شعار الموقع

شرح كتاب اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل_16

00:00
00:00
تحميل
91

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على آله وصحبه أجمعين، أما بعد...

فنبدأ –بعون الله تعالى- درسنا هذا الصباح.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآله وأصحابه. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:

المتن

 (وَكَانَ يَأْمر بِالْكَسْبِ لمن لَا قوت لَهُ، وَيَأْمُر من لَهُ قوتٌ بِالصبرِ ويجعله فَرِيضَة عَلَيْهِ).

الشرح

الشيخ: بسم الله، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:

(وَكَانَ يَأْمر بِالْكَسْبِ)، قبل هذا، بالأمس كان الكلام على كرامة الأولياء ومعجزات الأنبياء، ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-، قال: (وَيُفرَّق بَينهَا وَبَين المعجزة؛ وَذَلِكَ أَن المعجزة تُوجب التَّحَدي إِلَى صدق من جرت على يَدي وليٍّ وكتمها وأسرَّها، وَهَذِه الْكَرَامَة وَتلك المعجزة)، يعني خارق العادة الذي يجري على يدي نبي هذا يُسمى معجزة وهو أنه يتحدَّى، بخلاف الولي فإنه لا يتحدى؛ يعني يتحدى أن يأتي بشرٌ مثله، كالعصا لموسى فإنه تحدّى السحرة وغيرهم بأن يأتوا بمثله فما استطاعوا. وأما الكرامة فإنها دون المعجزة، فلا يتحدى.

قال: (وينكر على من رد الكرامات ويضلله)، وهم المعتزلة؛ فالمعتزلة أنكروا الكرامات، فكان الإمام يُنكِر عليهم ويقول: هذا من الضلال.

نعم، وهذا حق؛ فإن الكرامة حق تجري على يد ولي، فكيف يُنكرون شيئًا محسوسًا وواقعًا؟

ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (وَكَانَ يَأْمر بِالْكَسْبِ لمن لَا قوت لَهُ، وَيَأْمُر من لَهُ قوتٌ بِالصبرِ ويجعله فَرِيضَة عَلَيْهِ)، من ليس عنده نفقة يُنفق على أهله يُؤمر بالكسب حتى لا يكون عالةً على غيره، ولا يمد يده للناس وهو يستطيع الكسب، فإن الإنسان إذا كان يسأل الناس تَكثُّرًا أو يسأل الناس وهو يستطيع فإنه محرمٌ عليه، وجاء الوعيد الشديد على من سأل الناس كثرًا، قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «مَن سَأَلَ النَّاسَ أمْوالَهُمْ كَثُرًا، فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ»، وقال في الحديث الآخر: «المَسْأَلَةُ كُدُوحٌ في وجْهِ صاحِبِها»، وقال: «لا يَزَالُ الرَّجُلُ يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ وليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ الذي يَسْأَلُ ويشحذ النَّاسَ وهو يستطيع»، يستطيع الكسب، عنده قدرة على الكسب.

«ولما جاء رجلان للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يطلبان من الزكاة، نظر إليهما فرآهما جَلدَيْن (يعني: نشيطين قويين)، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسِب»، لا حظ للزكاة لغني ولا قوي مُكتسِب؛ فالغني يكتفي بما عنده من المال، والقوي المكتسِب يكسِب ويعمل ويشتغل، أما يكون عالة يمد يده للناس؟!

وفي الحديث الآخر قال: «اليدُ العُليا خيرٌ من اليدِ السُّفلَى»، فاليد العُليا هي اليد المعطية، واليد السُّفلى هي اليد الآخذة، فمن كان يستطيع الكسب وما عنده مال يُنفق على أهله يُؤمر بالكسب، ومن كان عنده مال يكفيه فإن شاء اكتسب وإن شاء لم يكتسب.

قال: (وَيَأْمُر من لَهُ قوتٌ بِالصبرِ ويجعله فَرِيضَة عَلَيْهِ)، مُحتمل أنها هكذا: "من لا قوت له ولا يستطيع الكسب"، ويحتمل العبارة: "ويأمر من لا كسب له بالصبر ويجعله فريضةً عليه"؛ يعني: من يستطيع الكسب يأمره بالكسب، ومن لا يستطيع الكسب يُؤمر بالصبر.

ويأمر من لا قوتَ له، يعني لكونه لا يستطيع الكسب، والأغلب أنها: "كان يأمر بالكسب لمن لا قوت لها، ويأمر من لا كسب له بالصبر ويجعله فريضةً عليه"، فرضٌ عليه أن يصبر، والصبر: معناه حبس النفس عن الجذع وحبس اللسان عن التَّشكي وحبس الجوارح عما يُغضِب الله عَزَّ وَجَلَّ.

 المتن

(وَكَانَ يَقُول: إِن بعض النَّبِيين أفضل من بعض، وَإِن بني آدم أفضل من الْمَلَائِكَة، ويُخطِّئ مَن يُفضِّل الْمَلَائِكَة على بني آدم).

الشرح

الشيخ: نعم، (وَكَانَ يَقُول: إِن بعض النَّبِيين أفضل من بعض) وهذا دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾[الإسراء:55].

وقال الله سبحانه: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾[البقرة:253].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر»، فالأنبياء يتفاوتون، وأفضل الأنبياء أولو العزم الخمسة وهم: (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد) هؤلاء أولو العزم، لهم من القوة والتحمل ما ليس بغيرهم، وقد أُمِر نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهم، فقال الله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾[الأحقاف:35].

 وذكرهم الله تعالى في آيتين من كتابه؛ في آية الأحزاب قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾[الأحزاب:7]، وذكرهم أيضًا في سورة الشورى، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13].

 فهؤلاء أولو العزم الخمسة أفضل الرسل، وأفضل أولو العزم الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام؛ فإنَّ لهما من العلم والحال والكمال ما ليس بغيرهما، وقد قاما بما أعطاهما الله من النبوة والرسال حالًا وعلمًا ومعرفةً بما لم يقم به غيرهما. وأفضل الخليلين: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل الناس على الإطلاق، قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر»، ثم يليه في الفضيلة جده إبراهيم، ثم يليه موسى الكليم، ثم يليه بقية أولو العزم (نوح، وعيسى)، ثم يليهم بقية الرسل، ثم يليهم الأنبياء الذين لم يُرسلوا وهم الأنبياء الذين كُلِّفوا بالعمل في شريعةٍ سابقة ولم يُرسلوا إلى أمةٍ كافرة.

فالرسول هو الذي يُرسل لأمة عظيمة كافرة فيؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم، مثل: موسى، وعيسى، ونوح، وإبراهيم، ومحمد، وصالح، وهود، وشُعيب؛ هؤلاء هم الرسل. وأما الأنبياء هم الذين يُكلَّفون بالعمل بشريعةٍ سابقة كأنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى كُلِّفوا بالعمل بالتوراة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾[المائدة:44]، مثل: داوود، وسليمان، وزكريا، ويحيي، وهؤلاء الأنبياء.

فالأنبياء يَلون الرسل في المرتبة، ثم يلي الأنبياء في الفضيلة الصِّديقون، جمع صِدِّق، والصِّديق: (فِعِّيل) صيغة مبالغة، وهو الذي قَوَّىَ إيمانه وتصديقه حتى أحرق الشبهات والشهوات، فلا يُصر على معصية، وفي المقدمة الصِّديق الأكبر أبو بكر، صِدِّيق هذه الأمة، فإنه أفضل الناس بعد الأنبياء.

 ثم يلي الصِّديقين في المرتبة الشهداء، جمع شهيد، والشهيد: هو الذي قُتل في المعركة لإعلاء كلمة الله، جاهد في سبيل الله ولإعلاء كلمته فقُتِل، فالشهيد باع نفسه لله وقدَّم روحه رخيصة لإعلاء كلمة الله، أغلى ما يملك الإنسان روحه التي ما بين جنبيه، فالشهيد قدَّمها لله، فعوَّض الله روحه أو جسده الذي أتلفه بالله جسدًا آخر يتنعم.... وهي حواصل طير خضر، ويجري عليه عمله الذي مات، عليه عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من الفتَّان.

قيل: يا رسول الله، هل يُفتتن الشهيد؟ (يعني يُسأل في....)، فقال النبي: "كفى بالسيف بارقةً على رأسه فتنة"، يكفيه هذا. والشهيد تتنعم روحه بواسطة حواصل طير خُضر، قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة؛ تَرِد أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش»، وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها بدون واسطة؛ تأخذ شكل طائر كما في الحديث: «نسمةُ المؤمنِ طائرٌ تعلَّقَ في شجرِ الجنةِ، حتى يُرْجِعَه اللهُ تعالى إلى جسدِه يومَ يبعثُه»: (نسمة المؤمن: يعني روحه)، فالمؤمن إذا مات نُقلت روحه إلى الجنة ولا صلة لها بالجسد، والكافر إذا مات نُقلت روحه إلى النار ولا صلة لها بالجسد، والمؤمن غير الشهيد روحه تتنعم وحدها وتأخذ شكل طائر.

والمؤمن الشهيد تتنعم روحه بواسطة حواصل طير خضر، فَتَنَعُّم الشهيد أكمل. ثم يلي الشهيد في الفضيلة سائر المؤمنين وهو يتفاوتون؛ منهم السابقون المقربون، ومنهم أصحاب اليمين ومنهم الظالمون لأنفسهم.

قال الله -سُبْحَانهُ وتَعَالَى-: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾[النساء:69]، هذا ترتيبهم في الفضل، فالأنبياء يتفاوتون كما قال المؤلف: (وَكَانَ يَقُول: إِن بعض النَّبِيين أفضل من بعض).

 وقد ورد في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ»، وقال: «لا تُفَضِّلوني على يُونُس بن مَتَّى»، وقال: «من قال: أنا خيرٌ من يونُسَ بنِ متَّى، فقد كَذَب»، فكيف نجمع بينها وبين قول النبي: «أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر» وهو قال: «لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ»؟

قيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ»، «لا تُفَضِّلوني على يُونُس» قبل أن يعلم أنه أفضل الأنبياء، فلما أعلمه الله قال بعد ذلك: «أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر»، هذا أحد الأقوال.

وقيل: النهي عن التفضيل إذا كان يؤدي إلى التنقيص لأحدٍ من الأنبياء، ومن تَنَقَّصَ نبيًا فهو كافر, وقيل: إن النهي على سبيل التواضع، قاله تواضُعًا، قال: «لاَ تُفَضِّلُوني على الأَنْبِيَاءِ» من باب التواضع، أو قال قبل أن يعلم أنه أفضل الناس ثم أُعْلِم، أو قاله خشية أن يؤدي ذلك إلى تَنَقُّصَ أحدٍ من الأنبياء؛ ولهذا قال: «من قال: أنا خيرٌ من يونُسَ بنِ متَّى، فقد كَذَب».

أو قيل: لأن النهي عن التفضيل لمن في نفس النبوة، وأما التفاوت فهو من الخصائص، لا في دائرة الأنبياء. وقيل أنه نهى عن التفضيل لأنه يؤدي إلى الخصومة ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن يهوديًا قال في المدينة: "والذي اصطفى موسى على العالمين"، فجاء صحابيٌّ ولطم خد اليهودي، فجاء اليهودي إلى النبي يشتكيه وقال: "إن واحدًا من أصحابك لطم خدي"، فاستدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لمَ لطمت وجهه؟ لما قال اليهودي: "والذي اصطفى موسى على البشر"، قال: أتقول هذا يا عدو الله ورسول الله بين أظهرنا؟ ثم لطمه، فاشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لمَ لطمت وجهه؟ فقال: يا رسول الله، قال: "والذي اصطفى موسى على البشر"، فقال: «لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ»، وفي لفظ: «لا تفضلوني على موسى؛ فإن الناس يُصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جُوزيَ بصعقة يوم الطور».

فنهى لئلا يؤدي إلى الخصومة والنزاع؛ وعلى كل حال فالأنبياء يتفاضلون بنص القرآن، لا شك أنهم يتفاضلون كما في القرآن وفي السنة.

ومن ضمن قول المؤلف: (وَإِن بني آدم أفضل من الْمَلَائِكَة، ويُخطِّئ مَن يُفضِّل الْمَلَائِكَة على بني آدم)، هنا المراد بــــ (بني آدم): المؤمنون، أما الكفار فلا، فلا يكون الكفار أفضل من الملائكة، فلو قال: "إن المؤمنين أفضل من الملائكة"، ما يقول: "بني آدم"؛ فقول: "بني آدم" عام وهو يشمل المؤمنون والكفار، وإنما يُقال: "بنو المؤمنون أفضل من الملائكة".

وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم؛ هل المؤمنين والأنبياء أفضل أو الملائكة أفضل؟ ثلاثة أقوال:

  • القول الأول/ أن الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة، وهذا يُنسب لأهل السنة.
  • والقول الثاني/ أن الملائكة أفضل من الأنبياء وصالح البشر، وهذا يُنسب إلى المعتزلة وبعض المؤمنين.
  • والقول الثالث/ القول بالتوقف، نتوقف، لا نقول: هؤلاء أفضل ولا هؤلاء أفضل.

وهذه المسألة هل تكلم الإمام أحمد فيها؟ من كلام المؤلف أنه تكلَّم، وهذه المسألة بحَثَها شارح الطحاوية ابن أبي العز، يعني: هل الأنبياء وصالح البشر أفضل أو الأنبياء أفضل؟ ونقل عن تاج الدين الفزاري، قال: "اعلم أن هذه المسألة وهي تفضيل الأنبياء وصالح البشر على الملائكة، قال: اعلم أن هذه المسألة من بِدع علم الكلام التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة ولا يتوقف عليها أصلٌ من أصول العقائد".

يقول: لا، ماذا يتوقف عليها؟ هذا أفضل ولا هذا أفضل؟ ماذا يترتب عليها؟

"ولا يتعلق بها أمرٌ من الأمور الدينية كبيرٌ من المقاصد؛ ولهذا خلا عنها طائفةٌ من مُصنفات هذا الشأن"؛ خلا من هذه المسألة مؤلفات بعض العلماء، وامتنع من الكلام عنها جماعةٌ من العِيان، وكل من تكلم فيها من العلماء الظاهر بعلمه لم يخلو كلامه عن ضعفٍ واضطراب.

قال: "ونحن كذلك نتبع هؤلاء الأعلام ولا نتكلم فيها، والواجب علينا أن نؤمن بالملائكة على ما أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- به، ولم يطلب منّا أكثر من هذا في هذا الباب من العقائد"، هكذا قال بعض العلماء، وقال شارح الطحاوية: "ولولا أن بعض الناس... (وذكر شارح الطحاوية أقوال، لما ذكر أقوال ذكرَ أدلة هؤلاء، ذكر أدلة من يقول: إن الأنبياء وصالح البشر أفضل، ثم ذكر أدلة من يقول: أن الملائكة أفضل)، ثم قال: إن هذه المسألة من فضول الكلام، ولولا أن بعض الناس يُسيئوا الأدب مع الملائكة ويقول: إنهم خُدَّام بني آدم، لما حرَّكتُ في ذلك قلمًا"، وهذه المسألة ما تكلَّم فيها. هذا كلام مَن؟ شارح الطحاوية.

لكن بحث هذه المسألة شيخ الإسلام/ ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- وقال: "كنتُ أظن أنها من فضول الكلام سابقًا، ثم تبيَّن لي أنها مسألةٌ أثريةٌ سلفيةٌ صحابيةٌ، واتجهت الهمة إلى القول فيها"، ورجَّح شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- أن الأنبياء وصالح البشر أفضل في ثاني الحال؛ يعني بعد دخولهم الجنة، إذا هُذِّبوا ونُقُّوا ستكون حالهم أفضل، فهم أفضل ميزان البشر.....، إذا هُذِّبوا ونُقُّوا ودخلوا الجنة تكون حالهم أفضل من حال الملائكة، وقال: "إن هذه المسألة أثريةٌ سلفيةٌ صحابيةٌ" لأن فيها أثار وتكلَّم فيها اسلف لا كما يقول شارح الطحاوية.

وعلى هذا فيكون الأنبياء وصالح البشر أفضل في ثاني الحال، لكن ما يُقال: أنهم أفضل في الدنيا أو في أول الأمر في موقف القيامة، يحتاج إلى تطهير، لا يزال الإنسان يُمتَحن؛ فإذا مات يُمتَحن ويأتيه الفتَّانان (منكر ونكير) ويسألوه: من ربك وما دينك؟ وفي موقف القيامة يكون فيه امتحان، وعلى الصراط كذلك، وقد يكون في قِصاص بينه وبين غيره بعدما تجاوز الصراط في القنطرة، ثم فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا ودخلوا الجنة صارت حالهم في هذه الحال أحسن من حال الملائكة، فيكون في هذه الحالة الأنبياء وصالح البشر أفضل إذا هُذِّبوا ونُقُّوا ودخلوا الجنة. هكذا قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ.

أما ما قال هنا: (وَإِن بني آدم أفضل من الْمَلَائِكَة)، (بني آدم) عام، يشمل الكفار والمسلمين، وإنما يُقال: صالح البشر أو المؤمنين، ما يُقال: (بني آدم)، (بنو آدم) شامل للمؤمنين وغير المؤمنين.

المتن

(وَيَقُول: إِن الْوَصِيَّة قبل الْمَوْت أَخذًا بالحزم للقاء الله عز وَجل).

الشرح

الشيخ: يعني يُستحب للإنسان أن يُوصي قبل الموت، والوصية قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة؛ تكون واجبة إذا كان الإنسان عليه أو له حقوق للناس، فيجب أن يُوصي ويكتب وصيته، ويقول: "فلان له عليّ كذا، وفلان لي عليه كذا، فلان له عليّ كذا من الديون" حتى يعلم الورثة وحتى لا تضيع الحقوق.

أما إذا لم يكن عليه ولا له فتكون مُستحبة، ثبت في الحديث عن عبد الله بن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رأسهِ»، قال ابن عُمر -رضي الله عنه-: فما مرت عليّ ليلتين بعدما سمعت هذا الحديث إلا ووصيتي مكتوبة عند رأسي.

«مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رأسهِ»، فالوصية إما واجبة وإما مُستحبة؛ فهي واجبة إذا كان عليه حقوق أو له حقوق للناس حتى لا تضيع الحقوق، وإذا لم يكن له ولا عليه صارت مستحبة، يُوصي بشيءٍ من ماله...... الربع أو الثلث في أعمال البر والخير، أو يُوصي مثلًا أهله وأولاده بتقوى الله، يُوصي مَن يقوم على أولاده الصغار وعلى تزويج بناته، تكون مستحبة.

(وَيَقُول: إِن الْوَصِيَّة قبل الْمَوْت أَخذًا بالحزم للقاء الله عز وَجل)، هذا هو الحزم، أما الإهمال والترك هذا يُنافي الحزم، هذا ضعف، لكن الحزم والنشاط والقوة أن يكتب الوصية فتكون موجودة حتى يعلم الناس ويعلم الورثة ما له وما عليه وما يُريد، هذا هو الحزم، حتى يلقى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقد برأت ذمته وأيضًا وقد قدَّم لنفسه خيرًا، في الحديث: «إنَّ اللهَ تصَدَّقَ عليكم بعْدَ موتِكم بثُلُثِ أموالِكم».

فيجوز الإنسان أن يُوصي بالثلث أو الربع، ولا يتزكى من الثلث، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «قالَ: لو أنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إلى الرُّبُعِ، فإنَّ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- قالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»، إذا أوصى بالثلث يُنفَّذ، وإذا صار أكثر من الثلث لا يُنفَّذ إلا إذا وافق الورثة.

وابن عباس يقول: "والنفس أظلمت" إن كان بعض الصحبة يُوصي بالربع أو بالخُمس أو السدس إذا كان مالهم كثير، في أعمال البر وفي المشاريع الخيرية، فيُخرج الثُّلث أو الرُّبع ثم تُقسَم التركة على الورثة.

المتن

(وَيَقُول إِن التائب من الذُّنُوب كمن لَا ذَنْب لَهُ)

الشرح

الشيخ: نعم، التائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ من تاب توبةً نصوح بأن تاب لله وأقلع عن المعصية ونَدِم على ما مضى منها وعزم على ألا يعود إليها وردَّ المظلمة إلى أهلها إذا كانت بينه وبين الناس، وكانت قبل الموت وقبل أن تطلع الشمس من مغربها فكمن لا ذنب له، مُحِيَ ذنبه، «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»، ولا يُعيَّر بالذنب بعد التوبة.

 ولهذا تاب آدم -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فقَبِل الله توبته، قال الله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:37]. ولما لقي موسى آدم، تحاجا موسى وآدم، فقال موسى لآدم: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيكَ من روحه، وأسْجَدَ لك ملائكته، وعَلَّمكَ أسماء كل شيء؟ قال: نعم. قال: فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: ألم تجد أن الله كتب عليّ: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه:121] قبل أن يُقرَأ بأربعين سنة؟ قال: بلى، قالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. يعني بَلغه بالحُجة.

فموسى لامَ آدم على أي شيء؟ هل لامَهُ على الذنب؟ لا، ما لامَهُ على الذنب لأنه قد تاب منه والتائب لا يُلام، وإنما لامَ على المصيبة التي لحقتهم بخروجهم من الجنة، فاحتجَّ آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه. والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به، لكن الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي هذا ممنوع، ليس القدر حُجة على الذنوب وإذا كان القدر حُجة للذنوب، لصار حُجة للكفار؛ صار حُجة لقوم نوح وقوم هود، لكن ليس حُجة، لكن حُجة في المصائب.

 إذا صار للإنسان مُصيبة، قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون، قدَّر الله وما شاء فعل"، ليس بيدك شيء. وإذا فعلتَ الأسباب وجاءت المصيبة قل: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، لكن إذا وقعت في الذنب هناك حل، ما هو الحل؟ التوبة، فإذا قلتَ: إن الله قدَّر عليّ الذنب، نقول: وأيضًا قدَّر التوبة، ادفع قدر بقدر، الذنب مُقدَّر والتوبة مُقدَّرة، ادفع قدر التوبة بقدر المعصية.

 لكن المصيبة؛ مات ولده، أو ضاع ماله، أو حصل ما حصل له، فهذا ما فيه حيلة، ما فيه إلا التسليم للقضاء بــــ "إنا لله وإنا إليه راجعون، قدَّر الله وما شاء فعل"، تحتج بالقدر ما في مانع في المصائب، أما الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي فهذا ممنوع.

ولهذا جاء الإمام أحمد أنه قال: "من لقي الله بذنبٍ يجب له به النار تائبًا غير مُصرٍ عليه، فإن الله يتوب عليه، ويقبل التوبة من عبده ويعفو عن السيئات، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوَ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الشورى:25]، وقال -سبحانه وتعالى-:﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[النساء:17]، وقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «إنَّ اللهَ يَقبَلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ»، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوَ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الشورى:25].

المتن

(وَيَقُول: من كَانَ لَهُ ورد فَقَطعه خِفْتُ عَلَيْهِ أَن يُسلب حلاوة الْعِبَادَة. قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: سَمِعتُ أَحْمد بن حَنْبَل -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُول: "إِن أَحْبَبْت أَن يَدُوم الله لَكَ على مَا تُحب فَدُم لَهُ على مَا يُحب).

الشرح

الشيخ: وكان يقول: (من كَانَ لَهُ ورد فَقَطعه خِفْتُ عَلَيْهِ أَن يُسلب حلاوة الْعِبَادَة)، وِرد: يعني عمل صالح مُرتَّب مثل قيام الليل، كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل، هذا يُخشى عليه أن يُسلَب حلاوة العبادة. أو كان له وِرد من قراءة القرآن، يقرأ كل يوم جزء، يختم في كل شهر أو في كل نصف شهر ثم تركه، هذا وِرد، هذا قد يُخشى عليه أن يُسلَب حلاوة العبادة، فينبغي للإنسان أن يُداوم على ما تعوَّد من الخير.

ولو له صدقات يتصدق كل شهر أو يُطعم المساكين أو يعمل أعمال خيرية ثم قطعها وتركها، هذا يُقال له: وِرد، عملٌ صالح، يقول: (من كَانَ لَهُ ورد فَقَطعه خِفْتُ عَلَيْهِ أَن يُسلب حلاوة الْعِبَادَة)، يكون لها حلاوة لا يجدها إلا مَن داومَ على فعل الخير.

(قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: سَمِعتُ أَحْمد بن حَنْبَل -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُول: "إِن أَحْبَبْت أَن يَدُوم الله لَكَ على مَا تُحب فَدُم لَهُ على مَا يُحب)، إِن أَحْبَبْت أَن يَدُوم الله لَكَ على مَا تُحب من العافية والصحة وسعة الرزق والسلامة والخير فَدُم لَهُ على مَا يُحب وهو أن تُطيعه وتمتثل لأوامره وتجتنب نواهيه وتستقيم على طاعته، فَدُم لَهُ على مَا يُحب حتى يدوم الله لكَ على ما تُحب، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[الأعراف:96]، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)﴾[المائدة:65-66].

(قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: سَمِعتُ أَحْمد بن حَنْبَل -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُول: "إِن أَحْبَبْت أَن يَدُوم الله لَكَ على مَا تُحب فَدُم لَهُ على مَا يُحب)، يعني: دُم على الطاعة واستمر عليها حتى تبقى لك النعم؛ فإن النعم إذا شُكِرت شُكِرت بالطاعة، إذا شكرتَ النعم بقيت وإذا كفرتَ زالت، فالنعم تَقر بالشكر، وتفر بالكفر، فلا تكفر نعم الله، فَدُم للهِ على مَا يُحب يدوم لكَ على ما تُحب.

المتن

(وَكَانَ يَقُول: أهل الصُّفة أَعْيَان الصَّحَابَة).

الشرح

الشيخ: الصُّفة: غُرفة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يبيت فيها جماعة من فقراء المهاجرين منهم أبو هُريرة، ما لهم أهل ولا مال، غُرفة صغيرة في المسجد يبيتون فيها ما يقرب من سبعين من أهل الصُّفة وهم أضياف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء أو صدقات أو هدية يُعطي أصحاب الصُّفة، وكانوا فقراء حتى إن بعضهم له إزار وليس له رداء من شدة الفقر، عندهم إزار، قطعة قماش يشد بها النصف الأسفل، والنصف الأعلى مكشوف، ما عنده شيء من شدة الفقر.

جاء في الحديث الصحيح: أن امرأةً جاءت للنبي -صلى الله عليه وسلم- تهبُ نفسها له، وهذا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا﴾[الأحزاب:50]، فالنبي نظر فيها وصعد ثم عرض، فقال رجلٌ: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة؟ وكأنها ليس لها ولي أو أنها فوضت أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تُصدِقها؟ (هاتِ الصداق)، فقال النبي: التمس شيئًا في الصباح، فذهب....، قال: ما وجدت شيئًا يا رسول الله، فقال: التمس ولو خاتمًا من حديد، فذهب فلم يجد ولا خاتمًا من حديد، ثم جلس، فقال للنبي: أُعطيها إزاري هذا! ليس له رداء، فقير، ما عنده إلا إزار يشد به النصف الأسفل وليس له رداء.

 فقال النبي: إزارٌ كهذا إن لبسته لم يكن عليها من شيء وإن لبسته لم يكن عليك من شيء. كيف تُعطيها الإزار؟ الإزار خاصٌ بك الآن، إن لَبِسْتَه لم يكن لها عليها منه شيء، وإن لَبِسَتْهُ لم يكن عليك منه شيء! فجلس الرجل حتى طال انتظاره، والصحابة –رضوان الله عليهم- ينتظرون الحُكم وهم فيهم من قد يُعطيه، لكن الصحابة يريدون أن يعرفوا الحكم الشرعي للشخص الذي ما يجد، ماذا تكون حاله؟ وهذا صحيح برواية البخاري، قال سهلٌ: ما له رداء، ما عنده رداء يستر به كتفيه وصدره، ما يجد إلا إزار فقط.

فلما طال انتظاره قام، فأرسل له النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ماذا معكَ من القرآن؟ ماذا تحفظ من القرآن؟ قال: أحفظ سورة كذا وسورة البقرة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: زَوَّجْتُكها بما معك من اقرآن؛ يعني يكون الصداق أن يُعلِّمها سورة كذا أو آية كذا.

فأخذ العلماء من هذا أنه لا بأس بأن يكون الصداق منفعة إذا لم يكن مال، فالأصل أن يكون الصداق والمهر مال، قال الله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ﴾[النساء:24]، فإن لم يكن له مال فالمنفعة، يكون الصداق بأن يُعلِّمها ما يحفظ من القرآن، يُعلِّمها سورة كذا وسورة كذا أو يُعلِّمها آيات من الأحاديث، أو يُعلِّمها قصائد شعرية مفيدة أو يُعلِّمها مهنة، يُعلمها الخياطة أو الكمبيوتر مثلًا كمهنة، فلا بأس، المنفعة تكون مهر إذا لم يكن هناك مال وإلا فالأصل المال كما قال الله: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء:24].

فهذا حال الصحابة؛ سبعين م الصُّفة كلهم موجودين في غرفة في المسجد، بعضهم ما عنده مال، ما عنده رداء، وفي الحديث: أن الواحد منه إذا سجد يجمع إزاره بيده خشية أن تُرى عورته حتى...... وقيل للنساء، وكان تُصلي خلف الرجال وليس في حاجز بينهم: لا ترفعن رؤوسكن حتى يقوم الرجال...

 أهل الصُّفة أعيان الصحابة، ومعروفة القصة؛ قصة اللبن لما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له لبن، جاءه قدح من لبن هدية، جاء به أبو هريرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فالنبي دعا بهريرة ليشرب لبن، ففرِح أبو هريرة وكان فقيرًا، وجائع ما أكل لمدة، فقال: لعل النبي سيُعطيني من هذا اللبن لأشرب منه، فَرِح والنبي معروف أنه قد عَرِف، فقال النبي لأبا هُريرة: ادعُ أهل الصُّفة؟ فقال في نفسه: سبحان الله! هذا اللبن قليل، وأهل الصُّفة سبعين جياع، وكان الأَولى (يقول في نفسه) يُعطيه شَربة يتقوى بها، ولكن لا بد من الاستجابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاهم، وقال لأبي هريرة: أعطهم، وجعله يُعطيهم واحدًا بعد واحد، يُعطي هذا ويشرب، ثم يُعطي الثاني ويشرب... حتى شرب القوم كلهم.

هذه آية من آيات الله، كثَّر الله وبارك الله في هذا القدح، فهذه من المعجزات، مثل تكثير الطعام وتكثير الماء، حتى شربوا كلهم، فأخذ النبي..... ونظر إلى.... قال: يا أبا هريرة، بقي أنا وأنت، قال: صدقتَ يا رسول الله، قال: اشرب يا أبا هُريرة، فجعل يشرب ثم أعطاه، فقال: اشرب يا أبا هُريرة، فجعل يشرب ثم أعطاه، فقال: اشرب يا أبا هُريرة، فقلت: يا رسول الله، والله لا أجد له مسلكًا (خلاص، شبعت)، ثم النبي أخذه وسمَّى الله وشَرِب الفضلة عليه الصلاة والسلام.

هذه من آيات الله العظيمة، هذه قصة أصحاب الصُّفة فقراء المهاجرين، وكان يقول: «أهل الصُّفة أعيان الصحابة»، لهم منزلة عظيمة، بعد ذلك وسَّع الله عليهم، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما شبعنا من التمر حتى فُتحت خيبر"، وسع الله عليهم وبعد ذلك صار أبو هريرة أمير وكان له مزرعة بعد ذلك.

المتن

(وَكَانَ يَقُول: الصَّبْر على الْفقر مرتبَة لَا ينالها إِلَّا الأكابر).

الشرح

الشيخ: ورُوي عنه قال: «لا نعدل بالصبر على الفقر شيئًا»، يعني الصبر على الفقر مرتبة لا ينالها إلا الأكابر، لا شك أنه من وُفِّقَ للصبر فقد وُفِّق لخيرٍ عظيم، بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، والصبر هو حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التَّشَكي وحبس الجوارح عما يُغضب الله؛ يصبر ولا يتسخط، أما إذا كانت نفسه تتألم وتجزع أو يتكلم بما يُغضب الله أو يفعل ما يُغضب الله فهذا تَسَخُّط بقضاء الله.

فمن الأفعال التي يفعلها بعض الناس يلطم خده أو ينتف شعره أ يشق ثوبه، بعض البادية إذا أصابهم مصيبة شقَّت ثوبها.

 والنبي بَرِئَ من الحالقة والصالقة والشاقة؛ فالحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة، والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة.

وكذلك بعض الناس يتكلم بما يُغضب الله؛ فتجد بعض الناس إذا أصابته مصيبة، قال:...... أنا مُصلِّي وصائم والناس ما آتاهم شيء وأنا لماذا؟ هل تشتكي ربك؟ أنا مُصلِّي وصائم وأؤدي كل شيء، لماذا يحصل عليّ كذا؟ لماذا يحصل عليَّ المرض؟ لماذا أُصاب بهذه المصيبة؟ هذه شكوى للرب، هذا هو الجزع والتسخط، هذا يأثم....... احبِس لسانك عن التَّشكي، تشكي ربك؟! الله تعالى حكيمٌ عليم وله الحكمة البالغة، وأنت قد تُصاب بهذه المصيبة وتصبر فيرفعك الله درجات، فلا بد أن تحبس لسانك عن التشَّكي، وتحبس يدك؛ لا تلطم، لا تشق، وتحبس نفسك عن الجزع، فالصبر واجب على المصيبة والتسخط حرام.

وهناك مرتبة أعلى من الصبر وهي الرضا بالمصيبة، يرضى بها، يقول: لأن الله اختارها لي وأنا أختار ما يختاره وأرضى بما اختاره الله؛ إن الله حكيم عليم، فأنا راضي. يعني زيادة على الصبر راضي، عنده رضا، مُطمئن.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء نعي الأمراء الثلاثة: جعفر وصاحباه في غزوة مؤتة؛ جعفر وعبد الله بن رواحة وصاحبهما، جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر يُعرف بوجهه الحزن ونعاهم عليه الصلاة والسلام، ولما مات ابنه إبراهيم قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «إنَّ القَلْبَ يَحْزَنُ، والعَيْنَ تَدْمَعُ، وإنَّا لفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ».

وبعض العبَّاد لما مات ابنه ضحك، يعني قصده أنه ما يتسخط، فقال العلماء: حال النبي أفضل من حال هذا الشخص؛ فالنبي جلس وفي وجهه الحزن، يعني كونك أن يكون عندك حزن هذا ما يمنع، لكن الممنوع أن تتكلم بكلام يُغضب الله أو تفعل شيئًا يُبغضه الله، لكن كونك تحزن هذا أمرٌ طبيعي جِبِلِّي، فحال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أكمل من حال هذا العابد الذي ضحك.

قال العلماء: هناك حالة أيضًا أفضل من الرضا وهي الشكر؛ الذي يعتبر هذه المصيبة يشكر الله عليها لما له من رفع الدرجات وتكفير السيئات، هذا خيرٌ لي، درجاتٌ تُرفَع وسيئاتٌ تُكفَّر فهذه نعمة، فيشكر الله عليها، وهذه مرتبة لا ينالها إلا الخواص من عباد الله.

فأحوال الناس عند المصيبة أربعة:

  • الحال الأولى/ حال الجزع والتسخط: وهؤلاء آثمون....
  • الثانية/ الصبر: وهذا واجب.
  • الثالثة/ الرضا: وهذا مُستحب.
  • الرابعة/ حال الشكر: وهذه مرتبة الخواص من عباد الله.

يقول: (وَكَانَ يَقُول: الصَّبْر على الْفقر مرتبَة لَا ينالها إِلَّا الأكابر)؛ ليس مُراد الأكابر كِبَر الجسم أو السن أو المال، لا، الأكابر علمًا ودينًا.

المتن

(وَسَأَلَهُ رجلٌ: طلبتَ الْعلمَ لله؟ فَقَالَ: هَذَا شَرٌّ شَدِيد، وَلَكِن حُبِّبَ إِلَيَّ شَيْءٌ فجمعته).

الشرح

الشيخ: (وَسَأَلَهُ رجلٌ): سأل الإمام أحمد.

(طلبتَ الْعلمَ لله): "طلبت" هذا استفهام بحذف حرف الاستفهام، والتقدير: "أطلبتَ العلم لله" يسأله، (وَسَأَلَهُ رجلٌ: أطلبتَ الْعلمَ لله؟)، فحرف الاستفهام محذوف، ومن ورع الإمام أحمد ما قال هذا، إذًا التزكية لنفسه، قال: (هذا شرٌّ شديد)، هو يقول: إنه لله؟ ما أُزَكِّي نفسي (وَلَكِن حُبِّبَ إِلَيَّ شَيْءٌ فجمعته)، وهذا من باب الورع والإذراء بالنفس والبعد عن الرياء، فقال: (هَذَا شَرٌّ شَدِيد، وَلَكِن حُبِّبَ إِلَيَّ شَيْءٌ فجمعته)، ما قال: طلبتُ العلم لله.

المتن

(وَسُئِلَ قبل مَوته بِيَوْم عَن أَحَادِيث الصِّفَات، فَقَالَ: تُمَر كَمَا جَاءَت ونُؤمن بهَا وَلَا نَردُّ مِنْهَا شَيْء، إِذا كَانَت بأسانيد صِحَاح وَلَا يُوصَف الله بِأَكْثَرَ مِمَّا وصف بِهِ نَفسه بِلَا حد وَلَا غَايَة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]، وَمن تكلم فِي مَعْنَاهُمَا ابتدع).

الشرح

الشيخ: قال: (وَسُئِلَ قبل مَوته بِيَوْم عَن أَحَادِيث الصِّفَات، فَقَالَ: تُمَر كَمَا جَاءَت ونُؤمن بهَا وَلَا نَردُّ مِنْهَا شَيْء، إِذا كَانَت بأسانيد صِحَاح)، وهذا قول السلف كلهم؛ تُمَر كما جاءت، يعني لا تُؤَوَّل، و"تُمَر": يعني ما يسألوا في معناها، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه:5] يعني....كما جاءت، نُثبت السؤال لهذا وإذا جاوبنا نتأولها.

أهل البدع يقولون: "اسْتَوَى": بمعنى استولى، هؤلاء المُؤَوِّلة، وبعضهم يُفوِّض الأمر ويقول: ما ندري ما معنى الاستواء، يُفوِّض الأمر إلى الله، وكل هؤلاء مُخالف للسلف (تُمَر كَمَا جَاءَت)، يعني نَمر آيات الصفات كما جاءت نؤمن بها ونؤمن بمعانيها ونُفوِّض الكيفية إلى الله، ما نعرف كيف.

(استوى) في اللغة العربية بمعنى: استقر وعلا وصعد وارتفع، وعليه تدور تفاسير السلف للاستواء، فالمعنى: الله مستوٍ على عرشه بهذه المعاني الأربع استواءً يليق بجلاله وعظمته، أما الكيفية لا نعلمها، يعلمها الله، ولهذا لما جاء رجل وقال للإمام مالك –رَحِمَهُ اللهُ-: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5]، كيف استوى؟ فقال مالك: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة).

الاستواء معلوم: يعني معناه في اللغة العربية: "استقر وعلا وارتفع".

 والكيف مجهول: ما نعرف الكيفية، لا يعلمها إلا الله.

والإيمان به واجب: لأن هذا نص.

والسؤال عن الكيفية بدعة: لأنه مخالف لقول السائل.

ثم أمر بهذا الرجل الذي سأله أن يُخرج عنه وقال: أنت رجل سوء، اخرج من مجلسي.

وكذلك العلماء تلقوا هذا الجواب من الإمام مالك بالقبول، كان يُقال في جميع الصفات، قال رجلٌ في الحديث: «ينزل الله كل ليلة في السماء الدنيا»، كيف ينزل؟ فقال: (نزوله معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)، رضي الله عنه وأرضاه.

الرضا، نسبة الرضا له، إذا قال رجل: كيف الرضا؟

نقول: الرضا معلوم، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. أهل البدع يقولون: أن الرضا معناه الثواب (الأشاعرة)، والغضب هو العقاب.

وهذا خطأ، فالثواب أثر من أثار الرضا، الرضا وصف يليق بجلاله، من أثاره الثواب، والغضب وصف يليق بجلاله من أثار العقاب، فهذا معنى: (تُمَر كَمَا جَاءَت)، يعني نُثبت معانيها ولا نتأول الكيفية، ولهذا قال: (تُمَر كَمَا جَاءَت ونُؤمن بهَا وَلَا نَردُّ مِنْهَا شَيْء، إِذا كَانَت بأسانيد صِحَاح)، أو كانت في القرآن أو جاءت في أحاديث صحيحة، مثل: «ينزل الله كل ليلة في السماء الدنيا»، هذا جاء في الحديث، ومثل: ......، فإذا جاءت في الأحاديث الصحيحة أو في القرآن نؤمن بها ولا نردُّ منها شيئًا.

قال: (وَلَا يُوصَف الله بِأَكْثَرَ مِمَّا وصف بِهِ نَفسه)؛ وصف نفسه بالرضا نصفه بالرضا، وصف نفسه بالغضب، كذلك، ولا يُزاد على ذلك.

قال: (بِلَا حد وَلَا غَايَة)، كلمة (الحد والغاية) ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-، والحد لم يَرِد لا في إثبات ولا نفي، ومن أثبته يُسأل إذا أراد به حقًّا.....، وما جاء عن.... الحد فسَّر بأنه بلا حدٍّ يعلمه العباد، فهو سبحانه له حد وهو سبحانه منفصل عن المخلوقات، ليس داخلًا فيها.

ومن قال: بلا حد، يعني..... أو من قال بالحد يعني أنه -سبحانه وتعالى- ليس مختلطًا بالعباد، بلا حدٍّ ولا غاية

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]، يعني كما ورد في القرآن، هو ردٌّ على المُمَثِّلة الذين سندوا إلى الباطل.

(وَمن تكلم فِي مَعْنَاهُمَا ابتدع): من تكلم بما يُخالف قول السلف، وما يُوافق قول الجهمية فهو مبتدع. أما من تكلم في المعنى اللغوي.... يعني من تكلم في معناها يعني تعلَّم في معنى الكيفية؛ فأَوَّل فيها وكَيَّيف فهذا مُبتدع.

 وهذا مُستفيض ومشهور عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- من الكتاب والسنة للإمام أحمد، والكتاب والسنة لأبي عبد الله، والكتاب والسنة للخلَّال، فكلها فيها بيان أن الصفات تُمَر كما جاءت ولا يُوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه.

المتن

(وَكَانَ يَقُول: أَصْحَاب الحَدِيث أُمَرَاء الْعلم).

الشرح

الشيخ: لأن فضل الحديث مشهور ومعروف، كُتب الحديث يُنظر فيها وطلب العلم، والمؤلفات في فضل العلم: (آداب الراوي والسامع) للخطيب، و(جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر.

وجاء حديث الفِرقة الناجية بأنهم أهل السنة والجماعة، قال -صلى الله عليه وسلم-:«افترقتِ اليهودُ على إحدَى وسبعينَ فرقةً, وافترقتِ النصارَى على اثنتَينِ وسبعينَ فرقةً, وستفترقُ هذه الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كلُّها في النارِ إلا واحدةً، قالوا: من هي يا رسولَ اللهِ؟ فقال: مَن كان على مِثلِ ما أنا عليه وأصحابِي»، وفي لفظٍ: "وهي الجماعة".

فالفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة، ومن عاداهم فهم مُتَوَعَّدون بالنار، أهل البدع. فأصحاب الحديث أُمراء العلم لفضلهم وشرفهم؛ لأن الحديث كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يُفسِّر القرآن ويوضِّحه ويأتي بأحكامٍ جديد,

المتن

وَكَانَ يَقُول: إِذا ذُكِر الحَدِيث فمالك بن أنس هُوَ النَّجْم).

الشرح

الشيخ: النجم: يعني نجم اللعبة لظهوره وفضله، فضل الإمام مالك نفسه وهو إمام دار الهجرة في هذه المدينة -رَحِمَهُ اللهُ-، وفضله معروف، وكان لا يُحدِّث إلا وهو مستقبل القبلة وهو على طهارة، وهو الذي قال لهذا الرجل الذي جاءه، وقال: يا مالك،﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه:5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك حتى.... والعرق تصبَّب، يعني كيف يسأل عن الكيفية؟ ثم أطرق فترة ثم رفع رأسه؟ فقال: أين السائل؟ فقال: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء فأخرِجوه عن المسجد فأخرجوه).

فمعروف الإمام مالك، فضله علا وشَرف، ألَّف (المُوطَّأ) وهو شيخ الإمام الشافعي. ولما طلب العلم عنده الشافعي.... قال مالك للشافعي: أرى على وجهك النور فلا تُطفئه بالمعاصي، لا تُطفئ هذا النور بالمعاصي، ولهذا قال: إذا ذُكر الحديث... هذا الإمام أحمد يمدح الإمام مال وهو شيخ شيخه؛ فالإمام أحمد شيخ الشافعي، وشيخ الشافعي مالك. قال: (إذا ذُكِر الحديث، فمالك بن أنس هو النجم)، كالنجم اللامع في السماء.

المتن

(وَكَانَ يَقُول: سُفْيَان الثَّوْريّ جمع الْحَالين الْعلم والزُّهد).

الشرح

الشيخ: نعم، سُفيان الثوري هذا إمام من أئمة العلم والحديث، جمع العلم والزهد؛ علمٌ وزهدٌ في الدنيا وورع.

المتن

(وَكَانَ يَقُول: سُفْيَان بن عُيَيْنَة حَفِظ على النَّاس مَا لولاه لضاع).

الشرح

الشيخ: أيضًا هذا مدح وثناء على سُفيان بن عُيينة، (حَفِظ على النَّاس) يعني من العلم ما لولاه لضاع.

 المتن

(وَكَانَ يَقُول: الشَّافِعِي من أحباب قلبِي).

الشرح

الشيخ: يعني ممن يُحبهم، وكانوا يدعو له في صلاته، ومن الذين يدعو لهم في صلاته، (وَكَانَ يَقُول: الشَّافِعِي من أحباب قلبِي)، بعض الناس يقولون: "من إخبات قلبي"، لكن ليس واضح، ولعل "من أحباب قلبي" أصح، والإخبات هو التواضع والخشوع، يقول: (خبت الأرض) أي الأرض مطمئنة، والمُخبت: الساكن الخاضع، قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾[الحج:34]، يعني الراضيين المطمئنين، يعني "من إخبات قلبي" يعني: ممن اطمئن إليهم وأرضى بهم، أما "من أحباب قلبِي"، يعني قلبي يُحبهم، فذه له وجه وهذا له وجه؛ يعني من المتواضعين الراضيين الذين أطمئن إليهم ويطمئن إليهم قلبي، أو من أحباب قلبي ممن يُحبهم قلبي، وهو شيخه كان يدع له في صلاته.

المتن

(وَكَانَ يَقُول: هَل رَأَتْ عَيْنَاك مثل وَكِيع؟).

الشرح

الشيخ: وكيع بن جرَّاح، شيخ الشافعي، وكيع بن جرَّاح الكوفي، الإمام، صاحب الزهد، وكان شيخًا للإمام الشافعي، وفي أول الطلب شكا الشافعي إلى شيخه وكيع أنه لا يحفظ وأنه يتعب وما يحفظ، وقال البيت المشهور:

شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي
 

 

فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
 

وَقال: اعلم بِأَنَّ العِلمَ نورٌ
 

 

وَنورُ اللَهِ لا يُؤتي لِعاصي
 

 

"شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي": ما بحفظ، "فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي": اترك المعاصي حتى تحفظ، "وَقال: اعلم بِأَنَّ العِلمَ نورٌ: العلم الشرعي، "وَنورُ اللَهِ لا يُؤتي لِعاصي": هذا مشهور عنه.

ومن الأبيات في الشرح قال:

أُحِبُّ الصَّـالِحِينَ وَلَسْتُ منهم
 

 

وأَرْجُو أَنْ أَنـَالَ بِهِمْ شَفَاعَة
 

 

هذا من تواضعه، فردَّ عليه الإمام وقال:

"تُحِبُّ الصَّـالِحِينَ وأَنْتَ مِنْهُم".

كان يقول: هل رأيت عيناك مثل وكيع بن الجرَّاح؟ يعني مدحًا له.

المتن

(وَكَانَ يَقُول: أَنا أحب مُوَافقَة أهل الْمَدِينَة).

الشرح

 

الشيخ: وكان الإمام بن مالك يعتبر قول المدينة حُجة.....، يعني قول الصحابة في المدينة، يعني لو كان مثلًا في أقوال و أهل المدينة لهم قول، يحتج بقول أهل المدينة، يحب موافقة أهل المدينة.

لماذا أهل المدينة؟ وكذلك الصاع صاع أهل المدينة؟

لأن المدينة موطن النبي -صلى الله عليه وسلم- وموطن الصحابة، فهم يعلمون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحاله، ولهذا الصاع يُعتبر بصاع أهل المدينة، ولذلك قال: أنا أحب موافقة أهل المدينة.

المتن

(وَكَانَ يحب قِرَاءَة نَافِع لِأَنَّهَا أَكثر اتبَاعا).

الشرح

الشيخ: القراءات متعددة: قراءة نافع، وقراءة ورش، وقراءة حفص.

المتن

(فَهَذَا وَمَا شاكله مَحْفُوظ عَنهُ وَمَا خَلُف ذَلِك فكذب عَلَيْهِ وزور).

الشرح

الشيخ: نعم، يقول: هذا كله محفوظ عنه، (وَمَا خَلُف ذَلِك فكذب عَلَيْهِ وزور) هذا كلام مُجمل؛ يعني من خالف أقوال الإمام أحمد المحفوظ عنه فهو كذبٌ وزور.

المتن

(وَكَانَ دعاؤه فِي سُجُوده: اللَّهُمَّ من كَانَ من هَذِه الْأمة على غير الْحق وَهُوَ يظنّ أَنه على الْحق فَرده إِلَى الْحق ليَكُون من أهل الْحق).

الشرح

الشيخ: هذا من نُصحه -رَحِمَهُ اللهُ- ثبت عنه هذا الدعاء.

المتن

(وَكَانَ يَقُول: اللَّهُمَّ إِن قبلتَ عَن عصاة أمة مُحَمَّد -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فدَاء فَاجْعَلْنِي فداهم).

الشرح

الشيخ: وهذا من إيثاره -رضي الله عنه-، آثر الناس كلهم عليه، يكون فداء للناس كلهم، وهم يسلمون وهو الذي يتألم!

المتن

(تمّ الِاعْتِقَاد بِحَمْد الله وَمِنْه وَحُسن توفيقه).

الشرح

الشيخ: والحمد لله أولًا وآخرًا، بهذا نكون انتهينا من الرسالة.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد