شعار الموقع

شرح كتاب اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل_13

00:00
00:00
تحميل
115

بسم الله الرحمن الرحيم، قبل أن نبدأ أُحب أن أُنبِّه غدًا الجمعة لا يوجد درس؛ لأنه ورد حديث في سنن أبي داوود أن الرسول نهى عن التحلُّق يوم الجمعة، يعني نعمل الحلقة هذه، وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ- ما يكون له درس يوم الجمعة ويعمل بهذا الحديث، وإذا ألقى أحدٌ كلمة بعد الفجر يوم الجمعة، قال: "كلٌّ يجلس على مكانه، لا تكون حلقة"، والحكمة في ذلك أن الجمعة تحتاج إلى تقدُّم فالدرس، والحلقة قد تؤخر الإنسان عن التقدُّم للجمعة، يمكن يحتاج أن يرتاح الإنسان بعض الشيء ثم يغتسل ويتوضأ ويتقدم لشروع التقدُّم، فلذلك لا يكون –إن شاء الله- درس الفجر، لكن يوجد في المساء، لأن الليل ليس ما فيه معاناة، الليل مساء يوم الجمعة أو يوم الخميس وجميع الأيام، إنما فجر الجمعة فقط، واضح هذا حتى لا يأتي بعض الإخوان ويشق عليه وهو لا يعلم؟ إذًا غدًا الجمعة ما في درس إن شاء الله.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد.... فنبدأ درسنا هذا المساء.....

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:

المتن

 (وَكَانَ يَقُول: إِنَّه لَا مَعْصُوم إِلَّا رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- والأنبياء من قبله، وَسَائِر الْأمة يجوز عَلَيْهِم الْخَطَأ. وَكَانَ يَقُول: إِن الْإِجْمَاع إِجْمَاع الصَّحَابَة، وكانَ يَقُول: إِن صَحَّ إِجْمَاع بعد الصَّحَابَة فِي عصر من الْأَعْصَار قلت بِهِ).

الشرح

الشيخ: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله. أبو الفضل التميمي يحكي عن الإمام أحمد ويقول: (وَكَانَ يَقُول: إِنَّه لَا مَعْصُوم إِلَّا رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- والأنبياء من قبله، وَسَائِر الْأمة يجوز عَلَيْهِم الْخَطَأ)، نعم، هذا فيه بيان أن العصمة للأنبياء والرسل فقط، والمراد بالعصمة هنا العصمة من الشرك، فالأنبياء معصومون من الوقوع في الشرك، وأما قول الله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر:65]، وقوله: ﴿لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام:88]، فقال العلماء: هذا شرطٌ تقديري لا يلزم وقوعه، فهو لبيان مقادير الأشياء؛ بيان مقدار الشرك وأنه أمرٌ عظيم، وأنه لو قُدِّر أن أحدًا أشرك فيحبط عمله ولو كان نبيًا، لكن الأنبياء معصومون، فالنبي معصومٌ من الشرك ومعصومٌ أيضًا من الوقوع في كبائر الذنوب، ومعصومٌ أيضًا من الخطأ في التبليغ عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-......

معصوم على الوقوع في الشرك (الأنبياء)، معصومون فما يقعوا في الشرك، فإذا احتج أحد بقول الآية: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر:65] فهذا شرط تقديري لا يقع، ولا يلزم وقوعه لبيان مقادير الأشياء. والأنبياء معصومون أيضًا من الكبائر؛ الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والتعامل بالربا، وأخذ الرشوة، فهذه كبائر معصومون منها.

ومعصومٌ أيضًا من الخطأ فيما يُبلِّغون عن الله عَزَّ وَجَلَّ، ولهذا قال الله تعالى لنبيه لما كان -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- نزل عليه الوحي وكان يُحرِّك لسانه، حتى قال الله تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)﴾[القيامة:16-17]، جَمْعَهُ في صدرك، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)﴾[القيامة:18-19]، وأما غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- فليسوا معصومين لا من الشرك ولا من الخطأ، حتى الصحابة الواحد منهم ليسوا معصومين، قد يقعوا في الشرك والرياء وقد يرتدوا، بعضهم ارتد مثل الثلاثة ثم تاب وتاب الله، وهناك من ارتد ولم يعد إلى الإسلام.

لكن الصحابة معصومين في الجملة، معصومون أن يُتركوا على الشرك بجملتهم، الأمة معصومة من أن تُترك على الشرك، ولهذا في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الشيطان يَئِسَ أن يعبده المُصلون في جزيرة العرب»، يعني يئِس أن يُطبِقوا على الشرك؛ ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي على الحَقِ منصورةٌ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»، الحق منصور.

ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- يقول في النونية:

والحقُّ منصورٌ ومُمتَحنٌ فلا
 

 

تعجب فهذي سنةُ الرحمنِ
 

 

أما غيرهم، فالواحد من الصحابة قد يقع في الشرك أو قد يقع في كبيرة من كبائر الذنوب مثل حاطب بن أبي بلتعة، مثل.... لكنه كما قال شيخ الإسلام في [العقيدة الواسطية]: الذنوب المحققة إذا وقع فيها الواحد قد يمحو الله هذا الذنب عنه بالمصائب أو بسابقةٍ النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بشفاعة النبي.... أو بغير ذلك من الأسباب التي يُمحى بها الذنب.

إذًا يتبين من هذا أن العصمة للأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- أما غير الأنبياء فليس لهم عصمة، إلا أن مجموع الأمة أو مجموع الصحابة معصومون من أن يُطْبِقوا على الشرك كلهم، وسائر الأمة يجوز عليهم الخطأ ويدل على هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».

(وَكَانَ يَقُول: إِن الْإِجْمَاع إِجْمَاع الصَّحَابَة)، وهذا مشهور عن الإمام أحمد وهو قال: "الإجماع إجماع الصحابة، ومن ادَّعى الإجماع فهو كاذب"، لماذا؟ قال: لأن الصحابة الذي يُمكن ضبط إجماعه، لكن بعد إجماع الصحابة تَفرَّق العلماء في الأمصار وفي جميع الأمصار في الشام وفي مصر، فلا يمكن أخذ أقوالهم وأخذ رأيهم، هناك علماء.........، لكن الصحابة مُجتمعون ومعروفون قبل أن تُفتح البلدان وينتشر الناس، فلهذا قال الإمام أحمد: "من ادَّعى الإجماع من غير الصحابة فهو كاذب؛ الإجماع إجماع الصحابة".

(وكانَ يَقُول: إِن صَحَّ إِجْمَاع بعد الصَّحَابَة فِي عصر من الْأَعْصَار قلت بِهِ)، ودليل الإجماع وأنه لا يجوز مُخالفته قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115]، والفقهاء يذكرون الإجماع، يقولون: الإجماع هو اتفاق أهل العصر في مسألة من المسائل، ويرون أن الإجماع مستمر لأنه من الفقهاء، والإجماع هو أن يجتمع أهل العصر على شيء، على مسألة فلا يجوز مُخالفتهم.

الإمام أحمد ما يُنكر إجماع كلهم، قد يكون هناك بعض العلماء ما ندري أين هم؛ لانتشار العلماء في الأمصار. وهذه المسألة ليست من مسائل الاعتقاد ومسائل الإجماع إلا أنها من جهة أن الإجماع هو حكم شرعي، يعني الذي يُرجع عليه يعمل بالكتاب والسنة وبالإجماع، واعتقاد أن الإجماع حُجة في كلام الله وكلام رسوله، وكذلك الإجماع لا بد أن يكون مُستند إلى نص.

المتن

(وَكَانَ يَقُول لَو لم يجز أَن يفعل الله تَعَالَى الشَّرّ لما حسُنت الرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي كشفه).

الشرح

الشيخ: نعم، المعنى: أن الله خالق الخير والشر، وهو داخلٌ في عموم قوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الزمر:62]، وقال: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾[الفرقان:2]، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات:96]، فهذه النصوص هي دليل على أن الله خالق كل شيء، الخير والشر، لكن الشر لا يُنسب إلى الله تنزيهًا له سبحانه، وإنما يُذكر في عموم الخلق؛ ولهذا تجد في النصوص أن الشر ما يُضاف إلى الله ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)﴾[الفلق:1-2]، الشر يُنسب إلى الخلق تنزيهًا لله.

قال الله تعالى عن الجن: ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ﴾[الجن:10]، ﴿أَشَرٌّ أُرِيدَ﴾ جاءت بالبناء للمجهول، ما قال: أراد الله، ولما جاء الخير قال: ﴿أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾[الجن:10]، فالخير ننسبه إلى الله، وهذا من حُسن كلامهم.

﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾[الجن:10]، فالرَّشَد يُنسب إلى الله والشر جاء في البناء للمجهول، وكذلك قوله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾[الفلق:2]، وإن كان الله خالق الخير والشر لكن هنا من باب التنزيه.

وقلنا: قوله: (لَو لم يجز أَن يفعل الله تَعَالَى الشَّرّ لما حسُنت الرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي كشفه)، يعني أن الله تعالى خلق الشر كما خلق الخير، ولو لم يكن كذلك ما كان لسؤاله معنى، لو كان ما خلق الشر كيف يُسئل عن شيءٍ ما خلقه؟ وهذه المسائل سبق الكلام فيها في خلق الشر وخلق أفعال العباد، وأن للنفس فيها ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول/ مذهب المعتزلة: الذين يقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه خيرًا أو شر.

أفعال العباد فيها ثلاثة مذاهب؛ المذهب الأول/ مذهب المعتزلة يقول: أفعال العباد ما خلقها الله خيرًا أو شرًا، من الذي خلقها؟ هم، يقولون: صحيح أن الله خلق العبد وخلق القدرة التي بها فعل، لكن هو الذي خلق الفعل بالقدرة التي أعطاه الله، ولهذا قالوا: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه خيرًا وشرًا، فقالوا: إن العبد يستحق الثواب على الله كما يستحق الأجير أُجرته، يقولون: هذا عرق جبينه، ويجب على الله أن.... ويُعطيه أجره، هكذا أوجبوا على الله! عياذًا بالله.

قالوا: ويجب على الله أن يُعاقب العاصي؛ لأنه توعَّده والله لا يُخلف الميعاد، وهذا بجلهم وضلالهم، فإنه إذا توعَّد الشخص وأخلف وعده هذا ممدوح، كونه لا يُعاقبه.

المذهب الثاني/ أن العبد ليس له فعلٌ ولا اختيار والأفعال هي أفعال الله، وهذا هو مذهب الجبرية؛ أفعال العباد هي أفعال الله، فالله هو المُصلي وهو الصائم ولكن العبد وعاء تجري عليه الأفعال وإلا فليس له فعل، مثل الكوب الذي يُصب فيه الماء، قالوا: فأفعال العباد كالكوب والله تصبَّب الماء فيه، وأفعاله كلها اضطرارية مثل حركة المرتعش والنائم وغيرها، ما في حركات اضطرارية واختيارية، كلها الحركات اضطرارية، هكذا يقولون الجبرية.

الجبرية يقولون: العبد ليس له فعل ولا اختيار، فالأفعال هي أفعال الله، فالله هو المصلي والصائم! تعالى الله عما يقولون.

والمذهب الثالث/ مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله هو خالق أفعال العباد، والعباد هم الذين باشروها وكسبوها وفعلوها باختيارهم، فأفعال العباد هي من الله خَلقًا وإيجادًا، وهي من العبد فعلًا وتَسَبُّبًا ومباشرة، وهذا هو الصواب لقول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات:96].

 فمذهب أهل السنة هو المذهب الحق، وسطٌ بين مذهبين باطلين؛ بين مذهب المعتزلة الذين يقولون: أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه استقلالًا من دون الله، وبين مذهب الجبرية الذين يقولون: العبد لا فعل له ولا اختيار ولا كسب.

والله تعالى خالق الخير والشر كما قال المؤلف، قال: (لَو لم يجز أَن يفعل الله تَعَالَى الشَّرّ لما حسُنت الرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي كشفه)؛ يعني: الشر وما يحصل للإنسان من الضُّر يسأل الله أن يكشفه، أليس كذلك؟ لو لم يخلقه لما حصلت الرغبة إليه في كشفه.

قال -رَحِمَهُ اللهُ-:

المتن

(وَأَن للْعَبد مَلَائِكَة يَحْفَظُونَهُ بِأَمْر الله وَأَن الْقَضَاء وَالْقدر يُوجبان التَّسْلِيم، وَأَن الْغَزْو مَعَ الْأَئِمَّة وَاجِب وَإِن جاروا).

الشرح

الشيخ: نعم، يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَأَن للْعَبد مَلَائِكَة يَحْفَظُونَهُ بِأَمْر الله)، الله تعالى وكَّل على العبد ملائكة حفظة وملائكة كَتبة، فهو بين أربعة أملاك؛ ملكان أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات والثاني عن الشمال يكتب السيئات، وملكان حافظان واحدٌ أمامه وواحدٌ خلفه، أربعة أملاك في الليل وأربعة أملاك في النهار، ثمانية... حافظان وكاتبان، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ والنَّهَارِ، فيَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الصُّبح وفي صَلَاةِ العَصْرِ»، ففي صلاة الصبح ينزل ملائكة النهار ويصعد ملائكة النهار، وفي صلاة العصر ينزل ملائكة الليل ويصعد ملائكة النهار، «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ وملائكةٌ بالنَّهَارِ، فَيَسْأَلُهُمْ الله تعالى وهو أعْلَمُ: كيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيَقولونَ: أَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ وتَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ»، والله تعالى يقول في القرآن الكريم: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾[الرعد:11]، المُعقِّبات: الملائكة يتعاقبون، يحفظونه من أمر الله.

قال ابن عباس: "يحفظونه من أمر الله فإذا جاء قدر الله خلُّوا عنه"، والدليل على الحفظة قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾[الأنعام:61]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)﴾[الانفطار:10-11]، وهذا من تكريم الله تعالى لبني آدم؛ فإن الله كرَّمهم وفضَّلهم على كثيرٍ ممن خلق تفضيلًا، ومن ذلك أن الله تعالى جعل عليهم حفظة وكتبة.

قال المؤلف: (وَأَن الْقَضَاء وَالْقدر يُوجبان التَّسْلِيم)، الإيمان بالقدر خيره وشره هذا أصلٌ من أصول الإيمان الستة، والدليل على ذلك القرآن والسنة؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49]، ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾[الفرقان:2]. وفي حديث جبرائيل في سؤالاته للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لما سأله عن الإيمان، قال: «أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره».

فالإيمان بالقدر ركنٌ من أركان الإيمان، بل من لم يؤمن بالقدر فليس بمسلم، هو كافر. يقول: (وَأَن الْقَضَاء وَالْقدر يُوجبان التَّسْلِيم)، يعني يُسلِّم العبد لله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأن الله تعالى حكيم قدَّر الأشياء بحكمة وقضاءه بحكمة، فلا بد أن تُسلِّم لقضاء الله وقدره، فلا يُقال: لما؟ ولا يُقال: كيف؟ ما يُقال لأفعال: لما؟ ما تقول: لما فعل الله كذا؟ ما تقول، ما يُوجَّه هذا السؤال إلى الله: (لماذا فعل كذا/ لماذا أعطى فلان/ لماذا جعل فلان غني/ جعل فلان فقير/ لماذا جعل فلان أمير وهذا مأمور/ لماذا جعل فلان طويل وفلان قصير/ وفلان أبيض وفلان أسود/ وفلان عاقل وفلان غير عاقل) ما يُوجَّه السؤال إلى الله فهو حكيم، ولا يُقال: كيف؟ ما يُقال: صفات الله كيف؟ كيفية صفات الله، ما كيفية كذا؟ فلا يُقال: لما ولا كيف، الأفعال ما يُقال فيها: لما؟

فلا يُقال: لما؟ في الأفعال، ولا يُقال: كيف؟ في الصفات وفي غيرها، وإنما هو التصديق والإيمان، لا بد أن تُصدِّق وتؤمن بالله. قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: "القدر نظام التوحيد؛ فمن وحَّد الله وآمن بالقدر تمَّ توحيده، ومن وحَّد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده".

والقضاء والقدر قد يجتمعان وقد يفترقان، فالقضاء له معاني، يأتي بمعنى الأمر، بمعنى: أَمرَ وصفًا...، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾[الإسراء:23]، ويأتي بمعنى الحكم، القضاء بمعنى حَكم. ويأتي بمعنى الحق، القضاء إلى الحق. ويأتي بمعنى الوفاء والفراغ والإتمام.

وأما في الاصطلاح: قال بعضهم: هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل.

والقدر: هو سابق علم الله، ومعنى القدر: أن الله عَلم مقادير الأشياء وكتبها في اللوح المحفوظ، وشاء كل شيء يقع في هذا الوجود قبل إيجاده.

والقدر له أربع مراتب لا بد من الإيمان بها، أربع مراتب من لم يُؤمن بها لم يؤمن بالقدر، لا بد من حفظها كما تحفظ الفاتحة:

المرتبة الأولى/ العلم: الإيمان بعلم الله الأزلي السابق، تؤمن بأن الله علم الأشياء قبل وقوعها في الأزل. والأزل: يعني الماضي، يعني الأمر الذي سبق ولا بداية له؛ أن الله علم الذي نشأ في الأزل الذي لا بداية له، في الأزل السابق، علم الأشياء كلها؛ لأن الله هو الأول بذاته وأسمائه وصفاته، فلو كان له بداية لكان مسبوقًا بالعدم....، فالله هو الأول بلا بداية، بدايته هو أسمائه وصفاته، كما أنه الآخر بلا نهاية، لو كان له بداية لكان مسبوقًا بالعدم....، ولو كان له نهاية لكان يأتي عليه العدم، فالله هو الأول بلا بداية، والأول من أسماء الله، والآخر، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الحديد:3]، أربعة أسماء متقابلة؛ اسمان لأزليته وأبديته، واسمان لفوقيته وعدم حجب شيءٍ من المخلوقات له.

وقد فسَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأسماء كما جاءت في القرآن، قال تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الحديد:3]، وقد فسّرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الاستفتاح: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الأوَّلُ فليسَ قَبْلَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فليسَ بَعْدَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فليسَ فَوْقَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فليسَ دُونَكَ شيءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ».

إذًا الأول ما معناه؟

الذي ليس قبله شيء، فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم.

والآخر ما معناه؟

الذي ليس بعده شيء.

والظاهر ما معناه؟

الذي ليس فوقه شيء.

والباطن معناه: الذي ليس دونه شيء، يعني لا يحجب أحدًا من خلقه سبحانه وتعالى.

إذًا المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الأزلي السابق الذي لا بداية له، وأن الله عَلِم الأشياء قبل كونها في الأزل. ما الأشياء التي علمها؟ كل شيء؛ الذوات، والصفات، والحركات، والسكنات، والرطب، واليابس، والصغير، والكبير، كل شيءٍ عَلِمه.

والمرتبة الثانية/ الإيمان بأن الله كتب مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ. مت كتبها؟ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء»، وفي رواية: «أن الله تعالى لما خلق القلم قال له: اكتب، قال: ربي، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة»، وفي لفظٍ: «فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة».

ما هو الشيء الذي كتبه الله؟

كل شيء، كل شيء مكتوب؛ الذوات، والصفات، والحركات، والسكنات، والصغير والكبير، والسعادة والشقاوة، والعز والذل، والموت والحياة، حتى العجز والكَيْس مكتوب، قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس:12]، ما هو الإمام المبين؟ هو اللوح المحفوظ.

والأدلة كثيرة على إثبات العلم والكتابة:

  • قال الله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام:59] الذي هو اللوح المحفوظ.
  • قال الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾[الحديد:22] وهو اللوح المحفوظ.
  • قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾[الحج:70] إثبات العلم والكتابة.
  • وقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-: «وكَتَبَ في الذِّكر كلَّ شيء»، والذكر هو اللوح المحفوظ.
  • قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾[الأنبياء:105].
  • قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[هود:6] وهو اللوح المحفوظ.

إذًا في المرتبة الأولى من مراتب القدر: الإيمان بالعلم، علم الله الأزلي السابق، ومن أنكر العلم كفر لأنه يصف الله بالجهل، ولهذا القدرية.... فالقدرية طائفتان:

القدرية الأولى الذين خرجوا في أواخر عهد الصحابة في البصرة وفي الكوفة، كانوا يحضرون حلقات الدروس ويدرسوا فتكلَّموا بكلام، قالوا: إن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع، ففزع منهم زملائهم وأنكروا عليهم؛ يحيي بن عُمر وحميد الطويل..، وفزعوا إلى الصحابة وكان موجود عبد الله بن عمرو بن العاص، قال يحيي بن عمر: قلنا: لو وُفِّق لنا أحدٌ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألناه عمّا يقول هؤلاء، قال: فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخل المسجد الحرام أو خارجًا منه، فقلنا له: أبا عبد الرحمن: إنه ظهر قِبلنا أُناسٌ يتقفَّرون العلم (لا يطلبون العلم)، ويزعمون أن الأمر أُنُف (الأمر مستأنف وجديد، يعني.... علم الله)، فقال عبد الله بن عمر: فإذا رأيت هؤلاء فأخبرْهم أنِّي منهم بريء، وأنَّهم بُرآء منِّي، والذي نفس ابن عمر بيده! لو أنفق أحدٌ مثل أُحُد ذهبًا ما قَبِله الله منه حتى يؤمنَ بالقدر خيره وشره.

يعني كفَّرهم، الذي لا يُقبل عمله فهو كافر، والذي لا يؤمن بالقدر كافر، ثم ساق الحديث. فالأول حديث في صحيح مسلم في حديث عمر بن الخطاب في سؤالات جبرائيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأله عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان ثم عن الساعة ثم عن أماراتها.

فالأول حديث في صحيح مسلم في هذه القصة، يعني أول من تكلم بالقدر معبد الجُهَني بالبصرة وغيلان الدمشقي، هؤلاء سُموا القدرية الأولى؛ أنكروا علم الله بالأشياء، قالوا: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، فكفَّرهم الصحابة وانقرضوا.

بقيت القدرية الثانية وهم المعتزلة؛ يؤمنون بالعلم وبالكتابة.

المرتبة الثالثة/ المشيئة والإرادة: الإيمان بأنَّ كلَّ شيءٍ وقع في الوجود سبقت منها مشيئة الله، ما يمكن أن يقع شيء صدفة، كل شيء وقع سبقت منه مشيئة الله.

الدليل: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾[الإنسان:30]، ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الأنعام:39]، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[الإنسان:30]، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[التكوير:29].

والمشيئة مُرادفة للإرادة الكونية ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾[الأنعام:125]، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾[البقرة:253] هذه الإرادة الكونية تُرادف المشيئة.

أما الإرادة الدينية الشرعية مثل قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة:185]، ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾[الأنفال:67] فهذه إرادة دينية شرعية.

فهذه المشيئة مشيئة الله للأشياء، يعني: أن كل شيءٍ يقع في الوجود سبقت منه مشيئة الله؛ شاء الله وأراد أن يقع فوقع، ما يُمكن أن يقع شيء بدون مشيئة، ولا يُمكن أن يقع شيء صدفة كما قال، لكن هل يجوز أن نقول: لقيتك صدفةً أو لا يجوز؟

المسألة فيها تفصيل: "لقيتك صدفةً" بالنسبة لي ولك ما فيه معنى، أنا لا أدري ولا أعرف شيء، لكن بالنسبة لله ما في صدفة، (لقيتك صدفةً/ رُبَّ صدفة خيرٌ من ألف ميعاد) هذا بيني وبينك، أنا ما أعلم بالأشياء وأنت، لكن بالنسبة لله ما في شيء صدفة، كل شيء مُقدَّر ومكتوب ولا بد من المشيئة، كل شيءٍ مُقدَّر في اللوح المحفوظ.....الدليل على المشيئة كما سبق.

المرتبة الرابعة/ الخلق والإيجاد: الإيمان بأن الله خلق كل شيء.

الدليل: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الزمر:62]، ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾[الفرقان:2]، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات:96].

هذه مراتب القدر الأربعة، تحفظها مثل الفاتحة: (العلم، الكتابة، المشيئة، الخَلق):

علم كتابة مولانا مشيئته
 

 

وخلقه وهو إيجاد وتكوين
 

 

العلم: بأن الله عَلِم الأشياء في الأجل الذي لا بداية له.

الكتابة: كتابة المقادير في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

المشيئة: أن كل شيءٍ يقع فقد سبقت مشيئة الله وإرادته أن يقع.

الخلق والإيجاد: كل شيءٍ في هذا الوجود فالله خلقه وأوجده، لا خالق مع الله، من قال: "أن هناك خالق مع الله" فقد كفر.

الكتابة؛ كتابة المقادير أنواع:

النوع الأول/ التقدير العام: وهو كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، هذا عام، ليس هناك شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس:12]، كل شيء في اللوح المحفوظ ﴿لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾[الكهف:49]، كل شيء موجود، هذا التقدير العام لجميع الأشياء، جميع ما يقع في هذا الكون فهو مكتوب في اللوح المحفوظ؛ يعني جميع ما يكون في هذا الكون من السعادة والشقاوة والخير والشر والعز والذل والحياة والموت، وغير ذلك، كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، فهذا عام.

الثاني/ التقدير العُمري بالنسبة للإنسان: وهو ما يُقدَّر للإنسان وهو في بطن أمه كما في حديث عبد الله بن مسعود: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفة، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلك، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلك، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ»، هذه كم؟ أربعين وأربعين وأربعين يعني 120، كم شهر؟ أربعة أشهر.

"ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ": هذا تقدير عُمري، يُخالف ما في اللوح المحفوظ أو يُوافقه؟ يُوافقه ومأخوذٌ منه تفصيلًا، فالعمر مكتوب، رزق الإنسان وما يجمع مكتوب في اللوح المحفوظ ومكتوب بالتقدير العُمري؛ رزقه، وفي لفظٍ آخر: «أنَّ الملك يدخل على نطفة بعدما تمضي هذه المدة أو أقل منها، يقول: يا ربي، أذكرٌ أو أُنثى؟ فيُخبره الله فيكتب».

 ما الرزق وما الأجل وما الشقاوة والسعادة ويُكتب، رزقه كذا، أجله كذا، متى يعيش، متى يموت، كم يعيش؟ يعيش مائة سنة أو سنة أو شهر أو يموت في بطن أمه ويخرج ميت أو يموت طفلًا أو شابًا أو شيخًا أو كهلًا، مكتوب الرزق والأجل والعمل، ما هو عمله في هذه الدنيا؛ يعمل في كذا، يعمل في الزراعة، في الفِلاحة، في التجارة، في أي شيء. والشقاوة والسعادة، مكتوب هل هو شقيٌّ أو سعيد.

وأما أهل السعادة يُيَسَّرون للأعمال السعادة فيدخلون الجنة بالعمل الذي يُسِّر لهُ، وأهل الشقاوة يُيَسَّرون لعمل الشقاوة فيدخلون بالعمل الذي عملوه وهو عمل أهل الشقاوة، نسأل الله السلامة والعافية. هذا يُسمى التقدير العُمري.

التقدير الثالث/ التقدير الحَولي في الحَول: وهو ما يُقدَّر في ليلة القدر، ليلة القدر يُقدَّر فيها ما يكون في تلك السنة، من السنة للسنة؛ من حياةٍ وموتٍ وسعادةٍ وشقاوةٍ ورزقٍ وغير ذلك، لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر:1]، سُميت ليلة القدر لأنه يُقدَّر فيها ما يكون في تلك السنة، ولأنَّ لها قدرٌ وعِظَمٌ وشأنٌ، هذا تقديرٌ حولي سنوي.

الرابع/ التقدير اليومي: قال تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرحمن:29] كل يوم هو في شأن؛ يخلق، ويرزق، ويُحيي، ويُميت، ويُعِز، ويُذِل، ويُشقي، ويُسعِد، ويُجيب داعيًا، ويفكُ عانيًا، ويُغيثُ ملهوفًا.

هذه تفاصيلهم: التقدير العام في اللوح المحفوظ، التقدير العُمري، التقدير الحولي، التقدير اليومي. وهناك تفاصيل أخرى أيضًا قد.... من هذا، وكتابة الميثاق، أخذ الله الميثاق على بني آدم، جاء في حديث المولى تعالى: «مسح ظهر آدم، واستخرج ذريته وأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم فشهدوا ثم أعادهم».

وكذلك أيضًا من تفاصيل المقادير لما لقي موسى آدم وحاجَّهُ، قال: أنت آدم أبو البشر لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته؟ ألم تجد أن الله كتب عليّ قبل أن...بأربعين سنة: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾[طه:121]، «قالَ النبي -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى». يعني بَلغه من أعماله بالحُجة.

موسى ما لامَ على المعصية، لأن المعصية تاب منها، لامَ على المصيبة التي حصلت وهو إخراجه من الجنة، فاحتجَّ آدم من المصيبة المكتوبة، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.

قوله: (قبل أن... بأربعين سنة) هذا تفصيل، في الكتاب بأربعين سنة، ليس مكتوبًا في اللوح المحفوظ، لكن هذا تفصيل...، فلا بد من الإيمان بالقدر، ومن أنكر واحدًا من مراتب القدر كفر؛ من أنكر العلم كفر، من أنكر الكتابة كفر، من أنكر المشيئة كفر، من أنكر الخَلق كفر. لا بد من الإيمان بهذه المراتب كلها، وهذه المراتب لا بد أن تحفظها: (العلم/ الكتابة/ المشيئة/ الخلق والإيجاد).

ومن أدلة... قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سُئل عن أطفال المشركين، قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، قال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾[الجاثية:23]، ولهذا قال ابن حفص: "عَلِم ما يكون قبل أن يخلقه".

وأمر الله –كما سبق- نوعان:

  • أمرٌ قدري.
  • وأمرٌ كوني شرعي.

مثلما جاء في سؤال البارحة: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾[الإسراء:16]، "أَمَرْنَا": يعني أمرًا قدريًا، لا شرعيًا، وهذا أمرٌ قدري.

والأمر الشرعي مثل: أمر الله تعالى بالعمل بالشريعة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[النحل:90].

وكذلك القول يكون قدري ويكون شرعي، قال الله تعالى لطائفة من الذين اصطادوا الحوت يوم السبت، قال: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾[البقرة:65]، فهنا قال الله قولًا قدريًا فكان فوقع، فالأمر يكون أمر قدري ويكون أمر شرعي؛ الأمر القدري مثل قوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس:82]، والأمر الشرعي: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾[النحل:90].

الأمر الشرعي: هو ما أمره وأحبَّه من الدين. والأمر القدري: قد يكون محبوبًا لله وقد يكون غير محبوب لله تعالى، ولا يكون إلا بمشيئة الله، كل شيء لا يكون إلا بمشيئة الله، والله تعالى قد يشاء شيئًا ولا يُحبه، وقد يُحب شيئًا ولا يقع، مثل: الله تعالى أحبَّ الإيمان من أبي بكر، أراد الإيمان من أبي بكر دينًا وشرعًا، وأراده كونًا وقدرًا فاجتمعا.

أراده كونًا وقدرًا وأراده دينًا وشرعًا فاجتمعا، وأراد الإيمان من أبي جهل شرعًا ولم يُرِده كونًا وقدرًا، فأيهما وقع؟ القدر، الأمر الكوني. أراد من أبي جهل الإيمان دينًا وشرعًا، لأن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ودعا الناس للإيمان، ولكنه أراد منه الكفر كونًا وقدرًا؛ لما له من الحكمة، فوقع الأمر الكوني، الأمر الكوني ما يتخلَّف والشرعي قد يقع وقد لا يقع، ويجتمعان الشرعي والقدري في حق المؤمن، وينفرد الكوني في حق الكافر.

من الحكمة أن الله تعالى أراد الكفر لما خلق الله إبليس، والكفر والشرور حِكم لِما ترتَّب على ذلك من الحِكم، فالله أرادها لما ترتَّب عليها من الحِكم، فلولا خلق الله للكفر والمعاصي لما وُجدت عبوديةٌ متنوعة؛ عبودية الجهاد في سبيل الله، لو كان الناس كلهم مؤمنين أين هذه العبودية؟ فالله خلق الشيطان، وخلق إبليس وخلق الكفر والمعاصي كونًا وقدرًا لما يترتب على ذلك مما هو محبوب لله. عبودية الجهاد في سبيل الله.

لولا خَلْق الله للكفر والمعاصي ما وُجدت عبودية الدعوة إلى الله، عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عبودية الحب في الله والبُغض في الله، عبودية الولاء والبراء، وهكذا. فالله تعالى له الحكمة البالغة، يريد شيئًا وهو لا يُحبه شرعًا، لكن لِما يترتب عليه من الحِكم، ولله المثل الأعلى؛ الطبيب إذا كتب للمريض دواءً مُرًّا علقمًا، وقال: اشرب هذا الدواء لأن فيه عافيتك بإذن الله، فالمريض يُقدم على شُرب الدواء ولا ما يُقدِم؟

يشرب، هل يُريده؟ هل يُحب هذا الدواء ولا ما يُحبه؟ ما يحبه ويكرهه، لكن لماذا يشربه؟ لِما يترتب عليه من الشفاء والعاقبة الحميدة، والله تعالى له الحكمة البالغة، فالله تعالى أراد الكفر وخلق المعاصي وهو لا يُريدها شرعًا ولا يُحبها، ويكره الكفر والكافرين، الله لا يحب الكافرين، ولكن أراد وقوعها لما يترتب عليها من الحِكم ولما يترتب عليها من العبوديات.

عبودية الجهاد في سبيل الله ترتبت على الخلق والكون، عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عبودية الولاء والبراء، عبودية الدعوة إلى الله، عبودية الحب في الله والبغض في الله، وهكذا، كل هذه العبوديات أرادها الله، ولولا خلق الله للكفر والمعاصي لما وُجدت هذه العبوديات.

المتن

قال: (وَأَن الْغَزْو مَعَ الْأَئِمَّة وَاجِب وَإِن جاروا.

وَقَالَ أحْمَد بن حَنْبَل -رَضِي الله عَنهُ-: وَأرى الصَّلَاة خلف كل بَرٍّ وَفَاجِر، وَقد صلى ابْن عمر –رضي الله عنهما- خلف الْحجَّاج (يَعْنِي الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ)، وَأَن الْفَيْء يُقسمهُ الإِمَام فَإِن تناصف الْمُسلمُونَ وقسَّموه بَينهم فَلَا بَأْس بِهِ، وَأَنه إِن بَطل أَمر الإِمَام لم يبطل الْغَزْو وَالْحج،

وأن الْإِمَامَة لَا تجوز إِلَّا بشروطها).

الشرح

الشيخ: نعم، يقول: (وَأَن الْغَزْو مَعَ الْأَئِمَّة وَاجِب وَإِن جاروا)، المراد بالأئمة هنا ولاة الأمور الغزو معهم وإن جاروا، يعني: ولي الأمر، الحكام الشرعي، الإمام، رئيس الدولة، الملك، رئيس الجمهورية، الخليفة، هذا هو الإمام.

الغزو مع غزو الكفار وإن جاروا، يعني قد يكون الإمام مثلًا مسلم، وهذا هو الأصل في أئمة المسلمين، لكن قد يكون مطيع وقد يكون عاصي، فقد يقع في بعض المعاصي، وقد يكون جائرًا وظالمًا، فهل تبطل إمامته بالجَور والظلم؟ لا. هل يجوز الخروج عليه بالمعاصي؟ لا يجوز، كما سيأتي، ما يجوز؛ لأنه يترتب على ذلك شرور وفتن كثيرة، والله تعالى علَّق بولاة الأمور مصالح، مصالح عظيمة علَّقها الله بولاة الأمور حتى ولو جاروا ولو ظلموا، ولو جاروا أو ظلموا وعندهم بعض المعاصي، لكن ما يدفع الله به من الشرور أعظم.

فيحصل بولاة الأمور التأمين، تأمين الطرق، ويحصل بهم إقامة الحدود، ويحصل بهم إنصاف المظلوم من الظالم، يحصل بهم الأمن واستتباب الأمن، والمصالح العظيمة للناس في أحوالهم التجارية والزراعية والتعليمية وغير ذلك، فهذه مصالح عظيمة تحصل بولاة الأمور، وأما الجور والظلم فهذا يخصه.

ولهذا يقول المؤلف: (وَأَن الْغَزْو مَعَ الْأَئِمَّة وَاجِب وَإِن جاروا)، وإن ظلموا، ولو كانوا ظلمة فالغزو لا بد أن يكون مع الإمام، ما يمكن غزو بدون إمام، فالإمام هو الذي يُنظِّم الغزو لقتال الكفار، ولو كان عندهم بعض المعاصي، ما يضر، فالمعصية تخصه، لكن هذا الغزو يتعلق بالشر.

وكذلك الحج يُقيمه الإمام، ولو كان عنده بعض النقص، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة؛ أن الغزو مع الأئمة وإن جاروا وظلموا، ولا يجوز الخروج عليهم ولا قتالهم للمعاصي، ولكن نصيحة مبذولة من قِبَل أهل الحَل والعَقد من قِبل أهل العلم، فإن قَبِل فالحمد لله، وإن لم يقبل فقد أدَّيت ما عليك، فالله تعالى هو الذي يُحاسب الجميع، لكن أنت لا يجوز أن تخرج على الإمام، ولا تنزع يد من الطاعة ولو جاروا ولو ظلموا، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة خلافًا لأهل البدع.

فأهل البدع لا يرون الغزو مع الإمام، ولا يرون السمع والطاعة مع الإمام إذا جار وظلم؛ إذا جار وظلم وأوحى بالمعصية عند الخوارج يجب خلعه وقتله وإخراجه م الإمامة لأنه كفر، وهذا مذهب باطل؛ لأن الخوارج أخذوا النصوص التي وردت في الكفار وجعلوها في العُصاة، فالخوارج يرون أن الإمام إذا عصى أو فسق أو جار وجب قتله وإخراجه من الإمامة لأنه كفر، وهذا باطل.

وكذلك أيضًا المعتزلة يرون أن الإمام إذا فسق أو عصى خرج من الإيمان ولم يُدخلوه الكفر، فهو بمنزلة بين منزلتين يُسمونه فاسق، لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة يُخلِّدونه في النار، متفقون مع الخوارج.

وكذلك الرافضة يرون أن الإمام إذا فسق وعصى يجب قتله وليس له إمامة، إلا إذا كان إمام معصوم من الأئمة الإثنى عشرية، فإمامته باطلة عند الرافضة. الرافضة يرون أئمة أهل السنة كلها باطلة وليس لهم إمامة، الإمامة تكون لإمام معصوم.

 فأهل السنة خالفوا أهل البدع، خالفوا الخوارج والمعتزلة والرافضة، فقال المؤلف: (وَأَن الْغَزْو مَعَ الْأَئِمَّة وَاجِب وَإِن جاروا)، وإن ظلموا يكون معهم الغزو ويُقام معهم الجهاد، ويُقام معهم الحج، ولا يجوز الخروج عليهم ولا قتالهم ولا التأليب عليهم ولا أيضًا الدعوة إلى الخروج في المنابر أو في غيرها، بل يجب الصبر.

 وجاء في النصوص: «مَن رَأَى من أمِيرِهِ شيئًا يَكْرَهُهُ فلْيَصْبِرْ عليه؛ فإِنَّهُ مَن فارِقُ الجَماعةَ شِبْرًا فمات فمَيتتهُ جَاهِلِيَّةً»، وقال: «عليك بالسمع والطاعة وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك»، وقال علي: «ومَن يُطِعِ الأمِيرَ فقَدْ أطَاعَنِي، ومَن يَعْصِ الأمِيرَ فقَدْ عَصَانِي»، والنصوص في هذا كثيرة؛ أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي.

قال العلماء: الحكمة من ذلك أن الخروج على الأئمة وولاة الأمور يترتب عليه مفاسد منها: اختلال الأمن، اختلال الزراعة، اختلال التجارة، اختلال التعليم، تدخل الأعداء، والحروب والفتن والقتال، وإراقة الدماء، وتحصل فتن تقضي على الأخضر واليابس لا أولَ لها ولا آخر. وهذه مفاسد عظيمة، أما كونه عنده جور أو ظلم فهذه مشكلة صغيرة تُرتكب، إذا اجتمع مَفسدتان كبرى وصغرى أيهما تُرتكب؟ لا بد من واحدة منهما فأيهما تُرتكب؟ الصغرى وتدع الكبرى.

أين الصغرى؟

الصغرى الآن: مفسدة كونه عنده بعض المعاصي أو جور أو ظلم، هذه بسيطة، لكن مفاسد الخروج عليه يترتب عليه إراقة الدماء، والحروب والفتن، ويترتب عليه تدخل الأعداء، فالمفاسد كبيرة، فتُترك هذه المفاسد، وتُرتَكب المفسدة الصغرى.

 هذه عقيدة أهل السنة والجماعة؛ الصبر على جور ولاة الأمور لما يترتب على الخروج من المفاسد الكبيرة، ولأن النصوص جاءت بهذا، ولمخالفة أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والروافض، فالغزو والحج يُقام مع الإمام، فرضان يتعلقان بالسفر مع الأئمة وولاة الأمور في كل زمان وفي كل مكان وإن جاروا وظلموا، يُصبَر على جورهم وظلمهم، فجورهم خاصٌ بهم.

 ولا يُنفى أن يكون في هذا نصيحة مبذولة من قِبل أهل الحل والعقد ومن قِبل أهل العلم، يُبينوا لهم فإن قبلوا فالحمد لله، وإن لم يقبلوا فقد أديت ما عليك، ولهذا لما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوم، قال: «إنه يكون علينا ولاة لا يُعطون لنا حقنا، فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: أعطوهم حقهم واسألوا الله الذي لكم»، أنت الذي عليك تؤديه، والذي لك تسأل الله.

(وَقَالَ أحْمَد بن حَنْبَل -رَحِمَهُ اللهُ-: وَأرى الصَّلَاة خلف كل بَرٍّ وَفَاجِر، وَقد صلى ابْن عمر خلف الْحجَّاج (يَعْنِي الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ))، هذه كذلك مسألة الصلاة خلف الأئمة؛ مذهب أهل السنة والجماعة أنه يُصلَّى خلف الإمام، خلف كلِّ بَرًّ وفاجر ولا سيما الجمعة والعيدين، فإمام المسلمين يُصلى خلفه ولو لم يكن عادلًا.

 وكذلك أيضًا في البلد الجمعة والعيدين وليس فيها إلا جمعة واحدة وإمامها فاسق أو عاصي، تُصلي الجمعة خلفه ولا ما تُصلي أو تُصلي في البيت؟ لا، تُصلي خلفه، ومن صلى في بيته مُبتدع، أما إذا وُجد مساجد أخرى، وكذلك لو لم يجد إلا مسجد واحد وإمامها فاسق نُصلي خلفه، أما إذا وُجد مساجد كثيرة فنُصلي خلف العَدْل، ما نُصلي خلف الفاسق إلا إذا ترتب عليه مفسدة.

يعني لو لم تُصلي خلف هذا الفاجر ترتب عليه مفسدة وانشقاق ونِزاع فتُصلي خلفه، أما إذا لم يترتب عليه مفسدة فتُصلي خلف العدل، تبحث عن العدل، شوفت اثنين واحد فاسق وواحد مُطيع، فأيهما تُصلي خلفه؟ العدل إذا ما ترتب عليه مفسدة.

أما إذا كان ما يُوجد إلا هذا الإمام في هذا البلد فمن صلى في بيته وترك الصلاة خلفه فهو مبتدع، مُخالف لأهل السنة والجماعة، نُصلي؛ فمصلحة الجماعة والائتلاف خيرٌ من الفُرقة والاختلاف.

فإذا كان الجمعة ما فيها إلا جمعة أو العيدين كذلك ما فيها إلا إماما وإمامها غير عادل يُصلَّى خلفه، أما إذا وُجد أئمة مُتعددين فهذا فيه تفصيل؛ إن كان يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة تُصلي خلفه، وإن كان لا يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة فأنت لا تُصلي خلفه، صلِ خلف العدل، بحمد لله هذه جماعة وهذه جماعة، وهذا إمام وهذا إمام، ووجدت إمام عادل وما فيه مفسدة تُصلي خلف العادل.

والصحابة –رضوان الله عليهم- صلوا خلف الحجاج وكان فاسقًا ظالمًا؛ الحجاج بن يوسف أمير العراق أسرف في القتل، قتل ما لا يُحصى من الخلق ومع ذلك الصحابة صلوا خلفه لأنه أمير، فصلى ابن عمر خلف الحجاج وكان فاسقًا ظالمًا (يعني الجمعة والعيدين).

وفي الحديث: «صلوا خلف كل بر وفاجر»، والحديث وإن كان فيه ضعف، لكن.... وصلى الصحابة خلف الوليد بن عُقبة بن مُعيط وكان سكران، صلى بهم صلاة الفجر وما يعلمون أنه سكران، صلى بهم صلاة الفجر ركعتين ثم زاد وصلى بهم أربعة ثم التفت فقال: "هل تريدون أن أزيدكم؟ فقالوا: ما زلنا معك من اليوم في زيادة"، وعرفوا أنه سكران وأعادوا الصلاة وشُكي إلى عثمان -رضي الله عنه- فجلده، أقام عليه حد الجلد لشارب الخمر.

والشاهد من هذا: أن الصحابة صلوا خلفه وهو فاسق لأنه أمير البلد، فالفاسق يُصلى خلفه إذا لم يترتب عليه مفاسد.

فالشاهد: أن عقيدة أهل السنة والجماعة: الصلاة خلف كل بر وفاجر، إذا لم يُوجد غيره أو ترَتَّب على ترك الصلاة خلفه مفسدة، أما إذا وُجد غيره ولا يترتب عليه مفسدة فهذا لا بأس، وكذلك الجمعة والعيدين إذا لم يجد غيرهما.

قال -رَحِمَهُ اللهُ-: (وَقَالَ أحْمَد بن حَنْبَل -رَحِمَهُ اللهُ-: وَأرى الصَّلَاة خلف كل بَرٍّ وَفَاجِر، وَقد صلى ابْن عمر خلف الْحجَّاج (يَعْنِي الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ)).

قال: (وَأَن الْفَيْء يُقسمهُ الإِمَام فَإِن تناصف الْمُسلمُونَ وقسَّموه بَينهم فَلَا بَأْس بِهِ)، الفيء: هو المال الذي يأخذه المسلمون من الكفار؛ إذا كان عن قتل يُسمى غنيمة، وإذا كان بدون قتال (تركوه) هذا يُسمى فيء.

إذا كان غنيمة بعد القتال فيُؤخذ الخُمس ويُقسَّم خمسة أصناف: خُمس لله ولرسوله، خُمس لقرابة الرسول، خُمس لليتامى، وخُمس للمساكين، وخُمس لابن السبيل، وأربعة أخماس تكون للغانمين، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[الأنفال:41].

أما الفيء فهو الذي يتركه المسلمون بدون قتال وهذا يكون لولي الأمر يصرفه في مصالح العامة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾[الحشر:6]، فالفيء من الذي يقسمه؟ ولي الأمر، قال: (وَأَن الْفَيْء يُقسمهُ الإِمَام فَإِن تناصف الْمُسلمُونَ وقسَّموه بَينهم فَلَا بَأْس بِهِ)، هذا يحتاج إلى دليل، ففي الغالب أنه لا يتناصف بينهما، هذا مرجعه إلى ولي الأمر، كما نصَّ الله تعالى في: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[الحشر:7]، فهو موكول إلى ولي الأمر. يقول: (فَإِن تناصف الْمُسلمُونَ وقسَّموه بَينهم فَلَا بَأْس بِهِ) هذا يحتاج إلى دليل.

ثم قال: (وَأَنه إِن بَطل أَمر الإِمَام لم يبطل الْغَزْو وَالْحج)، والعلماء يقولون: الغزو ماضيًا مع الأمراء إلى يوم القيامة أبرارًا كانوا أو فُجَّارًا، يعني نُجاهد مع الأئمة ولاة الأمور سواء كانوا أبرار أو فُجار، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وخالفوا فيه الخوارج من البدع، والعلماء ذكروا هذا في كتب السنة.

 قال أي زمنين في [أصول السنة]: (وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ اَلسُّنَّةِ إِنَّ اَلْحَجَّ وَالْجِهَادَ مَعَ كُلِّ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَقَدْ فَرَضَ اَللَّهُ اَلْحَجَّ فَقَالَ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[آل عمران:97]، وَأَعْلَمَنَا بِفَضْلِ اَلْجِهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَدْ عَلِمَ أَحْوَالَ اَلْوُلَاةِ اَلَّذِينَ لَا يَقُومُ اَلْحَجُّ وَالْجِهَادُ إِلَّا بِهِمْ فَلَمْ يَشْتَرِطْ وَلَمْ يُبَيِّنْ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾[مريم:64].

قال زُهير بن عبَّاد: "كَانَ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ اَلْمَشَايِخِ: مالك، وسفيان، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، ووكيع، كلهم كانوا يحجون مع كل خليفة".

المقصود من قول المؤلف: (وَأَنه إِن بَطل أَمر الإِمَام لم يبطل الْغَزْو وَالْحج)، هذا فيه نَظر، أمر الإمام ما يبطل، كيف يبطل؟ الغزو والحج مع الإمام، كيف بَطلَ أمر الإمام والحج والغزو ما يبطل؟ هذه العبارة فيها إشكال؛ إذا بَطل أمر الإمام معناه أنه ما صار إمام فكيف يكون معه الغزو والحج؟ الإمام ما يبطل أمر ولا يجوز الخروج عليه، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.

إبطال أمر الإمام هذا عند أهل البدع الخوارج والمعتزلة، أبو الفضل.... كان يحكي عن الإمام أحمد شيئًا يعتقده هو وقد يكون أخطأ هو في فهمه، فقوله: (وَأَنه إِن بَطل أَمر الإِمَام لم يبطل الْغَزْو وَالْحج) يعني الجملة الأولى كأنها تنقض الجملة الثانية، ما يمكن أن يبطل أمر الإمام، أمر الإمام باقي، وإذا بَطل أمر الإمام ولم يكن إمام كيف يكون معه الغزو والحج وقد بطل أمره؟ لا يمكن.

نقف على الإمامة (وأن الْإِمَامَة لَا تجوز إِلَّا بشروطها)... إن شاء الله صباح السبت، وغدًا ما في درس.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد