بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
قال المؤلف رحمه الله، وغفر الله لشيخنا والحاضرين في الجواب على أسئلة في الاسم والقضاء والقدر والاستواء على العرش... الخ، للعلامة الشيخ/ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
(المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فقد وردت علينا أسئلة من عمان، صدرت من جهمي ضال، يستعجز بها بعض المسلمين، فينبغي أن نجيب عنها بما يفيد طالب العلم، وما لا فائدة فيه لا يُحتاج إلى الاشتغال بالجواب عنه, فمما ينبغي أن نجيب عنه، قوله: إن الاسم مشتق من السمو، أو السمة، واشتقاق الاسم من هذين، ذكره العلماء في كتبهم، لكن يتعين أن نسأله عن كيفية هذا الاشتقاق؟ وما معنى الاشتقاق الذي يذكره العلماء؟ فنطلب منه الجواب عن هذين الأمرين؟ وإن كانا مذكورين في كتب النحاة، وغيرهم؛ وقد ذكرته في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فهذه الرسالة الثانية للإمام العلامة الشيخ/ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، حفيد الإمام المجدد رحمهم الله وغفر لهم، يجاوب على أسئلة وردت للمؤلف رحمه الله من عمان، صدرت من جهمي، جهمي منحرف يريد أن يستعجز بها بعض المسلمين، يعني يعجزهم عن الجواب.
وهذه الأسئلة تتعلق بالاسم واشتقاقه، وبالقضاء والقدر وبالاستواء على العرش.
قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما)؛ افتتح الرسالة بالبسملة، اقتداءً بالكتاب العزيز، لأنه اٌفتتح بالبسملة، ثم ثنى بالحمد لله رب العالمين، والحمد هو الثناء على المحمود، بصفاته الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه، والحمد أكمل من المدح، فالمدح هو الإخبار عن الممدوح بصفاته، وقد تكون هذه الصفات (...) تبنى عليها صفات لازمة له بصفة الاختيار، ولا يبنى على ذلك المحبة، بخلاف الحمد؛ لأنه أكمل، الحمد: الإخبار عن المحمود، أو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، التي تكون باختياره مع حبه وإجلاله، فمثلًا إذا أخبرت عن الأسد بأنه قوي وبأنه مفتول الساعدين، وأنه ملك الحيوانات؛ هذا مدح، تختصه بصفاته التي جُبل عليها، وليس له فيها اختيار، ولا سماه بها أحد.
كما لو أخبرت عن فلان من بني آدم بأنه طويل، بأنه وسيم، وبأنه أبيض اللون، هذه كلها صفات ليست من اختياره، لكن لو أخبرت عنه بالصفات الاختيارية، أثنيت عليه بأنه كريم، بأنه جواد، بأنه شجاع، وبأنه يحب الخير ويكره الشر؛ هذه صفات اختيارية، هذه تسمى حمد، الحمد: هو الثناء على المحمود بالصفات الاختيارية مع حبه وإجلاله؛ ولهذا فإن الحمد أكمل من المدح، ولهذا ورد في وصف الرب بالحمد، الحمد لله رب العالمين، (...) يحمد الله الحمد لله رب العالمين، والحمد (ال) للاستغراق، جميع أنواع المحامد مشتقة كلها لله، الحمد لله، الله ولفظ الجلالة والألوهية؛ إن الله هو المألوه الذي تألهه القلوب محبةً وإجلالًا، رب العالمين مربيهم، وخالقهم وموجدهم....الخ؛ كل هذا لله سبحانه وتعالى.
كله لله: السموات، والأرضين والعالمين، والجن والإنس، والحشرات، والبحار، والأشجار، والكواكب العلوية، كل ما في هذا الكون يسمى عالم، (...)، وأنه واحد بذلك العالم.
(وصلى الله على محمد) هذا دعاء، وسؤال لله بأن يصلي على نبيه، وصلاة الله على نبيه أصح ما قيل في تعريف صلاة الله على نبيه ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: «صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى», فأنت تسأل ربك وتدعوه أن يثني على عبده محمد في الملأ الأعلى، أن الله يثني عليه في الملأ الأعلى.
وهذا يدل على محبة اسم نبينا صلى الله عليه وسلم، محمد كثير المحامد، كثير الخصال التي يحمد عليها، وألهم الله أهله أن يسموه محمد، والأسماء عديدة: محمد، وسمي في التوراة أحمد، كما قال عيس وموسى: ونبشركم بنبي اسمه أحمد، ومن أسمائه الماحي؛ الذي يمحي به الله به الكفر، والحاشر: الذي يحشر الناس على قدمه، والعاقب الذي لا يأتي بعده نبي، والأسماء كثيرة، وهذا يدل على كماله وصفاته العظيمة صلى الله عليه وسلم.
كما أن الرب سبحانه وتعالى له أسماء كثيرة، حتى قيل أن لله ألف اسم، والقرآن له أسماء كثيرة: القرآن، والشفاء، والغذاء، والبيان، والفاتحة لها أسماء كثيرة: الفاتحة والكافية، والشافية، والحمد, وأم القرآن، كذلك الأسد له أسماء كثيرة حتى قيل للأسد خمسمائة اسم، منها: أسد, ودرغام, والديرم، والسيف له أسماء: سيف, ومهند, وغير ذلك من الأسماء التي الموجودة في كتب اللغة...إلخ
(صلى الله على محمد النبي) الذي نبؤه الله، النبي من النبأ وهو إخبار بأن الله نبأه، أو من النبوة وهو الارتفاع، أن الله رفع مكانه.
(الصادق) صفته عليه الصلاة والسلام، الله جبله على الصدق، وهو لا يكذب عليه الصلاة والسلام.
(الأمين) المؤتمن على الوحي، الذي يبلغ عن الله.
(وعلى آله) أزواجه وذريته المؤمنون، وقيل: أتباعه على دينه وهذا هو الأشمل، أتباعه على دينه ويقصد بذلك أهله الأولين؛ أزواجه وذريته.
(وصحبه) من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، صاحب النبي: هو من لقي النبي مؤمنًا ومات على ذلك، مات على الإسلام، إذا لقي النبي ولو لحظة ومات على الإسلام فهو صحابي، ويدخل في ذلك صغار الصحابة الذين حنكهم النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا أطفالًا.
محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وانا ابن خمس سنين؛ فهو صحابي صغير، والذين حنكهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم صغار، فمن لقي النبي، ولا نقول من رأى النبي، لأنه يشمل العميان، كعبد الله بن مكتوم؛ فإنه لقي النبي ولم يراه، وهو صحابي، ومن لقي النبي صلى الله عليه وسلم ومات على الإسلام.
(وسلم) دعاء، يعني: اللهم سلمه من الآفات والنقائص والعيوب، (تسليمًا)؛ هذا تأكيد، مصدر، وهذا فيه استدل الإمام رحمه الله في بعض رسائله من كون النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعبد؛ لأنه يدعى له بالسلامة، والذي يدعى له بالسلامة لا يستحق العبادة، الذي يُدعى له بحاجة، فلا يكون إلهًا، ولا يصرف له حق الله.
(أما بعد) كلمة يؤتى بها للانتقال من شيء إلى شيء، (فقد وردت علينا أسئلة من عمان، صدرت من جهمي) جهمي المنتسب إلى جهم بن صفوان الظالم الذي ينكر أسماء الله وصفاته، نفى الأسماء والصفات عن الله عز وجل، وأنه سبق جعد بن درهم شيخه هو أول من ابتدع واخترع عقيدة الأسماء والصفات، أول من أنكر الصفات في الإسلام ويجادل بها, والجهم بن صفوان المعطل ينكر أسماء الله وصفاته، ونشر عقيدة أهل الصفات ونُسبت له الجهمية.
والجهم هذا حصلت له مناظرة ناظر طائفة من السمرية، طائفة من الهند، لا يؤمنون إلا بالمحدثات؛ يعني ما يُدرك بالحواس؛ البصر، الشم، والسمع، واللمس، والتذوق، الذي يدرك بواحدة من الحواس الخمس، فنظروا الجهم وقالوا له: إلهك هذا الذي تعبده، هل رأيته بعينيك؟ قال: لا، قالوا: هل سمعته بأذنيك، قال: لا، قالوا: هل ذقته بلسانك، قال: لا، قالوا: هل شممته بأنفك؟ قال: لا، قالوا: هل جسسته بيدك؟ قال: لا؛ قالوا: إنه ليس إله، فشك في ربه وترك الصلاة أربعين يومًا، ثم نفث الشيطان في ذهنه أن الله موجود وجودًا ذهنيًا في الذهن، فنفى عنه جميع الأسماء والصفات، ولم يوجد الله إلا في الذهن ، نسأل الله العفو والعافية؛ ولهذا كفَّر الجهمية كما قال ابن القيم خمسمائة عالم، قال:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في |
|
عشر من العلماء في البلدان |
واللالكائي الإمام حكاه عنهم |
|
بل قد حكاه قبله الطبراني |
فالجهمية كفار أنكروا وجود الله، لأن من أنكر الأسماء والصفات لا وجود عنده إلا في الذهن، وقال كثير من السلف: إن قول الجهمية يدور على أنه ليس فوق العرش إله، وقال عبد الله بن المبارك؛ العالم الورع الذكي: إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية لشرها وضلالها، نسأل الله العافية.
هذه الأسئلة وردت من الجهمي، وهو من عمان من بلدة عمان، ضال، ويريد أن يعجز المسلمين بهذه الأسئلة, قال المؤلف: (فينبغي أن نجيب عنها بما يفيد طالب العلم، وما لا فائدة فيه لا يحتاج إلى الاشتغال بالجواب عنه) يعني: نجيب بما فيه فائدة، والذي ليس فيه فائدة تركه أولى.
(فمما ينبغي أن نجيب عنه، قوله: إن الاسم مشتق من السمو، أو السمة) الاسم، الله تعالى له الأسماء وله الصفات، الجهمي يقول: أن الاسم مشتق من السمو؛ اسم، الاسم اسم محمد، الاسم مشتق من السمو وهو العلو أو مشتق من السمة وهي العلامة، اسم محمد هذا اسم, لماذا سمي اسمًا؟ لأنه من السمة والعلامة؛ لأنه علامة على اسم محمد، أو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة، وهذا ما ذكر في كتب للغة، بعض العلماء ذكروا هذا، الاسم مشتق من السمو أو مشتق من السمة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (واشتقاق الاسم من هذين، ذكره العلماء في كتبهم) يعني: معروف وذكره النحاة، قال: (لكن يتعين أن نسأله عن كيفية هذا الاشتقاق؟ وما معنى الاشتقاق الذي يذكره العلماء؟ فنطلب منه الجواب عن هذين الأمرين؟ وإن كانا مذكورين في كتب النحاة، وغيرهم؛ وقد ذكرته في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن، شرح كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، يعني: القول بأن الاسم مشتق من السمو والسمة، لا يتكامل وهو باطل, ما معنى الاشتقاق؟ هل معنى الاشتقاق أن الله تعالى اُشتق له اسم، العباد اشتقوا له اسم، واخترعوا له اسم من عند أنفسهم، وأن العباد هم الذين يشتقوا له اسم؟ هذا باطل.
المراد هنا أن المصدر من (...) نقول: علم وعالم مشتق منه؛ يعني: أنه يلتقي معه، الكلمة يلتقي معها العين واللام، والميم، وليس المراد بالاشتقاق ما يظنه بعض الناس، بأن الناس اخترعوا لله واشتقوا له اسم من عند أنفسهم، مهم هذا، أما كنه الاسم مشتق السمو في اللغة العربية، أو من السمة؛ هذا معروف في كتب أهل اللغة.
لكن ما المراد بالاشتقاق؟ المراد بالاشتقاق الالتقاء، التقاء الكلمة تلتقي بهذه الكلمة توافقها، فالاسم يوافق السمو، وليس يقال أنه مشتق منه، بمعنى أنه حادث بعد أن لم يكن، أن الله تعالى ليس له اسم؛ حتى جاء الناس يشتقوا له اسم من عند أنفسهم، لا ليس هذا هو الحال، العباد لا يخترعون لله أسماء من عند أنفسهم، ولا الصفات، فهو الذي سمى نفسه، هو الذي وصف به نفسه، فما وصف الله به نفسه نثبته، وما سمى به نفسه نسميه.
وليس المراد أن الناس هم الذين اخترعوا له اسم، مثل المخلوق، المخلوق ما يسمى نفسه حتى يأتي أبويه يخترعوا له اسم ويسمونه إذا ولد، فالاسم حادث بعد الولادة، لكن الرب سبحان لا، فهم يقولوا: إن الله ليس له اسم حتى جاء الناس واشتقوا له اسم، أو وصلوا إلى مراده؛ لا هذا باطل.
فالمراد باشتقاق الرب، هو توافق الكلمة التقاء الكلمتين، كلمة اسم يوافق السمو،في أي؟ في الحروف؛ السين، والميم، أو يوافق السمة، وتلتقي معها، ليس المراد أن أحدهما مشتق، بمعنى أنه اشتق هذا الاسم لله، اشتق له العباد وسموه باسم لم يسمِّ به نفسه، هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (لكن يتعين أن نسأله عن كيفية هذا الاشتقاق؟)، لكن كون الاسم مشتق من السمة هذا معروف في اللغة، ذكره العلماء، لكن ما معنى اسم الرب مشتق؟ المعنى أن الاسم يوافق الصفة، في أي شيء؟ سين وميم، الاسم فيه سين وميم، والسمة كذلك، والسمو كذلك، سواء في التقاء الحروف، لا أن المراد أن الناس اخترعوا لله اسم، وسموه من عند أنفسهم؛ وهذا ما ذكره المؤلف في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
ولهذا قال الجهمي الآن حينما يقولوا: الاسم مشتق من السمو والسمة، نسأله ما المراد؟ المراد أن العباد اخترعوا له اسم؛ هذا باطل، (لكن يتعين أن نسأله عن كيفية هذا الاشتقاق؟ وما معنى الاشتقاق الذي يذكره العلماء)؛ تنبؤ منه للجواب بين أمرين، إن كان حق قبلناه, وإلا رددناه عليه (فنطلب منه الجواب عن هذين الأمرين؟ وإن كانا مذكورين في كتب النحاة، وغيرهم؛ وقد ذكرته في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد).
(المتن)
وأما سؤاله عن الفرق بين القضاء والقدر؟ فالقدر أصل من أصول الإيمان، كما في سؤال جبريل عليه السلام، وما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال: «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».
وفي الحديث الصحيح: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» أي: جرى بما يكون مما يعلم الله تعالى، فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون, قال تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].
وأما القضاء: فيطلق في القرآن ويراد به إيجاد المقدر، كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12].
وقوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ: 14].
ويطلق ويراد به: الإخبار بما سيقع مما قدر، كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أخبرهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين؛ ويطلق ويراد به الأمر والوصية، كما قال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)[الإسراء: 23]، أي: أمر ووصى.
ويطلق ويراد به: الحكم، كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 69]؛ ويطلق ويراد به القدر، ونحو ذلك.
(الشرح)
هذا السؤال الثاني من أسئلة الجهمي الذي يردها عليه المؤلف:
السؤال الأول: اشتقاق الاسم من السمو، أو السمة.
والسؤال الثاني: الفرق بين القضاء والقدر؛ يعني ترد هذين الكلمتين، يعني يجب الإيمان بالقضاء والقدر، ثم الفرق بينهما، هل يقال القضاء هو القدر؟ أو القدر هو القضاء؟ قال: لا، المؤلف قال: يوجد فرق بين الكلمتين، وإن كان أُطلق أحدهما ويقصد به الآخر.
قال: (القدر أصل من أصول الإيمان) أصل من أصول الدين، لا يصح الإيمان إلا به، يجب الإيمان بالقضاء والقدر؛ فهو أصل من أصول الدين، الذي لم يؤمن بالقدر فهو كافر، وقال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
وقال: {كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
فالقدر أحد أركان الإيمان الستة كما في سؤال جبريل (وما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال: «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»)كم ركنًا؟ ستة أركان, هذه أصول الإيمان الستة، هذه نزلت من الكتب، وأُرسلت من أجلها الرسل، وأجمع عليها المسلمون، ولم يجحد واحد شيئًا منها إلا من خرج عن دائرة الإسلام وصار من الكافرين، من أنكر واحد منها كفر، من جحد الإيمان بالله كفر، من جحد الإيمان بالملائكة كفر، جحد الإيمان بالرسل كفر، جحد الإيمان بالكتب كفر، جحد الإيمان باليوم الآخر كفر، جحد القدر كفر.
ولهذا لما ظهر أناس في أواخر عهد الصحابة، القدرية الذين أنكروا القدر، وأن الله قدَّر الأشياء وعلمها، أنكر ذلك بعض التابعين، وسألوا بعض الصحابة؛ وهذا كما جاء في أول حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه في قصة حماد الطويل ويحيي بن يعمر، قال: إنه ظهر في البصرة أناس يتقفرون العلم؛ يعني يطلبون العلم، ويزعمون أن القدر أنف؛ يعني مستأنف جيدًا أنكروا علم الله به، أنكروا أن الله قد يكون عالمًا بالأشياء حتى تقع، قال: فقلنا: لو ذهبنا وسألنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم!
نذهب وكل ما نجده من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألناه، قال: فوُفق لنا عبد الله بن عمر آتي للمسجد الحرام في موسم الحج, وظننت أن أخي سيكل الكلام إلي فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس يتقفرون العلم، ويزعمون أن القدر أنف؛ مستأنف وجديد، قالوا: لا يعلم الله الشيء حتى يحصل، «فقال ابن عمر: إذا وجدت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء منهم، والذي نفس ابن عمر بيده لو أنفق أحد مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره».
ثم روى حديث عن أبيه؛ حديث جبرائيل عن الإيمان (كما في سؤال جبريل عليه السلام، وما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال: «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»)، إذًا الذي لا يقبل أعماله هو الكافر, قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
وقال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5].
فالكافر هو الذي يحبط عمله، دلَّ على من أنكر القدر كافر، ولهذا كان القدر أصل من أصول الإيمان كما في سؤال جبريل، (وما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال: «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»).
والقدر له أربعة مراحل لابد من الإيمان بهذه المراحل، من لم يؤمن بها فهو كافر، من أنكر واحد من هذه المراتب فليس بمؤمن, العلم علم الله الشامل في جميع الأشياء، وهو أن تؤمن بأن الله علم الأشياء قبل كونها في الأزل الذي لا بداية لأوله، ما كان في الماضي من خلق السموات والأرض وما قبل ذلك، وأن الله هو الأول ليس قبله شيء، هو الأول الذي لا بداية لأوليته سبحانه وتعالى.
تؤمن بأن الله علم الأشياء قبل كونها في الأزل، في الماضي، وهذا قد أنكره القدرية وقالوا: إن لا يعلم الله الشيء حتى يقع، فكفروا بذلك، يقولون: إن الأمر جديد ما يعلم الله بالشيء حتى يقع، نسبوا للرب الجهل والعياذ بالله، العلم بما كان في الماضي، وما يكون في الحاضر، وما يكون في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الشيء الذي لا يكن يعلم على أي حال كان, قال الله تعالى عن الكفار لما سألوا أن يعودوا إلى الدنيا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
إذًا علم الله ما سيكون لو كان، لكنه لا يكون، لكن لو ردوا، ماذا يحصل؟ علم الله أنهم يعودا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
وقال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]؛ هذا علمه بما لم يكن لو كان كيف يكون، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، لكنه ما يسمعهم، لو أسمعهم، ماذا يكون؟ {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وقال عن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، أخبر الله بأنهم لو خرجوا ماذا يحدث، وهم ما خرجوا، يقول: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة: 46]؛ يعني في غزوة تبوك: {لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
لو خرجوا فيكم ماذا يحصل؟ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47].
لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا شرًّا وفسادًا: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
هذه أحداث تحصل منهم والله تعالى ثبطهم وهذا من حكمته سبحانه؛: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} [التوبة: 47]؛ يعني أفسدوا في الجيش، ونشروا الشر، يبغونكم لفتنة، وفيكم من يسمع لهم.
إذًا إثبات علم الله الأزلي السابق بما كان إلى ما لا نهاية ما في بداية، الله الأول الذي لا بداية لأوله، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء؛ لأنه الذي لا نهاية لآخريته، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس بعده شيء كما قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
هذه أسماء متقابلة الأول يقابله الآخر، والظاهر يقابله الباطن، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء الأربعة في الحديث الصحيح؛ حديث الاستفتاح: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن ليس دونك شيء»؛ هو الباطن الذي لا يحجبه أحد من خلقه سبحانه وتعالى.
هذه المرتبة الأولى: لابد من الإيمان بالعلم.
المرتبة الثانية: الكتابة: كتابة الله للأشياء في اللوح المحفوظ، ما هي الأشياء التي كتبها الله في اللوح المحفوظ؟ كل شيء؛ الذوات، والصفات، والأفعال، والحركات، والسكون، والعجز، والكيف، والسعادة، والشقاوة، والعلم، والذل، والفقر، والغنى، كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، والرطب واليابس، الدليل على هاتين المرتبتين؛ العلم والكتابة كثيرة، قال الله تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70], ما هو الكتاب هذا؟ اللوح المحفوظ.
{أَلَمْ تَعْلَمْ} [الحج: 70]؛ هذه صفة العلم: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70].
وقال سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، ما هو الكتاب هذا؟ اللوح المحفوظ.
وقال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]؛ وهو اللوح المحفوظ.
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22]؛ وهو اللوح المحفوظ.
وقال: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].
وقال عليه الصلاة والسلام: «وكتب في الذكر كل شيء»؛ الذكر: هو اللوح المحفوظ، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
وقال سبحانه: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، عنده أم الكتاب: هو اللوح المحفوظ, {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]؛ بما في كتب الحفظة ليوافق ما في اللوح المحفوظ.
وقال عليه الصلاة والسلام: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: يا ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» وفي لفظ: «فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».
لابد من الإيمان بهاتين المرتبتين: العلم، والكتابة.
المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة الكونية؛ وهي أن تؤمن بأن الله أراد وشاء، كل شيء يقع في الوجود سبق فيه إرادة الله ومشيئته سواء من خير أو شر، طاعات أو معاصي، كفر أو إيمان؛ كل شيء يقع في الوجود الله أراده كونًا وقدرًا، لو كان يقع في ملك الله ما لا يريد لكان عاجز، لكن ما يقع في ملك الله شيئًا إلا أراد وجوده وكونه, لكن الطاعات والإيمان مرادًا لذاته، وأما الكفر والمعاصي أراد الله وقوعها لماذا؟ لحكم وأسباب تترتب على وجودها، ليست مرادة لذاتها، لكن لما يترتب عليها من الحكم، فمثلًا: الكفر والمعاصي يترتب على وجودها حكم، فأراد الله وقوعها لا لذاتها، بل لما يترتب عليها من الحكم.
لولا وقوع الكفر والمعاصي لما كان هناك شقي وسعيد، ولا قدرة الله على وجود المتقابلات؛ الكفر يقابل الإيمان، والمسلم يقابل الكافر، ولولا خلق الله الكفر والمعاصي لما حصلت عبودية الجهاد في سبيل الله، فهي من أصل القربات، لولا خلق الكفر والمعاصي، لو كان ما في كفار ما كان في جهاد، أين عبودية الولاء والبراء؟! لو كان الناس كلهم مؤمنين، تتبرأ من مَن؟! ما في أحد تتبرأ منه، عبودية الدعوة إلى الله، لو كان الناس كلهم مؤمنين مطيعين ما في دعوة إلى الله، عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عبودية الحب في الله والبغض في الله؛ هذه عبوديات متنوعة ترتبت على إيجاد الله، وخلق الله للكفر والمعاصي، إذًا هذه عبوديات متنوعة، ولله المثل الأعلى.
المريض حينما يأتي إلى الطبيب ويصرف له دواء مرًّا علقمًا، ويقول شفاؤك بإذن الله بشرب هذا الدواء المر، فالمريض يقدم عل شرب الدواء المر، وهو كاره له، لماذا؟ هل لذاته؟ ولا لما يترتب عليه من الشفاء؟ لما يترتب عليه من الشفاء، هذا الدواء المر مقصود لكن ليس لذاته؛ لما يترتب عليه من ماذا؟ لما فيه عافيته وشفاؤه, بخلاف العسل والحلوى فهو مقصود لذاته؛ لأنه لذيذ، لكن الدواء مر فهو لا لذاته، يقدم عليه المريض ويشربه لما يترتب عليه من الشفاء والعافية، فكذلك ولله المثل الأعلى، فالطاعات مقصودة لذاتها، والكفر والمعاصي خلقها الله لما يترتب عليها من الحكم والأسرار، فافهم حكمة الله.
فإذًا أبين هذا؛ لأن هناك بعض الطوائف مثل القدرية أنكروا خلق الله للطاعات والمعاصي والكفر، يقولون: ما خلق الله الكفر والمعاصي، العبد هو اللي يخلق الكفر والمعاصي, كيف يخلق الطاعات والمعاصي ويكون ظالمًا؛ انحرفوا.
من الذي خلق المعاصي والكفر؟ يقولون: العبد, نقول لهم: إذا وقع في ملك الله ما لا يريد؛ يعني ما أراد المعاصي ووقعت، وتكون مشيئة العبد غلبت مشيئة الله؛ الله أراد العبد يفعل الطاعة وهو يريد المعصية فغلبت مشيئة العبد؛ هذه مفاسد، تعتمد عليها القدرية ما يستطيعون غلبهم حتى خصومهم.
القدري ينكر أن يكون الله خلق المعاصي والكفر، ركب مع المجوسي، والمجوسي كافر في سفينة، فأراد القدري ينصح المجوسي قال له: اسلم، قل: أشهد أن لا إله إلَّا الله، قال إذا أراد الله أن أسلم أسلم، قال: الله يريد، ولكن الشيطان هو الذي لا يريد، قال: إذا كان الشيطان غلب فإن الشيطان قوي؛ غلبت إرادته إرادة الله كان المجوسي مع الشيطان، فإرادة الشيطان الكفر، وإرادة الله هي الإيمان فصار مع الشيطان، فغلبت مشيئة الشيطان، هذا الشيطان قوي؛ هذا يدل على فساد مذهبهم، لكن القول أن الله خلق المعاصي لحكم وأسرار ما فيه إشكال، والعبد هو الذي فعل المعصية وفعلها باختياره، والله بيده الخلق، والخلق مبني على الحكمة، وهو الذي خلق الرحمة، والعبد هو الذي باشرها وفعلها باختياره,(...) ولا يحصل مفاسد.
المقصود أن لابد من الإيمان بالإرادة؛ الإرادة الكونية والمشيئة، وأنها تثبت الأشياء، كل شيء يقع في الوجود أراد الله وجوده.
المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد؛ تعتقد أن الله خلق كل ما في الكون الله خالقه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1].
وقال في الخلق: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]؛ هذه مراتب الإيمان الأربعة، فالذي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر.
علم كتابة مولانا مشيئته |
|
خلقه وهو إيجاده وتقديره |
القدرية طائفتان؛ طائفة أنكرت العلم والكتابة، فكفرهم العلماء، كفرهم الصحابة كما سبق، وهم الذين قال فيهم الشافعي وغيره: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أخذوا به خصموا، وإن أنكروه كفروا.
والطائفة الثانية: أثبتوا العلم والكتابة، لكن أنكروا عموم الإرادة والمشيئة، قالوا: إن الله أراد كل شيء إلا أفعال العباد ما أرادها هم اللي يفعلونها باختيارهم فهذا يثير شبهة، وقالوا: إن الله خلق كل شيء إلا أفعال العباد ما خلقها، العباد هم الذين خلقوا أفعالهم لشبهة عرضت لهم، فصاروا مبتدعة لأهل العلم، بخلاف الطائفة الأولى فإنهم كفرة.
فهذا القدر، القدر أصل من أصول الإيمان كما في سؤال جبرائيل، وفي الحديث الصحيح: «إن أول من خلق الله القلم، فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» يقول المؤلف: أي جرى بما يكون مما يعلم الله تعالى، لابد من العلم، فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد بيَّنت لكم هذا.
قال: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3]؛ يعني: كل شيء علمه الله كتبه في كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ؛ هذا القدر.
السائل يسأل عن الفرق بين القضاء والقدر، القدر أصل من أصول الإيمان، وهو سر الله في خلقه، أما القضاء.
قال المؤلف: (القضاء له معان) أحيانًا توافق القدر، وأحيانًا تخالفه، إذا اجتمعا يكون لكل واحد منهما معنى, القضاء له معنى يطلق في القرآن ويراد به إيجاد المقدر كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12].
يعني: أوجدهن على وفق ما قدر، وصار القدر بمعنى ماذا؟ قال المؤلف: (الإيمان بالقدر خيره وشره كما سبق القدر أن تؤمن بعلم الله، وكتابته، وإرادته، وخلقه وإيجاده) هذا القدر، أما القضاء: فيطلق ويراد به إيجاد المقدر, المقدر ما هو؟ قدَّر الله وجود هذا الشيء، إيجاد المقدر يسمى قضاء، والشيء الذي قدره الله وكتبه، وأراد وجوده يسمى قدرًا؛ إذًا في فرق بين القضاء وبين القدر.
القدر يُراد به العلم، والكتابة والإرادة، والخلق، والقضاء أحيانًا يطلق، ويراد به إيجاد المقدر، يقول: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]؛ يعني أوجد هذه السموات على وفق ما قدره.
ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ: 14]؛ هذا في سليمان, ما معنى قضينا عليه الموت؟ يعني أوجد الموت الذي قدره الله عليه، أوجده وأوقعه على سليمان لما وقع به الموت هذا ماذا؟ قدر: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} [سبأ: 14].
فسليمان نبي وملك، أتاه الله النبوة والملك، وسخر له الجن والإنس والطير، فالجن يعملون: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]؛ يعملون ليل نهار.
ومن يتخلف: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12].
أعطاه الله القوة يعذب, وكان يتعبد متكئًا على عصاه، ومات وهو على عصاه، ولم يعلم الجن والإنس، والجن يشتغلون يوم يومين ثلاثة مسخرين، خائفين من سليمان، وسليمان ميت، فأراد الله الأرض تأكل من العصاة، فلما أكلت العصاة سقط، فعلموا أنه ميت: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14].
فهم لبثوا أيام يشتغلون ليل نهار، لما علموا أنه مات توقفوا؛ وهذا يدل على أن الجن لا يعلمون الغيب، وفيه رد على الإنس، الله تعالى بين للإنس أن الجن ما يعلم الغيب، لو كانوا يعلمون لعلموا ما في سليمان، وهم يشتغلون ليل نهار: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [سبأ: 14]؛ العصاة المتكئ عليها.
{فَلَمَّا خَرَّ} [سبأ: 14]؛ سقط {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} [سبأ: 14]؛ يعني: علمت {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]؛ العمل الذي ألزمهم سليمان عليه الصلاة والسلام.
فتبين للإنس أن الجن عندهم بعض النقص، وليس كما يعظمهم بعض الإنس أنهم يعلمون الغيب: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14]؛ يعني ما قُدر عليه.
ويُطلق القضاء ويراد به الإخبار فيما سيقع مما قدر، كقوله{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4].
الإخبار بالذي سيقع في المستقبل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4].
يعني: أخبرهم الله بأنهم سيقع منهم الإفساد في الأرض مرتين، في كل مرة يحصل إفساد يسلط عليهم أن يسومهم سوء العذاب: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 4 - 6] .
قال ذلك لما تابوا نصرهم الله عليهم: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} [الإسراء: 7]؛ يعني: في المرة الثانية, {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 7].
يقول: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4]؛ ما معنى وقضينا إلى بني إسرائيل؟ أخبرناهم بما سيقع في المستقبل، أخبرهم في كتابه أنه يفسدون في الأرض مرتين.
ويُطلق القضاء ويراد به الأمر والوصية مثل قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]؛ يعني أمر ووصى، قضى، ما معناه؟ أمر ووصى؛ هذا أمر شرعي ديني، أمر يعني قد ينفذ، وقد لا ينفذ، بعض الناس نفذوا الوصية والأمر فعبدوا الله، والكفار ما عبدوا، ما وحدوه.
ويُطلق القضاء ويراد به الحكم؛ يعني: حكم بينهم بالحق: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 75]؛ يعني: حكم بينهم بالحق.
ويُطلق ويراد به القدر، يكونان مترادفان؛ هذا جواب الشيخ رحمه الله عن السؤال الثاني.
(المتن)
وأما ما تزعمه من أن الأدلة الدالة على استوائه سبحانه على عرشه، لا تمنع أن يكون مستويًا على غيره.
فالجواب، أن نقول: قد أجمع أهل السنة والجماعة، قديمًا وحديثًا، على أنه لا يجوز أن يوصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن وصفه بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو جهمي، ضال مضل، يقول على الله بلا علم; وقد ذكر سبحانه استواءه على عرشه، في سبعة مواضعَ من كتابه: في سورة "الأعراف"، وفي سورة "يونس"، وفي سورة "الرعد"، وفي سورة "طه"، وفي سورة "الفرقان"، وفي سورة "السجدة"، وفي سورة "الحديد".
ولم يذكر تعالى أنه استوى على غير العرش، ولا ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، فعُلم أنه ليس من صفاته التي يجوز أن يوصف بها; فمن أدخل في صفات الله ما لم يذكر في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، فهو جهمي، يقول على الله ما لا يعلم, وقد قال الله تعالى { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].
وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
وقال: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].
وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].
وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158].
وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]؛ علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات; لا يجوز أن يوصف إلا بذلك كله، لكماله تعالى في أوصافه؛ فله الكمال المطلق، في كل صفة وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
(الشرح)
هذا الجواب من المؤلف رحمه الله، هذا جواب السؤال الثالث الذي أورده الجهمي على المؤلف، وذلك أن الجهمي يزعم أن الاستواء ليس خاص بالعرش، يقول: إن الأدلة وإن جاءت بأن الله استوى على العرش لا تمنع أن يكون الاستواء على العرش، وقد يكون استواء على الأرض، واستواء على الدابة، واستواء على الماء.
فالمؤلف يقول: هذا باطل؛ لأن الأسماء والصفات توقيفية، والله تعالى خصَّ نفسه بالاستواء في سبع مواضع من كتابه، فدلَّ على أنه استواء على العرش، ولا يجوز أن يقال: إنه استوى على الدابة، واستوى على الأرض، واستوى على الماء، واستوى على السماء؛ لأن صفة الاستواء توقيفية الله تعالى خصَّ نفسه بالاستواء على العرش، واستواء يليق بجلاله وعظمته.
فاستوى في اللغة: استوى: علا، وارتفع، وصعد, وارتقى استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشبه المخلوق في استوائه، فهذا الجهمي يقول: لا، صحيح جاءت أدلة الاستواء على العرش لكن ما في مانع أن يضاف الاستواء إلى غير العرش.
قال المؤلف ردًّا عليه: (وأما ما تزعمه من أن الأدلة الدالة على استوائه على عرشه، لا تمنع أن يكون مستويا على غيره, فالجواب أن نقول: قد أجمع أهل السنة والجماعة، قديمًا وحديثًا، على أنه لا يجوز أن يوصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم)؛ الله تعالى وصف نفسه بالاستواء على العرش، وكذلك رسوله، ولم يقل أنه استوى على الدابة، أو استوى على الماء، أو استوى على الأرض، أو استوى على السماء، ما في هذا، فصفة الاستواء توقيفية.
قال: (لا يجوز أن يوصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو جهمي، ضال مضل، يقول على الله بلا علم) فكونك تقول: إن الله استوى على الأرض؛ هذا ضلال، فالجهمي يقول هذا.
قال المؤلف: (وقد ذكر سبحانه استواءه على عرشه، في سبعة مواضعَ من كتابه) ما هي السبعة؟ في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: 54].
في سورة يونس؛ في أول سوره يونس: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 1 - 3].
في سورة الرعد أيضًا في أولها: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2].
في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59].
في سورة السجدة: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 1 - 4].
في سورة الحديد: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4/ 3]؛ هذه سبعة مواضع لم يذكر الاستواء على العرش في غير هذه السبعة مواضع في كتاب الله.
قال المؤلف: (ولم يذكر تعالى أنه استوى على غير العرش) كالسماء والأرض والبحار, (ولا ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، فعلم أنه ليس من صفاته التي يجوز أن يوصف بها) ليس من صفاته أن يقال استوى على الماء، أو على الأرض.
قال: (فمن أدخل في صفات الله ما لم يذكر في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، فهو جهمي، يقول على الله ما لا يعلم) فأنت أيها السائل جهمي.
قال: وقد قال الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، والعروج إنما يكون من أسفل إلى أعلى؛ فدلَّ على أن الله في العلو، وهذا الجهمي يريد أن يقول: استوى الله على الدابة، استوى الله على البحار، ينكر أن يكون الله في العلو، يقول: إن الله في كل مكان.
والمؤلف يريد أن يذكر أدلة على أن الله في العلو: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].
العروج يكون من أسفل إلى أعلى، فدلَّ على أن الله في العلو: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
والرفع يكون من أسفل إلى أعلى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]؛ تنصيص، إذا جاءت من في تنصيص على الفوقية من فوقهم.
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، والرفع يكون من أسفل إلى أعلى.
{ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158].
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [الشورى: 4].
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]
قال المؤلف: (علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات)؛ كلها مقصود بها الله.
(علو القدر) يعني: قدر الله وشانه عظيم، (وعلو القهر) علو القهر والسلطان والعظمة، (وعلو الذات) ذاته فوق العرش، وقد وافق أهل البدع على نوعين من العلو وأنكروا نوعًا ثالثًا، ما هي التي وافقوا عليها؟ وافقوا على علو القدر والشأن، ووافقوا على علو القهر والسلطان، وأنكروا علو الذات، قالوا: لا, ذات الله ليس فوق العرش، لكن العلو ماذا؟ علو القدر؛ قدره عظيم، وقهره عظيم، لكنه في كل مكان، فكفروا بذلك.
لابد من إثبات الأنواع الثلاثة كلها علو الذات، والله فوق العرش، وعلو القهر والسلطان والعظمة، الله تعالى قهر المخلوقات، وعلو القدر والشأن والعظمة كما قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الشافية:
والفوق أنواع ثلاث كلها |
|
لله ثابتة بلا نُكران
|
يعني: الأنواع الثلاثة كلها ثابتة لله؛ علو القدر والشأن والعظمة، وعلو القهر والغلبة والسلطان، وعلو الذات، قال: (لا يجوز أن يوصف إلا بذلك كله، لكماله تعالى في أوصافه؛ فله الكمال المطلق، في كل صفة وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم).
(المتن)
وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]، فذكر العرش عند هذه الصفة، من أدلة فوقيته تعالى كما هو صريح فيما تقدم من الآيات; وكقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5].
وذكر النبي عليه الصلاة والسلام في معنى قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3].
«اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» فقوله: «فليس فوقك شيء» نص في أنه تعالى فوق جميع المخلوقات; وهو الذي ورد عن الصحابة، والتابعين من المفسرين وغيرهم، في معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؛ أن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل, قاتلهم الله أنى يؤفكون.
والنصوص الدالة على إثبات الصفات كثيرة جدًا، وقد صنف فيها أهل السنة من المحدثين والعلماء مصنفات كبار، ومن ذلك: كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين والأئمة، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن خزيمة، وكتاب السنة للأثرم صاحب الإمام أحمد، وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي وكتاب السنة للخلال، وكتاب العلو الشافي، وغير ذلك مما لا يُحصى كثرته، ولله الحمد والمنة.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يقول: وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15].
(فذكر العرش عند هذه الصفة، من أدلة فوقيته تعالى) لما قال: ذو العرش بعد رفيع الدرجات؛ هذا يدل على أن الله في العلو فوق العرش: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15].
فذكر هذه الصفة ذو العرش بعد قوله رفيع الدرجات؛ يدل على رفعته وأنه في العلو، فالله تعالى أعلى العلو، وهو ما فوق العرش، العرش سقف المخلوقات ونهايتها، انتهت المخلوقات، والله تعالى فوق العرش، فهو مستوٍ على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، والله تعالى لا يحتاج إلى عرش ولا إلى غيره، بل هو الحامل للعرش وحملته بقوته وبقدرته، لكن استواءه لا نعلم كيفيته.
لكن نعلم كيفية استواء المخلوق، إن الإنسان يجلس على الدابة، فإذا سقطت الدابة سقط المخلوق، أو السطح، لو خرَّ السطح سقط؛ هذا استواء المخلوق، المشبهة كما قال الشيخ ابن تيمية: يقولون استواء الله مثل استواء المخلوق، قالوا: إن الله مستوٍ على العرش؛ لأنه محتاج إليه، قياسه قوله يقول: كما أن الإنسان مستوي على الدابة لو سقطت سقط، قالوا: قياس ذلك أنه لو سقط العرش لسقط الرب؛ هذا كفر، هذا باطل، نحن ما ندري الكيفية، لكن المعنى واحد، الاستواء: استقر, وعلا, وصعد, وارتفع, الله فوق العرش، لكن ما كيفية الاستواء؟ ما نعرف.
كما قال الإمام: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، لا يعلم كيفية ذات الله إلا الله، ما نعلم كيفية علمه، ولا قدرته، ولا كيفية استواءه، ولا كيفية رضاه، ولا كيفية غضبه، لكن نعلم المعنى, المعنى معلوم، والعلم ضد الجهل، والقدرة ضد العجز، والاستواء العلو والارتفاع، والارتقاء، لكن الكيفية لا نعلمها.
فالله تعالى قد قال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]؛ لما قال ذو العرش بعد رفيع الدرجات (فذكر العرش عند هذه الصفة، من أدلة فوقيته تعالى)ذكر العرش دليل على أنه فوق سبحانه وتعالى (كما هو صريح فيما تقدم من الآيات) وكقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5].
{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5]، ولم يقل من تحتهن، والملائكة فوق يسبحون بحمد ربهم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في معنى قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
ذكر تأكيد الأسماء الأربعة، قال: فسر الأول، وفسر الآخر، وفسر الظاهر, وفسر الباطن، قال: «اللهم: أنت الأول» ما تفسيره؟ «فليس قبلك شيء»، «وأنت الآخر» تفسيره «فليس بعدك شيء»، «وأنت الظاهر»؛ تفسيره «فليس فوقك شيء»، «وأنت الباطن» يعني: «فليس دونك شيء».
فقال المؤلف: (نص في أنه تعالى فوق جميع المخلوقات; وهو الذي ورد عن الصحابة، والتابعين من المفسرين وغيرهم، في معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] إن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق) الزنديق: الملحد، وهي كلمة فارسية، تطلق على المنافق، وتطلق على الجاحد المعاند: (لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل، قاتلهم الله أنى يؤفكون)؛ دعا عليهم المؤلف.
(والنصوص الدالة على إثبات الصفات كثيرة جدًا، وقد صنف فيها أهل السنة من المحدثين والعلماء مصنفات كبار)؛ العلماء صنفوا مؤلفات لما أنكرت الجهمية صفات الله من العلو، فصنف العلماء وردوا عليهم، وذكروا النصوص من الكتاب والسنة.
(ومن ذلك: كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين والأئمة) الكتاب معروف ومحقق مطبوع, ذكر فيه الأدلة والآثار عن الصحابة والتابعين في إثبات الاستواء لله عز وجل، ومن ذلك إثبات العلو.
(وكتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن خزيمة، وكتاب السنة للأثرم صاحب الإمام أحمد، وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي وكتاب السنة للخلال، وكتاب العلو الشافي، وغير ذلك مما لا يحصى كثرته، ولله الحمد والمنة).
(المتن)
ونذكر بعض الأحاديث الصريحة في المعنى، فمن ذلك: ما في الصحيحان عن النواس بن سمعان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، أو إذا تكلم بالوحي».
(الشرح)
قال المؤلف هنا سيذكر صفحتين، أو ثلاثة صفحات كلها أدلة في إثبات العلو لله، وأن الله فوق؛ فوق السموات وفوق الأرض، أدلة من الكتاب والسنة؛ ولذلك قال: (ونذكر بعض الأحاديث الصريحة في المعنى) يعني: فيه إثبات العلو لله، وإثبات الصفات.
(المتن)
«إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، أو إذا تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة؛ خوفًا من الله عز وجل، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا، وخروا له سجدًا».
(الشرح)
نستكمل بإذن الله في الدرس الثاني، نستكمل فيه الأدلة وكذلك بعدها النصوص، جزاكم الله خير الجزاء.