بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين والسامعين.
(المتن)
قال المؤلف رحمه الله تعالى في "مختصر زاد المعاد":
وكان صلى الله عليه وسم يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ منها، والمقصود من القرآن تدبره وتفهمه، والعمل به, وتلاوته، وحفظه وَسِيلَةٌ إِلَى مَعَانِيهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملًا.
قال شعبة: حدثنا أبو حمزة قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي رَجُلٌ سَرِيعُ القراءة، وربما قرأت القرآن في الليلة مرة أو مرتين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً، أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ الَّذِي تَفْعَلُ، فَإِنْ كُنْتَ فاعلًا لا بد، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك، ويعيه قلبك.
وقال إبراهيم: قرأ علقمة على عبد الله، فَقَالَ: رَتِّلْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَإِنَّهُ زَيْنُ القرآن. وقال عبد الله: لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ,
وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ.
وقال: إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَصْغِ لَهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أو شر تنهى عنه. وقال عبد الرحمن بن أبي ليل: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَأَنَا أَقْرَأُ (سُورَةَ هُودٍ) فقالت لي: يَا عبد الرحمن هَكَذَا تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ؟ ! وَاللَّهِ إِنِّي فِيهَا مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَمَا فَرَغْتُ مِنْ قِرَاءَتِهَا.
(الشرح)
هذه امرأة طالبة علم ستة أشهر تتدبر وتتأمل, ابن عمر جلس في سورة البقرة ثمان سنين يتأمل ويتدبر معانيها وأحكامها.
(المتن)
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسر بالقرآن في صلاة الليل تارة، ويجهر تارة، ويطيل القيام تارة، ويخففه تَارَةً، وَكَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى راحلته في السفر، قبل أي وجه تَوَجَّهَتْ بِهِ، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ عَلَيْهَا إِيمَاءً.
(الشرح)
وهذا بحث عظيم في قراءة القرآن, هل الأولى أن يُسرع الإنسان في القراءة ويكثر الختمات؟ أو الأولى أن يرتل ويتدبر ويقلل الختمات؟ وهذا البحث بحث جيد وقرأنا بعضه في الأصل, وقراءته في الأصل الكامل أفيد وهو بحث عظيم, فمن العلماء من رأى كثرة القراءة والختمات, ومنهم من رأى الترتيل والتدبر ولو قلت الختمات, ومثل ابن القيم رحمه الله هذا المثل الذي يكثر الختمات مثل ما عنده عدة جواهر يتصدق بها, والذي يرتل كمن عنده جوهرة نفيسة أعظم من تلك الجواهر, هذه أربع أو خمس جواهر لكنها ثمنها قليل, وهذه جوهرة نفيسة ثمنها يعدل ثمن كل هذه الجواهر, والذي يظهر من كلام المحققين وكلام شيخ الإسلام وابن القيم وغيره أن الترتيل والتدبر أولى ولو قلت الختمات, ولاشك أن تلاوة القرآن عبادة وللمسلم بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها, لكن التلاوة مقصودة للتدبر والتأمل والتفهم والعمل, هي وسيلة إلى العمل.
فتلاوة القرآن نوعان: تلاوة لفظية, وتلاوة حكمية.
التلاوة اللفظية هي تلاوة القرآن بألفاظه, والتلاوة الحكمية تصديق أخباره وتنفيذ أحكامه, وهذه هي التي عليها مدار السعادة والشقاوة, قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}[البقرة/121], يعني يعملون به حق العمل, والإنسان إذا قرأ القرآن ولم يتدبر ولم يتأمل ما استفاد, ولا غير من حاله, ولا امتثل الأوامر ولا اجتنب النواهي, صحيح أنه يُثاب لكن ما استفاد, ما استفاد في تغيير حاله, الرغبة فيما عند الله والرهبة مما عنده.
ولهذا أمر الله تعالى بالتدبر قال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء/82], والآية الأخرى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد/24].
وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص/29], فالمقصود من التلاوة ومن هذه العبادة العظيمة المقصود منها التدبر والتفهم والعمل لتكون طريق ووسيلة إلى العمل, الآن اقرأ من الأصل من أول الفصل.
(المتن)
«وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ آيَةً آيَةً» وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ، الْوُقُوفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيَاتِ.
(الشرح)
آية آية يعني يقف على رؤوس الآيات يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة/2] ثم يسكت, {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة/3] ثم يسكت, وإذا وصل آيتين لا يضر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة/2-7] لا بأس, لكن الأفضل تقف على رأس كل آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة/2] ثم يسكت, {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة/3] ثم يسكت, كان النبي r يقف على رؤوس الآية, ويمد الرحمن ويمد الرحيم.
(المتن)
وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا.
(الشرح)
مثل قوله: يتفكرون, في الدنيا والآخرة, آخر الآية يتفكرون, وفي الدنيا والآخرة متعلقة بها لكن تقف على رأس الآية.
(المتن)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ إِلَى تَتَبُّعِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ انْتِهَائِهَا، وَاتِّبَاعُ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ أَوْلَى, وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ البيهقي فِي "شُعَبِ الْإِيمَانِ" وَغَيْرُهُ، وَرَجَّحَ الْوُقُوفَ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَقَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى الصَّبَاحِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَفْضَلِ مِنَ التَّرْتِيلِ وَقِلَّةِ الْقِرَاءَةِ، أَوِ السُّرْعَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
(الشرح)
على قولين: أيهما الأفضل أن ترتل وتتدبر ولو تأخرت في القراءة؟ أو تسرع في القراءة وتكثر الختمات؟ أيهما أفضل؟ على قولين.
(المتن)
فَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ التَّرْتِيلَ وَالتَّدَبُّرَ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ سُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ مَعَ كَثْرَتِهَا.
(الشرح)
وهذا هو الصواب: أن الترتيل والتدبر والتأمل أفضل من السرعة؛ لأن الترتيل والتدبر والتأمل يجعل الإنسان يتفهم المعنى, وإذا تفهم المعنى كان وسيلة إلى العمل.
فتدبر القرآن إن رمت الهدى *** فالعلم تحت تدبر القرآن.
أما السرعة ما يحصل معها تدبر ولا يحصل معها تفهم, وبالتالي ما يحصل العمل.
(المتن)
وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَهْمُهُ وَتَدَبُّرُهُ، وَالْفِقْهُ فِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَتِلَاوَتُهُ وَحِفْظُهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مَعَانِيهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاتَّخَذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا) وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمُ الْعَالِمُونَ بِهِ، وَالْعَامِلُونَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ.
(الشرح)
أهل القرآن هم الذين يعملون به ولو كان يقرأ من مصحف, والذي لا يعمل بالقرآن ليس من أهله ولو كان يحفظه, العبرة بالعمل والتدبر, أهل القرآن هم العاملون به المنفذون لحدوده, المصدقون لأخباره, الواقفون عند حدوده, الممتثلون لأوامره, ولو كانوا يقرئون من المصحف, أما الذي لا يتدبر ولا يتفهم ولا يعمل ولو كان يقيم حروفه إقامة السهم فليس من أهل الله.
(المتن)
وَأَمَّا مَنْ حَفِظَهُ وَلَمْ يَفْهَمْهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ، فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ أَقَامَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ, قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَفَهْمُ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُهُ هُوَ الَّذِي يُثْمِرُ الْإِيمَانَ.
(الشرح)
فهم القرآن هو الذي يثمر الإيمان والعمل الصالح, أما الذي لا يتدبر ما يثمر شيئًا.
(المتن)
وَأَمَّا مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، فَيَفْعَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ».
(الشرح)
مثل أربع أمثلة: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن, ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن, ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن, ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن, كل واحد له مثل.
(المتن)
وَالنَّاسُ فِي هَذَا أَرْبَعُ طَبَقَاتٍ: أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، وَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ. وَالثَّانِيَةُ: مَنْ عَدِمَ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ.
(الشرح)
وهم الكفرة والعياذ بالله وهؤلاء شر الناس, لا قرآن ولا إيمان, وخير الناس ما عنده إيمان وقرآن.
(المتن)
الثَّالِثَةُ: مَنْ أُوتِيَ قُرْآنًا، وَلَمْ يُؤْتَ إِيمَانًا.
(الشرح)
هذا المنافق.
(المتن)
الرَّابِعَةُ: مَنْ أُوتِيَ إِيمَانًا وَلَمْ يُؤْتَ قُرْآنًا.
(الشرح)
هذا عامة المؤمنين, «مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب» لأن معه الإيمان, «ولا ريح لها» لأن ليس معه القرآن, «ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب» لأن معه القرآن, «ولا طعم لها» لأنه معه النفاق.
(المتن)
قَالُوا: فَكَمَا أَنَّ مَنْ أُوتِيَ إِيمَانًا بِلَا قُرْآنٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ أُوتِيَ قُرْآنًا بِلَا
إِيمَانٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ أُوتِيَ تَدَبُّرًا، وَفَهْمًا فِي التِّلَاوَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ أُوتِيَ كَثْرَةَ قِرَاءَةٍ وَسُرْعَتَهَا بِلَا تَدَبُّرٍ.
قَالُوا: وَهَذَا هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَقَامَ بِآيَةٍ حَتَّى الصَّبَاحِ.
(الشرح)
وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة/118].
(المتن)
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَثْرَةُ الْقِرَاءَةِ أَفَضْلُ.
(الشرح)
هذا القول الثاني: أن كثرة القراءة أفضل من قلة القراءة مع التدبر, هذا القول الثاني وهو قول مرجوح.
(المتن)
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» رَوَاهُ الترمذي وَصَحَّحَهُ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَذَكَرُوا آثَارًا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ فِي كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ.
وَالصَّوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ثَوَابَ قِرَاءَةِ التَّرْتِيلِ وَالتَّدَبُّرِ أَجَلُّ وَأَرْفَعُ قَدَرًا، وَثَوَابَ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ أَكْثَرُ عَدَدًا، فَالْأَوَّلُ: كَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَوْهَرَةٍ عَظِيمَةٍ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ نَفِيسَةٌ جِدًّا، وَالثَّانِي: كَمَنْ تَصَدَّقَ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ أَعْتَقَ عَدَدًا مِنَ الْعَبِيدِ قِيمَتُهُمْ رَخِيصَةٌ.
(الشرح)
الأول تصدق مثلًا بعشرة آلاف, والثاني تصدق بجوهرة قيمتها أربعين ألف, فرق, ومثل الأول مثل الذي أعتق أربعة عبيد كل واحد بعشرة آلاف, والثاني أعتق عبد لكنه نفيس معه صناعات وكذا بثمانين, هذا الفرق.
(المتن)
وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ قتادة قَالَ: «سَأَلْتُ أنسا عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: كَانَ يَمُدُّ مَدًّا».
(الشرح)
يمد الرحمن, ويمد الرحيم, المراد المد الطبيعي, لكن مع السرعة يفوت المد الطبيعي, لكن مع الترتيل يمد.
(المتن)
وَقَالَ شعبة: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي رَجُلٌ سَرِيعُ الْقِرَاءَةِ، وَرُبَّمَا قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ الَّذِي تَفْعَلُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا وَلَا بُدَّ، فَاقْرَأْ قِرَاءَةً تُسْمِعُ أُذُنَيْكَ، وَيَعِيهَا قَلْبُكَ.
وَقَالَ إبراهيم: قَرَأَ علقمة عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، فَقَالَ: رَتِّلْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَإِنَّهُ زَيْنُ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ.
وَقَالَ عبد الله أَيْضًا: (إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة/ 104] فَأَصْغِ لَهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُصْرَفُ عَنْهُ).
(الشرح)
قوله: فأصغي سمعك, للتدبر يعني, أما الذي يسرع يفوته الإصغاء.
(المتن)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَأَنَا أَقْرَأُ (سُورَةَ هُودٍ) فَقَالَتْ: يَا عبد الرحمن: هَكَذَا تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ؟! وَاللَّهِ إِنِّي فِيهَا مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَمَا فَرَغْتُ مِنْ قِرَاءَتِهَا.
(الشرح)
لأنها تتدبر وتتأمل وتفهم المعاني, تقول: هكذا تقرأها بسرعة, أنا من ستة أشهر وأنا أتأمل وأتدبر وما خرجت منها.
الطالب: -- ((@ كلمة غير مفهومة- 22:15)) –
الشيخ: اليقين يكون عن العلم, وعن المشاهدة, وعن المباشرة, اليقين لا يكون عن علم إلا الذي يحصل بالأخبار الصادقة, فالمؤمن عنده يقين بما أخبر الله به, وعين اليقين هو الذي يحصل عن المشاهدة أي مشاهدة الإنسان ببصره, مثال ذلك: لو أخبرك شخص ثقة أن الوادي سال, قال: سال وادي حنيفة مثلًا فأنت تصدقه لأنه ثقة, ثم لقيت اثنان فقالوا: سال الوادي, يزيد التصديق, ثم لقيت عشرة فقالوا: سال الوادي, ثم لقيت مائة فقالوا: سال الوادي, هل تشك؟ ما تشك, الآن عندك مائة بالمائة خلاص سال الوادي.
ثم ذهبت أنت بنفسك وشاهدت الوادي وهو يجري فهذا زيادة في اليقين وهو عين اليقين, ثم بعد ذلك لما نزلت وشربت من الماء هذه المباشرة وهذا حق اليقين ومن ذلك قول الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة/260], يريد إبراهيم عليه السلام أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين وهو المشاهدة, فأراه الله قال: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة/260].
فأخذ أربعة طيور وقطعن على أربعة جبال ومسك بيده الرؤوس فكانت تتطاير الجثث وتأتي كل جثة يركب لها رأس, فإذا كانت الجثة ليست هذه رأسها تمتنع حتى يأتي بالرأس الخاصة بها وشاهد هذا بعينه فهذا عين اليقين, ومثال ذلك الله تعالى أخبرنا بأخبار يوم القيامة والجنة والنار والحساب ولا نشك في هذا, المسلم لا يشك, هذا تصديق لأخبار الله, فإذا شاهد الإنسان القيامة وشاهد الجنة والنار حصل له عين اليقين, فإذا دخل المسلم الجنة وباشرها حصل له حق اليقين: {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر/6-8].