أحسن الله إليك، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
يقول ابن القيم - رحمه الله -:
(المتن)
(ولم يكن في عُمَره عمرة واحدة خارجًا من مكّة، كما يفعله كثير من النّاس اليوم، وإنّما كانت عمره كلّها داخلًا إلى مكّة، وقد أقام بعد الوحي بمكّة ثلاث عشر سنة، لم ينقل عنه أنّه اعتمر خارجًا من مكّة، ولم يفعله أحد على عهده قط إلاّ عائشة، لأنّها أهلّت بالعمرة، فحاضت، فأمرها فقرنت، وأخبرها أنّ طوافها بالبيت وبالصّفا والمروة قد وقع عن حجّتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحبها بحجّ وعمرة مستقلّين، فإنّهن كُنَّ متمتعات، ولم يحضن، ولم يقرِنَّ، وترجع هي بعمرة في ضمن حجّتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التّنعيم تطييبًا لقلبها، وكانت عُمرُه كلّها في أشهر الحجّ مخالفًا لهدي المشركين، فإنّهم يكرهون العمرة فيها، وهذا دليل على أنّ الاعتمار في أشهر الحجّ أفضل منه في رجب بلا شكّ، وأمّا في رمضان، فموضع نظر، وقد صحّ عنه أنّ: «عمرة في رمضان تعدل حجّة».
وقد يقال: كان رسول - صلّى الله عليه وسلّم - يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهمّ من العمرة مع ما في ترك ذلك من الرّحمة لأمّته، فإنّه لو فعل لبادرت الأمّة إلى ذلك، فكان يشقّ عليها الجمع بين العمرة والصّوم، وكان يترك كثيرًا من العمل يحبّ أن يعمله خشية المشقّة عليهم.
ولم يحفظ عنه أنّه اعتمر في السّنة إلاّ مرّة واحدة، ولا خلاف أنّه - صلّى الله عليه وسلّم - لم يحجّ بعد الهجرة إلاّ حجّة واحدة سنة عشر، ولَمّا نزل فرض الحجّ، بادر إليه رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - من غير تأخير).
الشيخ:
هذا البحث في العمرة يقرر الشيخ ابن القيم - رحمه الله - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عمرته داخلًا إلى مكة، أفقيًّا، وأن العمرة إنما هي للأفقي الذي جاء إلى مكة من بعيد، وأما الذي في جوف مكة، فإنه لم يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه أنهم اعتمروا وهم في مكة، لأن الموجود في مكة عليه أن يتعبد في المسجد الحرام بالطواف وبالصلاة وبتلاوة القرآن، فلهذا لم يحفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه أنهم اعتمروا من مكة، وإنما كانت عمرتهم عمرة آفاقي، فالآفاقي الذي جاء من بعيد هو الذي يعتمر، ولأن العمرة هي الزيارة، ومن في جوف مكة، كيف يزور وهو في مكة، العمرة معناها الزيارة، ولهذا قرر الشيخ - رحمه الله - أنه ليس بمشروع أن يعتمر الإنسان من مكة، قرر شيخ الإسلام وابن القيم، وقال: إن هذا بدعة كون الإنسان يعتمر من مكة، إنما العمرة تكون للآفاقي، وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج معه مائة ألف، ولم يعتمروا كلهم، إلا عمرة قبل الحج، لم يعتمر أحد بعد الحج إلا عائشة تطييبًا لخاطرها، لأنها أهلت بالعمرة حينما قدمت مكة، ثم جاءها الحيض، واستمر حتى جاء الحج، فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: مالك؟ أنفست؟ إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، وأمرها أن تدخل الحج على العمرة، ثم لما انتهت من الحج ما تطب نفسها أن تكون لها عمرة مع الحج، وصواحباتها وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحدة اعتمرت عمرة مستقلة ثم حجت، أما هي، فإنها ما تحللت من العمرة، وإنما أدخلت الحج على العمرة، فلم تطب نفسها، وتريد أن يكون لها عمرة مستقلة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، فأعمرها ليلة الرابع عشر، وقال: اذهب بأختك فتخرج من الحرم، وائتوني وأنا فيها ها هنا، فلما فرغ آذن بالرحيل عليه الصلاة والسلام، وطاف بالبيت في آخر الليل ليلة الرابع عشر، ثم أدركته الصلاة صلاة الفجر، فصلى بالناس في المسجد الحرام، وقرأ سورة الطور، وأمر أم سلمة أن تطوف من وراء الناس، وهي راكبة، والناس يصلون ثم لما انتهى من الصلاة غادر راجعًا إلى المدينة - عليه الصلاة والسلام - دل على أنه لا بأس في الصلاة بعد طواف الوداع، طاف للوداع ثم صلى ثم غادر.
وأما جمهور العلماء فإنهم يرون أنه لا بأس بالعمرة من مكة إذا حصل فاصل بين العمرة الأولى، قال بعض العلماء: في كل شهر مرة، وقال بعضهم: في كل ستة أشهر مرة، قال بعضهم: بمقدار ما ينبت شعره، أسبوع خمسة أيام، كذا، أما ما يفعله بعض الناس الآن من كونه يعتمر كل يوم، أو بالعمرة في الصباح عمرة، وفي المساء عمرة، هذا لا أصل له، ولم يقل به أحد من أهل العلم، هذا تلاعب، في الصباح عمرة، وفي المساء عمرة، واليوم عمرة، وغدًا عمرة، وكأنها صدقات يوزعها، عمرة لأبيه، وعمرة لجده، وعمرة لزوجته، وعمرة لجاره، وعمرة كذا كأنها صدقات، ولو قيل له أنفق عشرة ريالات ما أنفق، لكن هذا يريد أن يذهب ولا ينفق شيئًا.
المقصود أن الذي قرره جمهور العلماء أنه يجوز العمرة من مكة إذا مضى فترة، ما تكون العمرة متوالية، وشيخ الإسلام وجماعة وابن القيم يون أنها غير مشروعة العمرة من مكة، وإنما العمرة مشروعة للآفاقي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر، كلها في أشهر الحج، كلها في شهر ذي القعدة، عمرة الحديبية في شهر ذي القعدة، ثم عمرة الجعرانة كذلك في ذي القعدة، ثم عمرة القضاء في ذي القعدة، ثم العمرة في حجته في آخر ذي القعدة، كلها في أشهر الحج، ولم يعتمر في رمضان عليه الصلاة والسلام، وقال: «إن عمرة في رمضان تعدل حجة»، وهو ابن القيم - رحمه الله - يستخير الله هل العمرة في أشهر الحج أفضل، أم العمرة في رمضان؟ والله لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضـل، ويحتمل مثل ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فالسنة تثبت بقوله وبفعله وبتقريره، فقال: « عمرة في رمضان تعدل حجة»، وأما هو - عليه الصلاة والسلام - فقد يترك الشيء تخفيفًا على الأمة، أو لاشتغاله بالعباد، واشتغاله بالدعوة إلى الله، واشتغاله بالجهاد، بتسيير الجيوش، والكتابة لأمراء القبائل والعشائر ورؤساء الدول، هو مشغول -عليه الصلاة والسلام - ولو اعتمر - عليه الصلاة والسلام - لبادر الناس واقتدوا به، وصار بذلك زحام شديد ومشقة على النماس، ولهذا لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة في غزوة الفتح، دخلها خرج حزينًا كئيبًا، وقال: «أخشى أن أكون شققت على أمتي»، عليه الصلاة والسلام، يعني كل واحد يريد أن يدخل الكعبة، فهو يترك الشيء - عليه الصلاة والسلام - خشية أن يشق على أمته، ولما صلى بالناس في رمضان، صلى بهم ليلة الثالث والعشرين، صلى بصلاته ناس، ثم لم يخرج ليلة الرابع والعشرين، وصلى ليلة الهامس والعشرين فكثر الناس، ثم لم يخرج ليلة السادس والعشرين، ثم صلى بالناس ليلة السابع والعشرين، حتى عجز المسجد عنهم، ثم لم يخرج، وقال لهم: «إني لم يخف علي مقامكم إلا إني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا»، عليه الصلاة والسلام، وصفه الله بأنه رؤوف بأمته، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128]، عليه الصلاة والسلام.
فلا شك أن العمرة في رمضان عمرة فاضلة، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه قد يكون أفضل في حقه - عليه الصلاة والسلام - لأنه هو مشرع للأمة، ولأنه - عليه الصلاة والسلام - يترك الشيء خشية أن يشق على الأمة - عليه الصلاة والسلام، ولم يعتمر في سنة واحدة عمرتين، وإنما كلها في، عمرة الحديبية في السنة السادسة، وعمرة القضاء في السنة السابعة، وعمرة الجعرانة في السنة الثامنة، العمرة مع حجته في السنى العاشرة، أربع عمر كلها في ذي القعدة، قال: ذكر ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في رجب أنكرت عليه عائشة، عمرة خامسة، وقالت: يرحم الله عبد الرحمن، ما اعتمر النبي إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط، وسكت، وهذا هو الصواب أن عمر النبي أربعة كلها محفوظة، كلها في ذي القعدة، ولم يعتمر في رجب.
وابن القيم - رحمه الله - يقرر ويقول: أن العمرة في أشهر الحج أفضل من العمرة في رجب، بعض الشيعة الآن يعتمرون في رجب، ويسمونها العمرة الرجبية، ويعتقدون أنها أفضل الأوقات، نعم.
لكن ثبت أن عمر - رضي الله عنه - اعتمر في رجب، وهو خليفة راشد، نعم.
(المتن)
أحسن الله إليك، (ولَمّا نزل فرض الحجّ، بادر إليه رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - من غير تأخير، فإنّ فرضه تأخّر إلى سنة تسع أو عشر).
الشيخ:
قف، هذا عند الفرض، كان فيه بعض الأسئلة؟