بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قال الشيخ الوالد قدس الله روحه في رد ما اعترضه ابن منصور: أما قوله: ظاهر هذا أن النجاشي كافر إلى آخره. فجوابه من وجوه:
الأول: أنه لا اعتراض على حكم القرآن.
الثاني: أن المهاجرين إلى أرض الحبشة هاجروا، ليأمنوا على دينهم حيث لم يوجد بلد ولا قبيلة يأمنون فيها غير الحبشة؛ قلت: وذلك بأمره صلى الله عليه وسلم لما بلغه من حسن جوار النجاشي ما بلغه.
قال الوالد رحمه الله تعالى: ثم هذا في أول الدعوة قبل أن تفرض الفرائض، وتنَزل الآيات في بيان الأحكام، وأعظم الفرائض بعد التوحيد الصلاة، ولم تُفرض إذ ذاك إلا بعد العشر، وكذلك أحكام الهجرة والجهاد، إلى أن قال:
الثالث: أن النجاشي وطائفةً من قومه أسلموا، فلهم حكم الظهور، وذلك معروف في السير والتفاسير؛ فإذا ظهر الإسلام في بلد لم تحرم الإقامة بها، على من صان دينه وأظهره، وكذلك جعفر وأصحابه صانهم الله بما جرى لهم من النجاشي، فإنه قال: من سبكم غرم، فمن تبعهم في تلك البلاد قبلوا منه، وأظهروا دينهم على رُغم من كرهه، فالآية لا تناولهم، فأين هذا ممن يواد المشركين، ويُظهر لهم المحبة والمعاشرة؟! فهذا الذي لا يبقى معه إيمان، انتهى كلامه رحمه الله.
(الشرح)
وهذا في رد والد المؤلف، وهو الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله على من اعترض على من قال: إن النجاشي كافر، (...) على المشركين، أجاب وقال: (لا اعتراض على حكم القرآن).
والثاني: (أنهم هاجروا إلى أرض الحبشة، المهاجرون إنما هاجروا إلى أرض الحبشة؛ ليأمنوا على دينهم).
والثالثة: (أن النجاشي وطائفة معه أسلموا وأظهروا دينهم)، وإذا ظهر الإسلام في بلد؛ فإنه لا تحرم الإقامة به على من صان دينه وأظهره، وكذلك جعفر وأصحابه صانهم الله بما جرى لهم من النجاشي، حيث أنه والاهم وأيدهم، وقال لهم: من سَبَّكُم نَدِم، ومن آذاكم غرم.
(المتن)
ولما ساق رحمه الله في رده على صاحب الخرج، قصة النجاشي وما قال لعمرو بن العاص رسول قريش قال: وقد أنزل الله في النجاشي وأصحابه قرآنًا، وأثنى عليهم، فلا يجوز أن يُحتج على جواز الإقامة مع أهل الباطل وموالاتهم والطمأنينة بهجرة الصحابة، وفرارهم بدينهم، لئلا يفتنهم المشركون عنه.
وكل أحدٍ يفهم من هذه القصة أنها حجة عظيمة على من ترك الهجرة من وجوه، لا تخفى على من له أدنى معرفة وفهم حتى البليد، ولا يقدر مكابر أن يحتج بحجة هي بعينها عليه، اللهم إلا من اُبتلي بسوء الفهم، وفساد التصور. انتهى كلامه، من خطه رحمه الله.
فبطلت الشبهة من أصلها؛ لأن الإنسان إذا أظهر الإسلام ببلد، لم تحرم الإقامة بها لمن فعل، كما فعل جعفر وأصحابه؛ لأنهم أظهروا دينهم في بلد من يعتقد مباينة الإسلام ببلد لم تحرم الإقامة بها لمن فعل كما فعل جعفر وأصحابه؛ لأنهم أظهروا دينهم في بلد من يعتقد مباينة الإسلام دينه، وهم أقرب مودة من المشركين بنص القرآن؛ فيجعل حكمهم حكم من لو علم منك المباينة في الاعتقاد، لجعل توحيد الله عين الكفر والخروج؟ وأقل أحواله الحكم عليك بالطرد والخروج؟ فالله المستعان.
وبالجملة: فالبلد إذا كانت بهذه المثابة، والإسلام بها يظهر، وواليها عضدٌ لأهل الإسلام.
(الشرح)
لأن النجاشي والٍ، عَضُدٌ لجعفر وأصحابه.
(المتن)
يوافقهم عليه، ويقرهم، ويقول لجنده ما قال النجاشي، فلا يُمنع أحد؛ فإن كان التوحيد هو أصل الأصول، وأوجب الواجبات، يجوز إخفاؤه للمصالح الدنيوية، وتسمى سائر العبادات التي هي فروعه إظهار الدين، فما فائدة العلم؟!
(الشرح)
المؤلف رحمه الله لا يزال يَرُدُّ على من استدل بقصة هجرة الصحابة إلى النجاشي، أنه دليل على جواز الإقامة في بلاد المشركين، يقول: هذا باطل، باطل من أساسه؛ لأنهم أظهروا دينهم، وإذا أظهر الإنسان دينه في بلد؛ جاز له البقاء فيها، والتوحيد هو أصل الأصول، وأوجب الواجبات؛ فلا يجب إخفاؤه، ولا يسمى إظهار الفروع إظهارًا للدين إذا كان الإنسان يستطيع إظهار الفروع، ولا يستطيع أصل الدين، إذا كان يستطيع أن يصلي ويصوم، ولا يستطيع إظهار التوحيد، لا يسمى إظهارًا.
(المتن)
فإن ابن القيم رحمه الله، في قصة هجرة الحبشة، قال: قال السهيلي: وفيه من الفقه: الخروج من الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها، إذا كان الخروج فرارًا بالدين، وإن لم يكن إلى أرض الإسلام؛ فإن الحبشة كانوا نصارى، يعبدون المسيح، ويقولون: هو ابن الله، وسموا بهذه الهجرة مهاجرين.
وهم أصحاب الهجرتين، الذين أثنى الله عليهم، وهم قد خرجوا من بلد الله الحرام، إلى بلد الكفر، لما كان ذلك احتياطا على دينهم، وأن يخلى بينهم وبين عبادة ربهم يذكرونه آمنين؛ وهذا حكم مستمر، متى غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورُأي الباطل قاهرًا للحق، ورجا أن يكون في بلد آخر، أي بلد كان، يبين فيه دينه، ويُظهر عبادة ربه، فإن الخروج على هذا الوجه، حتم على كل مؤمن؛ وهذه الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[البقرة: 115]. انتهى كلام السهيلي.
فانظر إلى قوله: إذا كان الخروج فرارًا بالدين، وقوله: فأثنى الله عليهم لما كان فعلهم احتياطًا على دينهم، وقوله: يذكرونه آمنين، أي: يفردونه ظاهرًا بين من لا يفرده كالنصارى، بخلاف من يوافق على التهليل كاليهود، فلا يكفي إلا التصريح بالرسالة، كما تقدم.
وقوله: هذا حكم مستمر، متى غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرًا للحق، ورجا أن يكون في بلد، أي بلد كان يبين فيه دينه؟ فما هذا الدين؟ أتظنه من العام الذي أريد به الخصوص؟ كلا! ثم ما هذا الاحتياط يرحمك الله؟ أتظنه في الذهاب إلى بلد المشركين؟ لما أوذيت على الحق في بلد المسلمين؟ ورأيت الباطل قاهرًا للحق؟ فما أعظم جناية المجيز لو أخذناه بلازم قوله؟ الله كبر، ماذا يفعل الجهل بأهله، مهلًا عن الله مهلا!
(الشرح)
فيه هذا نقل عن ابن القيم، فيه الرد على من استدل بهجرة الصحابة إلى الحبشة على جواز الإقامة في بلاد المشركين، (...) في بلد أي بلد، ثم رأى بلدًا أخرى يأمن فيها على دينه؛ يهاجر لها، ولا يكون هذا دليلًا على البقاء في بلاد المشركين، ولا يستطيع إظهار دينه، أو لا يأمن على نفسه من الفتنة.
(المتن)
وأما ما نقله عن شيخ الإسلام في الأسير، إذا لم يمنعوه عن واجبات دينه، فلا يدل على ما قصدوا بوجه من الوجوه؛ لأن كلام الشيخ ليس بظاهر في أن الدين هو مجرد العبادة فقط، وليس بظاهر أيضًا في أن أهل الأوثان لا يرضون منه بالتوحيد، فيحتمل أنهم نصارى، يكفي في إظهار الدين عندهم الشهادتان والصلاة.
ثانيًا: أنه قد عُلم من حال شيخ الإسلام بالضرورة، ما يرد هذا الزعم؛ فإن لشيخ الإسلام رحمه الله من تعظيم النصوص، والذب عنها، ونصر الدين باليد واللسان، والحث على قطع المسالمة بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، ما هو معروفٌ من حاله، ومقاله.
وقد نقل عنه شيخنا العلامة عبد اللطيف: أن آيات الوعيد في موالاة المشركين، دالةٌ على انتفاء الإيمان الواجب، عمن واد من حاد الله ورسوله، وأن معاداتهم وبغضهم والبعد عنهم، من واجبات الدين، فيُحمل محتمل كلامه على صريحه; وإذا كان الحنابلة صرحوا بأنه لا يتزوج الأسير في أرض العدو، معللين بأنه ربما صار على دينهم، قالوا: وكذلك التاجر؛ لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد، فينشأ على دينهم؛ قالوا: فتزويجه تعريض لهذا الفساد العظيم.
وهذا كلام المغني مع المتن، قال: مسألة: ولا يتزوج في أرض العدو، إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، قال الشارح بعد كلام: وسُئل الإمام أحمد عن أسير أُسرت معه امرأته، أيطؤها؟ فقال: كيف يطؤها؟ ولعلها تعلق بولد فيكون معهم؛ وإذا كان كذلك بطل ما فهموه من محتمل كلام الشيخ وغيره، وإذا كانت محتملات النصوص، وإن صحت ترد إلى صريحها، فكيف بأقوال هي مقابلة بحمد الله بأصرح منها من كلام السلف من أن إظهار الدين هو إظهار المعتقد، وإنكار المنكر؟ فتبقى النصوص لا معارض لها بحمد الله.
ولما احتج بعضهم بقول مالك رضي الله عنه فيمن لم يدرِ: أطلق واحدة أم ثلاثًا، إنها ثلاث احتياطًا، قال ابن القيم: فنعم، هذا قول مالك رضي الله عنه فكان ماذا حجته وهو على الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد رضي الله عنهم، وعلى كل من خالفه، في هذه المسألة، حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله؟ انتهى; وعلى التنَزل: فهذا جوابنا على كل ما احتج به المخالف.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يرد على استدلالهم بمجمل، ومحتمل من كلام شيخ الإسلام على أنه يجوز البقاء في بلاد المشركين، وأنه ليس من كلام شيخ الإسلام أن إظهار الدين هو مجرد العبادة فقط، فليضم كلام شيخ الإسلام، يضم كلامه إلى كلامه، وبين المجمل بالمبين، كما أن المطلق يقيد بالمقيد، وهذا واضح، والنصوص تضم بعضها إلى بعض.
(المتن)
وأما الاستدلال بقصة العباس، ونعيم بن عبد الله بن النحام، على مجرد الإقامة في بلاد المشركين، فمن الجهل الصرف؛ والقصتان حجة عليه لا له، من وجوه: منها: ما في قصة نعيم، من "أن بني عدي قالوا له، لما أراد أن يهاجر: أقم عندنا، وأنت على دينك، واكفنا ما كنت تكفينا؛ فتخلف عن الهجرة مدة من أجل ذلك، ثم هاجر; وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: قومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله"، وهذه تركها صاحبك، وهو من الخيانة في النقل; إذ هي ترد شبهته؛ لأن من المعلوم أن منعه ممن يريد أذاه، لا يكون إلا على المباينة في الدين، وإلا فمن سكت لا يؤذى.
وفي بعض ألفاظ القصة: أقم عندنا على أي دين شئت، ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول"، فهو ظاهر في أنه صرح بدينه، الذي هو مباينة دين قريش؛ لأنه قد أسلم قديمًا زمان إسلام عمر، وكان يخفي إسلامه، فلما أراد الهجرة التزموا له أن يمنعوه ممن يؤذيه، فأقام مظهرًا لدينه، ومع ذلك فقد تأسف على التثبط عن الهجرة إلى الله ورسوله، لقوله: قومي ثبطوني عن الهجرة، فكان مثبطًا عن هذا الواجب؛ لو تم لهذا المجيز الاستدلال به، فلا حجة فيه أيضًا.
ثم لو كان مأذونًا له من النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التنَزل، صار من القضايا العينية الخاصة؛ لأن الإذن لإنسان يدل على المنع، لولا الإذن، عند أهل المعاني، كما أذن للأعرابي، وكما أذن لأسلم بقوله: «ابدوا يا أسلم، وأنتم على هجرتكم».
وللشارع أن يخص من شاء بما شاء، ومثله العباس، فإنه كان مأذونا له؛ فهو مخصوص من المنع؛ لأن في إقامته مصلحةً للمسلمين؛ فلما ذكر ابن حجر حجة المنع قال: ويستثنى من ذلك، من كان في إقامته مصلحة للمسلمين؛ لأنه روي "أن العباس أسلم قديمًا، واستمر إسلامه إلى هجرته، يكتب بأخبارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يحب القدوم إليه، فكان يكتب له أن مقامك في مكة خير".
قال ابن حجر بعده: ولم يثبت ذلك، فإن لم يثبت له من النبي صلى الله عليه وسلم إذن، فلا حجة فيه أيضًا، لأنه قبل الهجرة جارية أحكامهم، وقد تثبط قبل بدر عن الهجرة، وخرج مع المشركين، فأسره المسلمون وافتدى، كما هو مشهور في السير، فيكون مثبطًا كما ثُبِط نعيم رضي الله عنه؛ فلا حجة فيه، كما أنه لا حجة في خروجه، في صف المشركين يوم بدر.
والصحيح: أن العباس كان يُظهر إسلامه بعد بدر؛ لأنه ثبت أنه "لما أخبره الحجاج بن علاط، في مَقدمه على قريش: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، وكان الحجاج قد أظهر لقريش خلاف ذلك، لإذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فلما ذهب الحجاج، قام العباس في أنديتهم مصرحًا: أن الله قد أعز دينه، ونصر رسوله"، وفي هذا أعظم إغاظة للمشركين؛ فبطل الاحتجاج بالقصتين على كلا التقديرين، وانحلت هذه الشبهة من أصلها.
(الشرح)
هذا فيه الرد على من استدل بقصة العباس وبقصة نعيم بن النحام على جواز الإقامة في بلاد المشركين.
قال المؤلف:
أولًا: يجاب بأن العباس والنعيم بن محمد كلًّا منهم مظهر دينه، وإذا استطاع الإنسان إظهار دينه؛ جاز له البقاء.
وثانيًا: أن هذه خصوصية لهما؛ فالنبي أذن لهما وخصهم بذلك؛ وللشارع أن يخص من شاء بما شاء، خص العباس وأذن له بالبقاء بين المشركين؛ لما في ذلك من المصلحة، وكذلك قصة العباس وقصة نعيم بن حماد، ولأنه بعد ذلك اعتذر، وقال: ثبطني قومي يا رسول الله.
(المتن)
وأما قوله عن ابن العربي: إن الهجرة فرضت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، فجوابه من وجوه:
الأول: أنا قدمنا له، أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالاستدلال به استدلال بالمفهوم؛ وهو ضعيف إذا خالف النص، كيف وهو محتمل عبارة لا حجة فيها.
الثاني: أن عبارة النووي عنه ترد هذا، فإنه قال في شرح الأربعين له: قال ابن العربي: قسَّم العلماء رحمهم الله الذهاب في الأرض طلبًا وهربًا.
فالأول: ينقسم إلى ستة أقسام:
الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهي باقية إلى يوم القيامة؛ والتي انقطعت بالفتح، في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» هي القصد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: الخروج من أرض البدع، وذكر قول القاسم عن مالك المتقدم؛ فوازن بين هذا، وبين مجمل عبارة نقلت عنه، لا صراحة فيها.
الثالث: أن خوفه على نفسه مع إظهار الدين، أقرب الاحتمالين، لموافقة قول سلفه.
(الشرح)
يرد المؤلف على نقله عن ابن العربي أن الهجرة فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم، واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، أجاب المؤلف رحمه الله بأن هذا استدلال بالمفهوم، وهو ضعيف، ونقل عن النووي أن الذهاب في الأرض هربًا ستة أقسام، وذكر منها ثلاثة أقسام، منها:
أولًا: أن الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وهي التي يريدها.
ثانيًا: الخروج من أرض البدع.
ثالثًا: أن خوفه على نفسه مع إظهار الدين هو أقرب الاحتمالين، وأنه خاف على نفسه لكن مع إظهار الدين.
(المتن)
وأما قوله: قال الخطابي: الحكمة في وجوب الهجرة على من أسلم، ليسلم من أذى الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم، ليرجع عن دينه، فلم أقف عليه من كلام الخطابي، بل هو من قول الحافظ؛ وكلام الخطابي قبله بيسير، وهو في الفتح فراجعه.
ثم هو من تفسير الشيء ببعض أفراده، وقد علل بعضهم: أنها إنما فُرضت، لتكثير سواد المسلمين، وبعضهم علل بتعليم شرائع الدين، وبعضهم بخوف الفتنة، وقد قدمنا: أن الحكم الواحد تتعد أسبابه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه: والسلف رضي الله عنهم يذكرون في تفسيرهم جنس المراد بالآية، على نوع التمثيل، ليس مرادهم تخصيص نوعٍ دون نوع، انتهى.
وقال الصنعاني رحمه الله: والعلة المنصوصة لا تقتضي الحصر قيدًا فيها عند الأصوليين؛ وقد تقدم لك مررًا، ما يدل على أن خوف الفتنة الدعوة إلى الله وإظهار الدين، إذ لا فتنة تتوقع للساكت حتى في بلاد الروم، أفلا يستحي العاقل من حمل عبارات العلماء على مجرد فهمه، من أن فعل العبادات، غير المتعدية، هو إظهار الدين؟! فالله المستعان.
ولو سُلِّم هذا لانحلت عروة شعبة الهجرة من أصلها، ولما أطلق الماوردي ما هو مُسلم في الجملة، من أن من رجا دخول غيره في الإسلام جاز له ذلك، أُنكر عليه هذا الإطلاق ونوزع فيه، كما تقدم.
(الشرح)
قال المؤلف رحمه الله يَرُدُّ ما نقل الخطابي، ويبين أنه لا يدل على ما ادعى من أجاز البقاء في بلاد المشركين وهو لا يستطيع إظهار دينه، وأن إظهار الدين ليس هو إظهار الشعائر فقط، وإنما هو يستطيع أن يَرُدَّ على الشبه، وأن يأمن من الفتنة.
(المتن)
وأما ما نقله عن الماوردي والحافظ، كلاهما على قول عائشة رضي الله عنها: "لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله، مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام"، فكلام عائشة صريحٌ في أن العلة التي من أجلها كان المؤمن يفر بدينه زالت بظهور الإسلام، ونحن نقول بموجب ذلك، ومفهوم الحافظ ليس هو مقتضى كلام عائشة، إن كان على ما زعم المجيز مع أن مجرد العبارة، وفي النقل تصرف مخل، لا ينبغي لطالب العلم، وأنا أسوق لك العبارة من أصلها، لتعلم أن هذا العلم دين.
قال الحافظ: إشارة عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة ربه، في أي موضع كان اتفق، لم تجب عليه الهجرة، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار دينه، في بلدٍ من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، انتهى كلام الحافظ.
فأسقط المجيز قوله: ومن ثم، ولعله ذهول، وهي تدل: على أن عبارة الحافظ تنبني على ذلك، وأن الماوردي فهم كما فهم، لأن معنى: ومن ثَمَّ، أي: ومن هذه الحيثية، فعلم أنه لاحظ ذلك المعنى الذي قصده الماوردي من جواز الإقامة لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره، مع أن كلام الحافظ يُشعر بتمريض إطلاق الماوردي الأفضلية؛ وقد قدمنا لك الكلام عليه، وأنه لم يُسلم للماوردي ما أطلق، فكذلك لا يُسلم للحافظ لو قُدِّر أنه يوافقه، مع أن عبارته محتملة غير صريحة؛ إذ العبارة لفظ عام، لا يُحمل على ما زعموا إلا بقرينة، على ما قاله علماء البيان، ولا قرينة حينئذ؛ فحمله، وكذلك حمل ما قبله وما بعده، من مطلق عبارات العلماء، على ما يشهد له البرهان من قول الشارع، أولى، لوجوب الرد إليه عند التنازع.
(الشرح)
هذا هو رد على من فهم كلام الحافظ أنه يرى جواز الإقامة مع عدم إظهار الدين، هذا ليس بصحيح، بين المؤلف رحمه الله أنه صريح؛ لأنه لابد من إظهار الدين؛ ولذلك نقل عن الماوردي أنه قال: (إذا قدر على إظهار دينه، في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام)، فإذا قدر فلا (...) بأن استطاع أن يظهر دينه، وأن يرد على الشبه، ويأمن على نفسه من الفتنة.
(المتن)
وأما نقله عن الحافظ، وابن قدامة، من أن إظهار الدين أداء الواجبات، فقد تقدم لك ما يدل على أنه لا يتم له الاستدلال به على كل تقدير، لأنهم في عباراتهم غايروا بين الجملتين، فقالوا: لا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه أداء واجباته، وأعادوا الجملة ثانيًا، فصار هذا الحكم مركبًا من جزأين، ولا يصح بدونهما، فظهر أن إظهار الدين هو إظهار المعتقد.
قال شيخ الإسلام: والأمر المركب من أجزاء، تكون الهيئة الاجتماعية، مبنية على تلك الأجزاء، مركبة منها؛ لأن إعادة الأداة عند أهل المعاني، من باب التأسيس لا من باب التأكيد؛ وأظنه لا يفرق بين النوعين كما أنه لم يعرف الفرق بين العام المطلق المستغرق لأفراده، وبين العمومات المتناولة للشيء، ليس ببدع، إذ الدعاوي قد كثرت، ولو كان ثم خلاف لنبَّه عليه المتأخرون، لأنهم صرحوا بالمراد، كما تقدم.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله بَيَّن، هو رد على من استدل بجواز الإقامة في بلاد المشركين بمجرد إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
- وقال: إن المنقول عن العلماء في هذا أن إظهار الدين مركب من شيئين:
أحدهما: إظهار الدين.
والثاني: أداء الواجبات.
وإظهار الدين معناه: إظهار المعتقد، إظهار ما يعتقده من توحيد الله، وعداوة المشركين، وعداوة دينهم، فلابد من الأمرين.
(المتن)
وأما ما نقله عن الحافظ: أنه إذا لم يكن إمام وجب على المسلمين... إلى آخره.
فجوابه: أن نصب الإمام حجة ظاهرة في التماس الحوزة، والحوزة لا تكون إلا تنفيذ الأمر والنهي، ومعناه أنهم يجعلون إمامًا وقاضيًا، يقضي بحكم القرآن، فما هذا الإمام؟ وما هذه الحوزة إذا لم تنفذ شيئًا؟! فما وجه المأخذ؟ وأين مطابقته للإقامة بين ظهراني المشركين، لمسلم لا يستطيع إظهار ما هو عليه من الدين؟!.
وقوله: وزور كلام العلماء يطول، مجرد تهويل لا يعبأ به؛ وإذا كان هذا غاية بضاعته فلو شاء لنقل مجلدات. فقد قدمنا لك أول الجواب كلام ابن القيم أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة على حكم، فلا يمكن أن يُعارض، فلعلَّ الله أن ينفعك به، فإنه أصلٌ يزيل عنك شبهات كثيرة، وليس الشأن في كثرة التسويد; بل الشأن كل الشأن في فهم النصوص، ورد محتملاتها إلى صريحها.
ولما رأى بعض المغاربة كلامًا أعجبه، قال: وليس الفقيه من يحفظ عددًا كثيرًا من العلم، وإنما الفقيه من يعرف مواقع الخطاب ومدلولات الألفاظ، ومن ظن ذلك، فقد عرض له ما يعرض لمن ظن: أن الخفاف هو الذي عنده الخفاف الكثيرة، لا الذي يقدر على عملها، فقد يأتيه إنسان بقدم ليس في خفافه ما يوافقه، ما يجيء به إلى صانع الخفاف، فيصنع لكل خرمًا ما يوافقه.
(الشرح)
وهذا فيه الرد على ما نقله الحافظ، قوله أنه إذا لم يكن إمام؛ وجب على المسلمين (.....)هذا إنما نصب الإمام، جاوب أن نصب الإمام حجة ظاهرة؛ لأن الإمام في التماس الحوزة، والحوزة لا تكون إلا بتنفيذ الأمر والنهي، ومعناه: أنهم يجعلون إمامًا وقاضيًا يقضي بحكم القرآن، يقولون: المراد التنفيذ، فما هذا الإمام وهذه الحوزة إذا لم تُنَفِّذ شيئًا، وليس في هذا حجة على الإقامة بين ظهراني المشركين، وهو لا يستطيع إظهار دينه.
(المتن)
وأما احتجاجه بسفر أبي بكر رضي الله عنه فمن أعظم الجهل؛ لأنه قد قام بقلوب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من الغيرة لله ولدينه وعداوة أعدائه، وإزهاق النفوس في مرضاته، ومفارقة الآباء والإخوان والعشيرة، ما هو معروف، لا يخفى إلا على من أراد لبس الحق بالباطل. هذا سعد رضي الله عنه لمَّا قدم مكة كافح أمية، وتوعده بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من قتله، وهو نازل عليه، فأغاظه ولم يبال به.
وهذه أخت عمر رضي الله عنها لما قال لها: أريني هذا الكتاب، قالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون، ولم توافقه، وقد أدمى رأسها، ومع ذلك، قالت: كان ذلك تعني الإسلام على رغم أنفك.
وكذلك أم حبيبة بنت أبي سفيان، طوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها، فقال: بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ قالت: "بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، فلا أحب أن تجلس عليه"; ومثل هذا كثير من أقوالهم وأفعالهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
والمقصود: أن لهم من الغيرة ما هو معلوم، ومصالح سفرهم للدين، والدعوة إليه ظاهرة، وحججهم على أعدائه قائمة قاهرة؛ ومن استدل بهذا على ما يصدر من أهل الزمان، فهو المكابر لا محالة، وهو كمن يستدل بجواز القبلة في نهار رمضان، على جواز الوطء فيه.
(الشرح)
يقول: إن احتجاج المحتجين بسفر أبي بكر ومعه عبد الله بن أريقط وهو مشرك، هذا باطل؛ لأنه معروف أن الصحابة عندهم من الغيرة لله ولدينه، وعداوة أعدائه، وذكر في قصة سعد لما تكلم مع ابن أمية، وقال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك ستقتل، ولم يُبَالِ به، وكذلك أخت عمر لما أسلمت قبل أن يسلم، وقد دمى رأسها ولم تُبَالِ، وأظهرت الغيرة، وكذلك أم حبيبة.
هؤلاء الصحابة لهم من الغيرة ما هو معلوم، فكيف يستدل به على جواز غيرة الصحابة على دين، يستدل به على الإقامة بين المشركين، هذا مثله من يستدل بجواز القُبلة في نهار رمضان على جواز الوطء فيه، القُبلة كون الإنسان يقبل زوجته وهو صائم لا (.....) القبلة، ليست القبلة ليس فيها شيء، وهي وإن كانت مقدمةً لكن ليس فيها شيء، فكيف يستدل بجواز القُبلة على جواز الوطء؟ هذا لا يمكن، كمن يستدل بغيرة الصحابة على دين الله، على جواز الإقامة في بلاد المشركين لمن لا يقدر على إظهار دينه.
(المتن)
والحاصل: أن المسلم لا يكون مظهرًا لدينه، سواء كان مسافرًا أو مقيمًا، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، وهو الذي يفهم من كلام السلف. أما قول: يا كافر! وقولك: أوجدنا عليه دليلًا، ولو من تاريخٍ، أو غيره، فهذا لفظ لا يقول به أحد، ولا نعلم أحدًا قال باشتراطه؛ لأنه مما لا مصلحة فيه حتى لو الداعي إلى الدين.
فإن الله قال لموسى وهارون، في حق من ادعى الربوبية: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، بل يُكتفى من ذلك بإظهار التوحيد، وإنكار الشرك والبراءة منهم، والتصريح لهم بذلك؛ والله أعلم.
ولابد من عودة يقتضيها المقام، أُعرج فيها على بعض عبارات أئمة هذه الدعوة، أختم بها هذا الجواب، وإن كنت قد ذكرت شيئًا منها فيما تقدم، وقد يستلذ المعاد، كما قيل:
ردد كلامك ما أمللت مسمعًا ومن يمل من الأنفاس ترديدًا
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يقول: والخلاصة (أن الإنسان لا يكون مظهرًا لدينه، سواءً كان مسافرًا أو مقيمًا، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها) فإذا كان بين النصارى؛ فلابد أن يظهر ما اشتهر عنهم من الكفر يخالفهم، فالنصارى يقولون: عيسى ابن الله، فلابد أن يُظْهِر أن عيسى عبد لله ورسوله، وإذا كان من المشركين مثلًا الذين يدعون غير الله؛ فلابد أن يظهر لهم أن دعاء غير الله شرك، وأنهم على باطل، وهكذا كل طائفة يكون إظهار الدين بمخالفتها، ثم ساق المؤلف أجوبةً لأولاد الشيخ في جواز الإنسان للسفر إلى بلاد الكفار.
(المتن)
وفي أجوبة أولاد الشيخ، لما سئلوا: هل يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفار، وشعائر الشرك ظاهرة، لأجل التجارة أم لا؟
الجواب عن هذه المسألة، هو الجواب عن التي قبلها سواء، ولا فرق في ذلك، بين دار الحرب والصلح، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها، لا يجوز السفر إليها.
وقال السائل أيضًا: وهل يفرق بين المدة القريبة، مثل شهر أو شهرين، وبين المدة البعيدة؟
الجواب: أنه لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة، فكل بلدٍ لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها ولا على عدم موالاة المشركين، لا يجوز له المقام فيها، ولا يومًا واحدًا، إذا كان يقدر على الخروج منها، انتهى.
(الشرح)
وهذا واضح؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفر وشعائر الشرك ظاهرة، ولو للتجارة؛ إذا كان لا يستطيع إظهار دينه بأن يستطيع أن يرد على الشبه، ويستطيع أن يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، ويأمن على نفسه من الفتنة، فإذا كان كذلك؛ جاز له، وإلا فلا.
(المتن)
وفي أجوبة أخرى لهم: ما قولكم في رجل دخل في هذا الدين وأحبه، ويحب من دخل فيه، ويبغض الشرك؛ وأهله يصرحون بعداوة الإسلام، ويقاتلون أهله؛ ويعتذر بأن ترك الوطن يشق عليه، ولم يهاجر عنهم بهذه الأعذار، فهل يكون مسلمًا هذا؟ أم كافرًا؟
الجواب: أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به، وأحبه وأحب أهله، وعرف الشرك وأبغضه وأبغض أهله، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك، ولم يهاجر، فهذا فيه تفصيل؛ فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ منهم، ومما هم عليه من الدين، ويُظهر لهم كفرهم وعداوته لهم، ولا يفتنونه عن دينه، لأجل عشيرة، أو مال أو غير ذلك، فهذا لا يُحكم بكفره.
ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر ومات بين أظهر المشركين، فنخاف أن يكون قد دخل في أهل هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)[النساء: 97] الآيتين ، فلم يعذر الله إلا من لم يستطع حيلة ولم يهتد سبيلا، ولكن قلَّ من يوجد اليوم من هو كذلك، إلى آخر المسألة؛ وهذا جواب الشيخ حسين، والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله وعفا عنهم، وقد فهموا من إطلاق النصوص المنع من المساكنة مطلقًا.
ونحن نقول بالرخصة لمن أظهر دينه، بتصريحٍ أو امتيازٍ يرجى به إسلام غيره، كما قدمنا لك عن السلف؛ لكن هذه الرخصة قد قُيدت بأمن الفتنة، وأنت خبير بأن أكثر المسافرين في هذا الزمان، لا يعرفون ما حرَّم الله تعالى، من موالاة أعدائه وأقسامها، وما يكفر به المسلم، وما لا يكفر به وما يُحفظ الدين؛ بل هم إلى موالاة المشركين أسرع من السيل إلى منحدره؛ فأين من يعرف أدلته ويظهره عند الخصم إذا ابتلي به؟ بل غالبهم إلا من شاء الله يفتتن عند أول شبهة تعرض له؛ وهذا كلام أئمة هذه الدعوة، ومن أنكره، فإنما أنكر في الحقيقة عليهم، وإن تعامى عنهم وجعله في معاصريه.
وإذا كان الشيخ وأتباعه إلى يومنا هذا يقولون بموجب هذه النصوص التي قدمناها، ويوالون عليها ويعادون، فلا يسأل ضرورة: هل هم فيما قرروه، على نهج قويم وصراط مستقيم، أم هم ممن لم يفهم درك المعاني، ولم يعرف أصولها والمباني؟ فليكشف عن النقاب، وليبين وجه الخطأ بفصل الخطاب.
وأما المغالطات والتلبيس فلا حاجة لنا، ولا نقبل لمجرد النقل الذي وضع في غير موضعه، ولكن على قانون البحث بأن تكون المعارضة بمساوٍ في الصحة، أو نص في الحكم لا يحتمل إلا مدلولًا واحدًا؛ وحاشا أن يجد ذلك.
(الشرح)
لعلها المعارض بمساوٍ في الصحة، دليل المعارض يساوي دليل المعارض في الصحة.
(المتن)
لأنا لو ذهبنا مع المحتملات والمجملات، والقضايا العينية المتعلقة بالأشخاص، أو الأزمان، أو الأحوال، لم يبق في الأرض سنةٌ يعمل بها.
(الشرح)
وهذا ظاهر في أن أجوبة أئمة الدعوة بأن الإنسان إذا كان يقدر على إظهار دينه في بلاد المشركين، ويتبرأ منهم ومما هم عليه من الدين، ويُظهر لهم كفرهم وعداوتهم، ولا يفتنونه عن دينه؛ جاز له البقاء، أما إذا كان لا يستطيع البراءة من المشركين، ولا يستطيع إظهار دينه، أو يخشى أن يفتنوه عن دينه، فإنه لا يجوز له البقاء، بل يجب عليه الهجرة.
(المتن)
ولا شك أن عقد مناظرة في مثل هذا الأصل الأصيل، ترفع إلى علماء الإسلام، ومن لهم البصيرة والعناية بهذا المقام، وتصير مثله بصاحبها على ممر الأيام، نوع جنون وبرسام.
(الشرح)
البرسام: يعني الشخص الذي ليس عنده عقل، المجنون، يقال: برسام، برسام هو الذي يهذي وليس معه عقل.
(المتن)
فاعرف أخي الحق بدليله، واترك المراء فيه، فإن المراء علامة الحرمان، قال حبر الأمة رضي الله عنه: "المراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غايته".
قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يُعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غال، ولا يحملا على علةٍ توهن الانقياد؛ فإن المقصود: هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل؛ وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يُبالي بما ظفر من العبد من الخطتين؛ انتهى. وما أقرب كلا الخطتين فمن تمكن منه الشيطان، وتولاه طلب العلم لغير الله وما كان كذلك، فهذه عقباه.
(الشرح)
فمن تمكن منه الشيطان وتولاه؛ طلب العلم لغير الله.
(المتن)
فمن تمكن منه الشيطان، وتولاه طلب العلم لغير الله وما كان كذلك، فهذه عقباه.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يقول: المناظرة في هذا الأصل العظيم، وهو جواز السفر إلى بلاد المشركين، أو عدم الجواز، هذه المسألة تُرفع إلى أهل العلم، يتكلم فيها أهل العلم، ما يتكلم فيها الجهال مثل هذا المعارض الذي اعترض، ترفع إلى أهل العلم، وأهل العلم بينوا هذا الأمر العظيم وقرروه، بأن الإنسان لا يجوز له البقاء إلا إذا كان يستطيع إظهار دينه، يستطيع أن يرد على الشبه، ويأمن على نفسه من الفتنة.
(المتن)
ولفقيه زمانه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، في رسالته إلى آل سليم، كلام يُناسب ذكره هنا; قال: وقد أخبر الله عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد، قال تعالى: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة: 75].
وأخبر عنهم أنهم: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً)[النساء: 51]، ولابد أن يوجد من هذه الأمة، من يُتابعهم على ما ذمهم الله به. والإنسان إذا عرَّف الحق وضده، لم يبالِ بمخالفة من خالف، كائنًا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم، ولا عابد; وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورًا كثيرة لا مُنكر لها.
ثم ذكر الشرك، وذكر ما اُبتلي به شيخ الإسلام من علماء وقته، قال: وأكثر الناس اليوم خصوصًا طلبة العلم خفي عليهم الشرك، انتهى من رسالته المشهورة. والفائدة: مَعرفة أن هذا الإمام له اليد الطولى في معرفة أصول الدين وفروعه، والحمية الإيمانية لله ولرسوله، وصِدق الفراسة في التواء غصن الدين وذبوله.
(الشرح)
وما عليه الشيخ أبا بطين رحمه الله، يقول: (أن الله تعالى ذم اليهود على التحريف، وأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وأخبر أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، ولا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتابعهم على ذلك) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه».
فإذا وجد في الأمم السابقة من يحرف الكلام عن مواضعه؛ فيوجد في هذه الأمة من يحرف النصوص، الذي يحرف النصوص، ويستدل بها على جواز الإقامة في بلد المشركين؛ بأن يحرف النصوص ويؤولها ويعمل على تأويلها لا يستغرب؛ لأنه تابع اليهود في هذا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تتبع سَنَن من كان قبلها، فالواجب الحذر، الواجب الحذر من تحريف النصوص؛ حتى يكون من الطائفة المنصورة.
(المتن)
وهذا آخر ما أوردناه زائدًا على السؤال، حملني عليه النصح للمسلمين، والشفقة بأهل الدين، لما اشتدت غربة الإسلام، وأعرض المنتسب عما يجب عليه من القيام، ومال إلى ما مالت إليه العوام، منشدًا ما قاله بعض العلماء الأعلام:
قدمت لله ما قدمت من عملٍ وما عليك بهم ذموك أو شكروا
(الشرح)
قال المؤلف رحمه الله، الشيخ إسحاق، يقول: إني أجبت على هذا السؤال وأطلت، وزدت على المطلوب، ومقصدي من ذلك النصح للمسلمين، والشفقة بأهل الدين، وذلك لأن غربة الإسلام اشتدت، وأعرض كثير من المنتسبين للإسلام عما يجب عليهم من القيام بأمر الله، ومالوا إلى ما مالت إليه العوام، واستشهد بهذا البيت:
قدمت لله ما قدمت من عمل وما عليك بهم ذموك أو شكروا
يقول: أنا قصدي من ذلك النصح والشفقة؛ ولذلك أطلت في الجواب وزدت عن المطلوب، رحمه الله وغفر له.
(المتن)
وأسأل الله العظيم أن يثبتنا على الدين القويم، والصراط المستقيم.
وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله ختم هذه الرسالة بهذا الدعاء العظيم، وتوسل باسم الله العظيم؛ فقال: (وأسأل الله العظيم أن يثبتنا على الدين القويم، والصراط المستقيم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا) هذا أعظم دعاء، سأل الله الثبات على الدين والصراط المستقيم، والصراط المستقيم وهو دين الإسلام، وهو ما جاء في القرآن والسنة.
وقال: (وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا) فنسأل الله أن يثبتنا على الدين القويم والصراط المستقيم، ونسأله سبحانه ألا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهبنا منه رحمةً إنه هو الوهاب، ونسأله الثبات على دينه، والاستقامة عليه حتى الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.