامه لنهج السداد، شيخنا العلامة: عبد اللطيف بعد ما ساق شبهته بما ملخصه: وقد ثبت أن النجاشي صرح بعداوتهم والبراءة من مذهبهم، وراغمهم، زيادةً على التصريح بالعداوة، وقال: «وإن نخرتم» لما صرح بعبودية عيسى عليه السلام، حيث قرأ عليه جعفر صدر سورة مريم، وما فيها من ذكر عيسى، فقال النجاشي: والله ما زاد عيسى على هذا... إلى آخره.
فأي عداوة؟ وأي تصريح أعظم من هذا؟ ومع ذلك نصر المهاجرين ومكنهم من بلاده، وقال: اذهبوا فأنتم سيومٌ بأرضي، من سبكم ندم، ومن ظلمكم غَرِم، فصرح بأنه يعاقب من سب دينهم، وسفه رأيهم فيه، وهذا قدرٌ زائد على التصريح بعداوتهم، ولا يقول: إن جعفر أو أصحابه يكتمون دينهم بأرض الحبشة، ولا يصرحون بعداوة الكفار المشركين إلا جاهل.
وهل ترك جعفر وأصحابه بلادهم وأرض قومهم، واختاروا بلاد الحبشة إلا لأجل التصريح بعداوة المشركين، والبراءة منهم جهارًا في المذهب والدين، ولولا ذلك لما احتاجوا للهجرة، واختاروا الغربة، ولكن ذلك في ذات الإله، والمعاداة لأجله؛ وهذا ظاهرٌ لا يحتاج إلى تقرير، لولا غلبة الجهل، انتهى باختصار.
(الشرح)
هذا في رد الشيخ عبد اللطيف رحمه الله على من اعترض على الشيخ المجدد في قوله: إن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة، وقال: إن هذا يلزم منه أن النجاشي كافر؛ لأن الأصل أن نصرح بعداوة المشركين، ويلزم منه أن جعفر كافر؛ لأنه ما صرح بعداوة المشركين، رد عليه بأن جعفر صرح بعداوة الكافرين هذا القدر (...).
وفق الله الجميع لطاعته، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد.