الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فغفر الله لنا ولشيخنا وللحاضرين ولجميع المسلمين برحمته وهو أرحم الراحمين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية بعد ذكره ما نقله من كتاب الرد على الجهمية للكناني قلتم أحسن الله إليكم نقل المؤلف تكفير الجهمية من كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد
وقال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فيما خرجه في «الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولت غير تأويله» وقد ذكر هذا الكتاب أبو بكر الخلال في كتاب «السنة» ونقله بألفاظه وذكره القاضي أبو يعلى وغيرهما قال فيه: «بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله تعالى على العرش قلنا: لِم أنكرتم ذلك؟ إن الله سبحانه على العرش وقد قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان: 59] قالوا: هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش فهو على العرش وفي السماوات وفي الأرض، وفي كل مكان لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان
الشيخ هذا قول الجهمية الأولى الجهمية طائفتان الطائفة الأولى يقولون أن الله في كل مكان والعياذ بالله في كل مكان في أجواف الطيور والسباع وفي بطون السباع وفي كل مكان ونعوذ بالله وهذا كفر وضلال وأشد منه الطائفة الثانية النفاة الذين يسلبون النقيضين لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا مباين له ولا محايث له ولا متصل به ولا من فصل عنه هذا أشد من المعدوم هذا مستحيل هم طائفتان طائفة تقول في كل مكان وطائفة تسلب النقيضين والطائفة الثانية أشد كفرا لأن الطائفة الأولى وإن كان قولهم كفرا لكنه أثبت وجودا أما النفاة فإنهم ما أثبتوا شيئا نسأل الله السلامة والعافية
وتلَوْا آيات من القرآن: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة الله شيء. فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء وقد أخبرنا أنه في السماء فقال سبحانه: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16-17] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ} [الأنبياء: 19] وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران: 55]
الشيخ وله من في السماوات والأرض هذا عام ثم قال ومن عنده وهم الملائكة عنده في العلو فيه إثبات العلو
وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام: 18] فهذا خبر الله أنه في السماء ووجدنا كل شيء أسفل مذمومًا قال الله تعالى{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)} [فصلت: 29] وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه والشياطين مكانهم؟
الشيخ أدلة العلو ذكر العلماء أنها أفرادها تزيد على ألف دليل ولكن القواعد التي تجمعها كل دليل فيه إثبات الفوقية أو العلو أو الارتفاع وفيه رفع الشيء إليه وصعود الشيء إليه فهو من أدلة العلو كل دليل أن الله في السماء أأمنتم من في السماء والفوقية والعلو والارتفاع بل رفعه الله إليه ورفع اليدين إليه إلى غير ذلك كل هذه قواعد تدخل تحتها أفراد من الأدلة كلها تدل ومع ذلك كل هذه الأدلة ضرب بها النفاة عرض الحائط وقالوا إن الله في كل مكان تعالى الله عما يقولون قول كفر وضلال
فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش وقد أحاط بعلمه ما دون العرش لا يخلو من علم الله مكان ولا يكون علم الله في مكان دون مكان وذلك قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)} [الطلاق: 12] قال: ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلًا كان في يده قدح من قوارير صاف وفيه شراب صاف، كان بصر بني آدم قد أحاط بالقدح، من غير أن يكون ابن آدم في القدح فالله سبحانه -وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه
الشيخ يعني الله تعالى منفصل عن مخلوقاته المخلوقات نهايتها وسقفها عرش الرحمن انتهت المخلوقات والله تعالى فوق العرش بعد نهاية المخلوقات والله سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن عن خلقه ليس في داخل شيء من خلقه ولا في مخلوقاته شيء من ذاته تعالى الله عما يقولون علة كبيرا
وخصلة أخرى لو أن رجلًا بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتًا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله سبحانه وله المثل الأعلى، قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو من غير أن يكون في شيء مما خلق» قال أحمد رضي الله عنه: «ومما تأوّل الجهمية من قول الله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] قالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أول؟ إن الله يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المجادلة: 7] ثم قال: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] يعني أن الله بعلمه رابعهم {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} يعني بعلمه فيهم {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7] يفتح الخبر بعلمه ويختم الخبر بعلمه
الشيخ يعني أن الله افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم فدل على أن المراد أنه معهم بعلمه وإحاطته وليس هذا تأويل هذا ليس تأويل لأن الله يفتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم فدل على أنه معهم بعلمه وإحاطته واطلاعه ونفوذ سمعه وبصره وقدرته
ويقال للجهمي: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم فقد زعم أن الله بائن من خلقه وأن خلقه دونه وإن قال: لا كفر وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارج عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل لا بد له من واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الخلق والشياطين وإبليس في نفسه وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفر حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة» انتهى كلام أحمد
تعقيب المؤلف على ما نقله من كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد قال رحمه الله
فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بالعقل الصريح، والفطرة البديهية من أنه لا بد أن يكون خلق الخلق داخلًا في نفسه، أو خارجًا من نفسه، فالحصر في هذين القسمين معلوم بالبديهة مستقر في الفطرة إذ كونه خلقه لا داخلًا ولا خارجًا معلوم نفيه مستقر في الفطرة عدمه لا يخطر بالبال
الشيخ يعني نفي النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان قاعدة عندهم النقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان مثل الوجود والعدم مثل الحياة والموت ما تقول شيء موجود ومعدوم ولا تقول لا موجود ولا معدوم النقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر وإن انتفى أحدهما ثبت الآخر إذا قلت موجود انتفى العدم وإذا قلت معدوم انتفى الوجود وإذا نفيت الوجود ثبت العدم وإذا نفيت العدم ثبت الوجود ما تقول هذا الشيء لا موجود ولا معدوم لابد تثبت واحد إما موجود وإما معدوم ولا تجمع بين النقيضين لا تقول هذا الشيء موجود ومعدوم مثل الحياة والموت والعلم والجهل لا تقل هذا عالم جاهل في وقت واحد أو ليس بعالم وليس بجاهل أو حي ميت في وقت واحد أو ليس بحي ولا ميت النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان
إذ كونه خلقه لا داخلًا ولا خارجًا معلوم نفيه مستقر في الفطرة عدمه لا يخطر بالبال
إذ كونه خلقه لا داخلًا ولا خارجًا معلوم نفيه مستقر في الفطرة عدمه لا يخطر بالبال مع سلامة الفطرة وصحتها وقد بين أيضًا الإمام أحمد امتناع ما قد يقوله بعض الجهمية: من أنه في خلقه لا مماس ولا مباين كما يقول بعضهم: أنه لا داخل الخلق ولا خارجه فقال: «بيان ما ذكر الله في القرآن من قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] وهذا على وجوه: قول الله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] يقول: في الدفع منكما وقال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] يعني: في الدفع عنا وقال: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) } [البقرة: 249] يقول: في النصر لهم على عدوهم وقال: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] يعني: في النصر لكم على عدوكم وقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] يقول: بعلمه فيهم
الشيخ يعني المعية الاستقراء المعية في القرآن والسنة نوعان النوع الأول معية عامة للمؤمن والكافر ولكل جاحد فالله تعالى مع كل أحد بعلمه واطلاعه وإحاطته وقدرته ونفوذ سمعه وبصره مثل قوله تعالى يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم " يعني بعلمه واطلاعه مثل قوله تعالى ” ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم " يعني بعلمه واطلاعه وإحاطته والنوع الثاني معية خاصة وهي معية تكون مع الأنبياء مع المتقين ومع المحسنين مع الصابرين إن الله مع الذين انقوا والذين هم محسنون بتأييده ونصره وتسنيده "إنني معكم أسمع وأرى "لا تحزن إن الله معنا" هذه معية خاصة "إن الله مع الصابرين" بنصره " وأنتم الأعلون والله معكم" بنصره وتأييده وعونه وتسنيده فالمعية عامة تشمل المؤمن والكافر وأما المعية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين خاصة بالمتقين خاصة بالأنبياء
وقال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 61-62] يقول: في العون على فرعون» قال: «فلما ظهرت الحجة على الجهمي فيما ادعى على الله أنه مع خلقه قال: هو في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟ قال: لا قلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس ولا مباين؟ فلم يحسن الجواب فقال: بلا كيف يخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم فقلت له: إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والهواء؟
الشيخ العرش والهواء لأن السماوات تزول هذه السماوات لهذا قال الله تعالى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من الفرش إلى العرش تزول السماوات بين كل سماء وسماء خمس مائة عام فتزول السماوات السبع ويبقى العرش من العرش إلى الفرش يوم يكون خمسين ألف سنة أليس العرش والهواء
قال: بلى. قلنا: فأين يكون ربنا؟ قال: يكون في الآخرة في كل شيء كما كان حيث كان في الدنيا في كل شيء قلنا: فإن مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة وما كان من الله في النار فهو في النار وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله»
نقل المؤلف عن عبد الله بن سعيد بن كلاب أن الله في جهة وأنه على العرش
قال رحمه الله:
وسيأتي ما ذكره «أبو بكر بن فورك» عن «أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب» إمام المتكلمة الصفاتية من الأشعرية ونحوهم مثل قوله: «وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا هو في العالم ولا خارج منه، فنفاه نفيًا مستويًا، لأنه لو قيل له: صفه بالعدم ما قدر أن يقول فيه أكثر منه وردَّ أخبار الله نصًّا
الشيخ لو قيل له صف المعدوم إذا سلب النقيضين لما استطاع ما فيه أكثر من هذا
وقال في ذلك بما لا يجوز من خبر ولا معقول وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص وهم عند أنفسهم قياسيون» قال: «فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلوّ الأماكن منه وانفراد العرش به قيل: إن كنتم تعنون بخلوّ الأماكن من تدبيره، وأنه عالم بها فلا، وإن كنتم تذهبون إلى خلوه من استوائه عليها كما استوى على العرش فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض، واستوى على الجدار وفي صدر البيت» وقال أيضًا أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب فيما حكاه عنه ابن فورك: «يقال لهم: أهو فوق ما خلق؟ فإن قالوا: نعم قيل: ما تعنون بقولكم إنه فوق ما خلق؟ فإن قالوا: بالقدرة والعزة. قيل لهم: ليس عن هذا سألناكم وإن قالوا: المسألة خطأ قيل: فليس هو فوق فإن قالوا: نعم ليس هو فوق قيل لهم: وليس هو تحت. وإن قالوا: ولا تحت أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم
الشيخ متقابلان المتقابلان لابد من وجود أحدهما إذا نفى الفوقانية ثبت التحتانية إذا قال ليس فوق ثبت تحت وإذا نفى تحت ثبت وهكذا فوق نفى العلو ثبت السفل نفى السفل ثبت العلو المتقابلان لابد من ثبوت أحدهما
وإن قالوا: هو تحت وهو فوق. قيل لهم: فوق تحت وتحت فوق»
الشيخ هذا ما يمكن
وذكر عنه أنه قال في كتاب «التوحيد» في مسألة الجهمية: «يقال لهم: إذا قلنا: الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال فلا بد من نعم قيل لهم: فهو لا مماس ولا مباين فإذا قالوا: نعم قيل لهم: فهو بصفة المحال من المخلوقين الذي لا يكون ولا يثبت إلا في الوهم
الشيخ يعني في التوهم لا حقيقة له يتوهم أنه ثابت وإلا فهو لا وجود له
فإن قالوا: نعم قيل: فينبغي أن يكون بصفة المحال في كل جهة كما كان بصفة المحال من هذه الجهة وقيل لهم: أليس لا يقال لما ليس بثابت في الإنسان مماس ولا مباين فإذا قالوا: نعم. قيل: فأخبرونا عن معبودكم، مماس هو أو مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما. قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق فلم لا تقولون: عدم كما تقولون الإنسان عدم إذا وصفتموه بصفة العدم وقيل لهم: إذا كان عدم المخلوق وجودًا له وكان العدم وجودًا كان الجهل علمًا والعجز قوة
الشيخ وهذا لا يمكن الجمع بين الشيء وضده
نقل المؤلف عن القاضي أبي يعلى إثبات أن الله في جهة وأنه على العرش
وبهذا احتج القاضي أبو يعلى في أحد قوليه قال في كتاب إبطال التأويل» «إذا ثبت أنه على العرش والعرش في جهة وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرَّام و «ابن مندة الأصبهاني» المحدث، والدليل عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة لأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول: ليس هو في جهة ولا خارجًا منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان (آخر كلام القاضي)
نقل المؤلف عن الرازي ادعاءه أن هذه المقدمة غير بديهية ولا ضرورية إذ لو كان كذلك لما جاز معارضته
نقل المؤلف عن الرازي ادعاءه أن هذه المقدمة وهي أن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه هو ممتنع غير بديهية ولا ضرورية إذ لو كان كذلك لما جاز معارضتها
الشيخ هذا من العجائب كونك تقول الشيء لا داخل العالم ولا خارجه يقول هذا ليس بديهي هذا غير ممكن يكون الشيء لا داخل العالم ولا خارجه من العجائب أي عقل لا داخل ولا خارج ماذا يكون العالم نهايته عرش الرحمن انتهى العالم والله فوق العالم فلا يكن داخل العالم ولا خارج العالم ماذا يكون يقول لا ليس بديهيا الرازي هذا ممكن يكون مغالطة مكابرة
فصل قال «الرازي»: واعلم أنه لو ثبت كون هذه المقدمة بديهية لم يكن الخوض في ذكر الدلائل جائزًا لأن على تقدير أن يكون الأمر على ما قالوه كان الشروع في الاستدلال على كون الله تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه بالجهة إبطالًا للضروريات والقدح في الضروريات بالنظريات يقتضي القدح في الأصل بالفرع وذلك يوجب تطرق الطعن إلى الأصل والفرع معًا، وهو باطل بل يجب علينا بيان أن هذه المقدمة ليست من المقدمات البديهية حتى يزول هذا الإشكال
تعقيب المؤلف ومناقشته للرازي فيما ادعاه
قلت: ما ذكره على التقدير حق كما ذكره، ولهذا يوجد عامة أهل الفطر الصحيحة ممن عرف هذا وأمثاله من العلوم البديهية والضرورية والفطرية إذا سمع كلام المتكلمين وجدال المجادلين الداعين للنظر والاستدلال في دفع هذه الضرورة لم يلتفتوا إلى كلامهم، بل هم أحد رجلين؛ إما رجل عارف بحل شبههم وبيان تناقضها وإمّا رجل معرض عن ذلك إما لعجزه عن حَلِّه وإمَّا لاشتغاله بما هو أهم عنده من ذلك وإمَّا حسمًا لمادة الخوض في مثل كلامهم الباطل، وهذه طريقة أهل العلم والإيمان، فيمن يجادل بالباطل المخالف للفطرة والشرعة وهذا هو الصواب دون ما عليه مخالفوهم من أنهم يخالفون الفطرة والكتاب بأنواع من الحجج المدَّعاة ثم يزعمون أنها قواطع مخالفة للشرع وأنها أصل الشرع فالقدح فيها قدح في الشرع فإن هؤلاء بدلوا الأمر وقلبوه، كما بيناه في موضعه بخلاف من قرر العلوم الفطرية البديهية والعلوم السمعية الشرعية وما وافق ذلك دون ما خالف ذلك من الحجج القياسية، وإذا كان هؤلاء قد سلكوا السبيل الحق كما ذكره على ذلك التقدير، لمن يكره ما ذكره دافعًا لهم لا دافعًا للناظر في نفسه ولا للمناظر مع غيره، فقوله: «يجب علينا أن نبين أن هذه المقدمة، ليست من المقدمات البديهيات حتى يزول الإشكال» ليس بقول سديد ولا ينفعه ولا ينفع غيره، سواء كان ناظرًا أو مناظرًا، لأن الناظر الذي بَدَه قلبه العلم بهذه المقدمة واضطر إلى الإقرار بها وقد فطر عليها، كيف يزول ذلك عنه بالنظر والجدل وهو قد سلم أن القدح في الضروريات بالنظريات لا يجوز
الشيخ كيف يزول عنه
قال لأن الناظر الذي بَدَه قلبه العلم بهذه المقدمة واضطر إلى الإقرار بها وقد فطر عليها، كيف يزول ذلك عنه بالنظر والجدل وهو قد سلم أن القدح في الضروريات بالنظريات لا يجوز
الشيخ أمر ضروري أمر بديهي الواحد نصف الاثنين هذا بديهي لو قال لك ليس صحيحا الواحد نصف الاثنين ماذا تقول له ما عنده عقل بديهي الواحد نصف الاثنين الأمور البديهية الاثنين نصف الأربعة أمور بديهية فلا يمكن يعني إنسان سلم بأمر بديهي ينتقل عنه بالنظر هو الآن سلم أمر بديهي مسلم ما عنده إشكال تريد تناظره يرجع ما يمكن يرجع
تعقيب المؤلف على قصة أبي جعفر الهمداني مع أبي المعالي الجويني
قال الحافظ أبو منصور بن الوليد البغدادي في رسالته التي كتبها إلى الفقيه محمد الزنجاني أن أبا محمد الحراني يعني: عبد القادر الرهاوي أنبأنا الحافظ أبو العلاء يعني: الهَمْداني أنبأنا أبو جعفر الحافظ سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قال: كان الله ولا عرش وجعل يتخبط في الكلام فقلت: يا هذا قد علمنا ما أشرت إليه فهل عندك للضرورات من حيلة فقال: ما تريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة فقلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فبينه لنا لنتخلص من الفوق وبكيت وبكى الخلق فضرب بكمه على السرير وصاح بالحيرة
الشيخ أبو المعالي الجويني صار عنده حيرة يضرب السرير قيل إنه جعل يضرب رأسه يقول حيرني الهمداني حيرني الهمداني نسأل الله السلامة والعافية
فضرب بكمه على السرير وصاح بالحيرة وخرق ما كان عليه وانخلع وصارت قيامة في المسجد وترك ولم يجبني إلا بيا حبيبي الحيرة والدهشة الدهشة وسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمداني ولهذا روى عنه أبو الفتح محمد بن علي الطبري الفقيه قال: دخلت على الإمام أبي المعالي الجويني الفقيه نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور، فأقعد. فقال لنا: «اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح وإني أَموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور»
الشيخ على الفطرة
رواها عنه الحسن بن العباس الرستمي الأصبهاني مفتي أصبهان ومحدثهم قال حدثنا أبو الفتح فذكرها كما ذكرها ابن الوليد فلما تكلم أبو المعالي على منبره في نفي علو الله على العرش بأن الله كان قبل العرش ولم يتجدد له بالعرش حال قام إليه هذا الشيخ أبو جعفر الهمداني الحافظ فقال: قد علمنا ما أشرت إليه أي: دعنا من ذكر العرش فإن العلم بذلك سمعي عقلي ودعنا من معارضة ذلك بهذه الحجج القياسية، فهل عندك للضرورات من حيلة أي: كيف تصنع بهذه الضرورة الموجودة في قلوبنا؟ ما قال عارف قط: يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فبينها نتخلص من الفوق والتحت قال: فصاح «أبو المعالي» وضرب على السرير وخرق ما كان عليه ولم يجبه إلا بقوله: الحيرة الحيرة، الدهشة الدهشة وكان يقول: حيرني الهمداني وذلك لأن العلم باستواء الله على العرش بعد خلق السموات والأرض إنما علم بالسمع أمَّا العلم بعلو الله على العالم فهو معلوم بالفطر الضرورية وعند الاضطرار في الحاجات لا يقصد القلب إلا ما يعلم كما يعلم فقال لأبي المعالي: ما تذكره من الحجج النظرية لا تندفع به هذه الضرورة التي هي ضرورة في القصد المستلزم للضرورة في العلم فعلم أبو المعالي أن هذه معارضة صحيحة فقال: حيرني الهمداني لأنه عارض ما ذكره من النظر بما بينه من الضرورة فصرخ حائرًا لتعارض العلم الضروري والنظري ولأن هذه الضرورة الموجودة في القلوب علمًا وقصدًا
الشيخ وهو أن الله في العلو ما قال قائل يا الله إلا اتجه إلى العلو فطرة الحيوانات إذا أصابها شيء رفعت رأسها إلى السماء لكن يقولون لا نفاة العلو هذا من باب العادة وإلا الإنسان لو عصبت عيناه ما رفع يديه
سؤال ثبت التوبة عنه أبو المعالي
الشيخ ذكر أنه تاب إذا ثبت نعم قال أنا راجع عن كل ما أقول والرازي كذلك ذكر شيخ الإسلام أنه تاب في آخر حياته وترحم عنه ذكره
ولا يمكن أحدٌ نزعها إلا بإحالة الفطر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» وأما المناظر فإذا قال لمنازعه هذا إنما علمه بالضرورة والبديهة أو هذه المقدمة بديهية أو ضرورية عندي لم يكن له أن يناظره ببيان ما ينافي الأمر الضروري كما ذكره فإن غايته في ذلك أن يستدل بمقدمات، يسندها إلى مقدمات ضرورية فلو قدر أن البديهيات تتعارض أو تعارضت عند شخص لم يكن دفعها هذا البديهي لهذا البديهي بأولى من العكس فكيف إذا كان المعارض لها أمورًا نظرية مستندة إلى بديهية؟ فلا ينقطع المناظر بمثل هذا فلا ينتفع به الراد عليه ولا ينتفع به الناظر كما تقدم ولكن إذا ادعى شخص في مقدمة أنها فطرية فإما أن يعتقد كذبه أو يعتقد صدقه فإن اعتقد أنه كاذب عومل بما يعامل به مثله من الكذابين الجاحدين على ما وردت به الشريعة كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]
من أسباب الخطأ في العلم
وعامة الكفار من هذا النوع وإن اعتقد أنه صادق فيما يخبر به عن نفسه ولكنه مخطئ لاشتباه معنى عليه بمعنى آخر واشتباه لفظ بلفظ أو غير ذلك، أو لخلل وقع في إدراك حسِّه وعقله، أو لنوع هوى خالط اعتقاده فهذا طريقه أن يبين له ما يزيل الاشتباه حتى يتميز له أن الذي اضطر إليه من العلم ليس هو الذي نوزع فيه بل هو غيره أو يصلح إدراكه بإزالة الهوى والاعتقاد الفاسد الذي جعله يظن ما ليس بضروري ضروريًّا
الشيخ يعني إما اعتقاد فاسد أو هوى فإذا زال هذا الاعتقاد الفاسد والهوى فإنه يكون على الحق
فالمقصود أن هذا النوع من السفسطة فإن دعوى العلم الضروري
الشيخ السفسطة يعني التمويه تمويه الحقائق
فإن دعوى العلم الضروري فيما ليس كذلك بمنزلة إنكار الضروري فيما هو ضروري فصاحب هذا إمَّا متعمد للكذب وإمَّا مخطئ والخطأ في أسباب العلم: إمَّا لفوات شرط العلم من فساد قوى الإدراك وضعفها أو عدم التصور التام لطرفي القضية التي يحصل العلم بالتصديق عند تصور طرفيْها، أو لوجود مانع من الأهواء الصادة عن سبيل الله، فإذا كان كذلك فلا تحصل معرفة الحق إلا بوجود شروطه وانتفاء موانعه وإلا فمع عدم هذين قد تنكر العلوم الضرورية أو يجعل ما ليس بضروري ضروريًّا، والمثبتون يقولون للنفاة: أنتم في نفي هذا العلم الضروري لا تخرجون عن هذه الأقسام التي لا يخرج عنها مسفسط والنافون يقولون للمثبتة: بل أنتم المدعون للعلم الضروري مع انتفائه والمؤسس في مقام بيان أنه ليس عند منازعيه علم ضروري بما ذكروه
المؤسس الرازي كتابه تأسيس التقديس هذا نقضه شيخ الإسلام في غير كتاب نقض التأسيس سماه نقض التأسيس وسمي بيان تلبيس الجهمية وهذا الذي اخترناه اخترنا أن يكون هذا أولى الكتاب له أسماء نقض التأسيس وبيان تلبيس الجهمية هذا هو أولى صرح به شيخ الإسلام رحمه الله
والمؤسس في مقام بيان أنه ليس عند منازعيه علم ضروري بما ذكروه وهو لا يمكنه نفي ذلك، وليس فيما ذكره ما ينفي ذلك، فظهر انقطاعه وانقطاع نظرائه معه في أوّل مقام