شعار الموقع

شرح كتاب عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية_2

00:00
00:00
تحميل
66

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله صحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولمشايخه ووالديه يا رب العالمين.

(المتن)

قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن ابن عباس t في قوله تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)[نوح:23].

قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم, أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت قال ابن القيم: قال غير واحد من السلف لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمَّ صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد: ...

فهذا ورد عن ابن عباس رواه البخاري في الصحيح، رواه البخاري في التفسير باب: ودًّا، ولا سواعًا، ويغوث، ويعوق، قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح؛ يعني هذه الأسماء ود: اسم رجل صالح، وسواع: اسم رجل صالح، ويغوث: اسم رجل صالح، ويعوق، ونسر؛ كانوا صالحين عباد، ثم ماتوا توفوا في وقت متقارب، فحزن الناس عليهم، (فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم)؛ يعني صوروا صورهم واجعلوها في المساجد حتى تتذكروا عبادتهم، وتتشوقوا لها، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك (ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت قال ابن القيم: قال غير واحد من السلف لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمَّ صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم)؛ هذا يدل على أن أصل عبادة الأوثان هي التصوير، التصوير والعكوف على القبور (عكفوا على قبورهم، ثمَّ صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم)، يقول: (حتى إذا هلك ونسى العلم عبدت)؛ يدل على أن العلم يمنع الإنسان من المحرمات، العلم الصحيح الذي يوجه الإنسان للعمل، يمنع الإنسان من المعاصي.

يقول: (حتى إذا هلك ونسي العلم عبدت)، فإذا وجد العلم يحصل كل خير، وإذا فقد العلم يحصل كل شر؛ ولهذا جاء في الحديث «لا تقوم الساعة حتى يقل العلم، ويكثر الجهل، ويقل الرجال وتكثر النساء»، فالعلم الشرعي كله خير إذا فقد العلم الشرعي حصل الشر؛ ولهذا قال: (حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت) بعد ما نسي العلم عبدت؛ وهذا فيه دليل على أن تصوير الصور، والعكوف على القبور هو أصل عبادة الأصنام والأوثان؛ لأن هؤلاء الصالحين لما ماتوا في وقت متقارب صوروهم ليتذكروا عبادتهم، ثم ماتوا فجاء أبناءهم من بعدهم، فقال لهم الشيطان كما في الروايات الأخرى: إنما صور آبائكم هؤلاء؛ لأنهم يصرفون بهم المطر فعبدوهم، فوقع الشرك نعم.

(المتن)

قال رحمه الله: فتقرر أن علة النهي عن الصلاة عند القبور والبناء عليها كون ذلك ذريعة إلى الشرك في العبادة، ونظير ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو والإطراء؛ وهو مجاوزة الحد كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من قبلكم الغلو»، وقال صلى الله عليه وسلم للذي قال: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله».

(الشرح)

يقول المؤلف: (فتقرر أن علة النهي عن الصلاة عند القبور والبناء عليها كون ذلك ذريعة إلى الشرك في العبادة)، ذريعة بمعنى وسيلة، لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند القبور، والبناء عليها؟ لأنه وسيلة للشرك، فإذا صلى الإنسان عند القبر، وبنى عليه القبة، ووضع فيه الزهور والرياحين، والأطياب؛ صار هذا دعوة للشرك، فهو وسيلة قريبة إلى الشرك.

فأولًا: يصلي عند القبر لله، ثم يصلي لصاحب القبر، يتدرج به الشيطان، فينتقل من الصلاة لله عند القبر إلى الصلاة لصاحب القبر، إذًا لماذا نهي عن الصلاة عند القبور؟ لأنها وسيلة وذريعة إلى الشرك؛ هذا معنى قول المؤلف: (فتقرر أن علة النهي عن الصلاة عند القبور والبناء عليها كون ذلك ذريعة الشرك في العبادة، ونظير ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو والإطراء)؛ هذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله نقله المؤلف.

 قال: (ونظير ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو والإطراء؛ وهو مجاوزة الحد)؛ مدح النبي صلى الله عليه وسلم ومجاوزة الحد في مدحه، النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا خيرنا وابن خيرنا يا سيدنا وابن سيدنا: قال: «قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله».

 فخاف عليهم من الغلو، فالنهي عن الغلو؛ لأنه وسيلة للشرك، والنهي عن الصلاة عند القبور والبناء عليها؛ لأنها أيضًا وسيلة للشرك، فالمؤلف يقول: كل من الأمرين علة للنهي، ونظير ذلك؛ يعني أنه علة للنهي عن الشرك، الدليل على الشرك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو، فقال: «لا تُطروني»؛ يعني لا تمدحوني، وتزيدوا غلو في المدح «كما أطرت النصارى ابن مريم»؛ فإنهم جاوزا الحد في عيسى فرفعوه من مقام النبوة إلى مقام الألوهية، فقالوا: إنه الله، أو ابن الله، النصارى غلوا وزادوا في الحد، فرفعوا عيسى من مقام النبوة إلى مقام الألوهية، فقالوا: إنه ابن الله، والرسول يقول: لا تغلوا؛ لا تطروني فتتجاوزوا الحد فتقعوا في الغلو كما وقعت النصارى، (وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو»، وقال صلى الله عليه وسلم للذي قال: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله»)؛ وهذا الذي قال: قوموا بنا نستغيث من هذا المنافق هو أبو بكر الصديق t، قال: قوموا بنا نستغيث من هذا المنافق، وهذا المنافق هو عبد الله بن أُبي، فقال النبي: «إنما لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله».

قيل: إن النبي قال: إنه لا يستغاث به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقدر، لأن عبد الله بن أُبي رئيس المنافقين.

وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين لهم أن الاستغاثة إنما تكون بالله، وإن كان الاستغاثة بالمخلوق القادر لا بأس بها، لكنه صلى الله عليه وسلم قال هذا سدًا للذريعة، وإلا فهو قادر على أن يغيثهم.

والحديث فيه ضعف أخذه الطبراني كما قال المحقق عن عبادة بن الصامت مرفوعًا, وفيه ابن لهيعة، لكن شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الرد على البكري، لما اُعترض عليه بعدم صحة هذا الحديث، قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه، بل ذكر ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة في الكتاب والسنة؛ يعني ليس العمدة عليه، وإنما العمدة على غيره، فيكون هو شاهد.

كما أنه إذا ذكر حكم بدليل المعلوم ذكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل، وأقوال العلماء، وغير ذلك لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي؛ ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار الذي تُكلم في بعض رواتها لسوء حفظ، أو نحو ذلك، وبآثار الصحابة والتابعين، وبأقوال المشايخ، والإسرائيليات، والمنامات مما يصلح للاعتضاد، فما يصلح للاعتضاد نوع، وما يحسن للاعتماد نوع آخر، هذا الخبر من النوع الأول؛ يعني يذكر الاعتضاد، لا للاعتماد عليه الاعتماد على غيره من النصوص، لكنه موافق لها.

فالنبي أراد أن يبيِّن لهم أن الاستغاثة سدًا للذريعة، أن الاستغاثة تكون بالله، وأن الذي استغاث بالحي القادر لا بأس، مثل الغريق، قلنا: الاستغاثة هي الدعاء في وقت الشدة، مثل: الغريق، إنسان غرق ويقول للسباح: اغثني، جائز، ولا غير جائز؟ جائز؛ لأنه يستطيع ينزل ويغيثه؛ لأنه سباح.

لكن لو استغاث بغير سباح، استغاث بمشلول، مشلول أمامه وقال: أغثني؛ هذا شرك؛ لأن المشلول لا يقدر، ما استغاث به إلا لأنه استغاث بسره؛ يعني هناك شيء في السر، في الخفاء أنه يستطيع؛ وهذا شرك.

من استغاث بالميت، أو الغائب، أو بالحي الحاضر غير القادر؛ هذا لا يجوز، لكن لو استغاث بالحي الحاضر يجوز، فهذا سباح ينزل ويغيثه، لكن مشلول، قال: أغثني، أو غائب، أو ميت؛ هذا لا يجوز هذا شرك، فالرسول صلى الله عليه وسلم قادر على أن يغيثهم، لكنه أراد سد الذريعة، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر؛ لأن هذا رئيس المنافقين؛ عبد الله بن أُبي نعم.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: وقد وقع ما حذر منه صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو والإطراء، وفشى ذلك في البلاد والعباد حتى عظمت الفتنة، واستحكم الشر، وتفاقم الأمر، واشتدت الفتنة بالقبور وأهلها حتى وقعوا في الغاية التي لأجلها نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو، وعن البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، وباشر أكثر الخلق جهارًا ما جاءهم فيه النهي الصريحُ من ربهم، ونبيهم صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ» فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

(الشرح)

يقول: (وقد وقع ما حذر منه صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو والإطراء)؛ وهذا كلام ابن القيم رحمه الله، قال: (وقد وقع ما حذر منه صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو والإطراء)؛ يعني إنهم غلوا وأطروا مثل ما فعل صاحب البردة الذي أطرى الرسول صلى الله عليه وسلم قال:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
 

 

سواك عند حلول الحادث العمم
 

إن لن تكون آخذ بيدي فضلاً
 

 

وإلا فقل يا ذلة القدم
 

 

شوف غلا بالرسول r, وقال: مالي من ألوذ به سواك؛ فنسى ربه، يقول: يوم القيامة مالي ألوذ بأحد سواك عند حدوث الحادث العمم، الحادث الذي يعم الخلائق وهو الوقوف بين يد الله للحساب، والبعث، والجزاء.

يقول: إذا وقع هذا الحادث مالي ألوذ به سواك يا رسول الله؛ نسي ربه، ثم يقول: إن لن تكون آخذًا بيدي فضلًا وإلا فقل يا ذلة القدم؛ إن لن آخذا بيدي يا رسول الله وإلا فإني هالك؛ نسي ربه؛ هذا غلو وإطراء، ثم قال بعد ذلك يخاطب الرسول:

فإن من جودك الدنيا وضرتها
 

 

ومن علومك علم اللوح والقلم

 

أعوذ بالله من الغلو، يقول: من جودك يا محمد أن تملك الدنيا والآخرة، ما بقي لله شيء؟ إذا كان الرسول يملك الدنيا والآخرة، ماذا بقي لله؟ ما بقي.

فإن من جودك الدنيا وضرتها
 

 

ومن علومك علم اللوح والقلم
 

 

علم اللوح المحفوظ والقلم الذي كتب المقادير؛ فهذا غلو من صاحب البردة، هذه البردة للبوصيري، فبعض الناس يجعلونها ورد يقرؤونها صباح ومساء، يجعلونها ورد لهم؛ شرك، يمسون على الشرك، ويصبحون على الشرك أعوذ بالله، يقرؤون هذه البردة، وبعضهم يسمونها ابتهال في بعض الإذاعات، يقولون: ابتهال، ابتهال يأتي بهذه الأبيات.

هذا الإطراء الذي يقوله المؤلف، (وقد وقع ما حذر منه صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو والإطراء، وفشى ذلك في البلاد والعباد حتى عظمت الفتنة، واستحكم الشر، وتفاقم الأمر، واشتدت الفتنة بالقبور وأهلها حتى وقعوا في الغاية التي لأجلها نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو)، ما هي الغاية؟ الغاية: الشرك، وقعوا في الشرك, عبدوها من دون الله؛ ذبحوا لها، نذروا لها، دعوها من دون الله، (التي لأجلها نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو، وعن البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والبدعة سنة، والسنة بدعة)، كيف هكذا؟ الشرك منكر صار معروف عندهم، فهم يسمونها محبة للصالحين، فالذي ينهى عن الشرك، يقول: هذا ما يحب الصلحين، يبغض الصالحين، والذي يدعو إلى الشرك، يقول: هذا يحب الصالحين؛ انعكست القضية (وصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، وباشر أكثر الخلق جهارًا ما جاءهم فيه النهي الصريحُ من ربهم، ونبيهم صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مصداق قول صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ» فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون) نعم.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: وبما حررناه تعرف أنما يفعله القبوريون اليوم في مصر، والشام، والعراق، والهند، وغيرها من البلاد من عبادة القبور، والاستمداد بأهلها، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات كقول بعضهم: يا فلان أغثني، أو يا فلان اشفي مريضي، وردَّ غائبي، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الألفاظ أن هذا هو الشرك المبين، والضلال البعيد، كما قال تعالى: (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)[الحج:12].

وفي الإتيان بالكاف التي هي للبعد وتوسط اللام بينهما وبين اسم الإشارة، وإقحام ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر مع تعريفه ووصفه بالبعد ما يقتضي أن هؤلاء قد بلغوا من الضلال والغواية، والبعد عن الصراط المستقيم إلى ما لا نهاية له، كما قال تعالى:(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)[الأحقاف:5].

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: (وبما حررناه)؛ يعني بما ذكرنا وكتبنا (تعرف أنما يفعله القبوريون اليوم في مصر، والشام، والعراق، والهند، وغيرها من البلاد من عبادة القبور، والاستمداد بأهلها، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكروبات)؛ هذا هو الشرك؛ يعني يستمد منه, يعني قول لصاحب القبر: المدد, المدد, مُدني بكلام، مُدني بالعافية، مدني بالمال، مدني بكذا؛ هذا شرك، وسؤالهم قضاء الحاجات؛ اقضي حاجتي، فرج كربتي، رُدَّ غائبي.

ومثل ما قالوا: يا فلان أغثني، بعضهم يأتي في المدينة يا رسول الله اغثني، يا رسول الله رُدَّ غائبي، يا فلان اشفي مريضي أنا في حسبك؛ يعني في كفايتك، ونحو هذا، قال المؤلف: تعرف أن هذا هو الشرك المبين والضلال البعيد، كما قال الله تعالى في سورة الحج: (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ)[الحج:12]؛ يعني هذا الميت لا يضر ولا ينفع، ثم قال: (ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)[الحج:12].

قال المؤلف: (وفي الإتيان بالكاف التي هي للبعد) ذلك، الكاف هذه للبعد، وتوسط اللام في قول ذلك بينها وبين اسم الإشارة (وإقحام ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر مع تعريفه ووصفه بالبعد ما يقتضي أن هؤلاء قد بلغوا من الضلال والغواية) ذلك؛ استنبط، قال ذا: اسم إشارة، واللام للبعد، والكاف للخطاب، أتى بالكاف في ذلك؛ لتفيد البعد، وتوسط اللام بين اسم الإشارة: ذا واللام، وأقحم ضمير الفصل قال: (ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)[الحج:12].

ما قال: ذلك الضلال، قال: هو بين المبتدأ والخبر، أين المبتدأ؟ ذلك: هذا المبتدأ، والضلال: هو الخبر، جعل بينهما هو، كل هذا مع تعريفه؛ ذلك الضلال معرف ال، معرف، ما منكر، ووصفه بالبعد، قال الضلال؛ ال معرف؛ كل هذا يقتضي إنَّه قد بلغ الغاية في الضلال والغواية، والبعد عن الصراط المستقيم إلى ما لا نهاية، فقد استنبط العلماء " ذلك " أتى باسم الإشارة، واللام التي للبعد، والكاف التي كذلك تفيد البعد، ثمَّ أتى بضمير الفصل هو، والمبتدأ معرف، والخبر معرف الضلال، ووصفه بالبعد.

كل هذا يقتضي أنهم بلغوا الغاية في الضلال والغواية، والبعد عن الصراط المستقيم إلى ما لا نهاية، كما قال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ)[الأحقاف/5] .

ثم ذكر قول المفسرين، قال المفسرون: معنى من أضل؛ يعني لا أحد أضل منهم؛ ولهذا كان هذا الذنب أعظم الذنوب عند الله، وأكبر الكبائر، ما هو؟ الشرك؛ أعظم الذنوب عند الله، وأكبر الكبائر، ورتب عليه الخلود في النار، إن من أشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، حرم الله عليه الجنة، كما قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮊ)[المائدة/72].

وقال تعالى:(ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ)[الزمر/65-66].

وقال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ)[الأنعام/88].

إذًا الشرك الأكبر يحبط الأعمال، ويخلد صاحبه في النار، نسأل لله السلامة والعافية، ولا يغفره الله لمن لاقاه به، فلا يكون تحت المشيئة، نسأل الله السلامة والعافية.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: قال المفسرون معنى قوله: (وَمَنْ أَضَلُّ)[الأحقاف/5]؛ أي لا أحد أضل منه؛ ولهذا كان هذا الذنب أعظمَ الذنوب عند الله، وأكبر الكبائر، ورتب عليه الخلود في النار، وحرم الله عليه الجنة، كما قال تعالى: ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)[المائدة/72].

وقال تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الزمر/65-66].

وقال تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام/88].

وفي الصحيح عن ابن مسعود مرفوعًا «أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قال: ثمَّ أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، فأنزل الله تصديق ذلك: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ)[الفرقان/68].

وعن أبي بكرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى يكررها حتى قلنا: ليته سكت».

(الشرح)

هذا الحديث، حديث ابن مسعود يدل على أن الشرك أعظم الذنوب، قال: «أي ذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»؛ هذا هو الشرك، أن تجعل لله ندًا؛ يعني مثيلًا له، يدعوه كما يدعو الله، يخافه كما يخاف الله؛ يرجوه كما يرجو الله فهذا أعظم الذنوب، ثم يليه القتل؛ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قتل الولد فيه قتل للنفس، وفيه قطيعة للرحم، وفيه أيضًا سوء ظن بالله, خشية أن يطعم معه؛ فاجتمع ثلاث مفاسد في قتل الولد:

أولًا: قتل النفس.

ثانيًا: قطيعة الرحم.

ثالثًا: سوء ظن بالله خشية أن يطعم معه, الرزق عَلَى الله, نسأل الله العافية.

(.....) الشرك بالله، ثم أن تزاني بحليلة جارك: الزنا أعظم الذنوب، وحليلة الجار أعظم؛ لأنه إساءة للجار، فاجتمع أمران: الزنا، وإساءة الجار، وجاء في الحديث: «لأن يزني الإنسان بعشر نسوة خير له من أن يزني بحليلة جاره»، نسأل الله السلامة والعافية.

(فأنزل الله تصديق ذلك: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ)[الفرقان:68]).

ثم ذكر حديث أبي بكرة، وهذا رواه الشيخان؛ البخاري ومسلم، وحديث أبي بكرة، قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس»... إلى آخر الحديث، الحديث أخرجه البخاري ومسلم أيضًا.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى يكررها حتى قلنا: ليته سكت»، لماذا قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: الإشراك، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا، لكن لما جاء في الزور قام وجلس، وما زال يكررها، هل شهادة الزور أكبر من الشرك، وأكبر من العقوق؟ لا؛ لأن الحامل عليها والدافع لها كثير، والناس يتساهلون بها؛ فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم غير جلسته، وكررها.

لا لأنها أعظم من الشرك، بل الشرك أعظم منها، لكن لما كانوا يتساهلون بقول الزور، وشهادة الزور، الآن ترون بعض الناس يشهد أن هذه امرأة فلان وليس امرأة له، يقول حتى يأخذ شيئًا من بيت المال، يشهد أن هذا ولد فلان، وليس ولد هذا، يشهد أن فلانة مطلقة وليست مطلقة؛ كل هذا من الزور، يقول: حتى ينفعها بزعمه.

فلذلك الناس يتساهلون بقول الزور، فلما كانوا يتساهلون بقول الزور غير النبي جلسته، كان متكئًا فجلس، ثم جعل يكررها؛ ألا وقول الزور حتى قَالَ الصحابة: ليته سكت؛ إشفاقًا عليه؛ يعني الصحابة قالوا: ليته سكت؛ يعني حتى لا يشق على نفسه صلى الله عليه وسلم من اهتمامه بهذا الأمر، وإلا فالشرك أعظم، لكن لما كان الناس يتساهلون كررها، والحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم.

(المتن)

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية:

والشرك فاحذره فشرك ظاهر    ذا القسم ليس بقابل الغفران

وهو اتخاذ الند للرحمن           أي كان من حجر ومن إنسان

يدعوه أو يرجوه ثم يخافه         ويحبه كمحبة الديان

والله ما ساووهم بالله في         خلق ولا رَزق ولا إحسان

لكنهم ساووهم بالله في          حب وفي تعظيم وفي إيمان

فالله عندهم هو الخلاق         والرزاق مولي الفضل والإحسان

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله في الكافية: (والشرك فاحذره) الشرك: مفعول مقدم، والتقدير: واحذر الشرك، (والشرك فاحذره، فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران).

يعني الشرك ينقسم إلى قسمين:

شرك ظاهر وهو الشرك الأكبر؛ هذا لا يغفره الله.

والثاني: شرك أصغر، مثل الحلف بغير الله، والتشريك بين الخالق والمخلوق، الله وأنت (.....), والتمائم تعليق التمائم؛ فهذا شرك أصغر وسيلة للشرك.

هذا قد يقال: إنه تحت مشيئة الله، أو يقابل بالحسنات والسيئات، ولا يخلد صاحبه في النار، لكن بعض العلماء يرى أنه كالكبائر تحت المشيئة، وبعضهم يرى أنه ليس كالكبائر، وأنه يؤاخذ به، لكنه يدخل بين الموازنة بين الحسنات والسيئات، فإذا كانت الحسنات كثيرة أسقط من الحسنات ما يقابل هذا الشِّرْكَ.

بخلاف الشرك الأكبر؛ فلا يغفر، فصاحبه مخلد في النار؛ ولهذا قال المؤلف: (والشرك فاحذره، فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران)؛ هذا الشرك الأكبر ما يغفره الله، إن الله لا يغفر من يشرك به، وأما الشرك الأصغر فهو إما أنه تحت المشيئة كما قال بعض العلماء، أو إنه يقابل الحسنات والسيئات.

(والشرك فاحذره، فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران)، ما هو هذا الشر؟ قال: (وهو اتخاذ الند للرحمن)؛ أي يجعل لله ندًا، ما معنى الند؟ المثيل والنظير، يجعل لله مثيلًا، وهذا الند أي كان من حجر، ومن إنسان؛ يجعل لله ند سواء من الأحجار، أو الإنسان، كيف يجعله لله ند؟ (يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان)؛ بهذا يجعله ندًا لله، يدعوه كما يدعو الله، يرجوه كما يرجو الله، يخافه كما يخاف الله، يحبه كما يحب الله، يجعله لله ندًا، (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮞ)[البقرة/165]؛ هذا اتخاذ الند، والله تعالى يقول في كتابه: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)[الشعراء/94-95]؛ لما ذكر الكفار، وأنهم في النار، وأن العابدون والمعبدون في النار (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)[الشعراء/96-98].

فيختصمون في النار، يقول العابدون للمعبودين: كنا في ضلال؛ اعترفوا، متى اعترفوا؟ لما صاروا يصلون للجحيم، في الدنيا ما يعترفون، قالوا: ( ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)[الشعراء/96-98]؛كيف سووهم؟ في المحبة، والعبادة، سووهم: جعلوهم مثل رب العالمين، جعلوهم أنداد لرب العالمين سواء في الدعاء، والخوف، والرجاء، والمحبة؛ ولهذا قال ابن القيم:  (والله ما ساووهم بالله في خلق ولا رَزق ولا إحسان).

الرَزق: هذا وصف الله؛ الخلق، والرَزق، أما الرِزق: هذا مخلوق منفصل الطعام هذا رزق من الله، لكن الرَزق: هذا وصف الله قائم بذاته، الخلق وصف الله، والمخلوق منفصل، هذا مخلوق منفصل، والخلق: وصف الله، والرِزق: مخلوق منفصل، والرَزق: وصف الله، والإماتة: وصف الله، وهذا الميت هذا مخلوق، وهذا الحي: مخلوق، لكن من صفات الله: الإحياء والإماتة، والرَزق.

فابن القيم رحمه الله يقول: (والله ما ساووهم بالله في خلق ولا رَزق ولا إحسان), ما قالوا: إنهم يخلقون كما يخلق الله، ما هم مشركين في الربوبية؟ الشرك في العبادة والألوهية، ما سووهم بالله في خلق؛ ما قال: يخلقون كما يخلق الله، ولا سواهم بالرزق؛ ما قال: يرزقون كما يرزق الله، ولا الإحسان؛ ما قال: إنهم يحسنون ويطعمون كما يحسن الله، لكن ساووهم بأي شيء؟ قال: في المحبة (لكنهم ساووهم بالله في حب وفي تعظيم وفي إيمان).

ساووهم بالله في التعظيم، والمحبة، والإيمان، كما قال الله عن الكفار: ،(ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)[الشعراء/96-98]، بأي شيء سووهم؟ في المحبة والتعظيم، أما الخلق والرَزق لا؛ ولهذا قال: (فالله عندهم هو الخلاق والرزاق مولي الفضل والإحسان), هم وحدوا الله في الربوبية، الله هو الخلاق كما تقولون، الله هو الرزاق، هو مولي الفضل والإحسان، لكن بقي ماذا؟ المحبة والتعظيم، والإيمان؛ هذا هو الشرك، سووهم بالله في المحبة والتعظيم، والخوف، والرجاء، لكن ما سووهم بالله في توحيد الربوبية في الخلق، والرَزق، والإماتة، والإحياء؛ ولهذا قال المؤلف:

(والله ما ساووهم بالله في     خلق ولا رَزق ولا إحسان

لكنهم ساووهم بالله في       حب وفي تعظيم وفي إيمان

فالله عندهم هو الخلاق       والرزاق مولي الفضل والإحسان

يعني هم وحدوه في الربوبية, لكن أشركوا في توحيد العبادة والألوهية.

(المتن)

والقرآن مملوء من بيان هؤلاء، وتسفيه آراءهم، ومباينتهم لما بعث الله به رسوله من إخلاص العبادة لله وحده، لا شريك له كما قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)[الأحقاف:5].

وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا)[البقرة:165]؛ إلى قوله: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)[البقرة:167].

وقال تعالى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا)[الكهف:102].

وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)[سبأ:23].

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: نهى الله عما سواه، كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مِلك، أو قسط منه، أو يكون عونًا لله، ولم يبقى إلا الشفاعة، فبيَّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب تعالى، كما قال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)[الأنبياء:28] انتهى.

(الشرح)

المؤلف قال: (والقرآن مملوء من بيان ضلال هؤلاء، وتسفيه آراءهم، ومباينتهم لما بعث الله به رسوله من إخلاص العبادة لله وحده، لا شريك له كما قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)[الأحقاف:5])؛ لا أحد أضلَّ منه يدعو من دون الله.

وقوله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮫ)[البقرة/165-166].

إذ تبرأ الَّذِينَ اتبعوا القادة والرؤساء من الذين اتبعوا أتباعهم،( ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ)[البقرة/166] .

(ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯦ؛ رجعة في الدنيا (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯦ)[البقرة/166-167].

قالوا: ليتنا نرجع للدنيا حتى نتبرأ منهم كما تبرؤوا منا، قال الله: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ)[البقرة/167]؛ هذا كلامهم فيما بينهم ولا ينفعهم.

وقال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)[الكهف/102].

وقال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭪ)[سبأ/22-23].

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: على هذه الآية الأخيرة وهي سورة ماذا؟ سورة سبأ(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[سبأ/22]، نفى الله عما سواه، كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مِلك، أو قسط منه، أو يكون عونًا لله، وَلَمْ يبق إِلَّا الشفاعة، فبيَّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب تعالى، كما قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﮂ)[الأنبياء/28]؛ انتهى كلام شيخنا.

يعني شيخ الإسلام يقول: إن هذه الآية نفت الأسباب التي يتعلق بها المشركون، فقال: إن هذه الآية قطعت عروق الشرك، وهي آية ماذا؟ آية سبأ؛ لأن العابد الذي يعبد شيئًا لا يعبده إلا لما يحصله من نفع، ما يعبده إلا أنه يرجو نفع، والنفع محصور في أمور أربع:

الأمر الأول: أن يكون المعبود مالكًا لما يريده العابد منه، يملك الشيء الذي يعطيه، لماذا يعبده؟ حتى يعطيه الذي يريده، أن يكون عابدًا له، أن يكون مالكًا لما يريده العابد منه، يكون مالك يملك الشيء الذي يريده منه العابد.

فإن لم يكن مالكًا صار شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا صار معينًا ومساعدًا، فإن لم يكن معينًا ومساعدًا صار شفيعًا عنده, وقد نفى الله هذه الأمور الأربع نفيًا مرتبًا منتقلًا من الأعلى إلى الأدنى، فانقطعت بذلك جميع الأسباب، وانقطعت عروق المُشْرِكِينَ.

انظر معي إلى الآية: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)[سبأ/22]؛ ولا مثقال ذرة، في شيء أقل من الذرة؟ ما يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ إذًا ما لهم مِلك.

ثم قال: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰊ)[سبأ/22]؛ حتى ولا شريك.

ثم قال: (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)[سبأ/22]؛ معين مساعد.

ثم قال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭪ)[سبأ/23]؛ فانقطعت الأسباب الأربع كلها، فانقطعت جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون.

ويقال: إن هذه الآية قطعت عروق الشرك، شيخ الإسلام رحمه الله، يقول: نفى الله عما سواه؛ تعليقًا على هذه الآية، كل ما يتعلق به المشركون.

فنفى أن يكون لغيره مِلك؛ في قوله: (لا يَمْلِكُونَ)[سبأ/22].

أو قسط منه؛ في قوله:(وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ)[سبأ/22].

أو يكون عونًا لله في قوله: (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)[سبأ/22].

ولم يبقى إلا الشفاعة، فبيَّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭪ)[سبأ/23]؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﮂ)[الأنبياء/28] .

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: وقال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)[الإسراء/57].

قال طائفة من السلف: نزلت هذه الآية فيمن يعبد من الملائكة، وقيل: نزلت فيما يعبد المسيح ابن مريم، وأمه، وعزير، وقيل نزلت في أناس يعبدون قوم من الجن، فأسلم الجن، ولم يشعر الإنس بإسلامهم، يقول تعالى: هؤلاء الذين تعبدونهم عباد من عبادي، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، كما تخافون عذابي، وهذا بعض ما حضرنا في الجواب عن هذه المسألة، وهي مسألة تحتمل عدة أجزاء، وإنما قصدنا الإشارة إلى الأدلة على سبيل الاقتصار، والله أعلم.

(الشرح)

هذه الآية قوله: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯸ)[الإسراء:57].

قَالَ بعض السلف: نزلت هذه الآية فيمن يعبد من الملائكة، فقال الله لهم يعني على هؤلاء: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯸ)[الإسراء:57]؛ يعني الملائكة الذين يدعونهم هم يبتغون الوسيلة إلى الله، يطلبون القربة إليه بعبادته (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯸ)[الإسراء:57].

كيف تعبدونهم وهم في أنفسهم يبتغون الوسيلة إلى الله؟! (وقيل: نزلت فيما يعبد المسيح ابن مريم، وأمه، وعزير)، قال الله: هذا المسيح، وأمه، وعزير هم يبتغون الوسيلة إلي، يبتغون القربة إليَّ، ويرجون رحمتي ويخافون عذابي.

(وقيل نزلت في أناس يعبدون قوم من الجن، فأسلم الجن، ولم يشعر الإنس بإسلامهم)، فبقوا على عبادتهم، فقال هؤلاء الجن الذين تعبدونهم أسلموا، هم يعبدوني الآن، ويبتغون الوسيلة إليَّ، (يقول تعالى: هؤلاء الذين تعبدونهم عباد من عبادي، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، كما تخافون عذابي).

هنا انتهت المسألة الأولى: وهي الدعاء لغير الله، يقول المؤلف: (وهذا بعض ما حضرنا في الجواب عن هذه المسألة، وهي مسألة تحتمل عدة أجزاء، وإنما قصدنا الإشارة إلى الأدلة على سبيل الاختصار، والله أعلم)؛ يقول لو أردنا أن نتوسع كتبنا فيها أجزاء كثيرة مجلدات، لكن قصدنا الاختصار، والله أعلم, ننتقل إِلَى المسألة الثانية.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: وأما المسألة الثانية: وهي مسألة شد الرحل لزيارة قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, فقد جوز طائفة من متأخري العلماء شدَّ الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قبور الصالحين، وخالفهم طوائف من المحققين، والذين اعتقدوه هو ما دلَّ عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»؛ وبهذا الحديث الصحيح تعرف بطلان قول المجوزين، فإن كل قول يخالف قول سيد المرسلين، مردود على قائله، مضروب به في وجهه لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه.

وكل أحد من أفراد الأمة، وإن بلغ في العلم ما عسى أن يبلغ، فهو أنقص من أن يردَّ لقوله قول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لاسيما إن كان ذلك القائل في القرون المتأخرة المفضولة، كما في مسألتنا.

وعن ابن عباس t، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال: أبو بكر وعمر.

فإذا كان هذا فيمن اختار قول أبي بكر، وعمر على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف تكون حال من ردَّ قوله صلى الله عليه وسلم لقول عالم من العلماء؟!.

فمن شدَّ الرحل لقصد زيارة القبر الشريف، أو غيره من قبور الصالحين؛ فهذا ممنوع لما في هذا الحديث من حصر جواز ذلك في المساجد الثلاثة، والذي يشدُّ الرحل لزيارة القبور أي قبر كان داخل في هذا النهي.

لكن ينبغي لمن يشدُّ الرحل إلى أحد المساجد الثلاثة أن يزور من هناك من الصالحين، فإن زيارة القبور من غير شدِّ رحل سنة مُرغب فيها كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t مرفوعًا: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت».

وفيه عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى أهل البقيع، فيدعو لهم، كما جاء ذلك في الصحيح، فهذه هي الزيارة الشرعية؛ وهي أن يكون مقصود الزائر تذكر الآخرة، والدعاء للميت، والاستغفار له، وأما ما يتوهمه بعض الناس من أن الزيارة إنما شرعت لأجل التبرك بالصالحين، وتحري الإجابة عند قبورهم، فهو فهم مخالف لما شرعه الله ورسوله.

(الشرح)

هذه المسألة الثانية مسألة شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى يشدُّ الرحل يعني السفر، أما زيارة القبور في البلد؛ فهي الزيارة الشرعية مرغب فيها، قال صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»، إذا كان في البلد فزوروا القبر، وهناك فائدة للحي، وفائدة للميت.

فائدة للحي: أن يتذكر الآخرة، ويرق قلبه، وفائدة للميت: يدعو له؛ هذا هو المقصود منه، المقصود منها الدعاء للميت، وأيضًا تذكر الحي الموت ورقة قلبه؛ هذه الزيارة الشرعية.

وقد تكون الزيارة بدعية: كأن يزور القبر ، ثم يقرأ القرآن عند قبره، أو يصلي عند قبره؛ فهذه زيارة بدعية، وقد تكون الزيارة شركية كأن يزور الميت، ويدعوه من دون الله، أو يذبح له، وينذر له، فالزيارة تكون شرعية، وبدعية، وشركية.

المؤلف رحمه الله يقول: شد الرحل؛ يعني كونه يسافر من بلد إلى بلد لزيارة القبر؛ هذا يسمى شدَّ الرحل؛ السفر لقصد، أما إذا كان في البلد قريب منه؛ فهذا بدون سفر ما يسمى شدَّ الرحل.

شدُّ الرحل: هو أن يسافر من بلد إلى بلد، ما الحكم؟ لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقول المؤلف: طائفة من المتأخرين؛ من العلماء أجازوا أن يشدَّ الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ يسافروا، وذكر بعض الفقهاء في كتاب الحج في آخره، وفي زيارة المدينة، قالوا: يسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، كثير من الفقهاء ما عندهم تحقيق في هذا، بعض الفقهاء يذكرون هذا، قالوا: يسن الزيارة ولو بشدِّ الرحل إليه.

فالمؤلف رحمه الله، يقول: طائفة من المتأخرين أجازوه؛ المتأخرين من العلماء، أجازوا شد الرحل والسفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الصَّالِحِينَ.

قال: وخالفهم طوائف؛ طوائف من المحققين خالفوهم، قالوا: لا يجوز شد الرحل، قال: (والذين اعتقدوه هو ما دلَّ عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»)؛ هذا الحديث رواه الشيخان حديث صحيح.

وفيه حصر شدِّ الرحل؛ يعني لا يشد الرحال لبقعة، المراد: لبقعة للعبادة إلا هذه المساجد الثلاثة، لَكِن يشد الرحل لغير العبادة، يشدُّ الرحل للتجارة ما في مانع يسافر، أو لطلب العلم، أو لزيارة أقاربه، أو للنزهة؛ هذا شيء آخر، لكن شد الرحل لبقعة للعبادة لا يجوز إلا لهذه الثلاثة، فشدُّ الرحل للمسجد الحرام تصلي فيه وتعتمر، أو المسجد النبوي تصلي فيه، فالصلاة فيه بألف صلاة، أو المسجد الأقصى الصلاة فيه بخمسمائة صلاة, وما عدا فلا يجوز.

يقول المؤلف: نحن نعتقد هذا ما دل عليه الحديث (وبهذا الحديث الصريح تعرف بطلان قول المجوزين)؛ هذا الحديث يدل على بطلان قول المجوزين؛ المتأخرين من العلماء الذين أجازوا شد الرحل إلى القبر.

قال: (فإن كل قول يخالف قول سيد المرسلين، مردود على قائله، مضروب به في وجهه لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه، وكل أحد من أفراد الأمة، وإن بلغ في العلم ما عسى أن يبلغ، فهو أنقص من أن يردَّ لقوله قول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم)؛ كل واحد لا يمكن يرد قول الرسول لقوله أبدًا، (لاسيما إن كان ذلك القائل في القرون المتأخرة المفضولة)، وهذه الطائفة الذين أجازوا من المتأخرين, كَمَا في مسألتنا.

ثم ذكر حديث ابن عباس: (وعن ابن عباس t، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال: أبو بكر وعمر)، متى قال هذا ابن عباس؟ ابن عباس قال هذا الكلام في الحج، كان ابن عباس يفتي بأي شيء؟ كان يفتي في الحج بالتمتع، ووجوب المتعة، وقال في أشهر الحج: من طاف بالبيت وسعى فقص حل شاء أم أبى, وليس له الخيار يحرم بالحج قارن ولا مفرد, لماذا؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بهذا, الصحيح أَنَّهُ يخيرهم عند الميقات منهم من أحرم بحج وعمر ومنهم من أحرم بالحج, لكن لما قرب من مكة قال لهم: اجعلوها عمرة، ثم لما طافوا بالبيت وسعوا حتم عليهم، وألزمهم بالتحلل إِلَّا من ساق الهدي فتحللوا كلهم.

قال: فكون الرسول ألزمهم حتم عليهم؛ هذا يدل على وجوب فسخ الحج إلى العمرة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يحرم بالحج مفردًا، ولا بالحج قارنًا ومفردًا؛ بَلْ يجب عليه أن يتمتع، هذا اختيار ابن عباس، وهو اختيار ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد.

وهو اختيار الشيخ ناصر الدين الألباني، وهو رواية عن الإمام أحمد أنه يجب على من أحرم في أشهر الحج أن يعتمر.

والجمهور يقولون: الرسول خيرهم عند الميقات، خير بين الإفراد وبين القران وبين التمتع، لماذا ألزم الصحابة؟ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الرسول ألزم الصحابة؛ هذا الإلزام خاص بالصحابة، ألزمهم بالتحلل حتى يزول اعتقاد أهل الجاهلية.

اعتقاد أهل الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وَأَنَّهُ ما في عمرة في شوال، ولا في ذي القعدة، ولا في ذي الحجة، ولا في محرم؛ حَتَّى يهل شهر صفر, كل هذه أشهر الحج ما فيها عمرة, ويعتبرون العمرة فيها من أفجر الفجور، ويقول ما في عمرة حتى ينسلخ شهر صفر، ويعفو الأثر، ويبرأ الدبر، كان يحجون على الإبل، وكان في جروح في ظهر البعير، يقول إذا داوى الجرح، وبرأ الجرح، وزال أثره بعد ذلك حلت العمرة.

فلذلك أمرهم الرسول r بفسخ هَذِهِ العمرة استنكروا، قالوا: كيف؟! نحن سمينا الحج, قال: افسخوا، وألزمهم إلا من ساق الهدي، قالوا: يا رسول الله أنت, قال: أنا سقت الهدي، قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي», تأثر, وقالوا: ما بقي على الحج إلا ثلاثة أيام ينتقل أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيًا, يعني يقدر يجامع زوجته ثم يحرم بالحج استنكروا هذا؛ لأنه غير معروف في الجاهلية.

شيخ الإسلام يقول: أمرهم, هذا وجوب خاص بالصحابة حتى يزول اعتقادهم في الجاهلية، واضح هذا؟ والجمهور قالوا: مخير، ابن عباس والجماعة، قالوا: يجب, خلاص منسوخ, نسخ الأمر بالحج والعمرة واختيار الشيخ الألباني وابن القيم في زاد المعاد.

ابن القيم رحمه الله قال في زاد المعاد: وأنا لقول ابن عباس أميل منه إلى قول شيخنا؛ وهو القول بالوجوب، الصحابة ما هو موقفهم الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر، وعثمان؟ بعد وفاة النبي كانوا يأمرون الناس بالإفراد في الحج، لماذا؟ زال اعتقاد الجاهلية، ونحن نأمر بالإفراد بالحج حتى تكون أشهر للحج، وحتى يعتمر الناس في وقت آخر، فلا يزال هذا البيت يحج ويعتمر.

وعلي t يأمر بالمتعة، حتى إنه لما اختلف هو وعثمان لبى بهما جميعًا، وأبو موسى الأشعري كذلك، وابن عباس كذلك، فجاء أناس لابن عباس، قالوا: يا ابن عباس أنت تفتي بأنه يجب فسخ الحج للعمرة، وأبو بكر وعمر يأمرا الناس بالإفراد؟

فقال: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء"؛ اشتد عليهم، أنا أقول: قال رسول الله وتقولون قال: أبو بكر وعمر؛ يقول أنا أقول لكم السنة، وأنتم تخالفون لقول أبي بكر وعمر، هذا سبب قوله.

قال: فإذا كان الذي يخالف قول رسول الله إلى قول أبي بكر وعمر يخشى عليه من نزول الحجارة من السماء، فكيف بالذي يختار قول واحد بعيد، في العصور المتأخرة، انظر كلام ابن عباس: (وعن ابن عباس t، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال: أبو بكر وعمر، فإذا كان هذا فيمن اختار قول أبي بكر، وعمر على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف تكون حال من ردَّ قوله صلى الله عليه وسلم لقول عالم من العلماء؟! فمن شدَّ الرحل لقصد زيارة القبر الشريف، أو غيره من قبور الصالحين؛ فهذا ممنوع لما في هذا الحديث من حصر جواز ذلك في المساجد الثلاثة)؛ أي لا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاث، قال: (والذي يشدُّ الرحل لزيارة القبور أي قبر كان داخل في هذا النهي)، واضح كلام الشيخ المؤلف رحمه الله الشيخ سعد.

قال: (لكن ينبغي لمن يشدُّ الرحل إلى أحد المساجد الثلاثة أن يزور من هناك من الصالحين)؛ إذا شديت الرحل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تزور قبور البقيع، وتزور قبور الشهداء، يقول: ينبغي أن يزور، إذا كنت في البلد ما في مانع (لكن ينبغي لمن يشدُّ الرحل إلى أحد المساجد الثلاثة أن يزور من هناك من الصالحين، فإن زيارة القبور من غير شدِّ رحل سنة مُرغب فيها كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t مرفوعًا: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت»، وفيه عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى أهل البقيع، فيدعو لهم، كما جاء ذلك في الصحيح، فهذه هي الزيارة الشرعية؛ وهي أن يكون مقصود الزائر تذكر الآخرة، والدعاء للميت، والاستغفار له، وأما ما يتوهمه بعض الناس من أن الزيارة إنما شرعت لأجل التبرك بالصالحين، وتحري الإجابة عند قبورهم، فهو فهم مخالف لما شرعه الله ورسوله)؛ فهذا فهم خاطئ، بعضهم يقول: زيارة القبر لتتبرك بالصالحين، وتتحرى الإجابة عند قبورهم؛ فهذا باطل، هذا فاسد، فالزيارة الشرعية مقصود منها نفع الميت ونفع الحي؛ نفع الميت بالدعاء، ونفع الحي بأن يرق قلبه، ويتذكر الآخرة.

(المتن)

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولم يكن أحد من الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة يقصد الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا قبور غير الأنبياء، ولا صلى عندها، وقد كره العلماء كمالك، وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه.

وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف، وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف وترياق مجرب، وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ: إن كان لك حاجة فاستغث بي، أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين، وأتباعهم.

ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون المفضلة، وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن في شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»؛ يحذر ما فعلوا.

قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا، وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم على ذلك»، وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا استسقى بالعباس، وقال: "اللهم إنَّا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتَسقينا، وإنَّا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا، فيسقون"، فلم يذهبوا إلى القبور، ولا توسلوا بميت، ولا غائب، بل توسلوا بالعباس، وكان توسلهم به توسلًا بدعائه كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته، انتهى.

(الشرح)

هذا كلام شيخ الإسلام.

(المتن)

قلت: وليت أهل زماننا اقتصروا على البدعة، ودعوا الله عند قبور الصالحين، ولا أشركوهم في خالص حق الله، وأنت تراهم يسافرون إلى القبور بمسيرة أشهر، وبعضهم يرى ذلك السفر أفضل من الحج إلى بيت الله، ويفعلون عند تلك القبور، وفي تلك المشاهد من الشرك والكفر ما تطير منه أفئدة أهل الإيمان.

(الشرح)

قال المؤلف رحمه الله نقل عن شيخ الإسلام: (قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولم يكن أحد من الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة يقصد الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا قبور غير الأنبياء، ولا صلى عندها)، يقول: الصحابة عندما كانوا حينما يزرون القبور يقصدون الدعاء عنده، وإنما يقصدون: الإحسان إلى الميت بالدعاء له، وكذلك أيضًا تذكر الحي بأن يرق قلبه وتذكر الآخرة.

قال: (وقد كره العلماء كمالك، وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه)؛ مالك وغيره، يقول: إن الرجل عند القبر ما يدعو لنفسه، إنما تزوره وتسلم عليه، وتدعو للميت وتنصرف، إذا أردت أن تدعو لنفسك استقبل القبلة إذا كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كنت في غيره فادعو لنفسك في البيت، ولا في المسجد، ما تدعو لنفسك عند الميت إلا شيء تابع.

(وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف، وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف وترياق مجرب، وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ: إن كان لك حاجة فاستغث بي)؛ بعض المبتدعة يروى عن بعضهم: أنه قال: قبر معروف وترياق مجرب؛ شخص اسمه معروف، الترياق المجرد: يعني الشفاء العاجل؛ هذا دعوة للشرك، دعوة للبدعة.

يقول: هذا قبر معروف ترى ترياق مجرب؛ شفاء على طول، الترياق المجرب, ترياق شفاء, وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبر، وقول بعض الشيوخ؛ شيوخ الصوفية: إن كان لك حاجة فاستغث بي، أو قال: استغث عند قبري.

قال: (فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين، وأتباعهم، ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون المفضلة، وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»؛ يحذر ما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا، وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم على ذلك»).

فانظر يحذر الرسول قبل أن يموت بخمس، يقول: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ يعني لا تفعلوا مثل فعلهم فتحل عليكم اللعنة، ثم قال: «ألا فلا»؛ نهي، أول شيء قال: «لعنة الله على اليهود»؛ لعنهم تحذير، ثم قال: «لا تتخذوا فإني أنهاكم عن ذلك»، كم صار من أنواع التحذير؟ ثلاثة؛ «لعنة الله على اليهود والنصارى»، لا تفعلوا مثلهم فتصيبكم اللعنة، قال: «لا تتخذوا»؛ نهي، ثم قال: «إني أنهاكم عن ذلك»؛ كل هذا من التحذير قبل أن يموت بخمس.

قال: وقد تقدم إن عمر بن الخطاب لما أجدبوا؛ أصابهم الجدب والقحط، وقلة المطر استسقى بالعباس، ما استسقى بالنبي، النبي موجود في قبره، فقال عمر: (اللهم إنَّا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتَسقينا، وإنَّا نتوسل إليك بعم نبيك). قم يا عباس فادع الله فيدعو عباس وهم يؤمنون فيسقون

لماذا لم يذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأنه توفي صلى الله عليه وسلم، ذهبوا إلى عمه؛ هذا دليل على إنه إنما يدعى الحي الحاضر، أما الميت فلا، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: (فلم يذهبوا إلى القبور، ولا توسلوا بميت، ولا غائب، بل توسلوا بالعباس، وكان توسلهم به توسلًا بدعائه كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته)؛ تعذر بموت النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان حي صلى الله عليه وسلم يدعو وهم يؤمنوا فلما توفي الصحابة أتوا إلى عمه يتوسلوا بدعائه.

الشيخ رحمه الله؛ الشيخ سعد قال: (وليت أهل زماننا اقتصروا على البدعة)، بل تجاوزوها إلى الشرك، ليتهم اقتصروا على البدعة فقط ووقفوا عندها، بل تجاوزوها إلى الشرك قال: (وليت أهل زماننا اقتصروا على البدعة، ودعوا الله عند قبور الصالحين)؛ دعوا الله لأنفسهم (ولا أشركوهم في خالص حق الله)، بل دعوا الصاحين من دون الله، وذبحوا لهم، ونذروا لهم، يقول: ليت أهل زماننا وقفوا عند البدعة ولم يتجاوزوها إلى الشرك، بل تجاوزوها للشرك.

(وليت أهل زماننا اقتصروا على البدعة، ودعوا الله عند قبور الصالحين، ولا أشركوهم في خالص حق الله، وأنت تراهم يسافرون إلى القبور بمسيرة أشهر، وبعضهم يرى ذلك السفر أفضل من الحج إلى بيت الله).

ذكر شيخ الإسلام ابن القيم: إن ابن مفيد من الشيعة ألف كتاب، سماه: حج المشاهد، جعل للقبور حج، وذكر كيفية أفعالهم، وأنهم إذا أقبلوا على القبور أحرموا كما يحرم، ثم إذا وصلوا إلى هذا الوثن طافوا به كما يطاف بالبيت، ثم صلوا عنده، ثم ذبحوا عنده، ثم حلقوا الرؤوس، ثم يهنئ بعضهم بعضًا، يقول: تقبل الله منك، عظَّم الله أجرك.

فإذا قيل: هل هذه بحجة من بيت الله الحرام؟ قال: لا، ولا بألف حجة، هكذا الشيطان تلاعب بهم, نسأل الله العافية.

قال: (وليت أهل زماننا اقتصروا على البدعة، ودعوا الله عند قبور الصالحين، ولا أشركوهم في خالص حق الله)؛ وهو الدعاء.

(وأنت تراهم يسافرون إلى القبور بمسيرة أشهر، وبعضهم يرى ذلك السفر أفضل من الحج إلى بيت الله، ويفعلون عند تلك القبور، وفي تلك المشاهد من الشرك والكفر ما تطير منه أفئدة أهل الإيمان)، نسأل الله السلامة والعافية، نقف على المسألة الثالثة نكملها بعد الصلاة إن شاء الله.

 

 

 

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد