الحمد لله رب العالمين و العاقبة للمتقين و لا عدوان إلا على الظالمين و أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له و أشهد أن سيدنا و نبينا و إمامنا و قدوتنا محمد بن عبد الله النبي العربي الهاشمي المطلبي , أشهد أنه رسول الله للثقلين الجن و الإنس و العرب و العجم و أنه بلغ الرسالة و أدى الأمانة و نصح الأئمة و جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه من ربه اليقين فصلوات الله و سلامه عليه و على إخوانه من النبيين و المرسلين و على آله و على أصحابه و على أتباعه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فإني أحمد الله إليكم و أثني عليه الخير كله و أسأله المزيد من فضله و أسأله أن يصلح قلوبنا و أعمالنا و نياتنا و ذريتنا كما أسأله أن يرزقنا جميعا العلم النافع و العمل الصالح و أن يرزقنا الإخلاص في العمل و الصدق في القول كما أسأله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مرحوما و أن يجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما و ألا يجعل فينا و لا منا شقيا أو محروما.
نحمد الله أن أعادنا إلى هذه الدروس العلمية و أسأل الله أن يرزقنا جميعا الإخلاص في العمل و الصدق في القول.
و لا يخفى على الجميع أن تعلم العلم و تعليمه من أفضل القربات و أجل الطاعات و إذا كان تعلم العلم و تعليمه عبادة فإن العبادة لا بد فيها من الإخلاص , يتعلم المتعلم و يعلم لله لا لغرض آخر لا للرياء و لا للسمعة و لا للشهرة و لا للدنيا و لا للوظيفة و لا لغيرها و إنما يتعلم لله لأجل أن ينقذ نفسه من الجهل و ينقذ غيره ولأجل أن يعبد الله على بصيرة و لأجل أن ينال الثواب و الأجور المرتبة على تعلم العلم و تعليمه هكذا ينبغي للمسلم أن يستشعر الإخلاص و أنه في عبادة.
ثم على طالب العلم أن يحرص على حضور الدروس العلمية و الدورات العلمية و أن يحرص على حضور القلب و الانتباه و أن يحرص على ضبط المسائل و الفوائد العلمية و تقييدها حتى لا تضييع كما قال الناظم :
العلم صيد و الكتابة قيده | قيد صيودك بالحبال الواثقة |
و العلم الذي وردت النصوص الكثيرة بفضله و الله تعالى قرن شهادة العلماء بشهادته و شهادة ملائكته , المراد بالعلماء علماء الشريعة العالمين بالله و أسمائه و صفاته , علماء الدين الإسلامي.
و العلم النافع ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول : علم بالله و بأسمائه و صفاته.
و النوع الثاني : علم بشريعته و بالأوامر و النواهي.
و النوع الثالث : علم بالجزاء المرتب على من أطاع الله و الجزاء المرتب على من عصى الله.
هذه أقسام العلم النافع كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله :
العلم أقسام ثلاث ما لها | من رابع و الحق ذو تبيان |
علم بأوصاف الإله وفعله | وكذلك الأسماء للرحمن |
هذا النوع الأول.
والأمر والنهي الذي هو دينه | و جزاؤه يوم المعاد الثاني |
و هذا الثاني و الثالث.
هذا هو العلم النافع هذا العلم الذي وردت النصوص بفضله يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
و العلماء ورثة الأنبياء , هذا هو العلم الذي ورثه العلماء عن الأنبياء , العلم بالله و أسمائه و صفاته و أفعاله و العلم بدينه و شرعه و العلم بالجزاء المرتب على من أطاع الله و المرتب على من عصى الله أما العلوم الأخرى كعلم الطب و علم الفلك و علم الصيدلة و علم الزراعة و علم النجارة و علم الحدادة و علم الكهرباء و غير ذلك من العلوم فهذه علوم قد يؤجر الإنسان عليها إذا أحسن النية تعلمها و أحسن النية يكون مأجوراً و هي من فروض الكفايات ينبغي للأمة أن تتعلم هذه العلوم حتى تستغني عن غيرها حتى تستغني عن الأمم الكافرة لكن ليست مثل العلوم الشرعية , الثواب المرتب في العلم إنما على الأنواع الثلاثة التي سمعتم.
و إذا تعلم العلم و الصيدلة و الطب من أجل أن تكون مصدر رزقه و من أجل أن تكون حرفة لا بأس تعلمه لأجل الدنيا أما العلم الشرعي لا يجوز أن تتعلمه لأجل الدنيا لا يجوز لأن العلم الشرعي أسمى و أعلى و أغلى من الدنيا ما يحصل من الدنيا من المكافأة و الإعالة هذه تكون وسيلة معينة على طلب العلم لا تكون غاية و لهذا جاء في الحديث من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليكسب به عرضاً من الدنيا لم يذق رائحة الجنة هذا وعيد شديد و الله تعالى يقول في كتابه العظيم مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ من كان يريد الدنيا يعمل للآخرة فهي عبادة من العبادات و العلم من أعمال الآخرة تعلمه و تعليمه لا يجوز أن يراد به الدنيا.
و إذا أطلق العلم انصرف إلى العلم الشرعي و إذا أطلق العالم انصرف إلى العالم بالله و أسمائه و صفاته و دينه و بشرعه أما إذا أريد علوم أخرى فلا بد من التقييد فيقال علم الفلك ما تقول علم وتسكت , علم الطب , علم الصيدلة , علم الزراعة , علم التجارة , علم النجارة و هكذا و كذلك العالم يقال عالم طب , عالم فلك , عالم رياضة , عالم فضاء , لكن الآن عكست الأمور فصاروا يطلقون العلم على العلم التجريبي و يطلقون العالم على عالم الفضاء يسمونه عالما و عالم الفلك يسمونه عالما بإطلاق و هذا خطأ لا بد أن يقيد عالم فضاء , عالم طب , عالم صيدلة , العالم الذي يطلق يقصد به العالم الشرعي فالعالم بالله و بدينه و العلم إذا أطلق يقصد به العلم الشرعي .
نسأل الله أن يرزقنا و إياكم العلم النافع و العمل الصالح و أن يثبتنا على دينه القويم حتى نلقاه أنه ولي ذلك و القادر عليه .
و نحن إن شاء الله في هذه الدورة سنتحدث كما علمتم نتكلم بما يفتح الله في هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المسماة " قاعدة في الوسيلة " و هي جواب عن أسئلة وجهت لشيخ الإسلام كعادته رحمه الله و رضي عنه كثير من الرسائل أكثرها أجوبة عن أسئلة توجه للشيخ رحمه الله .
( المتن )
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا , سئل شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم , ما تقول السادة العلماء أئمة الدين و هداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين فيمن عاب أقوالاً نقلها جماعة من أكابر الأئمة و أعيان سادة هذه الأئمة .
أولها : ما أورده الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي في كتابه الكبير في الفقه المسمى " شرح الكرخي " في باب الكراهية و صورة اللفظ " قال بشر بن الوليد قال حدثنا أبو يوسف قال قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به و أكره أن يقول بمعاقل العز من عرشك أو بحق خلقك و هو قول أبي يوسف قال أبو يوسف : بمعقد العز من عرشك هو الله فلا أكره هذا و أكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك و رسلك و بحق البيت و المشعر الحرام قال القدوري : المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز .
و ثانيهما : ما ذكره الشيخ أبو القاسم القشوري في كتابه المسمى " التحبير في علم التذكير " المشتمل على تفسير معاني أسماء الله و صورة اللفظ أنه قال " علم الحق سبحانه أنه ليس لك أسامي مرضية فقال تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ولئن تكون بأسماء ربك داعيا خير لك من أن تكون بأسماء نفسك مدعيا فإنك إن كنت بك كنت بمن لم يكن و إذا كنت به كنت بمن لم يزل فشتان بين وصف و بين وصل " و قال " من عرف اسم ربه نسي اسم نفسه بل من صحب اسم ربه تحقق بروح أنسه قبل وصوله إلى دار قدسه بل من عرف اسم ربه سمت رتبته و علت في الدارين منزلته " .
و ثالثها : ما ذكره الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في فتاويه المشهورة و صورة اللفظ أنه قال " لا يجوز التوسل في الدعاء بأحد من الأنبياء و الصالحين إلا برسول الله ﷺ إن صح حديث الأعمى " .
و زعم العائب لهذه الأقوال و الطاعن على معانيها أن فيها تنقصا بعباد الله الصالحين و استخفافا بحرمة البيت و المشعر الحرام فهل هذه الأقوال المذكورة تنقص و استخفاف و الحالة هذه أولى؟ و هل يجوز ردها بمجرد رأي الإنسان و ما جرت به عوائد أهل الزمان أم لا؟ و هل اشتهر عن الأئمة الأكابر المتبوعين خلاف لهذه الأقوال ؟ و هل صح حديث الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعه ؟ و هل في صريح لفظه ما يبطل الأقوال المذكورة و يوجب اعتقاد خلافها و هل يجوز الحلف بغير الله ؟ و إذا لم يجز هل يجوز التحليف والإقسام بغير الله ؟ و الراد لهذه الأقوال المتقدم ذكرها و الطاعن فيها إذا لم يكن عنده دليل شرعي قاطع يدفعها به هل يرجع عن ذلك و يزجر ؟
( الشرح )
هذه الأسئلة التي وجهت للشيخ رحمه الله و كما سبق أن رسائل الشيخ الإمام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله الإمام المشهور أكثر رسائله إجابة عن أسأله فمثلا رسالة الواسطية جواب عن سؤال و سميت بالواسطية لأن السائل من بلدة واسط في العراق سأل أن يكتب له عقيدة مختصرة فكتب هذه العقيدة عقيدة الواسطية في جلسة ما بعد العصر , و الحموية جواب عن سؤال من بلدة حماة وجه للشيخ و التدمرية جواب عن سؤال وجه للشيخ من بلدة تدمر و المراكشية جواب عن سؤال وجه من بلدة مراكش في المغرب و هكذا و هذه القاعدة في الوسيلة جواب عن سؤال كما رأيتم .
و هذه القاعدة " الوسيلة " تحتلف عن القاعدة الكبيرة " قاعدة جليلة في التوسل و الوسيلة " تلك مطولة و هذه مختصرة.
و التوسل يطلق و يراد به أمران:
الأمر الأول القربة إلى الله بطاعته التقرب إلى الله بطاعته يسمى وسيلة قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
و الثاني الوسيلة بمعنى التوسل و الشفاعة تتوسل بشفاعة فلان و تتوسل يعني بشفاعته بدعائه يدعو و أنت تؤمن هذه تسمى وسيلة , يعني فلان يتوسل بفلان يعني يتوسل بدعائه فهو يدعو و هو يؤمن فهذه معنى الوسيلة.
هذان معنيان صحيحان التوسل إلى الله التقرب إلى الله بطاعته و التوسل بفلان بمعنى التوسل بشفاعة فلان بأن يدعو الله و أنت تؤمن و تسأل الله أن يقبل شفاعته و دعائه , كما كان الصحابة يتوسلون إلى النبي ﷺ و يطلبون منه أن يتوسل إليهم إذا قحطوا و تأخر المطر توسلوا بشفاعة النبي ﷺ فهو يدعو و يؤمنون فلما مات النبي ﷺ و قحطوا توسل الناس بالعباس عم النبي ﷺ فكان عمر إذا تأخر المطر يقول ( اللهم إنا كنا إذا أجذبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا و إنا نتوسل إليك بعم نبينا ) ثم العباس يدعو الله يقوم العباس يدعو و هم يؤمنون , هذه وسيلة دعاء العباس وسيلة يعني شفاعته و دعائه وسيلة.
و تأتي الوسيلة بمعنى التوسل بذات الشخص يتوسل بذاته هذه بدعة و الصحابة ما توسلوا بذات النبي ﷺ لو كانوا توسلوا بذات النبي ﷺ لكانوا توسلوا به بعد مماته لأن ذاته موجودة عليه الصلاة و السلام , و لماذا عدل الصحابة عن التوسل بالنبي ﷺ و وتوسلوا بالعباس لأنه توفي عليه الصلاة و السلام تعذر التوسل بشفاعته لأنه كان يدعو و هو حي و كانوا هم يؤمنون فلما مات تعذر هذا فتوسلوا بالعباس يعني بدعاء العباس و لو كانوا يتوسلون بذات العباس لكان التوسل بذات النبي ﷺ أوجه و أوجه فدل على أنه ممنوع.
و كذلك التوسل بحرمة فلان أو بجاه فلان أو بحق فلان كما سيأتي كل ذلك من البدع .
التوسل التقرب إلى الله بطاعته و هو أنواع منها:
التوسل بأسماء الله الحسنى و بصفاته العلى قال الله تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا.
و منها التوسل إلى الله بالتوحيد كما في حديث اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت.
و التوسل بالإيمان رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا هذا توسل بالإيمان.
و التوسل بالعمل الصالح تتوسل بعملك الصالح بصلاتك بصيامك بحجك كما توسل الثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة و توسل أحدهم ببره بوالديه و توسل أحدهم بعفته عن الزنا بعد قدرته و توسل الثالث بأمانته ففرج الله عنهم الصخرة بأعمالهم الصالحة.
تتوسل إلى الله بفقرك و حاجتك كما قال الله عن موسى رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
هذا كله توسل مشروع جائز كل هذا داخل في قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ تتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى , تتوسل إلى الله بصفاته العلا , تتوسل إلى الله بالتوحيد , تتوسل إلى الله بالإيمان , تتوسل إلى الله بعملك الصالح , تتوسل إلى الله بفقرك و حاجتك و اعترافك بذنبك كما جاء في الحديث سيد الاستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك و وعدك ما استطعت اعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي أبوء يعني أقر و أعترف , تتوسل إلى الله بفقرك و حاجتك و عبوديتك لله هذا كله مشروع أما أن تتوسل إلى الله بدعاء الحي الحاضر هو يدعو و أنت تؤمن لا بأس به كل هذا لا بأس به أما تتوسل بذات الشخص بذاته هذا بدعة , تتوسل بحرمة فلان بدعة تتوسل بجاه فلان بدعة بحق فلان بدعة , حق فلان له ليس هناك علاقة و لا مناسبة بين حق فلان و سؤالك إجابة الدعاء , فهذا موضوع الرسالة و المؤلف رحمه الله أفاض و ذكر بحوثاً اتخاذية مهمة في هذه الرسالة .
و هذا نص السؤال يقول " ما تقول السادة العلماء أئمة الدين و هداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين فيمن عاب أقوالا نقلها جماعة من أكابر الأئمة و أعيان سادة هذه الأئمة " يعني ما هو قول العلماء في شخص أو أشخاص يعيبون أقوالا نقلت عن أكابر الأئمة في مسألة التوسل هذا هو السؤال , السؤال فيمن عاب أقوالا نقلت عن أكابر الأئمة في التوسل و الشيخ أحمد ابن تيمية رحمه الله في مقدمة هؤلاء السادة العلماء فهو إمام من الله عليه بالعلم و البصير في دينه و في شريعته و رزقه الله القدرة على رد شبه المبطلين و رزقه البصيرة في شبههم و ردها و هو أعلم بأدلتهم منهم رحمه الله فقيضه الله للرد على الصوفية و الفلاسفة و أهل البدع بجميع طرقاتهم و أنواعهم بدعة القدر بدعة الإرجاء بدعة الأسماء بدعة الصفات , ثم ذكر هذه الأقوال التي صدرت عن الأئمة و انتقدها بعض الناس فما حكم انتقادهم ؟
أولها يقول " ما أورده الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي " هذا معروف من أئمة الأحناف القدوري اشتغل بالفقه و أخذ عنه الفقه جماعة , و ذكر المحقق ترجمة له " في كتابه الكبير في الفقه المسمى " شرح الكرخي " في باب الكراهية و صورة اللفظ " يعني صورة هذا اللفظ الذي ورد عن القدوري " قال بشر بن الوليد " و هذا بشر بن الوليد قاضي العراق أخذ عن الإمام مالك و محمد بن زيد و أبي يوسف ".
قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف " أبو يوسف هذا الصاحب الأكبر للإمام أبو حنيفة , الإمام أبو حنيفة له صاحبان الصاحب الأول أبو يوسف و الثاني الحسن و الصاحبان قد يوافقان الإمام و قد يخالفانه في المسائل الفقهية و أبو يوسف هو الصاحب الأكبر و هو يروي عن الإمام أبي حنيفة في هذا السند.
قال " قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال قال أبو حنيفة " هذا منقول عن الإمام أبي حنيفة " لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به " يعني لا يدعو الله إلا به لا يدعوه و لا يتوسل لا يدعو الله إلا به بأسمائه و صفاته " لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به " يعني بأسمائه و صفاته كأن يقول يا رحمن , يا عليم , يا قدير , يا سميع , يا بصير , يا ذا الجلال و الإكرام , يا حي يا قيوم , تدعو الله به بأسمائه و صفاته " لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به " هذا كلام الإمام أبي حنيفة.
قال " و أكره أن يقول بمعاقل العز من عرشك أو بحق خلقك و هو قول أبي يوسف " أكره هنا إذا أطلقت الكراهة عند السلف و الأئمة المراد بها التحريم يعني يحرم و كذلك في كتابه العزيز لما ذكر الله تعالى المحرمات الشرك و عقوق الوالدين و قطيعة الرحم و التبذير في النفقة و الزنا و التطفيف في المكيال و الميزان قال بعد ذلك كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا يعني محرما ترجح التحريم فالمراد بالكراهة التحريم.
و كذلك إذا جاءت الكراهية في السنة يراد به التحريم كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح إن الله كره لكم ثلاثاً قيل وقال كثرة السؤال وإضاعة المال هذه محرمة فالمراد بالكراهة التحريم.
و كذلك إذا قال الإمام أحمد ( أكره ) أو في الشافعي ( أكره ) المراد أحرم.
و تأتي الكراهة عند المتأخرين بمعنى كراهة التنزيه لأنها ترك الأولى تركها أفضل و أولى و ليس محرما هذه عند المتأخرين اصطلحوا عليها لكن المراد بالكراهة عن المتقدمين التحريم.
فقول أبي حنيفة " و أكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك " يعني أمنع " أو بحق خلقك و هو قول أبي يوسف " فإن الإمام أبي حنيفة قال لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به يعني بأسمائه و صفاته و أكره أن يدعو الله بأن يقول أسألك بمعاقد العز من عرشك أو أسألك بحق خلقك و هذا قول أبي يوسف دون الصاحب الثاني محمد بن أبي حسن هذا قول أبي يوسف يوافق الإمام أبا حنيفة في هذا فيكره أن يقول أسألك بمعاقد العز من عرشك أو أسالك بحق خلقك لماذا لأن أبا حنيفة رأى بأن قول أسألك بمعاقد العز من عرشك مخلوق السؤال بمخلوق , أسألك بحق خلقك سؤال بحق الخلق و هذا لا يجوز.
وأبو يوسف وافقه في الجملة الثانية و لم يوافقه في الجملة الأولى أبو يوسف أجاز أن تقول بمعقد العز من عرشك و منع من أن تقول بحق خلقك لماذا ؟ قال أبو يوسف " بمعقد العز من عرشك هو الله فلا كراهة " معقد العز من عرشك ليس سؤالا بمخلوق و إنما هو سؤال الله فكأن أبي يوسف فهم قول " بمعقد العز من عرشك " أنه ليس سؤالا بمخلوق و الإمام أبو حنيفة فهم أنها سؤال بمخلوق و لذلك منها أبو حنيفة منع التوسل بأن تقول " أسألك بمعقد العز من عرشك " لأنه ظن أو خشي أو سدا للذريعة لأن لا يكون سؤالا لمخلوق و أما أبو يوسف فتبين له أن قول " أسألك بمعقد العز من عرشك " ليس سؤالا بمخلوق و إنما معقد العز من عرشك هو الله و لهذا قال أبي يوسف " بمعقد العز من عرشك هو الله فلا أكره هذا ".
و أما أسالك بحق فلان أو بحق أنبيائك و رسلك و بحق البيت و المشعر الحرام قال أبو يوسف " أكره هذا لأنه سؤال بمخلوق " حق فلان , فلان ليس له حق على الله حتى تتوسل به أسألك يا رب بحق فلان ليس له على الله حق كذلك بحق أنبيائك و رسلك الخلق ليس لهم حق على الله و حق البيت و حق المشعر الحرام هذا ممنوع عند أبي حنيفة و عند أبي يوسف أما " بمعقد العز من عرشك " فاختلف الإمامان أبو حنيفة يمنعها لاحتمال أن يراد بها مخلوق و أبو يوسف يجيزها لأنه تبين له أنها ليس سؤالا بمخلوق ".
قال القدوري : المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز " المسألة بالخلق لا تجوز , أسالك يا الله بفلان بحق فلان أو بذات فلان أو بحق نبيك أو بحق العرش كل هذه مخلوقات و المخلوق ليس له حق على الله فلهذا لا يجوز للإنسان أن يسأل الله بحق أحد من خلقه.
فالقدوري و هو من الأحناف وافق الإمام أبو حنيفة و وافق أبو يوسف و وافق العلماء كافة أيضا الإمام الشافعي و مالك و أبو حنيفة كل أئمة أهل السنة و الجماعة يمنعون من التوسل بالمخلوق و لهذا قال القدوري : المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز " المسألة بالخلق لا تجوز , هذا من الأمثلة التي عيبت أعابها بعض الناس .
المثال الثاني " ما ذكره الشيخ أبو القاسم القشوري " هذا هو عبد الكريم القشوري النيسابوري ينسب إلى التصوف ينسب إلى الرسالة القشيرية و من أشهر مؤلفاته فيها بعض الملحوظات و لكن ما نقل عنه ليس فيه محذور , قد يكون عليه ملحوظات و في بعض المؤلفات في التصوف و لكن الكتاب هذا المسمى " التحبير في علم التذكير " و هو مطبوع كما قال المحقق باسم " شرح أسماء الله الحسنى " هذا لا محذور فيه هذا الكتاب كتاب لا محذور فيه و لهذا فيه الشرح لأسماء الله الحسنى هذا المنقول عنه فانتقد بعض الناس ما نقل عنه أما ما نقل في الرسالة القشيرية و في غيرها هذا بحث آخر لكن ما نقل في كتابه شرح أسماء الله الحسنى المشتمل على تفسير معاني أسماء الله عاب عليه بعض الناس.
صورة اللفظ أنه قال " علم الحق " الحق هو الله من أسماء الله و في المطبوع " علم الخالق " بدل الحق الخالق و المعنى واحد " علم الحق " أو علم الخالق " سبحانه أنه ليس لك أسامي مرضية " ليس هناك خطاب للمخلوق ليس لك أيها المخلوق أسامي مرضية " فقال تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " أما أنت أيها المخلوق ليس لك أسامي مرضية فأنت عبد لله إنما ترضى إذا وفقك الله للعمل الصالح و الأسماء المرضية لله " علم الحق " الله " سبحانه أنه ليس لك " أيها العبد " أسامي مرضية " أسامي جمع اسم يعني ليس لك أسامي مرضية " فقال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " تدعو الله بأسمائه أما أنت لا تدعو الله باسم مخلوق فالمخلوق ليس له أسامي مرضية بمعنى أنه يدعى بها و إن كان قد يكون من أسمائه الحسنة لا بأس بها فالمراد مرضية يرضى أن يسأل الله بها الله لا يرضى أن يسأل باسم مخلوق. " علم الحق سبحانه أنه ليس لك أسامي مرضية فقال تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا
قال " و لأن تكون بأسماء ربك داعيا خير لك من أن تكون بأسماء نفسك مدعيا " لو كنت تدعو بأسماء ربك خير لك من أن تدعو بأسماء نفسك هذا معنى العبارة كونك تدعو بأسماء ربك خير لك من أن تدعو بأسماء نفسك.
ثم قال " فإنك إن كنت بك كنت بمن لم يكن و إذا كنت به كنت بمن لم يزل فشتان بين وصف و بين وصف " هذه العبارة توافق عبارة الصوفية لأنه يكون صوفيا القشيري فيغلب عليه هذا و المراد بقوله المراد بمن لم يكن المخلوق أنه لم يكن كان عدما و المراد بمن لم يزل الخالق لأنه لا يزال هو الأول فقال عن الخالق لم يزل و قال عن المخلوق لم يكن , ما معنى لم يكن ؟ يعني كقوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ما كان , كان عدما ثم أوجده الله يقول إذا كنت الآن تدعو بأسماء نفسك فأنت الآن تكون بمن لم يكن علقت نفسك بمخلوق كان لم يكن أما إذا سألت الله بأسمائه فأنت تسأل ربك الذي لم يزل هو الأول الذي لم يزل هو الأول فليس قبله شيء هذا قوله أن تكون بأسماء ربك داعيا خير لك من أن تكون بأسماء نفس مدعيا فإنك إن كنت بنفسك كنت بمن لم يكن بالمخلوق الذي لم يكن و إذا كنت به يعني بالله كنت بالله الذي لم يزل هو الأول فليس قبله شيء
فشتان بين وصف و بين و صف شتان بين وصف الخالق و وصف المخلوق.
و قال أيضا " من عرف اسم ربه نسي اسم نفسه " هذه أيضا فيها نوع من التصوف بمعنى أنه إذا عرف اسم الله دعا الله باسمه و لا يدعوه باسم نفسه لأنه مخلوق و إنما يدعو باسم ربه فإذا ترك اسم المخلوق فكأنه نسيه و إلا لا ينساه لكن الصوفية عندهم عبارات يقولون الإنسان ينبغي أن ينسى نفسه و ينسى المخلوق و يعلق نفسه بالله حتى لا يشوش عليه بزعمهم حتى يتناسى المخلوق ثم يصلون إلى درجة ينكرون المخلوق هذا من أعمال الصوفية و اعتقاد الصوفية فهو يقول " من عرف اسم ربه نسي اسم نفسه " يعني بمعنى أنه يعلق رجاءه بالله فيكون قلبه معلقا بالله و لا يتوسل إلا بالله و أسمائه أما المخلوق فإنه يعرض عنه فكأنه نسيه.
" من عرف اسم ربه نسي اسم نفسه بل من صحب اسم ربه تحقق بروح أنسه قبل وصوله إلى دار قدسه " من صحب اسم ربه بمعنى أنه توسل إلى الله بأسمائه و صفاته و تأمل معاني الصفات و عمل بها و حفظها فإنه بهذا صحب اسم ربه و حين هذا يتحقق بالأنس بالله قبل وصوله إلى دار قدسه و هي الجنة يعني يدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة مثل ما قال بعض السلف " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل الجنة " و هي الأنس و اللذة التي يجدها الإنسان في قلبه من العبادة اللذة التي يجدها الموحدون المخلصون يجدون لذة في عبادة الله تعالى و طعم كما جاء في الحديث ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار وجد حلاوة الإيمان لذة الإيمان و طعم الإيمان.
إذاً الإيمان له حلاوة و لذة و طعم و العبادة لها حلاوة و طعم و لذة يتلذذ الإنسان بالطاعة الموفقون المؤمنون الموفقون الذين من الله عليه يجد لذة و راحة و طعم في العبادة و هو في خلوة مع ربه.
مثل ما حدث لبعض الصحابة إن صح أن سرية اثنان يحرسان الجيش عن العدو فقال أحدهما للآخر يكفي واحد منا فنام أحدهما و جلس الآخر يصلي فجاءه سهم من العدو فأصابه و هو يصلي فنزع السهم ثم أصابه الثاني فنزعه حتى سالت الدماء فسقطت على صاحبه فاستيقظ فقال لِمَ لم توقظني فقال كنت في سورة في آيات و لذة عظيمة ما استطعت أن أتركها فلا يبالي بضربات الأسهم تضربه و الدماء تجري و هو في لذة هذه لذة العبادة يجدها الصحابة و يجدها المؤمنون و لهذا قال بعض السلف " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة " و قال بعض السلف " إن كان أهل الجنة في هذه اللذة فهم في عيش طيب " التي يجدونها إن كان أهل الجنة في مثل ما نجده يعني من اللذة و الراحة والنعيم نعيم القلب قد يكون القلب منعما و لو لم يكن الجسم منعم قد يكون في السجن و قلبه منعم مسجون و لكن قلبه في نعيم و لذة و راحة و الجسد محمول و مركب للروح.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المؤلف كان في السجن يقول ابن القيم تلميذه رحمه الله " إذا ضاقت صدورنا و أصابتها الهموم ذهبنا إلى الشيخ و هو في السجن فيحدثنا فتزول الهموم " سجين السجين مرتاح و من بالخارج هم من عندهم الهموم فالسجن سجن القلب من سجن قلبه عن الله فهو المسجون أما الجسد قد يكون الإنسان مسجونا و قد يكون يعذب لكن القلب في نعيم و في راحة و في قرة عين و لهذا أيضا يقول بعض السلف " لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه من العبادة و اللذة لجالدونا عليها بالسيوف " ما عندهم راحة و ما عندهم لذة و لو كان في أبهة و في ملك و عندهم قصور و عندهم أنهار و جنات و ملايين فهذه كلها ليست السعادة فيها السعادة سعادة القلب.
و لهذا يقول هنا "بل من صحب اسم ربه تحقق بروح أنسه " من صحب اسم الله معنى أنه عمل به و تفهم و تدبر معاني أسماء الله و عمل به و حفظها كما في الحديث إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة أحصاها بأن تدبرها و تأمل معانيها و حفظها و دعا الله بها و عمل بما يمكن العمل منها هذا هو الإحصاء.
و هذا هو مراد المؤلف من صحب اسم ربه تحقق بروح أنسه تحقق بالروح و اللذة و بالأنس الذي يجدها قبل وصوله إلى دار قدسه و هي الجنة من صحب اسم الله حصل لروحه الأنس قبل الوصول إلى الجنة هذا على حد ما جاء في الحديث أن النبي ﷺ كان يواصل الصيام بمعنى أنه يصل اليومين و الثلاثة و الأربعة الليل و النهار فلا يشرب في الليل فأراد الصحابة رضوان الله عليهم أن يقتدوا به عليه الصلاة و السلام فنهاهم النبي ﷺ و قال لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر يواصل إلى السحر بمعنى أنه لا يأكل إلا مرة واحدة في السحر يجعل عشاءه سحورا و سحوره عشاء مرة واحدة هذا لا بأس به أما أن يواصل و لا يأكل هذا نهاهم عنه النبي ﷺ قال لا تواصلوا قالوا يا رسول الله إنك تواصل فقال إني لست كهيأتكم إني أبيت فيطعمني ربي ويسقيني قالوا يا رسول الله يعني الصحابة يريدون الخير يريدون أن يقتدوا بك فلما أبوا أن يكفوا عن الوصال عزرهم و نكل بهم و واصل بهم في آخر الشهر واصل لليوم الثامن و العشرين صاموا يومين ثم التاسع و العشرين فصاموا فقال لو بقي الشهر لنكلت بكم ولزدتكم يوماً آخر التنكيل بهم يبين أنهم لا يستطيعون لأن فيه شقة عليهم.
مثل ما جاء في بعض الأحاديث في حصار الطائف أنهم حاصروا مدة طويلة شهرا فشق عليهم ذلك فشاورهم النبي ﷺ فقالوا نبقى ثم بعد ذلك أصابهم جراح فشاورهم مرة ثانية فسكتوا فضحك النبي ﷺ من ضعفهم فالإنسان ضعيف فلما لم يقبلوا واصل بهم يوما بعد يوم فرأوا الهلال فقال لو بقي لزدتكم في التنكيل يوم فالوصال و كونه لا يأكل في الليل و يصوم اليومين و الثلاثة مكروه و قال بعض العلماء إنه حرام و الصحيح أنه مكروه لأنه لو كان حراما ما فعله النبي ﷺ و الصحابة و إنما مكروه:
فالأحوال للصائم ثلاثة:
الحالة الأولى و أكملها أن يفطر يبادر في الإفطار من حين الغروب كما في الحديث القدسي يقول الله تعالى أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً.
و الحالة الثانية أن يواصل إلى السحر و هذا جائز بأن يجعل سحوره عشاء و عشاءه سحورا لحديث لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر.
و الحالة الثالثة أن يواصل الليل بالنهار و لا يأكل لا في السحر و لا في غيره فلا يشرب فهذا مكروه و حرام على قول بعض أهل العلم و الصحيح أنه مكروه.
و الشاهد من هذا أن النبي ﷺ قال لما أرادوا الوصال إنك تواصل قال إني لست كهيأتكم إني أبيت فيطعمني ربي ويسقيني كيف يطعمه و يسقيه؟
اختلف العلماء في قوله فيطعمني ربي ويسقيني قال بعض العلماء المعنى أنه يؤتى بطعام و شراب من الجنة لكن هذا قول ضعيف لأنه لو كان يأكل و يشرب ما أقرهم على قولهم أنت تواصل يعني لا يفطر.
و الصواب أن معنى أبيت فيطعمني ربي ويسقيني المعنى ما يفتح الله عليه من مواد أنسه و نفحات قدسه و اللذة التي يجدها من الذكر ما يغنيه عن الطعام و الشراب هذا هو الصواب ليس الصواب أنه يأكل من طعام الجنة المراد ما يفتح عليه من نفحات قدسه و مواد أنسه ما يغنيه عن الطعام و الشراب كما قيل :
لها أحاديث من ذكراك تشغلها | عن الطعام وتلهيها عن الزاد |
فأحيانا ينسى الإنسان الطعام و الشراب إذا كان فرحا و مسرورا ما يشتهي الطعام و الشراب و كذلك الحزين يجلس مدة ما يأكل و ما يشرب و لا يحس بالجوع و العطش فكذلك النبي ﷺ ما يفتح الله عليه من مواد أنسه و نفحات قدسه ما يغنيه عن الطعام و الشراب و كل هذا تفسير معنى قوله " من صحب اسم ربه تحقق بروح أنسه " حصل له أنس و روح و لذة و نشوة " قبل وصوله إلى دار قدسه " و هي الجنة دار القدس قال " بل من عرف اسم ربه سمت رتبته " علت رتبته يعني ليس المراد التعرف إليها فقط مجرد معرفة بل المراد من عرف اسم ربه تدبر المعاني و دعا الله به و توسل إليه به و تعبد إلى الله بذلك هذا لا شك أن رتبته تعلو سمت رتبته " بل من عرف اسم ربه سمت رتبته و علت في الدارين منزلته " الدارين دار الدنيا و الآخرة , هذا القول الثاني الذي عيب.
القول الثالث قال: " وثالثها : ما ذكره الشيخ عز الدين ابن عبد السلام " ذكر المحقق اسمه قال عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم " في فتاويه المشهورة و صورة اللفظ أنه قال " لا يجوز التوسل في الدعاء بأحد من الأنبياء و الصالحين إلا برسول الله ﷺ إن صح حديث الأعمى " لا يجوز التوسل في الدعاء بأحد من الأنبياء و الصالحين إلا برسول الله ﷺ قول إني أسألك يا الله بنبيك يقول إن صح حديث الأعمى.
ذكر المحقق أن هذا موجود في فتاوي العز ابن عبد السلام يقول أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله ﷺ علم بعض الناس الدعاء فقال في أقواله قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد نبي الرحمة و هذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله ﷺ لأنه سيد ولد آدم و ألا يقسم على الله بغيره من الأنبياء و الملائكة و الأولياء لأنه ليس في درجته و أن يكون هذا ما خص به تنبيها على علو درجته و مرتبته .. انتهى.
و الحديث المشار إليه هو حديث الأعمى هذا كلام العز ابن عبد السلام يقول لا يجوز التوسل بالدعاء على أحد من الأنبياء ما تقول أسألك يا الله بنوح و لا بعيسى و لا بموسى و لا أسألك بأنبيائك و لا بالكعبة لأن سؤال المخلوق لا تجوز إلا الرسول ﷺ خاصة يجوز أن تقول أسألك بنبيك محمد إن صح حديث الأعمى هذا كلام العز ابن عبد السلام يقول لا يجوز السؤال بالمخلوق إلا بالنبي ﷺ خاصة إذا صح حديث الأعمى.
لكن هل صح حديث الأعمى ؟ نعم صح الصواب أن حديث الأعمى صحيح رواه الترمذي بسند الصحيح و لكن مع صحة حديث الأعمى فليس في حديث الأعمى سؤال بذات النبي ﷺ و إنما هو توسل بدعاء النبي ﷺ.
و الحديث كما جاء في الترمذي أن رجلا أعمى جاء إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله، ادع الله أن يرد إلي بصري. فقال: إن شئت صبرت وإن شئت دعوت الله. قال: فادعه، قال: فأتي الميضأة فتوضأ وقل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة بأن ترد إلي بصري اللهم وشفعه في فالنبي ﷺ يدعو و الأعمى يؤمن فشفع الله به نبيه و رد عليه بصره فهل هذا توسل بذات النبي ﷺ أم توسل بدعائه ؟ توسل بدعائه.
فنقول حديث الأعمى صحيح لكن ليس توسلا بذات النبي ﷺ إنما توسل بدعائه و هو حي فالعز ابن عبد السلام يقول يجوز التوسل بذات النبي ﷺ إن صح حديث الأعمى و يكون هذا خاص بالنبي ﷺ دون غيره من الأنبياء و الملائكة و نحن نقول للعز ابن عبد السلام نعم صح حديث الأعمى و لكن مع صحته ليس فيه توسل بذات النبي ﷺ و إنما هو توسل بدعائه في حياته و هذا لا محظور فيه.
صورة اللفظ أنه قال " لا يجوز التوسل في الدعاء بأحد من الأنبياء و الصالحين إلا برسول الله ﷺ إن صح حديث الأعمى".
قال " و زعم العائب لهذه الأقوال " يعني عندنا ثلاثة أقوال نقول ثلاثة النقل الأول عن القدوري و النقل الثاني عن القشيري و النقل الثالث عن العز ابن عبد السلام و السائل ماذا يقول ؟ يعيب و يقول أن أناس يعيبون أقوالا نقلت عن جماعة من أكابر الأئمة يقول " و زعم العائب لهذه الأقوال و الطاعن على معانيها أن فيها تنقصا بعباد الله الصالحين و استخفافا بحرمة البيت و المشعر الحرام " يقول الذي يمنع مثلا السؤال بالأنبياء و الصالحين معناها تنقصهم و الذي يمنع بالسؤال بحق البيت و حق المشعر الحرام معناها أنه مستخف بها فهل هذا صحيح ؟ الذي يقول لا يتوسل بالأنبياء أنه متنقص للأنبياء الذي يقول لا يجوز التوسل بنوح متنقص للأنبياء ؟ و الذي يقول لا يجوز التوسل بالبيت الحرام و المشعر الحرام مستخف بها ؟ " فهل هذه الأقوال المذكورة تنقص و استخفاف؟
و الحالة هذه أولى " هذا السؤال الأول وجه للشيخ.
و السؤال الثاني " و هل يجوز ردها بمجرد رأي الإنسان و ما جرت به عوائد أهل الزمان أم لا ؟ " يردها لمجرد الرأي أو مجرد العادة التي مشى عليها الناس.
السؤال الثالث " و هل اشتهر عن الأئمة الأكابر المتبوعين خلافا لهذه الأقوال؟"
السؤال الرابع " و هل صح حديث الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعه ؟
السؤال الخامس " و هل في صريح لفظه ما يبطل الأقوال المذكورة " صريح لفظه لفظ حديث الأعمى ما يبطل الأقوال المذكورة " و يوجب اعتقاد خلافها ؟
السؤال السابع " و هل يجوز الحلف بغير الله ؟ " معروف الحلف بغير الله شرك " و إذا لم يجز هل يجوز التحليف و الإقسام بغير الله ؟
و الراد لهذه الأقوال المتقدم ذكرها و الطاعن فيها إذا لم يكن عنده دليل شرعي قاطع يدفعها به هل يردع عن ذلك و يزجر ؟ " نعم , إذا لم يكن عنده دليل لا يتكلم الإنسان إلا بدليل فلا يمنع شيء إلا بدليل و لا يجيز شيء إلا بدليل .
هذا السؤال الآن و بعد ذلك أجاب المؤلف رحمه الله عن هذه الأسئلة إلى نهاية الرسالة و هو ما يقارب أربعين صفحة أو كذا .
( المتن )
فأجاب :
الحمد لله فليس في هذه الأقوال تنقص و لا استخفاف لا في صالح عباد الله و لا بشعائر الله و إنما يكون منتقصا من تنقصهم عن منزلتهم التي جعلهم الله بها فمن لا يرى حج البيت قربة و طاعة لله و لا يرى الوقوف بعرفة و مزدلفة و منى شيئا كما كان بعض أهل الجاهلية لا يرون الصفا و المروة من شعائر الله و كان بعضهم يخاف إذ كانوا يعظمونها في الجاهلية ألا يكون من شعائر الله في الإسلام فأنزل الله قوله تعالى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ جوابا للطائفتين كما ثبت ذلك في الصحاح.
و لمن لا يرى تعظيم الهدي و الضحايا التي قال الله فيها وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
و كمن لا يرى تعظيم حرمات الله فلا يحرم صيد الحرم و نباته و سائر ما حرم الله تعالى من المحرمات فإن الواجب على الخلق فعل ما أمر الله به من العبادات و اجتناب ما حرمه من المحرمات فإن هذا و هذا من دين الله الذي بعث به رسله و لهذا قال الله تعالى وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ومن تمام تعظيمه.
( الشرح )
المؤلف رحمه الله أجاب قال " الحمد لله " و بدأ في بداية الرسالة الجواب بأن قال " الحمد لله فليس في هذه الأقوال تنقص و لا استخفاف لا في صالح عباد الله و لا بشعائر الله " يعني إذا منع الإنسان من السؤال بالأنبياء و السؤال بالبيت وحق المشعر ليس فيه استخفاف بالبيت و لا فيه تنقص بعباد الله , إذا منع الإنسان من السؤال بالمخلوق و السؤال بالنبي يقول لا تسأل بالنبي و لا تسأل بالصالحين ليس فيها تنقص لهم و لا نقص من حقهم و لا درجاتهم التي أنزلهم الله و كذلك أيضا إذا منعت السؤال بالبيت لا تسأل إذا قال أسألك اللهم بالبيت الحرام أو بالمشعر الحرام ليس فيه استخفاف بالشعائر الذي يكون مستخف بالشعائر هو الذي لا يرى الحج حج البيت قربة هذا المستخف و كذلك أيضا الذي لا يرى تعظيم الهدي و الأضاحي و كذلك الذي لا يرى تعظيم حرمات الله هذا المستخف أما الذي يمنع السؤال بالبيت و المشعر الحرام هذا ليس مستخفا بها إنما هو يقف مع الشرع يدور مع الشرع لأنه هذا سؤال بالمخلوق و المخلوق لا يسأل به.
و كذلك إذا قلت لا يجوز التوسل بالنبي ليس تنقصا للنبي ﷺ هذا اتباع للنبي ﷺ الأنبياء يتبعون و يحبون و تصدق أخبارهم و يعمل بالشريعة شريعة كل في زمانه فالذي لا يعمل بالشريعة و الذي يتنقص النبي عن مرتبته الذي أنزله الله بها لا يعترف بنبوته هذا هو المتنقص له أما الذي يمنع السؤال به يقول لا تسأل بالنبي لأن هذا لم يرد لأنه بدعة لا يكون متنقصا.
فالمؤلف يقول " لا يكون متنقصا " من منع السؤال بالأنبياء لا يكون متنقصا لهم المتنقص لهم هو الذي لا يصدق أخبارهم أو لا يعمل بشريعتهم أو لا يؤمن بهم هذا هو المتنقص لهم أما الذي يمنع من السؤال بهم هذا يدور مع الشرع حيث دار.
و كذلك الذي يمنع من السؤل بالبيت أسألك يا الله بالكعبة مثلا أو بالمشعر الحرام أو بمنى أو عرفة أو مزدلفة الذي يمنع من السؤال بها ليس مستخف بها المستخف هو الذي لا يرى الحج قربة و هو الذي لا يرى تعظيم الهدايا و الأضاحي و الذي لا يرى تعظيم حرمة الله هذا المستخف أما الذي يمنع من السؤال بها ليس مستخفا.
و لهذا قال المؤلف رحمه الله " الحمد لله ليس في شيء من هذه الأقوال تنقص " يعني للأنبياء و الرسل " و لا استخفاف لا بصالح عباد الله و لا بشعائر الله " من هو الذي يكون متنقصا قال " و إنما يكون منتقصا من تنقصهم عن منزلتهم التي جعلهم الله بها " من تنقص النبي ﷺ و لم يؤمن بنبوته هذا المتنقص أو لم يعمل بشريعته هذا المتنقص " و إنما يكون متنقصا من تنقصهم عن منزلتهم التي جعلهم الله بها كمن لا يرى حج البيت قربة و طاعة لله " نعم هذا المتنقص " و لا يرى الوقوف بعرفة و المزدلفة و منى شيئا " هذا المتنقص " كما كان بعض أهل الجاهلية لا يرون الصفا و المروة من شعائر الله و كان بعضهم يخاف إذ كانوا يعظمونها في الجاهلية ألا يكون من شعائر الله في الإسلام فأنزل الله قوله تعالى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ جوابا للطائفتين كما ثبت ذلك في الصحاح " بعض أهل الجاهلية تحرجوا بأن يطوفوا بين الصفا و المروة لماذا تحرجوا ؟ لأن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت و لم يذكر الصفا فتحرجوا فقال بعضهم أن الصفا و المروة من شعائر الله و أمر الله تعالى قال وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ و لم يقل قبل أن تنزل آية الصفا و المروة لم يأمرهم بالطواف بالصفا و المروة فتحرجوا فقالوا كيف نطوف بالصفا و المروة و الله ما ذكرها ذكر الطواف بالبيت و لم يذكر الطواف بالصفا و المروة و طائفة أخرى تحرجوا من السعي بالصفا و المروة لأنهم في الجاهلية كانوا يهلون لمن أتى القرية ثم يطوفون بالبيت ثم يسعون بين الصفا و المروة فقالوا لا نشارك أهل الجاهلية إذا طفنا شاركنا أهل الجاهلية فأنزل الله هذه الآية ردا على الطائفتين إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا طائفة تحرجوا قالوا لا نسعى بين الصفا و المروة لأن الله ذكر الطواف بالبيت و لم يذكر الطواف بالصفا و المروة و طائفة أخرى قالوا لا نتحرج لأن فيها صنمين في الجاهلية بين الصفا و المروة فلا نطوف فأنزل الله هذه الآية ردا على الطائفتين الطائفة الأولى التي تتحرج من الطواف لأن الله لم يذكر الطواف بين الصفا و المروة و الطائفة الثانية التي تحرجت لأن فيها أصناما و لأنه كانوا يهلون في الجاهلية لمناة فأنزل الله هذه الآية ترد على الطائفتين إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا
في الصحيحين من حديث عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية أشكلت عليه عروة بن الزبير خالته عائشة ابن أختها فهم من الآية فهما غير صحيح فصححت له الفهم عائشة ما هو الفهم الذي فهمه ؟ فهم عروة أن الآية تدل على أنه لا حرج في ترك الطواف بين الصفا و المروة إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا رأيتم الفهم المغلوط الذي فهمه عروة يقول لا جناح على من ترك الطواف بينهما لأن الله يقول فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا و صححت له عائشة الفهم فقالت لو كان كما قلت لكان ( فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ) و لكن الآية فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فالآية تنفي الحرج عن الطواف و ليس معناها ترك الطواف , لو كان كما فهم عروة لكانت الآية ( فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ) لكن الآية أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا انظر الحديث في صحيح البخاري بل في الصحيحين ( عروة بن الزبير قال سألت عائشة رضي الله عنها فقلت أرأيت قول الله تعالى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فو الله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا و المروة ) هذا الفهم الذي فهمه عروة الفهم الخاطئ قال ( فو الله ما على أحد جناح ألا يطوف بهما ) بين الصفا و المروة حلف على ما يعتقده قالت ( بئس ما قلت يا ابن أختي ) تصحيح للفهم ( قالت بئس ما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت كما أولتها علي كانت ( فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ) و لكنها أنزلت ) انظر معرفة أسباب النزول يفيد في فهم معنى الآية فعائشة فهمت سبب النزول و عروة ما فهم سبب النزول فلذلك أخطأ في فهم الآية قال ( و لكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية ) مناة هذا صنم لأهل المدينة و غيرها كما أن مناة صنم لأهل الطائف و العزى شجرة لأهل مكة ( كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا و المروة فلما أسلموا سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فقالوا يا رسول الله إن كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا و المروة فأنزل الله هذه الآية ) قالت عائشة رضي الله عنها ( و قد سن رسول الله ﷺ الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال إن هذا لعلم ما كنت سمعته ) علم هذا علم حصل له علم استفاده أبو بكر قال ( إن هذا لعلم ما كنت سمعته و لقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا و المروة فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت و لم يذكر الصفا و المروة في القران قالوا يا رسول الله كنا نطوف بالصفا و المروة و إن الله أنزل الطواف بالبيت و لم يذكر الصفا و المروة فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا و المروة فأنز الله الآية فقال أبو بكر فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما )
الفريق الأول الذي كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بين الصفا و المروة و الذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت و لم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت يعني نزلت في طائفتين طائفة تحرجت كيف تطوف بها و كانوا في الجاهلية يطوفون بها و طائفة تحرجت أن الله ذكر طواف البيت و لم يذكر طواف الصفا و المروة رواه البخاري في كتاب الحج و كذلك أيضا مسلم في باب بيان أن السعي بين الصفا و المروة ركن لا يصح الحج إلا به مسلم معروف أنه ليس له الأبواب للنووي مسلم لم يبوب إنما ذكر كتاب , كتاب الحج لكن الأبواب للنووي.
قال المؤلف " و لمن لا يرى تعظيم الهدي و الضحايا التي قال الله فيها ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " هذا المستخف , المستخف بشعائر الله هو الذي لا يرى تعظيم الهدي و الأضاحي أو لا يرى الحج بالبيت قربة و طاعة و لا يرى الوقوف بعرفة و منى و مزدلفة شيئا هذا المستخف أما الذي يمنع من السؤال بها هذا وافق الشرع و ليس مستخفا.
" و كمن لا يرى تعظيم حرمات الله " أيضا كذلك الذي لا يرى تعظيم حرمات الله أيضا مستخف مثال ذلك قال " فلا يحرم صيد الحرم و لا نباته " الذي لا يحرم صيد الحرم و نباته هذا المستخف لأنه ارتكب النهي " فلا يحرم صيد الحرم و لا نباته و سائر ما حرم الله تعالى من المحرمات.
فإن الواجب على الخلق فعل ما أمر الله به من العبادات و اجتناب ما حرمه من المحرمات فإن هذا و هذا من دين الله الذي بعث به رسله " هذا و هذا الإشارة الأولى تعود إلى أي شيء ؟ فإن هذا فعل ما أمر الله و الإشارة الثانية اجتناب ما حرمه الله , فإن هذا و هذا , هذا فعل الأوامر و هذا ترك النواهي كله من شرع الله " فإن هذا و هذا من دين الله الذي بعث به رسله ".
فتبين بهذا الخلاصة من جواب المؤلف رحمه الله أن من منع الحلف بالأنبياء و الصالحين لا يكون متنقصا لهم إنما المتنقص هو الذي لا يؤمن بهم و لا يعترف بنبوتهم و لا يتابعهم هذا المتنقص و كذلك من منع السؤال بالبيت الحرام و بالمشعر الحرام و بمنى و مزدلفة لا يكون مستخفا بشعائر الله إنما المستخف بشعائر الله هو الذي لا يرى الحج قربة و لا يرى تعظيم الهدي و الأضاحي و لا يرى تعظيم حرمات الله فلا يحرم الصيد صيد الحرم و نباته و لا يفعل ما أمر الله به و لا يترك ما نهى الله عنه هذا هو المستخف .
( المتن )
فمن تمام تعظيم البيت أن يعبد الله فيه كما شرعه رسول الله عليه الصلاة و السلام و يطاف به و يستلم الركنان اليمانيان و يقبل الحجر الأسود .
فلو قال قائل من تعظيم البيت استلام الركنين الشاميين و تقبيل مقام إبراهيم و التمسح به و تقبيل غير الحجر الأسود من جدران الكعبة و نحو ذلك مما قد يظنه بعض الناس تعظيما كان هذا غلطا و إذا نهاه ناه عن ذلك فقال نهيك لي عن هذا تنقص و استخفاف بحرمة البيت كان قد غلط غلطا ثابتا.
و لهذا لما طاف ابن عباس و معاوية بالبيت كان ابن عباس لا يستلم إلا الركنين اليمانيين و استلم معاوية الأركان الأربعة فقال ابن عباس إن رسول الله ﷺ لم يستلم إلا الركنين. فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجور ) فقال ابن عباس لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فسكت معاوية ووافق ابن عباس.
فمعاوية احتج بأن البيت كله معظم لا يهجر منه شيء فأجاب ابن عباس بأن العبادات يجب فيها اتباع ما شرعه النبي ﷺ لأمته ليس لأحد أن يسوغ لرأيه عبادة لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر فوافقه معاوية و علم أن الصواب مع ابن عباس .
( الشرح )
يقول المؤلف رحمه الله " فمن تمام تعظيم البيت أن يعبد الله فيه كما شرعه رسول الله عليه الصلاة و السلام " تعظيم البيت ليس بالحلف به و إنما تعظيم البيت بالطواف به كما أمر الله و من تمام تعظيم البيت أن يعبد الله فيه كما شرعه رسول الله ﷺ تعبد الله عبادة موافقة للشريعة " و يطاف به و يستلم الركنان اليمانيان و يقبل الحجر الأسود " هذا مثال تعظيمه , تطوف بالبيت و تستلم الركنان اليمانيان و تقبل الحجر الأسود فقط لكن تستلم الأركان الأربعة تتمسح بأستار الكعبة و تمسح جدران الكعبة هذا ليس من تعظيمه هذا من البدع و ليس في البدع تعظيم , التعظيم إتباع الشرع تعظيم البيت أن يعبد الله فيه كما شرعه رسول الله ﷺ شرع رسول الله الطواف بالبيت و شرع استلام الركنين اليمانيين و شرع تقبيل الحجر الأسود و لم يشرع تقبيل الركنين الشاميين و لم يشرع التمسح بجدران الكعبة و لا بأستارها و لا بمقام إبراهيم هذا هو التعظيم.
يقول المؤلف " فلو قال قائل من تعظيم البيت استلام الركنين الشاميين " المراد بالركنين الشاميين اللذان يليان الحجر , الحجر الشامي و الثاني العراقي و يقال الشاميين تغليبا و المراد الحجر الشامي و الثاني العراقي و الركن اليماني و الركن الأسود و الركن الشامي و الركن العراقي , الركن الأسود معروف مبدأ الطواف و اليماني هو الذي قبله يستلمان الركن اليماني و الأسود يستلمان و يقبل الحجر الأسود و لا يقبل الركن اليماني و بعده يليه الركن الشامي ثم العراقي لا يستلمان و لا يقبلان و يسميان الشاميين تغليبا مثل العمران أبو بكر و عمر و القمران الشمس و القمر و كذلك الشاميان تغليب العراقي مع الشامي.
فلو قال قائل الشيخ يفرض الآن فرضا " فلو قال قائل من تعظيم البيت استلام الركنين الشاميين و تقبيل مقام إبراهيم و التمسح به و تقبيل غير الحجر الأسود من جدران الكعبة و نحو ذلك " لو قال شخص أنا أرى من تعظيم البيت أن أستلم الأركان الأربعة كلها أنت لا تستلم إلا اليماني و الحجر الأسود أنا أستلم الأركان الأربعة كلها لأعظم البيت و أقبل مقام إبراهيم و أتمسح به و بجدران الكعبة و أقبل غير الحجر الأسود يقول المؤلف " لو قال هذا قائل مما قد يظنه بعض الناس تعظيما كان هذا غلطا و إذا نهاه ناه عن ذلك فقال نهيك لي عن هذا تنقص و استخفاف بحرمة البيت" لو قال شخص لا تستلم الأركان الأربعة و لا تتمسح بالجدران فقال أنت تستخف بالبيت تريدني ما أعظم البيت أريد أن أعظم البيت كل شيء أتمسح به في الجدران و الأستار الكعبة كلها معظمة فإذا قال شخص إذا نهيتني عن ذلك معناها تنقصت الكعبة و استخفيت بحرمتها يقول المؤلف " فإذا نهاه ناه عن ذلك فقال نهيك لي عن هذا تنقص و استخفاف بحرمة البيت كان قد غلط غلطا ثابتا " يعني غلطا واضحا كونك تربط الاستخفاف بالبيت بعمل شيء لم يشرعه الله و لا رسوله ﷺ لا تعظيم البيت بفعل ما شرعه الله و إذا تركت ما لم يشرعه لا يكون استخفافا.
ثم قال " و لهذا لما طاف ابن عباس و معاوية بالبيت كان ابن عباس لا يستلم إلا الركنين اليمانيين و استلم معاوية الأركان الأربعة " كلها " فقال ابن عباس إن رسول الله ﷺ لم يستلم إلا الركنين. فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجور. فقال ابن عباس لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فسكت معاوية ووافق ابن عباس".
يعني معاوية في خلافته لما كان خليفة و أميراً للمؤمنين لما حج جعل يستلم الأركان الأربعة كلها الركن اليماني و الحجر الأسود و الركن الشامي و الركن العراقي فأنكر عليه ابن عباس قال لا تستلم الركن الشامي و العراقي فقال له معاوية يا ابن عباس هل في البيت شيء مهجور ؟ ما نهجر البيت كل البيت معظم فقال ابن عباس لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ و لم أر النبي ﷺيستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية صدقت فرجع إلى قوله و الرسول ﷺ أعظم الناس تعظيما للبيت و مع ذلك ما استلم.
قال " فمعاوية احتج بأن البيت كله معظم لا يهجر منه شيء " معاوية يقول بأنه احتج بأن البيت كله معظم لا يهجر منه شيء اجتهاد " فأجابه ابن عباس بأن العبادات يجب فيها اتباع ما شرعه النبي ﷺ لأمته ليس لأحد أن يسوغ برأيه عبادة لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر فوافقه معاوية و علم أن الصواب مع ابن عباس ".
و لما كان في زمن عبد الله بن الزبير كان الخليفة بعد ذلك لما بويع لعبد الله بن الزبير بعد موت يزيد بن معاوية و سمع الحديث من عائشة رضي الله عنها و قالت أن النبي ﷺ قال لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر لنقضت الكعبة وأدخلت الحجر وجعلت لها بابين باباً شرقيا و باباً غربياً الرسول ﷺ منع من ذلك ما هو ؟ قربهم من الكفر أسلموا حديثا و تنكر قلوبهم ولا يستطيعون و لا يتحملون هذا يخشى على بعضهم من الردة فترك النبي ﷺ هذا و هذا أخذ منه العلماء قاعدة " اجتناب المفاسد مقدم على جلب المصالح " قال عبد الله بن الزبير الآن ما خشيه النبي ﷺ زال الآن الناس أسلموا و تمكن الإيمان من قلوب الناس و أريد أن أطبق الحديث فهدم الكعبة و أدخل الحجر داخل الكعبة و نزل باب الكعبة بدل ما كان مرفوع و فتح لها بابا غربيا وبابا شرقيا باب يدخل الناس منه وباب يخرج الناس منه على ما روت له عائشة الحديث و جعل يستلم الأركان الأربعة كلها لأنها صارت على قواعد إبراهيم لأن الحكمة من كون الركنين الشاميين لا يستلمان هي أنه ليس على قواعد إبراهيم الحجر أخرجت منه قريش سبعة أذرع و نصفا ستة أذرع و نصفا أو سبعة أذرع لماذا أخرجته ؟ لأنه لما تصدعت الكعبة قبل بعثة النبي ﷺ أرادت قريش أن تبني الكعبة فاتفقوا و قالوا لا نريد أن نبني الكعبة إلا بمال حلال لا تدخل في الكعبة إلا مال حلال اجمعوا من المال الحلال فجمعوا فلم يجدوا مالا حلالا يكفي بناء الكعبة أطبق المال الحرام فقالوا أمرنا إلى الله قالوا نبني بعضه ما عندهم مال حلال فأخرجوا الحجر فابن الزبير طبق الحديث و لكن بعد ذلك بعد عبد الله بن الزبير ثم قام مروان بن الحكم في الشام و دعا لنفسه بالخلافة ثم توفي ثم ولده عبد الملك و كان ابن الزبير أخذ الشام و الحجاز و كل الولاية فجاء عبد الملك بن مروان و دعا لنفسه ثم أخذ الشام بلدة بعد بلدة حتى تمكن ثم أخذ العراق ثم ولى عليها جعل أميرها الحجاج ثم قاتل عبد الله بن الزبير تقوى و ابن الزبير سبقه فتقوى جعل يقاتل و وكل المهمة إلى الحجاج أمير العراق و جعل يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير حتى تمكن في النهاية و كثرت الجيوش عنده و رمى الكعبة بالمنجنيق حتى هدمها ثم قتل عبد الله بن الزبير و صلبه على خشبة ثلاثة أيام و بعد ذلك يقال أنه طاف بالبيت و هذا جاء في صحيح مسلم و قال إن يطوف يوما فقال يكفي أن ابن الزبير كذا و الكعبة كذا فقال له بعضهم لا تقل هذا يا أمير المؤمنين إني سمعت عائشة تقول كذا و كذا فأطلق و قال ليتنا تركناه و ما أراد.
ثم بعد ذلك أبو جعفر بن منصور أراد أن يهدم الكعبة و يدخل الحجر كما فعل ابن الزبير لكنه أراد استشارة العلماء في زمانه فاستشار الإمام مالك فقال له هل ترى أني أفعل مثل ما فعل ابن الزبير أهدم الكعبة و أدخل الحجر أم أتركها؟ فأطلق مالك و تأمل ثم قال للخليفة أرى أن تتركها على ما كانت عليه و لا تفعل فقال لماذا قال أخشى أن تكون الكعبة ملعبة للملوك هذا يهدم و هذا يبني كل ملك يريد أن يخلد اسمه يهدم و يبني فأرى أن تتركها سدا للذرية فتركها فكان رأي الإمام مالك موفقا فبقيت الآن الكعبة على بناء الجاهلية الحجر مخرج الآن فلذلك لا يستلم إلا الركنان اليمانيان.