السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد...فنبدأ درسنا هذا الصباح بعون الله تعالى وتوفيقه...
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآله وأصحابه. الله اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
المتن
وكان يقول: (أَن الله تَعَالَى يُعذِّب قومًا فِي قُبُورهم، وَيذْهب إِلَى الحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: «إنَّ صراطًا يُعبَر عَلَيْهِ وَأَن عَلَيْهِ حَيَّاتٍ تَأْخُذ بالأقدام، وَأَن العبور عَلَيْهِ على مقادير الْأَعْمَال؛ مُشَاةً وسعاةً ورُكبانًا وزُحفًا»، وَيذْهب إِلَى الحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: «استجيدوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا مَطَايَاكُمْ على الصِّرَاط». وَأَن لله تَعَالَى ملكَيْنِ يُقَال لأَحَدهمَا مُنكر).
الشرح
الشيخ: بسم الله، والحمد لله، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (أَن الله تَعَالَى يُعذِّب قومًا فِي قُبُورهم): هذا البحث في مسألة (عذاب القبر ونعيمه)، وعذاب القبر ونعيمه ثابت في الكتاب والسنة، والعذاب والنعيم يكون للروح والجسد، وقد دلَّت النصوص في الكتاب والسنة على ذلك؛ من الأدلة على عذاب القبر:
قول الله تعالى في آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾[غافر:46]، يقول: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ وهذا في القبر (في البرزخ)، وقوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ فصار العرض على النار قبل قيام الساعة.
وقال تعالى: ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[الأنفال:50] عند الوفاة، وبعد الوفاة تبدأ دار البرزخ؛ دار البرزخ من الموت إلى يوم القيامة، والدار الدنيا هي حياة الإنسان إلى الموت، ومن الموت إلى قيام الساعة هي دار البرزخ، ومن قيام الساعة هنا دار الآخر إلى ما لا نهاية ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[الأنفال:50].
ومن الأدلة على النعيم قول الله -سبحانه وتعالى- في صفات المؤمنين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)﴾[فصلت:30-31].
والأدلة من السنة كثيرة منها ما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يُستعاذَ بالله من أربع في الصلاة قبل السلام، يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ».
فالاستعاذة بالله من أربع في آخر التشهد كما جاء في الصحيحين مُستحب عند جماهير العلماء، وذهب بعض العلماء إلى وجوب هذه الدعوات الأربع وأنها واجبة، ورأي الجمهور على أنها مستحبة وأن الواجب هو التشهد والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا هو الواجب، وأما الاستعاذة بالله من أربع فإنه مُستحب.
والأدلة على هذا كثيرة؛ من هذه الأدلة ما ثبت في الصحيحين من حديث البراء أن: «المُسْلِمُ إذا سُئِلَ في قَبْرِه، شَهِدَ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فَذلكَ قَوْلُ الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾[إبراهيم: 27]».
ومن ذلك أيضًا ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عُمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ له: هَذَا مكانك إلى يَوْمَ القِيَامَةِ».
وكذلك أيضًا ما ثبت في الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري، قال: «سَمِعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصْواتَ يهود حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: وهَذِهِ الْيَهُودِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ». وثبت أيضًا في صحيح مُسلم من حديث زيد بن ثابت، قال: «بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حائطٍ لبني النجار إذا سَمِع صوتًا، وفيه فقال: تَعَوَّذُوا بالله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
وكذلك أيضًا ثبت في الصحيحين عن ابن عباس، قال: «مَرَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بحَائِطٍ مِن حِيطَانِ المَدِينَةِ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقالَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ».
وكذلك ما ثبت أن «النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بقبرين فقال: إنهما ليُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ؛ أما أحَدُهُما فكان لا يستبرأ من البول، وأما الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ. ثُمَّ أَخذَ جَرِيدَةً رطبة، وشَقَّها نِصفين، وغرزَ في كل قبر واحدة، وقال: لَعَلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عنْهما ما لَمْ يَيْبَسَا».
وهذا محل إجماع من أهل العلم.... من أهل السنة والجماعة أنَّ عذاب القبر ونعيمه حق، ويكون للروح والجسد جميعًا، ولكن الأحكام -كما سبق- تكون على الروح أغلب، كما سبق.... أنَّ الأحكام: النعيم والعذاب يكون في دار الدنيا ينال البدن أكثر ويتألم البدن أكثر من الروح، وفي دار البرزخ بالعكس؛ تتألم الروح أكثر، ولهذا الجسد يبلى ويكون تُرابًا والروح باقية في نعيم أو عذاب، وتُعذَب الروح مُنفردة ومتصلة بالجسم، وكذلك تُنَعَّم الروح منفردة ومتصلة بالجسم.
وخالف في ذلك المعتزلة وهم من أهل البدع، فقالوا: العذاب والنعيم من الروح. وأنكروا عذاب الجسد.... وهذا من جهلهم وضلالهم، فالنصوص دلَّت على النعيم والعذاب للروح والجسد جميعًا، ولكن الأحكام في دار البرزخ تكون على الروح أغلب، كما أنها في دار الدنيا على الجسد أغلب.
وقال المؤلف: (وَيذْهب الإمام أحمد إِلَى الحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: «إنَّ صراطًا يُعبَر عَلَيْهِ وَأَن عَلَيْهِ حَيَّاتٍ تَأْخُذ بالأقدام، وَأَن العبور عَلَيْهِ على مقادير الْأَعْمَال؛ مُشَاةً وسعاةً ورُكبانًا وزَحفًا»)، كذلك هذا المروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: "نؤمن بالصراط والميزان والجنة والنار والحساب، لا ندفع ذلك ولا نرتاب".
وكذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هُريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُضْرَبُ الصِّراطُ بيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فأكُونُ أنا وأُمَّتي في أوَّلَ مَن يَجوزهُ، ولا يَتَكَلَّمُ يَومَئذٍ إلَّا الرُّسُلُ، ودعاء الرُّسُلِ يَومَئذٍ: "اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ"، وفي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ كشَوْكِ السَّعْدانِ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هلْ رَأَيْتُمُ شَوْكَ السَّعْدانَ؟ قالوا: نَعَمْ، قالَ: فإنَّها مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدانِ غيرَ أنَّه ما يدري قَدْرُ عِظَمِها إلَّا اللَّهُ تعالى، فتَخْطَفُ النَّاسَ بأَعْمالِهِمْ».
وفي حديث الرؤية الذي أخرجه مسلم، فيه أنه قال: «يُضْرَبُ الْجِسْرُ، قُلنا: وَمَا الْجِسْرُ يا رسول الله؟ قَالَ: دَحْضٌ مَزلَّةٌ لهُ كَلاَلِيبُ وخَطَاطِيفُ، وَحَسَكة تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقال له: عُقَيفَة»، فالصراط حق دلَّت عليه النصوص، وقد قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)﴾[مريم:71-72].
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾: يعني النار، والمراد هنا: المرور على الصراط وليس المراد دخول النار.
﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾: قسم من الله أنَّ كل أحد يَرِد النار، ولكن المراد بالورود هنا المرور على الصراط ولا يلزم من دخولها.
قال: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾: أي دخلوا ثم نجوا، فهو لا يلزم من هذا، الله تعالى أخبر أنه أهلك قوم هود، قال: ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾[فصلت:18]، نجا الله هود ومن معه وما أصابهم بالعذاب، وفي صالح قال: ﴿نَجَّيْنَا صَالِحًا ﴾[هود:66]، ونجينا لوطًا، فلا يلزم من .... النجاة الدخول، فالمراد هنا من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ المرور على الصراط، هذا هو الصراط، وقيل: المراد الدخول إلى النار، ولكن الصواب أن المراد: المرور على الصراط، والمرور على حسب الأعمال.
وهذا الصراط جاء وصفه بأنه أدق من الشعر وأحرُّ من الجَمْر وأحدُّ من السيف، يمر الناس على قدر أعمالهم، وجاءت النصوص بأنَّ أول زُمرة يمرون على الصراط كالبرق، وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم كالريح، ثم ذو... كأجاويد الخيل، ثم كالرجل يركض ركضة، ثم رجل يزحف زحفًا، وعلى الصراط كلاليب تخطف.... خطفة وتُلقيه في النار على حسب الأعمال، فالمرور على حسب الأعمال.
والذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب يمرون كالبرق وكالريح، فالصراط حق، وكذلك الميزان حق، كما سبق أنه ميزانٌ حسي له كِفتان وله لسان، وكذلك حوض نبينا -صلى الله عليه وسلم- حق وهو حوضٌ في موقف القيامة عظيم، يصب فيه مِيزابان من نهر الكوثر من الجنة، وطوله مسافة شهر وعرضه مسافة شهر، وأوانيه عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج وأشد رائحةً من المِسك، من شرب منه شَربةً لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، نسأل الله أن يرزقنا من فضله.
هذا كله في يوم القيامة، واختلف العلماء في ترتيبها؛ هل الحوض ثم الميزان ثم الصراط؟ قيل: الحوض أولًا لأن الناس يَرِدون عُطاشًا فيشربون ثم تُوزن الأعمال، لأنه لو كان الميزان الأول لعرف وثبت أنه يُزاد عن الحوض أُناس، توردهم الملائكة وتطردهم، غيَّروا وبدَّلوا والنبي -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ يقول: «يا ربي أُمتي.. أُمتي، فيُقال: إنك ما تدري ما أحدثوا بعدك؛ إنهم لم يزالوا مُرتدين على أعقابهم.....، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: سُحقًا سُحقًا لمن غيَّر بعدي».
ثم تُوزن الأعمال، فلو كان بعد الميزان لعرفوا وخفَّت وموازينهم أنه لا يَرِد على الحوض، ثم الميزان ثم الصراط، والصراط هو سور على متن جهنم يصعد الناس منه؛ من تجاوزه وصل إلى الجنة، ومن سقط سقط في النار، ومن تجاوز الصراط يُوقفون على القنطرة... خاص بالمؤمنين قبل دخولهم الجنة ليُقتص بعضهم من بعض، المظالم التي بين المؤمنين، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم بدخوا الجنة، نسأل الله....، هكذا ترجو بالحوض ثم الميزان ثم الصراط، وقبل ذلك نثر الدواوين وإعطاء الكُتب باليمين وبالشمال، كل هذا حق.
وكذلك البعث، بعث الأرواح في الأجساد، كل هذا حق، من لم يؤمن بذلك فليس بمؤمن، من أنكر البعث فهو كافر، من أنكر الميزان وأنكر الصراط، كل هذا دلَّت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمن أنكر ذلك فإنه يُعرَّف فإن أصر... بكُفره، نسأل الله السلامة والعافية.
فالصراط حق، والرب سبحانه أقسم بأنه لا بد من مروره، قال: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)﴾[مريم:71-72]، وأن العبور عليه على مقادر الأعمال؛ مُشاةً، وسُعاةً، ورُكبانًا، وزحفًا، يعني مرور الناس على حسب الأعمال.
قال: (وَيذْهب إِلَى الحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: «استجيدوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا مَطَايَاكُمْ على الصِّرَاط»)، هذا الحديث ما عَزاه المُصنف، يحتاج إلى مُراجعة إسناد الحديث، بأن أعرف حال الحديث «استجيدوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا مَطَايَاكُمْ على الصِّرَاط».
المتن
(وَأَن لله تَعَالَى ملكَيْن يُقَال لأَحَدهمَا مُنكر وَالْآخر نَكِير، يلجان أمر الْمَيِّت فِي قَبره فإمَّا يُسِرَّانه وَإِمَّا يُخوِّفانه، وَيذْهب إِلَى حَدِيث عمر -رَضِي الله عَنهُ-: «كَيفَ بك إِذا نزلا بك وهما فَظَّان غليظان فأقعداك وأجلساك وسألاك؟ فَتغير عمر بن الْخطاب -رضي الله عنه- وَقَالَ: يَا رَسُول الله وعقلي معي؟ فَقَالَ: إِذن تُكْفاهما»، وَذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي قَوْله -عز وَجل-: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [يونس:64]، قَالَ عِنْد سُؤال مُنكر وَنَكِير، وَكَانَ يَقُول: إِن الله تَعَالَى يُجيب دَعْوَة الدَّاعِي؛ الْمُؤمن وَالْكَافِر، ويفاوت بَينهم فِي السُّؤَال»).
الشرح
الشيخ: نعم، هذا في مسألة الملكان في القبر، وتسمية "ومُنكر ونكير" جاء في بعض الأحاديث أنهما الفتَّانان يعني المُختبران، يختبران الإنسان، يُسأل الإنسان عن ربه وعن دينه وعن نبيه، يأتيه ملكان ويسألان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فالمؤمن يُثبِّته الله، يقول: الله هو ربي، والإسلام ديني، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيي، كما قال الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾[إبراهيم: 27].
وألَّف الإمام المُجدِّد الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رسالة سمَّاها [الأصول الثلاثة]؛ معرفة الإنسان ربه ودينه ونبيه ، هذه يُسأل فيها في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
[الأصول الثلاثة]: الأصل الأول/ معرفة الإنسان ربه، والأصل الثاني/ معرفة الإنسان نبيه، والأصل الثالث/ معرفة الإنسان دينه، في هذه يُسأل في قبره؛ فالمؤمن يُثبِّته الله، وغير المؤمن لا يستطيع الإجابة ولو كان أفصح الناس.
في حديث البراء في قصة قبض روح المؤمن ودفنه، وأن المؤمن إذا حضره الموت جاءته ملائكة بِيض الوجوه، وجلس ملكٌ عند رأسه ويقول: أيتها النفس الطيبة: اخرجي إلى روحٍ وريحان، فتخرج وتسيل كما تسيل القطرة من السِّقية، ويخرج منها كأطيب نفحةٍ مسكٍ وُجدت على وجه الأرض ثم يصلون بها إلى الملائكة، فلا يمرون بعالم الملائكة إلا قالوا: ما هذه؟ قالوا: هذه روح فلان بن فلان، بأحسن الأسماء التي كان يُسمى بها في الدنيا، فإذا صعدوا بهذا الإنسان فُتحت أبواب السماء، ثم يقول ربنا سبحانه: أعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم ومنها أُعيده ومنها تارةً أخرى، فتُعاد إلى الأرض.
فإذا وُضع في قبره رُدَّت روحه إلى جسده وجاءه الملكان وسألاه: من ربك؟ فيقول: الله ربي، وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، ومن نبيك؟ فيقول: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيُفسح له في قبره مد البصر، ويُفتح له باب إلى الجنة، «وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي».
وأما الرجل الكافر أو الفاجر فإنه إذا حضره الموت جاءته الملائكة ووقف ملك الموت عند رأسه وقال: أيتها النفس الخبيثة؛ اخرجي إلى غضبٍ من الله وسَخط، فتتفرق في جسده فينتزعها كما يُنتزع السَّفود من الصوف المبلول، فإذا انتزعوها وضعوها في المَسوح وهو كفن أسود، أما المؤمن فتُوضع روحه في أكفانٍ بِيض طيبة.
فإذا خرجت روح الفاجر خرج منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على وجهِ الأرضِ، فيُصعد بها إلى السماء فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكةِ إلا قالوا : ما هذا؟ فيقول: هذه روح فلان بن فلان بأقبحِ أسمائهِ التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، فإذا صعد إلى السماء أُغلقت أبواب السماء دونها، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تُفتَّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِ الخياط»، ثم تُطرح روحه في الأرض طرحًا، فإذا وُضع في قبره رُدَّت روحه إلى جسده، وجاءه الملكان وسألاه: من ربك؟ فلا يستطيع ويقول: هاه.. هاه... لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقولته. فيقولون له: من نبيك؟ فيقول: هاه.. هاه... لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقولته. فيقولون: ما دينك؟ فيقول: هاه.. هاه... لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقولته.
ولو كان أفصح الناس في الدنيا لأن عمله سيء، ما يستطيع الإجابة، فيُضرب بمرزبةٍ من حديد، فيصيح صيحةً يسمعها كلُّ ما خلق الله إلا الجن والإنس ولو سمعها الإنسان لصعق. ثم يُضَّيَّق عليه في قبره حتى تَخلفه، نعوذ بالله، ويُفتح له بابٌ إلى النار، فيأتي من حرَّها وسمومها، ويأتي رجلٌ قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتِن الريح، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة.
هذا ثابت في حديث البراء بن عازب في قصة قبض الروح ودفن الميت وسؤال الملكين له، وهذان الملكان يُقال لهما: الفتَّانان. وكذلك أيضًا الإيمان بضمة القبر وأن القبر له ضمة، في الحديث يقول النبي: «إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن»، فلا بد من الإيمان بعذاب القبر ونعيمه.
وقد أنكر المعتزلة عذاب القبر ونعيمه للجسد وهذا من جهلهم وضلالهم، جاء في رسالة عبدوس أن هذه الأمة تُفتَن في قبورها، يعني تُمتحن وتُسأل عن الإيمان والإسلام، ومن ربه ومن نبيه، ويأتي منكر ونكير كيف شاء الله وكيف أراد.
في حديث لابن عمر جاء من طرق متعددة، في بعضها مجهول، جاء أيضًا في رواية البيهقي بإثبات عذاب القبر، وجاء سؤال الملكان، ثابت، وأخذ البخاري ومسلم من حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن العبد إذا وُضع في قبره وتولى عنه أصحابه فإنه لا يسمع قرع نِعالهم، ويأتي ملكان فيُقعدانه، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ يعني في محمد صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول: هو رسول الله حق.
وتسميتهما منكر ونكير جاء في بعض الأحاديث، جاء في حديث منها ما أخرجه الترمذي وابن حبان، وتكلَّم بعض السند في تسميتهما منكرًا ونكير؛ يعني إن كان الملكان.. هذا لا، ثابت، لكن التسمية منكر ونكير هذا جاء في بعض الأحاديث كلام في بعض سنده، فلا بد من الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، ولا بد من الإيمان بسؤال منكر ونكير وبضمة القبر، كل هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة.
وفيها ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أنّ لله تعالى ملكان يُقال لأحدهما: منكر، والآخر: نكير، هذا جاء في بعض الأحاديث في بعضها كلام، المهم أنهما ملكان يأتيانه ويمتحنانه افتنانًا. قالوا: فإما يُسرَّانه وإما يُحزنانه؛ المؤمن يُسَر، وغير المؤمن يُحزنانه.
كما سبق أن المؤلف ذكر حديث عمر: «كَيفَ بك إِذا نزلا بك وهما فظَّان غليظان فأقعداك وأجلساك وسألاك، وَذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي قَوْل الله -عز وَجل-: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾[يونس:64]، قَالَ: هذا عِنْد سُؤال مُنكر وَنَكِير»، يعني سؤالهما الميت عن ربه وعن دينه وعن نبيه.
المتن
(وَكَانَ يَقُول: إِن الله تَعَالَى يُجيب دَعْوَة الدَّاعِي؛ الْمُؤمن وَالْكَافِر، ويُفاوت بَينهم فِي السُّؤَال، وكان يَقُول: إِن من خَالف الْإِجْمَاع والتواتر فَهُوَ ضال مضل، ويُفسِّق مَن خَالف خبر الْوَاحِد مَعَ التَّمَكُّن من اسْتِعْمَاله).
الشرح
الشيخ: يعني كان يقول: إن الله تعالى يُجيب دعوة الداعي؛ المؤمن والكافر لأنها يتعلق بالربوبية، قد يُجاب دعاء الكافر للضرورة إذا اضطر ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾[النمل:62]، فقد يُجاب دعاء الكافر إن اضطر؛ لأن الله قال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ﴾ هذا عام، تشمل المؤمن والكافر، كما أن الله خلق الكافر والمؤمن يرزق الكافر والمؤمن، كذلك يُجيب دعاء الكافر والمؤمن.
وقد لا يُجاب الدعاء إذا لم تتوفر شروطه؛ إذا كان قلبٍ من غافل، أو كان يستحسر، أو دعا بإثمٍ أو قطيعة رحم، أو كان مُتلبِّسًا بالحرام وأكل المال، المعاصي للمؤمن، وقد يُجاب الكافر دفعًا للضرورة التي حصلت له، فهذا مما يتعلق بالربوبية، (وَكَانَ يَقُول: إِن الله تَعَالَى يُجيب دَعْوَة الدَّاعِي؛ الْمُؤمن وَالْكَافِر، ويُفاوت بَينهم فِي السُّؤَال)، فلا شك أنه في تفاوت عظيم بينهما.
(وكان يَقُول: إِن من خَالف الْإِجْمَاع والتواتر فَهُوَ ضال مضل)، نعم الإجماع إذا أجمع العلماء، الإجماع مُستند إلى نص من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن ما هو الإجماع؟ الإمام أحمد يرى أن الإجماع المُنضبط هو إجماع الصحابة، ولهذا قال بعض...: "من ادَّعى إجماع بعض الصحابة فهو كاذب"؛ لأن العلماء... انتشروا في الآفاق ولا يستطيع أحد أن يأخذ أقوال أهل العلماء بعدما فُتحت البلدان، الشام ومصر وغيرها، وانتشر العلماء، يقول: ما يستطيع أحد أن يأخذ أقوال العلماء حتى يدَّعيه، بمعنى أن الإجماع المنضبط هو إجماع الصحابة، وأما مَن بعدهم فلا ينضبط الإجماع، ولهذا قال: "من ادَّعى الإجماع فهو كاذب".
هنا قال: (وكان يَقُول: إِن من خَالف الْإِجْمَاع والتواتر فَهُوَ ضال مضل)، والحُجة في كلام الله وكلام رسوله، والإجماع مُستند إلى دليل من الكتاب أو سنة، ومن خالف الإجماع فهو ضالٌ مُضل ويُستدل له بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾[النساء:115]، يعني لا تتكلم، ممنوع الكلام هنا، الذي يتكلم يخرج بعيد، قال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115] هذا خلاف، هذا وعيد شديد لمن خالف الإجماع.
﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، ولهذا قال الإمام أحمد: (وكان يَقُول: إِن من خَالف الْإِجْمَاع والتواتر فَهُوَ ضال مضل، ويُفسِّق مَن خَالف خبر الْوَاحِد مَعَ التَّمَكُّن من اسْتِعْمَاله)، خبر الواحد: يعني الحديث الذي لم يبلغ درجة التواتر، إذا ثبت الحديث برواية العدول الضابطين وكان السند مُتصل ولم يكن فيها أي شاذ ولا مُعَلَّل فهذا هو الحديث الصحيح.
الحديث الصحيح أن يرويه العَدل الضابط عن مِثله من أول السند إلى سنده، ولكن.... ويكون الحديث غير شاذ ولا مُعَلَّل، هذا يُقال له: الخبر الواحد.
هل يُفيد العلم....؟ ... قال: هذا لا يُفيد اليقين ولكنه يُفيد الظن ولكن يجب العمل به، ولكن ذهب جمعٌ من المحققين لأنه يُفيد العلم ويُعمل به في الأحكام وفي العقائد وفي كل شيء، خالفَ أهل البدع، قالوا: البدع ما يُعمل بالخبر الواحد ولا يُعمل به في العقائد....، والصواب أن: الخبر الواحد إذا صحَّ الحديث برواية العدول الضابطين واتصل السند، ولم يكن شاذًا ولا مُعلل يُعمل به في العقائد وفي الأعمال وفي كل شيء، ويُفيد العلم.
النبي -صلى الله عليه وسلم- يُرأس رسله أفراد يُبلغون عنه، ولما حُوِّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، النبي -صلى الله عليه وسلم- هاجر إلى المدينة، وُجِّهَ إلى بيت المقدس في الصلاة، ستة عشر شهرًا وسبعة عشر شهرًا، ثم حُوِّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فصلى رجلًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حُوِّلت القبلة وذهب إلى قُباء ولم يصلهم الخبر، ما عندهم جوالات ولا عندهم اتصالات، وكانوا يُصلون إلى بيت المقدس، فقال: "أشهد بالله؛ لقد صليتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُتجه إلى القبلة فاستداروا وهم الصلاة، الركعة الأولى إلى بيت المقدس والركعة الثانية إلى الكعبة، فصار الإمام في مكان المأمومين والمأمومين في مكان الإمام.
من قِبل خبر واحد، ما قالوا: لا، ما ندري هل هو صادق ولا غير صادق؟ فالخبر الواحد مقبول، وكان النبي يُرسل رُسله آحاد وكُتبه، فالمؤلف يقول: (كان الإمام ويُفسِّق مَن خَالف خبر الْوَاحِد مَعَ التَّمَكُّن من اسْتِعْمَاله)، فإذا جاء الحديث كما جاء عن الإمام أحمد عن أبي بكر الأشرم.... جاء الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسنادٍ صحيح في حُكم أو فرض، قال: «عَمِلتُ بالحُكم والفرض وشهدتُ لله تعالى وَدِنْتُ لله تعالى به»، يعني يدين الله بالعمل به.
هذه الرواية عن الإمام أحمد، وقال: أدينُ الله به ولكن لا أشهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك، والرواية التالية، رواية المَرُّوذي أنه سُئل عن خبر يوُجب العمل ولا يُوجب العلم فعابه، وقال: ما أدري ما هذا.
وابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- طعن في رواية الأشرم، أقر شيخ الإسلام وابن القيم –رحمهما الله- أن خبر الواحد يُفيد العلم خلافًا لبعض الفقهاء الذين يقولون: إنه لا يُفيد إلا الظن؛ فهو يُفيد العلم ويُعمل به في العقائد وفي الأحكام وفي كل شيء ما دام السند صحيح ومتصل والرواة عُدول ضابطون، ولم يكن حديثًا شاذًا ولا مُعلَّلًا فهو يُفيد العلم ويُعمل به في كل شيء، في العقائد وفي الأحكام.
المتن
(وَكَانَ يَقُول: إِن خير النَّاس بعد رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أَبُو بكر ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان ثمَّ عَليّ، وَإِن عليًّا رابعهم فِي الْخلَافَة والتفضيل، ويبرأ مِمَّن ضللهم وكفرهم. وَكَانَ يَقُول: إِنَّه لَا مَعْصُوم إِلَّا رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- والأنبياء من قبله وَسَائِر الْأمة يجوز عَلَيْهِم الْخَطَأ).
الشرح
الشيخ: نعم، الإمام أحمد يقول: (إن خير الناس بعد رسول الله أَبُو بكر ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان ثمَّ عَليّ، وَإِن عليًّا رابعهم فِي الْخلَافَة والتفضيل)، هكذا جماهير أهل السنة يقولون: أفضل الناس بعد الأنبياء: أَبُو بكر ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان ثمَّ عَليّ، ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة. ورُوي عن الإمام أبي حنيفة أن تفضيل علي على عثمان في الفضيلة لا في الخلافة، قال: الصحيح عثمان هو الخليفة الثالث وعلي هو الخليفة الرابع، لكن في الفضيلة عليّ أفضل من عثمان. ثم رجع عنه واستقر الإجماع على تفضيل عثمان على عليّ، هكذا تفضيلهم في الخلافة: أَبُو بكر ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان ثمَّ عَليّ.
ويبرأ الإمام أحمد ممن ضلَّلهم وكفَّرهم؛ من ضلَّلهم وكفَّرهم كافر لأنهم كذبوا لله ولرسوله، من ضلَّ الصحابة... لأن الصحابة زكَّاهم الله وعدَّلهم ووعدهم بالجنة وبالحُسنى كما سبق ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾[الحديد:10]، فمن ضللهم وكفَّرهم فقد كذَّب الله، ومن كذَّب الله كفر.
قال الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- في رسالة عبدوس: "خيرُ هذه الأمة بعد نبيها: أَبُو بكر الصديق ثمَّ عمر بن الخطاب ثمَّ عُثْمَان بن عفان"، فقدَّم هؤلاء الثلاثة كما قدَّمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ثم بعد هؤلاء الثلاثة: أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، كلهم يصلح للخلافة"، هنا في هذا إجماع للثلاثة، "ويذهب إلى حديث ابن عمر: «كنا نقول والنبي -صلى الله عليه وسلم- حيّ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان»، فيبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يُنكر الثلاثة".
قال: "بعد هؤلاء الثلاثة: أصحاب الشورى"، يعني الذين جعل عُمر -رضي الله عنه- الشورى فيهم وهم: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، بقية العشرة المبشرين بالجنة، وكلهم يصلح للخلافة وكلهم إمام، "ويذهب إلى حديث ابن عمر، قال: «كنا نعدُّ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيّ وأصحابه متوافرون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان ثم نسكت».
ثم من بعد أصحاب الشورى: أهل بدر؛ الذين حضروا بدرًا من المهاجرين، ثم أهل بدرٍ من الأنصار (أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم) على قدر الهجرة والسابقة أولًا فأولًا، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء: أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرن الذي بُعث فيهم، وكل من صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أو صحبه شهرًا أو يومًا أو ساعة أو رآه وهو بين أصحابه، سبق أن الصواب... في تعريف الصحابي: هو من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا ومات على الإسلام ولو لحظة، ويشمل هذا الصبيان الصحابة الذين رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وحنَّكهم.
فهذا هو الصحابي: من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا ومات على الإسلام. بعضهم قال: "من رأى"، لكن "من لقي" أولى؛ حتى يشمل العُميان، فعبد الله بن أم مكتوم لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن ما رآه؛ لأنه لا يُبصر فهو صحابي.
والصحابة يختلفون في الصحبة، فالصحبة أفضل، يتفاوتون تفاوتًا عظيم بين الصحابة؛ لما حصل بين عبد الرحمن بن عوف وكان من السابقين الأولين وبين خالد بن الوليد... السابقون الأولون من الصحابة من هم؟
في قولان؛ القول الأول: أن السابقون من صلّى إلى القبلتين بيت المقدس والكعبة، وهذا ضعيف؛ لأنه لم يدل دليل على فضل من صلى إلى بيت المقدس ولأنها... في السلف الأولى، يكون السابقين قليل، والصواب: أن السابقين الأولون هم من أسلم قبل صُلح الحُديبية، فصُلح الحُديبية حدٌّ فاصل، من أسلم قبلها فهو من السابقين، ومن أسلم بعدها ليس من السابقين لقول الله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾[الحديد:10]، الفتح: هو صُلح الحديبية بنص القرآن، ﴿أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾[الحديد:10].
فعبد الرحمن بن عوف من السابقين الأولين، من العشرة المبشرين بالجنة، وخالد بن الوليد أسلم بعد صُلح الحُديبية فليس من السابقين؛ حصل سوء تفاهم أو كلام بين عبد الرحمن وخالد، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لخالد ويُعاتبه: "لا تسبُّوا أصحابي" يعني عبد الرحمن بن عوف، كلهم صحابة، يعني لا تسبوا أصحابي السابقين، يقول لصحابيٍّ متأخر: "لا تسب الصحابي المتقدم"، «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ»، يُخاطب خالد، لو أنفق خالد مثل أُحد ذهب وأنفق عبد الرحمن مُد (ملء الكف) لسبق عبد الرحمن، فالتفاوت هذا بين الصحابة، فكيف بين الصحابة وغيرهم؟
لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدٍ ولا نصيفه؛ يعني لو أنفق المتأخر ذهب مثل أُحد وأنفق المتقدم مُدَّ (ملء كفي الرجل) أو نصف المُد لسبقه، هذا تفاوت بين الصحابة فكيف التفاوت بينهم وبين من بعدهم؟ الصحابة لا يلحقهم من بعدهم، مزية الصحبة خاصةٌ به؛ لأنهم صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأوه وشاهدوه، وإذا طالت صُحبته وجاهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون بلغ شأنًا عظيمًا في الصحبة.
لكن قد يكون فيمن بعد الصحابة قد يفوق مثلًا بعض الصحابة في العلم أو في العبادة أو في كذا، لكن مزية الصحبة خاصة بالصحابة لا يلحقهم مَن بعدهم، فالصحابة يتفاوتون فالقرن الذي بُعث فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- كلُّ من صَحِبه سنةً أو شهرًا أو يومًا أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه نظرة، فأدناهم صُحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه، ولا يُلقوا الله بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ورأوه وسمعوا منه ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعة أفضل لصحبته من التابعين، ولو عملوا كل أعمال الخير، هذه هي مزية الصحبة وهذا هو مذهب أهل السنة في التفضيل، يقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ ثم بقية العشرة.
قال ابن أبي زمنين: "من قول أهل السنة: إن أفضل هذه الأمة بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم-: أبو بكر وعمر، وأفضل الناس بعدهما: عثمان وعلي"، وسئل أبو عبد اللاه عن رجلٍ يُحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يُفضِّل بعضهم على بعض (أبو عبد اللاه: هو الإمام أحمد) وهو يحبهم، قال: السنة أن يُفضِّل أبا بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي من الخلفاء.
قال حرملة بن يحيي: "أشهد على الشافعي لسَمِعْتُه وسألته عن الخلفاء من هم؟ فأملى عليّ: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز. ذهب بعض العلماء إلى القول: بأن أفضل الناس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أبو بكر وعمر وعثمان ثم يسكت، ولم يُنكر على من قائل ذلك، هذا قول الإمام أحمد.
وحكى الخلَّال أنه سئل عن التفضيل فقال: أذهب إلى حديث ابن عمر (الإمام أحمد): «كنا نُفاضل على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول: أبو بكر وعمر وعثمان»، وكذلك قال سليمان بن حرب: أبو بكر وعمر وعثمان، ويسكت، وقال يزيد بن ذريع: «خير هذه الأمة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان»، ثم نقف.
وقال موسى بن إسماعيل التبوذكي: هكذا تعلمنا ونبتت عليه لحومنا وأدركنا الناس عليه: "تقديم أبي بكر وعمر وعثمان" ثم السكوت. وكذا قال بشر بن الحارث وأيوب السختياني ومالك بن أنس والثوري ويحيي بن معين.
ورُوي عن يحيي القطان أنه كان يقول: "أبو بكرٍ وعمر ثم يقف كما حكى الخلَّال بسندٍ صحيح. ويحكي القطان عن الثوري، وقيل: الثوري رجع إلى القول: بأبي بكر وعمر وعثمان، بعد ذلك.
ورُوي عن الإمام أحمد أنه يُربِّع بعلي، يجعل الرابع علي، قال الخلَّال: مذهب أحمد بن حنبل -رَحِمَهُ اللهُ- الذي هو مذهبه: أبو بكرٍ وعمر وعثمان، وهو المشهور عنه.
حكى المروذي وغيره أنه قال لعاصم وأبي عُويدة: لست أدفع قولكم في التربيع بعلي. وأما الخلافة فيذهب -رَحِمَهُ اللهُ- إلى حديث سفينة: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة (ثلاثون سنة هي مدة الخلفاء الراشدين): أبو بكر سنتان ونصف أو سنتان وأربعة أشهر، وعمر عشر سنوات ونصف، وعثمان اثنى عشرة سنة، وعلي أربع سنين» وبقي منها ستة أشهر وهي التي بُويع فيها الحسن فتنازل عنها لمعاوية، فهي ثلاثون سنة.
وسئل الإمام أحمد عن حديث سفينة فصحَّحه، فقال: رجلٌ سعيد بن جهمان: فكأنه ضعَّفه، يعني الراوي عن سفينة، فقال...: يا صاحِ: خُذ بيده، قال: فأخرجه، وقال: "فملك أبو بكرٍ سنتين وشيء، وعمر عشر، وعثمان اثنتي عشرة، وعلي ست".
والصحابة –رضوان الله عليهم- كلهم عُدول يجب الترضي عنهم ونشر محاسنهم والكف عن مساوئهم؛ فهم خير الناس وأفضل الناس بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، صحِبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاهدوا معه ورأوه وفسَّر لهم النصوص ويُجيبهم عما أشكل عليهم، وجاهدوا في الله ونشروا دين الله وبلَّغوا دين الله في مشارق الأرض ومغاربها، فهم خير الناس بعد الأنبياء، اختاروا مناصرة نبيهم، لا كان ولا يكون مثلهم، فمن كفَّرهم أو فسَّقهم فقد كذَّب الله ومن كذَّب الله كفر.
إذا كان الصحابة الذين نقلوا الكتاب والسنة كفار أو فُسَّاق فكيف يُوثق بدين ينقله كفار أو فُسَّاق؟! نسأل الله السلامة والعافية. فهؤلاء الذين يطعنون في الصحابة ويسبون الصحابة الكرام إنما لمرضٍ في قلوبهم، فهذه زندقة ونفاق، ولهذا قال شيخ الإسلام: "تكثر الزندقة في الرافضة الذين يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ لأن الصحابة هم الذين نقلوا لنا الكتاب والسنة، وهم الذين بلَّغوا دين الله، فهم يُريدون أن يجرحوا الشهود حتى يُبطلوا الكتاب والسنة، هذا مُرادهم.
مُرادهم أن يبطلوا الكتاب والسنة، لكن لا يستطيعون إبطال الكتاب والسنة، فاتخذوا الطريق إلى الطعن في الصحابة، الصحابة هم الذين نقلوا الكتاب والسنة، إذا كانوا كفار أو فُسَّاق كيف يُوثق بدينٍ ينقله كفار أو فُسَّاق؟! نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا الله تعالى زكَّاهم وعدَّلهم ووعدهم بالجنة، فقال: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾[الحديد:10]، قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[المائدة:9]، فنسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يُثبتنا على دينه القويم؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. لعلنا نقف على هذا.