قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى- قوله سبحانه وقولُهُ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد: 3] :{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}[الفرقان: 58]،{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[التحريم: 2]، وهو { الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}[التحريم: 3]، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}[سبأ: 2]، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام: 59] وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ }[فاطر: 11]، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق: 12]، وقولُهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات: 58].
(الشـرح) بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين أما بعد. فهذه الآيات اشتملت على صفات، صفات الرب -سبحانه وتعالى-، فالآية الأولى فيها إثبات هذه الأسماء الأربعة المتقابلة، الأول والآخر والظاهر والباطن (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فالأول الذي ليس قبله أحد، والآخر الذي ليس بعد أحد، والظاهر الذي فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، كما فسره النبي في الحديث الصحيح: ((اللهُم أنت الأولُ فليس قبلُك شيءٌ، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيءٌ وأنت الباطنُ فليس دُونك شيءٌ)).
فيه إثبات هذه الأسماء الأربعة المتقابلة، الأول والآخر أسمان لأزليته وأبديته -سبحانه وتعالى-، فهو الأول الذي لا نهاية لأوله، وهو الآخر الذي لا نهاية لأخريتة، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، لأنه سبحانه فوق المخلوقات بعد أن تنتهي المخلوقات التي سقفُها عرش الرحمان والله تعالى فوق العرش، والظاهر ليس دونه شيء، لا يحجبه شيء -سبحانه وتعالى- وهو بكل شيء عليم.
قوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)، فيه إثبات هذا الاسم، وأنه سبحانه هو الحي الذي لا يموت، أما غيره فإنه يموت.
وقولُهُ: (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) إثبات أسم الحكيم وإثبات أسم الخبير، وأسماء الله مشتقة، الحكيم مشتق من صفة الحكمة، شمل على معاني وصفات، الخبير أشتمل على صفات الخبرة.
ثم ذكر الآيات التي فيها إثبات العلم (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، إثبات المعية، المعية للعامة، والله تعالى مع الخلق جميعاً باطلاعه وإحاطته ونفوذه وقدرته ومشيئته ورؤيتهم، يراهم ويسمع كلامهم وهو فوق العرش –سبحانه وتعالى، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ }[الأنعام: 59] إثبات العلم، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة: 29] {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}[فاطر: 11]، كلها فيها إثبات العلم، وعلم الله شامل لما مضى ولما هو في الحال ولما يكون في المستقل، ولما لم يكون لو كان كيف يكون، فيعلم ما كان في الماضي ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الشيء المستحيل الذي لا يكون يعلم لو كان -سبحانه وتعالى-، كما قال الله سبحانه وتعالى في المشركين : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال: 23]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الأنعام: 28] حينما سئلوا الرجعة، وقال في المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ}[التوبة: 47]، فهو سبحانه وتعالى علمٌ شامل في الماضي والمستقبل ولما لم يكن لو كان كيف يكون، نعم.
(المتــن) قال الشارح -رحمه الله تعالى- قولُهُ: (هُو الأولُ) أي الذي ليس قبلهُ شيءٌ، كما فسـرهُ بذلك رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم- فقال: ((اللهُم أنت الأولُ فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيءٌ وأنت الباطنُ فليس دُونك شيءٌ)) رواه مُسلمٌ. فهو -سُبحانهُ- أولٌ ليس له بدايةٌ، وأما القديمُ فقد ذكرهُ بعضُ المتكلمين في أسماء الله، والصوابُ أنه ليس من أسمائه -سُبحانهُ- لأنه لم يرد دليلٌ في تسميته -سُبحانهُ- بذلك، ولأن القدم ينقسمُ إلى قسمين:
قدم حقيقي، وقدم نسبي، فالقدمُ الحقيقيُ: هو الذي لم يسبقهُ عدمٌ، والنسبيُ: هو قدمُ بعض المخلوقات على بعض، كما قال سُبحانهُ: (حتى عاد كالعُرجُون القديم) وقد تقدم الأصلُ الذي ذكره ابنُ القيم أن الصفة إذا كانت منقسمةً إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه.
(الشـرح) والقديم ينقسم إلى: كمال ونقص، وجاء القرآن والسنة بإثبات الأول كمال من جميع الوجوه، ويُشعر بأن كل شيء آيلٌ إليه، الأول أحسن من القليل نعم.
(المتــن) وذكر أن باب الإخبار عنه -سُبحانهُ- أوسعُ من باب الأسماء والصفات، وذكر أنه يُخبرُ عنه -سُبحانهُ- بالقديم ولا يُسمى به، وقال في ((النُونية )):
وهو القديمُ فلم يزل بصفاته سبحانه |
|
مُتفرداً بل دائم الإحسان
|
(الشـرح) هو القديم يعني: من باب الخبر ليس من قبيل التسمية، يخبر عنه بأنه قديم من باب الخبر، يخبر أنه شيء، بأنه ذات، بأنه موجود، ولا يُقال بهذه من أسماء الله، ولا يُسمى بها، لا يُسمى بأنه ُ ذات ولا يُسمى بشيء، نعم.
(المتــن) قولُه: (والآخرُ) أي الذي ليس بعدهُ شيءٌ. قولُه: (والظاهرُ) أي العالي المرتفعُ الذي ليس فوقهُ شيءٌ، ولا ريب أنه ظاهرٌ بذاته فوق كل شيء، فالظُهورُ هنا: هو العُلوُ، كما قال تعالى: (فما اسطاعُوا أن يظهرُوهُ) ولا يصحُ أن يُحمل الظُهورُ على الغلبة، لأنهُ قابلهُ بقوله وأنت الباطنُ.
قولُه: (والباطنُ) أي الذي ليس دونهُ شيءٌ، كما فسرهُ الرسولُ صلي الله عليه وسلم: بطن -سُبحانهُ- بعلمه فلا يحجبُهُ شيءٌ. قال ابنُ القيم: فهذه الأسماءُ الأربعةُ متقابلةٌ, اسمان لأزليته وأبديته سُبحانهُ، واسمان لعلوُه وقربه، فأوليتُه -سُبحانهُ- سابقةٌ على أولية كل ما سواه، وآخريتـُه -سُبحانهُ- ثابتةٌ بعد آخرية كل ما سواه، فأوليـتُه سبقُهُ لكل شيء، وآخريتـُه بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريتـُه: فوقيتـُه وعلوُه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العُلو، وظاهرُ الشيء هو ما علا منهُ وأحاط بباطنه، وبُطونُه -سُبحانهُ-: إحاطتُه بكل شيء، بحيثُ يكونُ أقرب إليه من نفسه، وهذا قربُ الإحاطة العامة. وأما القربُ المذكورُ في الكتاب والسُنة فقُربٌ خاصٌ من عابديه وسائليه.
(الشـرح) {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق: 16] فهذا قُربٌ عام، نعم. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[البقرة: 186]، هذا قُربٌ للداعين، والسائلين، نعم.
(المتــن) وهو ثمرةُ التعبُد باسمه الباطن. ذكر البيهقيُ عن مُقاتل قوله تعالى: (هُو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ) هو الأولُ قبل كل شيء، والآخرُ بعد كل شيء، والظاهرُ فوق كل شيء، والباطنُ أقربُ من كل شيء، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته، وهو فوق عرشه وهو بكل شيء عليمٌ. انتهى.
س(...)
ج: ذاته وصفاته فوق العرش، نعم. الجهمية هم الذين يقولون: قريبٌ بذاته ويختلط بالمخلوطات هذا قول الجهمية -نعوذ بالله- يقول فوق كل مكان، -نعوذ بالله-، نعم.
(المتــن) قولـُه: (عليمٌ) جاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم والإحاطة بكل شيء علمًا، فهو من الصفات الذاتية، فهذه الآيةُ أفادت أوليته -سُبحانهُ- وسبقهُ لكل مخلوق، وأنه لا شيء قبله، كما أفادت دوامهُ وبقاءه وآخريتـه، وأنهُ لا شيء بعدهُ، وأفادت عُلوه وارتفاعهُ وفوقيـتـه سُبحانهُ، وأفادت قربه ودنوه وإحاطته وسعة علمه. وأنه لا يخفى عليه شيءٌ، وفيه الردُ على المعتزلة والرافضة الذين يزعمُون أن الله لا يعلمُ الأشياء إلا بعد وقوعها، والردُ على من يزعُمُ أنه يعلمُ الكُليات دون الجزئيات.
قولـُه: (وتوكل على الحي الذي لايمُوتُ): الآية، أي فوض أمورك إليه، فمن توكل عليه كفاهُ وشفاهُ ويسر له كل شديد وقرب له كل بعيد، قال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهُو حسبُهُ) والتوكُلُ لغةً: التفويضُ، يُقالُ: وكلتُ أمري إلى فلان أي فوضتُه، وحقيقتُه شرعًا: هو صدقُ اعتماد القلب على الله في جلب ما ينفعُ ودفع ما يضرُ، ومن أسمائه -سُبحانهُ- الوكيلُ، ومعناهُ الكافي لعبده، والقائمُ بأموره ومصالحه، وأما حكمُ التوكُل، فهو فرضٌ لهذه الآية ولغيرها من الأدلة، وهو لا يُنافي الأخذ بالأسباب، بل يُجامعُه كما في حديث عمر رضي اللهُ عنهُ الذي رواه أحمدُ والترمذيُ والنسائيُ وابنُ ماجة وابنُ حبان والحاكمُ: أن النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: ((لو أنكُم توكلتُم على الله حق توكُله لرزقكُم كما يرزُقُ الطير تغدُو خماصًا وترُوحُ بطانًا)) رواه الترمذيُ وقال: حسنٌ صحيحٌ، وخرج الترمذيُ من حديث أنس قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، أعقلُها وأتوكلُ، أو أُطلقُها وأتوكلُ؟ فقال: ((اعقلها وتوكل)) وذكر عن يحيى القطان إنه قال: هو عندي حديثٌ مُنكرٌ.
ففيه إشارةٌ إلى أن التوكُل لا يُنافي الإتيان بالأسباب، بل يكونُ جمعُهما أفضل، كما رُوي أن عُمر لقي أناسًا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ فقالوا: نحنُ المتوكلون، قال: بل أنتم المُتأكلون، إنما المتوكلُ الذي يُلقي حبهُ في الأرض ويتوكلُ على الله. ذكره ابنُ رجب.
(الشـرح) لأنهم كانوا يحجون ولا يأخذون النفقة، وقالوا: نحنُ متوكلون، قال: لا أنتم مُتأكلون، يجب عليكم فعل الأسباب، التوكل يحتاج إلى أمرين: فعل الأسباب، ثم التوكل على الله في تقديم النتيجة، نعم.
(المتــن) قال ابنُ القيم في ((المدارج)): أجمع القومُ على أن التوكُل لا يُنافي القيام بالأسباب، فلا يصحُ التوكُلُ إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالةٌ وتوكُلٌ فاسدٌ، وقال سهلُ بنُ عبد الله: من طعن في الحركة فقد طعن في السُنة، ومن طعن في التوكُل فقد طعن في الإيمان، فالتوكُلُ حالُ النبي -صلى اللهُ عليه وسلم-، والكسبُ سُنتـُه، فمن عمل على حاله فلا يتركن سُنته.
(الشـرح) الطعن في الحركة تشمل العمل، هذا مجمل الحركة، يعني: في العمل، نعم.
(المتــن) والتوكُلُ ينقسمُ إلى قسمين: الأول: توكُلٌ على الله، فهو من أشرف أعمال القلوب وأجلها. والثاني: التوكُلُ على غيره -سُبحانهُ- وينقسمُ إلى ثلاثة أقسام:
الأول: التوكُلُ على غير الله في الأمور التي لا يقدرُ عليها إلا اللهُ، كالتوكُل على الأموات، والطواغيت. في رزق، أو نصر، أو نفع، أو ضر، ونحو ذلك، فهذا شركٌ أكبرُ.
الثاني: التوكُلُ في الأسباب الظاهرة، كمن يتوكلُ على أمير، أو سلطان، فيما أقدرهُ اللهُ عليه من رزق، أو دفع أذًى، ونحو ذلك، فهذا النوعُ شركٌ أصغر.
س: كيف يكون شركٌ أصغر؟
ج: لما فيه من اعتماد القلب ولو فيه أسبابٌ ظاهر، ميل القلب واعتماده عليه، نعم، أما إذا لم يكن هناك أسباب يكون شركٌ أكبر ويخرج من الملة، يتوكل على ميت أو غائب، أما لو يتوكل على إنسان معه أسباب شركٌ أصغر لما فيه من اعتماد القلب، لأن التوكل على الله أقوى من الرجاء، بخلاف الرجاء، رجاء الحي الحاضر لا بأس، نعم.
(المتــن) الثالث: توكيلُ الإنسان غيره في فعل ما يقدرُ عليه نيابةً عنهُ، فهذه الوكالةُ الجائزةُ لكن ليس له أن يعتمد عليه، بل يتوكلُ على الله في تيسير أمره، وذلك من جملة الأسباب الجائزة، فهذه الآيةُ أفادت الحث على التوكُل على الله، وتعليق الأمل به -سُبحانهُ- دون غيره، كما أفادت وجوب التوكُل على الله، إذ مُطلقُ الأمر يقتضي الوجوب، وأفادت إثبات صفة الحياة الكاملة لله -سُبحانهُ- وتعالى.
قولُه: (الحكيمُ): أي الحاكمُ بين خلقه بأمره الديني الشرعي.
(الشـرح) يعني: بما أنزله على ألسنة رُسله من الشرائع ، فهو سبحانه يحكم بين عباده بالشريعة التي أنزلها على أنبيائه ورسله، وفي الآخرة يحكم بنفسه سبحانه بينهم، نعم.
(المتــن) قولُه: (الحكيمُ): أي الحاكمُ بين خلقه بأمره الديني الشرعي، وأمره الكوني القدري، الذي لهُ الحكمُ في الدُنيا والآخرة، كما قال تعالى: (وما اختلفتُم فيه من شيء فحُكمُهُ إلى الله) وقال تعالى: (فإن تنازعتُم في شيء فرُدُوهُ إلى الله والرسُول) فهو -سُبحانهُ- الحكمُ، والحاكمُ بين خلقه في الدُنيا والآخرة.
(الشـرح) نعم، في الدنيا نوعان: في الحكم الشرعي بالشرائع التي أنزلها على عباده، وفي الحكم الكوني القدري ما يُقدرهُ الله على العباد، من صحة ومرض وفقر وغنى وحياة وموت هذه كُلها أحكام قدرية، نعم. ويحكم بينهم سبحانه بالأحكام القدرية التي لا يمتنع أحد منها، ويحكم بين عباده بالأحكام الشرعية التي أنزلها في كتبه وعلى أنبيائه ورسله، وفي الآخرة يحكم بينهم -سبحانه وتعالى- بنفسه، نعم.
(المتــن) يحكمُ -سُبحانهُ وتعالى- في الدُنيا بوحيه الذي أنزلهُ على الأنبياء والرُسل، ويحكمُ يوم القيامة إذا نزل لفصل القضاء بين العباد، والحكيمُ: المحكمُ المُتقنُ للأشياء، الذي يضعُ الأشياء مواضعها، والذي له الحكمةُ التامةُ في خلقه وأمره، فعليه يكونُ للحكيم معنيان:
الأولُ: بمعنى المحكم المتقن للأشياء, والإحكامُ يكونُ في شرعه وأمره، وفي خلقه وقدره، وكُلٌ منهما مُحكمٌ من وجهين: الأول: وجودُه على صورته المُعينة.
الثاني: في غايته المحمودة التي يترتبُ عليها.
وأما حكمُه -سُبحانهُ وتعالى- فينقسمُ إلى قسمين:
الأول: حُكمٌ كونيٌ قدريٌ، كقوله: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكُم اللهُ لي).
الثاني: حكمٌ دينيٌ شرعيٌ، كقوله: (أُحلت لكُم بهيمةُ الأنعام – إلى قوله - إن الله يحكُمُ ما يُريدُ).
والحكمةُ وضعُ الأشياء في مواضعها.
قال ابنُ القيم في ((المدارج)): الحكمةُ حكمتان: علميةٌ، وعمليةٌ، فالعلميةُ: الاطلاعُ على بواطن الأشياء، ومعرفةُ ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا، والعمليةُ: وضعُ الشيء في موضعه. انتهى.
وحكمتُه -سُبحانهُ- صفةٌ قائمةٌ به، كسائر صفاته من سمعه وبصره وعلمه وقدرته ونحو ذلك، وهي تنقسمُ إلى قسمين: إحداها: حكمةٌ في خلقه وهي نوعان:
الأولُ: إحكامُ هذا الخلق وإيجادُه في غاية الإحكام والإتقان.
والثاني: صدورُه لأجل غاية محمودة مطلوبة له -سُبحانهُ- التي أمر لأجلها وخلق لأجلها.
الثانيةُ: الحكمةُ في شرعه، وتنقسمُ أيضًا إلى قسمين: الأول: كونها في غاية الإحسان والإتقان. والثاني: كونُها صادرة لغاية محمودة وحكمة عظيمة يستحقُ عليها الحمد.
(الشـرح) لأن كل من الحكم الشرعي والحكم القدري نوعان: كونه في نفسه في غاية الحكمة، وكونه في غايةٍ محمودة، نعم.
(المتــن) قال في ((المنهاج)): أجمع المُسلمون على وصفه -سُبحانهُ- بالحكمة، وتنازعوا في تفسير ذلك، فقال الجمهورُ من أهل السُنة وغيرهم: هو حكيمٌ في خلقه وأمره، والحكمةُ تتضمنُ ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة، والجمهورُ يقولون: لامُ التعليل داخلةٌ في أفعال الله وأحكامه. انتهى.
(الشـرح) {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ}[الفتح: 2]، هذه لام التعليل لا خلاف وهذه يُنكرها الجبرية، الجبرية ما يقولون بالتعليل ولا بالأسباب ولا بالحكم ولا بالغرائز كُلهم ينكرونها، وهذا مُصادم للنصوص، النصوص فيها بيان العلل والأسباب، {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}[الإسراء: 59]، {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ}[الفتح: 2]، {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ }[الحج: 60]، {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}[النور: 38]، كثير لام التعليل والنصوص وإثبات السببية، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ }[الأنفال: 53]، نعم. الجبرية أنكروا هذه التعليل، والأسباب والغرائز والطبائع والحكم كُلُها ينكروها الجبرية، نعم.
(المتــن) فاسمُه الحكيمُ فيه إثباتُ الحكمة، والحكمةُ تتضمنُ كمال علمه وخبرته.
(الشـرح) نعم لأن أسماء الله مشتقة، حكيم تضمن إثبات الحكمة، ليست جامدة، أسماء الله مشتقة تضمن الصفات والمعاني، العليم يتضمن العلم، الحكيم يتضمن الحكمة، الخبير يتضمن الخبرة، القدير يتضمن القدرة، الله يتضمن إثبات الألوهية، الرحمان يتضمن الرحمة وهكذا، كُل أسماءُ الله مشتقة، تضمن الصفات، نعم.
(المتــن) فاسمُه الحكيمُ فيه إثباتُ الحكمة، والحكمةُ تتضمنُ كمال علمه وخبرته، وأنه أمرٌ ونهيٌ، وخلقٌ وقدرٌ لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحقُ عليها كمال الحمد، والإحكامُ الذي في مخلوقاته دليلٌ على علمه، وإنما يدلُ إذا كان الفاعلُ حكيمًا يفعلُ الحكمة. انتهى. من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
والحكمُ معناه لغةً: المنعُ، وشرعًا: هو خطابُ الله المتعلقُ بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا، وينقسمُ الحكمُ بالنسبة إلى الرضا به وعدمه إلى أقسام: قسم يجبُ الرضا به والانقيادُ والاستسلامُ له، وهو الحُكمُ الدينيُ الشرعيُ، قال تعالى: (فلا وربك لا يُؤمنُون حتى يُحكمُوك فيما شجر بينهُم) الآية.
(الشـرح) هذا يجب الرضا بحكم الدين الشرعي، يرضى الإنسان بحكم الله، ومن ذلك شرعية التعدد، من ذلك تعدد النِسوة، وأن وجود المرأة ليُعدد، يجب على النساء أن ترضى بهذا، ولا يجب أن تكره حكم الله وشرع الله، وهذا خطير، لكن سبب هذا أن بعض الأزواج يظلم، تزوج وعد بالزوجة الثانية ظلم الأولى، فصارت النسوة تكره في الغالب، ينبغي للمرأة أن ترضى بالحكم الشرعي، وأن الله شرع تعدد لما فيه من المصالح، فيجب على المرأة أن ترضى بها ولا تكره، أما كونها طبيعتها هذا شيء آخر، ينبغي أن ترضى بالحكم الشرعي وأن ترضى به، نعم.
(المتــن) قال تعالى: (فلا وربك لا يُؤمنُون حتى يُحكمُوك فيما شجر بينهُم) الآية، وأما الحُكمُ الكونيُ القدريُ فمنه ما يُستحبُ الرضا به، كالرضا بالفقر، والعاهة، والأمراض، ونحو ذلك، ومنه ما يحرمُ الرضا به كالرضا بالكفر، والمعصية، ونحو ذلك.
(الشـرح) نعم يعني: الحكم الشرعي يجب الرضا به، الحكم الشرعي يجب على الإنسان الرضا به، أما الحكم الكوني فمنهم من يرضى ومنهم من لا يرضى به، يعني: ما قدره الله على العباد، قدر الله الفقر والمرض، والمصائب فهذه تُستحب الرضا بها، أما ما قُدر عليه من معاصي ولكُفر فهذا لا يجوز، لا يجوز للإنسان أن يرضى بها، لا يرضى بالكفر ولا بالمعصية، كما أن الله لا يرضى {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر: 7]، فالمؤمن يوافق ربه تعالى، الله لا يرضى الكفر وهو لا يرضى الكفر والمعاصي، نعم.
س: (...)
ج: نعم. الواجب الصبر، الصبرُ هذا واجب، أما الرضا فهو المستحب، الصبر: حبس النفس عن الجزاء، واللسان عن التشكي والبعد عن ما يُغضب الله هذا واجب، أما الرضا فهو مستحب في الصحيح، نعم.
(المتــن) وأما اسمُه -سُبحانهُ- الخبيرُ، فمعناه الذي انتهى علمُه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها، كما أحاط بظواهرها. انتهى من ((الصواعق)).
يقالُ: خبرتُ الأمر أخبُره إذا عرفتُه على حقيقته.
قولُه: (يعلمُ ما يلجُ): أى يدخلُ، قال ولج يلجُ، أي دخل يدخُلُ، أى يعلمُ ما يدخُلُ فيها، أي في الأرض من القطر والبذور والكنوز والموتى وغير ذلك.
قولُه: (وما يخرُجُ منها): أي من الأرض من النبات والمعادن.
قولُهُ: (وما ينزلُ من السماء): من المطر والملائكة.
قولُه: (وما يعرُجُ فيها): أي يصعدُ في السماء.
قولهُ: (وهُو معكُم) سيأتى الكلامُ على المعية.
قولُه: (وعندهُ مفاتحُ الغيب) أى خزائنُه، أو الطُرقُ الموصلةُ إلى علمه.
قولُه: (لا يعلمُها إلا هُو): قال المناويُ رحمه اللهُ: فمن ادعى علم شيء منها كفر.
(الشـرح) يعني: مفاتح الغيب، من ادعى شيءٍ منها كفر وهي أن: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }[لقمان: 34] هذه مفاتيح الغيب من ادعى شيءٌ منها كفر، من ادعى علم الساعة، من ادعى متى ينزلُ الغيث، من ادعى ما في الأرحام، من ادعى ما يكسبهُ الإنسان غداً، من ادعى بأي أرضٍ تموت النفس، فقد كفر لأنه ادعى علمُ الغيب، فعلم الغيب لا يعلمُها إلا هو -سبحانه وتعالى-، نعم.
س: (....)
ج: نعم. من ادعى علم الغيب كافر، من ادعى معرفة الأمور ومقدمات (....) الضالة ، وهذا غير الطائفة التي يعرف الأثر، والذي يعرف الشبه، مجرد ما يرى أثر الجسم يعرف، هذا ما أدعى علم الغيب، +، نعم.
س: (...)
ج: إذا كان مبني على أشياء وعلى دراسة فلا بأس به.
س: (....)
ج: هذه دعوة لعلم الغيب هو الأقرب، نعم.
س: (...)
ج: ما في الأرحام من ذكرٍ أو أنثى، حيٌ أو ميت، ما سيكون وبعد وجوده، يشمل هذا، بعد وجوده إذا علِمهُ الأطباء، هذا ما يُسمى علم الغيب، لأنه علمه الملك قبل ذلك ذكرٍ أو أُنثى، لكن قبل ذلك لا يعلمه إلا الله، نعم.
(المتــن) ومفاتحُ الغيب هي الخمسةُ المذكورةُ
في قوله -سُبحانهُ وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }[لقمان: 34] كما رواه البُخاريُ في صحيحه.
قولـُه: (ويعلمُ ما في البر): أي القفار من النـبات والدواب وغير ذلك.
قولُه: (والبحر) أي يعلمُ ما فيه من الحيوانات والجواهر ونحو ذلك.
قولُه: (وما تسقُطُ من ورقة): أي من أشجار البر والبحر وغير ذلك.
قولُه: (إلا يعلمُها): سُبحانهُ.
قولُه: (ولا حبة في ظُلُمات الأرض): من حبوب الثمار، والزُروع وغير ذلك.
قولُه: (ولا رطب ولا يابس): هذا عمومٌ بعد خصوص.
قولُه: (إلا في كتاب مُبين): أي مكتوب في اللوح المحفوظ، لأن الله كتب علم ما يكونُ وما قد كان قبل أن يخلق السماوات والأرض، فجميعُ الأشياء صغيرها وكبيرها.
(الشـرح) بخمسين ألف سنة، كما في حديث بن أبي عمر: ((إن الله كتب المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُهُ على الماء))، المقادير مكتوبة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، نعم.
(المتــن) فجميعُ الأشياء صغيرها وكبيرها مثبتةٌ في اللوح المحفوظ على ما هي عليه، فتقعُ جميعُ الحوادث طبق ما جرى به القلمُ، وهذا أحدُ مراتب القضاء والقدر، فإنها أربعُ مراتب: علمُه -سُبحانهُ- الشاملُ لجميع الأشياء، وكتابُه المحيطُ بجميع الموجودات، ومشيئتُه العامةُ الشاملةُ لكل شيء، وخلقُه لجميع المخلوقات، وسيأتي الكلامُ على هذا إن شاء اللهُ في الكلام على القدر.
ففي هذه الآية إثباتُ صفة العلم لله -سُبحانهُ وتعالى- كما يليقُ بجلاله وعظمته، وهي من الصفات الذاتية، وفيها الردُ على المعتزلة حيثُ قالوا: إنه عالمٌ بلا علم، وفيها إثباتُ إحاطة علمه بكل شيء.
(الشـرح) وهذا من جهل المعتزلة، فيقولون: عالم بلا علم، سميعٌ بلا سمع، بصيرٌ بلا بصر، ما معناه؟ نعم. أثبات السمع والبصر، نعم. لأن المعتزلة يثبتون الأسماء وينفون الصفات، العليم بلا علم، البصير هذه ينفون الصفة، عليمٌ بلا علم، سميعٌ لا سمع، بصيرٌ بلا بصر حكيمٌ بلا حكمة، خبيرٌ بلا خبرة، قديرٌ بلا قدرة، وهكذا، يثبتون الأسماء وينفون الصفات وهذا من جهلهم، نعم.
نعم، كل ما لهُ شيءٌ يزعمُ أنه يفعل هذا بعيد عن التشبيه، نعم.
(المتــن) فلا يخفى عليه خافيةٌ، وأنه يعلمُ الكُليات والجُزئيات.
(الشـرح) وهذا فيه الرد على الفلاسفة الذين يقولون: يعلمُ الكليات ولا يعلم الجزئيات، كابن سينا وغيره، يقولون: يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، وكل ما تراه في الخارج فهو جزئي فلا يعلمه، كل ما تراه في الخارج من حيوانات ونباتات والثمار والنجوم كل هذه لا يعلمها، كيف يعلم؟ يقولون: يعلمُ الكليات، لأنه يقولك: يعلمُ النجوم ويعلمُ كذا.. عموماً، أما تحديد النجوم فيقولون: لا هذه جزئي ما يعلمها، ماذا يعلم؟ يعلم الكليات، والكليات أمرٌ به، ولا يتحقق إلا بأفراده، وأفراده في الخارج جُزئيات ما يعلمُها، فيكون العلم في أي شيء؟ في الذهن ، يعلم الأشياء الذهنية، دون الأشياء الحسية، هذ معنى قولهم: يعلم الكليات دون الجزئيات، وهذا قاله الفلاسفة المتأخرون ، أرسطو هذا المعلم الأول، فلاسفة اليونان، ثم الفلاسفة المشائية، ثم جاء المعلم الثاني أبو نصر الفارابي، ثم جاء المعلم الثالث أبو علي بن سيناء، نعم (....) .
(المتــن) ويعلمُ كل شيء، ما كان وما يكونُ وما لم يكن لو كان كيف يكونُ، كما قال سُبحانهُ: (ولو علم اللهُ فيهم خيرًا لأسمعهُم) وقال تعالى: (ولو رُدُوا لعادُوا لما نُهُوا عنهُ).
(الشـرح) وفيه بيان ويعلم ما يكن لو كان كيف يكون، حالهم لو فعلوا هذا، ولو كان لم يفعلوه، نعم.
(المتــن) وفي هذه الآية الردُ على من زعم أن رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم- يعلمُ الغيب، فهي صريحةٌ في أن هذه الخمس لا يعلمُها إلا اللهُ -سُبحانهُ وتعالى- كما تقدم الحديثُ الذي في الصحيحين.
(الشـرح) وهناك طائفة تُسمى (البريلاوية) يقولن: أن الرسول يعلم الغيب، البيريلاويين هذا موجودون في الهند، يغلون في الرُسل حتى قالوا: أن الرسول يعلم الغيب، في رسائل في الرد عليهم، في رسالة تٌسمى (البريلاوية في الرد على المغلوية) في كلية أصول الدين، رد على هذه الطائفة، معروفة وموجودة هناك، يغَّلون في الرسول حتى يعطونه خصائص الرب، نعم.
(المتــن) كما تقدم الحديثُ الذي في الصحيحين أنهُ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: ((مفاتيحُ الغيب خمسٌ لا يعلمُهُن إلا اللهُ …. لا يعلمُ ما في الأرحام إلا اللهُ)) الحديث.
وقال القُرطبيُ رحمهُ اللهُ: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة. والمرادُ بالغيب المشار إليه هو الغيبُ المطلقُ: وهو مالا يعلمهُ إلا اللهُ، لا الغيبُ المقيدُ: وهو ما علمه بعضُ المخلوقات دون بعض، فهو غيبٌ بالنسبة لمن لم يعلمهُ دون من علمه، فيكونُ غيبًا عمن غاب عنه من المخلوقين، لا عمن شاهدهُ، فتلخص أن الغيب ينقسمُ إلى قسمين: مطلق، ومقيد.
(الشـرح) مُطلق لا يعلمُهُ إلا الله، ومُقيد يعلمُهُ بعضُ الناس دون البعضُ الآخر.
(المتــن) قولُه: (وما تحملُ من أُنثى) ((ما)) مصدريةٌ أي أنه -سُبحانهُ- يعلمُ في أي يوم تحملُ، وفي أي يوم تضعُ، وهل هُو ذكرٌ أو أُنثى، ففي هذه الآية إثباتُ صفة العلم، كما تقدم، وقد تواطأت الأدلةُ على إثبات هذه الصفة عقلاً ونقلاً، وفيها سعةُ علمه -سُبحانهُ- وأنهُ منفردٌ بعلم ما في الأرحام وعلم مدة إقامته فيه، وهذا أحدُ أنواع الغيب الذي لا يعلمُها إلا اللهُ.
قولُه: (لتعلمُوا أن الله على كُل شيء قديرٌ وأن الله قد أحاط بكُل شيء علمًا) هذه الآيةُ فيها إثباتُ صفة القدرة لله -سُبحانهُ وتعالى- كما يليقُ بجلاله، فجميعُ الأشياء مُنقادةٌ لقدرته، تابعةٌ لمشيئته سُبحانهُ، وقديرٌ فعيلٌ، بمعنى فاعل، بمعنى القادر وهي من الصفات الذاتية، كما ذكره في ((الفتح)) قال ابنُ بطال: القدرةُ من صفات الذات، والقوةُ والقدرةُ بمعنًى واحد. انتهى.
وأما المقتدرُ فمعناه التامُ القدرة، الذي لا يمتنعُ عليه شيءٌ. قال أحمدُ رحمهُ اللهُ: القدر قدرةُ الله، واستحسن ابنُ عقيل هذا من أحمد، والمعنى أنه لا يمنعُ من قدرة الله شيءٌ، ونُفاةُ القدر قد جحدُوا كمال قدرة الله سُبحانهُ، وقد قال بعضُ السلف: ناظروهم بالعلم، فإن أقرُوا به خُصمُوا، وإن جحدُوه كفُروا، وقد استدل العلماءُ على إثبات القدر بشمول القدرة والعلم، فقولُه سُبحانهُ: (وهُو على كُل شيء قديرٌ) عامٌ يتناولُ كل شيء، فيدخلُ فيه أفعالُ العباد من الطاعات والمعاصي، فإنها داخلةٌ تحت قدرة الله ومشيئته، وكما أنه المُريدُ لها القادرُ عليها فانهم هم الفاعلون لها، الواقعةُ بقدرتهم ومشيئتهم، كما قال -سُبحانهُ- وتعالى: (لمن شاء منكُم أن يستقيم * وما تشاؤُون إلا أن يشاء اللهُ ربُ العالمين).
والقدريةُ تُنكرُ دخول أفعال خلقه تحت قدرته ومشيئته وخلقه، فهم في الحقيقة مُنكرون لكمال عزته ومُلكه، قال ابنُ القيم رحمه اللهُ في ((الكافية الشافية)):
وهو القديرُ لكل شيء فهو مقــ |
|
ـدورٌ له طوعًا بلا عصيــان
|
وعمومُ قدرته تدلُ بـــأنه |
|
هو خالقُ الأفعال للحيــــوان
|
هي خلقُه حقًا وأفعالٌ لهــم |
|
حقًا ولا يتناقضُ الامران
|
فحقيقةُ القدر الذي حار الورى |
|
في شأنه هو قدرةُ الرحمــــن
|
واستحسن ابنُ عقيل ذا من أحمد |
|
لما حكاه عن الرضى الربانـــي
|
قال الإمامُ شفى القلوب بلفظة |
|
ذات اختصار وهي ذاتُ
|
(الشـرح) نعم، يعني أستحسن بن عقيل تفسير الأمام أحمد القدر بقدرة الله، قال الأمام أحمد: القدر قدرة الله ، أستحسن بن عقيل هذا، نعم.
يقول بن عقيل: الأمام شفى يقصد بقوله القدر قدرة الله، فسر القدر بأنها قدرة الله تفسيرٌ مختصر ولهُ معانيٍ غزيرة، نعم.
(المتــن) فهو -سُبحانهُ- خالقُ كل شيء وربُه ومليكُه، لا خالق غيرُه ولا رب سواه، ما شاءُ اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكن، فكلُ ما في الوجود من حركة أو سكون فبقضائه وقدره ومشيئته وخلقه، وهو -سُبحانهُ- أمر بطاعته وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته ومعصية رسوله، ولا يتناقضُ الأمران، خلافًا لأهل البدع.
قولُه تعالى: (وأن الله قد أحاط بكُل شيء علمًا).
فلا يخرجُ حادثٌ من الأعيان والأفعال عن قدرته وخلقه، كما لا يخرجُ عن علمه ومشيئته.
تنبيهٌ: يجيءُ في كلام بعض الناس ((وهُو على ما يشاءُ قديرٌ)) وليس ذلك بصواب، بل الصوابُ ما جاء في الكتاب والسُنة، (وهُو على كُل شيء قديرٌ) لعموم قدرته ومشيئته، خلافًا لأهل البدع من المعتزلة وغيرهم.
(الشـرح) نعم المقصود للمعتزلة بـ( هو على ما يشاءُ قدير) إخراج أفعالُ العباد ، لأن الله لا يشائُها ولا يقدر عليه، إذا رأيت قول البعض ((وهو على ما يشاءُ قدير)) فعلم أن (...)، وأما قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}[الشورى: 29] فهذا مُقيد بالمشيئة ، فهو على جمعهم إذا يشاءوا .