(المتــن) قال ابنُ القيم رحمهُ اللهُ تعالى في (الصواعق المُرسلة): ومما ادعوا فيه المجاز قولُهُ: (وجاء ربُك)، وقوله (هل ينظُرُون إلا أن يأتيهُمُ اللهُ)، قالوا: هذا مجازُ الحذف، تقديرُه وجاء أمرُ ربك، وهذا باطلٌ من وجوه: أحدها
(الشـرح) هذا تأويل أهل البدع، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر: 22] يقولون: جاء أمره، ( ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدُنيا) يقول: ينزل أمره أو رحمته، وهذا من ابطل الباطل ، نعم. والصواب إثبات الصفة لله، أن الله تعالى يجيء مجيء يليق بجلاله سبحانه وتعالى: نعم.
(المتــن) وهذا باطلٌ من وجوه:
أحدها: إنه إضمارُ ما لا يدلُ عليه اللفظُ بمطابقة ولا تضمُن ولا لزوم، وادعاءُ حذف بلا دليل برفع الوثوق من الخطاب، وساق وجوهًا عديدةً في إبطال دعواهم المجاز، وساق الأدلة الكثيرة الصريحة الدالة على أنه مجيءُ حقيقة بذاته سُبحانهُ. ا هـ.
والإتيانُ والمجيءُ المضافُ إليه -سُبحانهُ- نوعان: مطلقٌ ومقيدٌ، فإذا كان مجيءُ رحمته أو عذابه ونحو ذلك قُيد بذلك، كما في الحديث: ((حتى جاء اللهُ بالرحمة والخير))
الشيخ: أي جاء الله بالرحمة، نعم
وقولُهُ: (ولقد جئناهُم بكتاب فصلناهُ على علم). النوعُ الثاني: الإتيانُ والمجيءُ المطلقُ فهذا لا يكونُ إلا مجيئه -سُبحانهُ- كقوله: (هل ينظُرُون إلا أن يأتايهُمُ اللهُ)، وقولُهُ: (وجاء ربُك والملكُ صفًا صفًا). انتهى. من الصواعق ملخصًا.
وأفادت هذه الآياتُ إثبات أفعاله -سُبحانهُ- الاختيارية، فالإتيانُ والنُزولُ والمجيءُ والاستواءُ، والارتفاعُ والصُعودُ كلُها أنواعُ أفعاله، وهو فعالٌ لما يريدُ، وأفعالُه كصفاته قائمةٌ به سُبحانهُ، ولولا ذلك لم يكن فعالاً ولا موصوفًا بصفات كماله، وأفعالُه سُبحانهُ: نوعان: لازمةٌ، ومتعديةٌ، كما دلت النُصوصُ التي هي أكثرُ من أن تُحصر على إثبات النوعين، وأنها حقيقةٌ ليست بمجاز، وليست كأفعال المخلوق، فصفاتُه -سُبحانهُ- تليقُ به، أما المبتدعةُ فإنهم نفوا أفعاله، فزعمُوا أنها مجازٌ، فوقعوا في محذورين: محذور التشبيه، ومحذور التعطيل، انتهى من كلام شيخ الإسلام. وفي هذه الآيات دليل
(الشـرح) التشبيه أولًا شبهوا أولاً ثم عطلوا ثانيًا، وذلك لأن أهل البدع حينما نفوا الصفات ظنوا أنها تُشبه صفات المخلوقين، فهم شبهوا، لا يفهموا من صفات الخالق إلا كما يفهموا من صفات المخلوق، ثم استوى على العرش، قالوا: الاستواء على العرش استواء الرب مثل استواء المخلوق على الدابة، هذا التشبيه، فلما شبهوا عطلوا فنفوا الاستواء، شبهوا أولاً ثم عطلوا ثانيًا، نعم:
الطالب: (....)
الشيخ: اللازم مثل الاستواء، والمتعدي كالخلق والرزق والإحياء، الإماتة هذا متعد، نعم.
(المتــن) وفي هذه الآيات دليلٌ على إثبات علُو الله على خلقه، لأنه لا يمكنُ أن يأتي إلا من جهة العُلو، وذكرهُ ابنُ القيم أحد الطُرق في إثبات العلو.
(الشـرح) نعم، (يوم يأتي) (وجاء ربُك)، يأتي سبحانه من العلو، دل على أنه سبحانه موصوف بالعلو، نعم.
(المتــن) قولُهُ: (كُلُ من عليها فان): أي كلُ من على الأرض يُعدمُ ويمُوتُ، ويبقى وجهُه سُبحانهُ، قال الشعبيُ رحمه اللهُ: إذا قرأت قولهُ: (كُلُ من عليها فان) فلا تسكت حتى تقرأ قولهُ: (ويبقى وجهُ ربك ذُو الجلال والإكرام) وهذا من فقههم في القرآن، وكمال علمهم؛ إذ المقصودُ الإخبارُ بفناء من عليها مع بقاء وجهه، فإن الآية سيقت لبيان تمدُحه -سُبحانهُ- بالبقاء وحده، ومجردُ فناء الخليقة ليس فيه مدحٌ، إنما المدحُ في بقائه -سُبحانهُ- بعد فناء خلقه، فهي نظيرُ قوله سُبحانهُ: (كُلُ شيء هالكٌ إلا وجههُ). انتهى. من كلام ابن القيم.
(الشـرح) يعني: الإنسان إذا قرأ وبعض الناس (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) و يسكت فيُبين الناس أنهم يفنون، لا ما يكفي هذا، لابد أن تقرأ الآية التي بعدها (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) فتمدح الرب إنما هو في بقائه بعد فناء الناس، مثل الآية الأخرى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ما يقرأ (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ) ويسكُت لا يُكمل، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) مرتبطة بها، الآية الثانية مرتبة بالأولى، مثل بعض الناس يقرأ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) ويسكت لا كمل (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)، فويل للمصلين وتسكت هذا يشمل المصلين الذين أدوا الصلاة كما أمرهم الله ويشمل المصلين الذين انتقصوا شيئًا منها، لا بد أن تقرأ الآية (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك) هذا تمدح مدح للرب ببقائه بعد الخلق، نعم.
الطالب: (....)
الشيخ: يصل ما بعدها ويقرأ مباشرة، لكن كونه يقرأ الآية ولا يقرأ الآية التي بعدها، هذا الإشكال، نعم:
(المتــن) قولُهُ: (وجهُ ربك): فيه إثباتُ صفات الوجه لله، وهو من الصفات الذاتية كالسمع والبصر واليدين وغير ذلك من الصفات، فعلى العباد الإيمانُ بها، والتسليمُ واعتقادُ أنها حقيقةٌ تليقُ بجلال الله وعظمته، وعلى هذا مضى الصحابةُ والتابعون والأئمةُ.
قولُهُ: (ذُو الجلال والإكرام): أي ذو العظمة والكبرياء.
قولُهُ: (والإكرام): أي المُكرم لأنبيائه وعباده الصالحين، وقيل: ذو الجلال أي: هو المستحقُ لأن يُجل ولأن يُكرم، والإجلالُ يتضمنُ التعظيم، والإكرامُ يتضمنُ الحمد والمحبة، وقد قال بعضُ السلف: لا يهدين أحدُكُم لله ما يستحي أحدُكُم أن يهديهُ لكريمه، فإن الله أكرمُ الكُرماء، أي هو أحقُ من كل شيء بالإكرام، إذ كان أكرم من كل شيء.
، وقال أيضًا: وإذا كان مستحقًا للإجلال والإكرام لزم أن يكون متصفًا في نفسه بما يوجبُ ذلك، كما إذا قال الإلهُ: هو المستحقُ لأنه يؤلهُ أي يُعبدُ، كان هو في نفسه مستحقًا لما يوجبُ ذلك، والإجلالُ من جنس التعظيم، والإكرامُ من جنس الحُب والحمد، وهذا كقوله: (لهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ) فله الإجلالُ وله الإكرامُ والحمدُ. انتهى. من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
قولُهُ: (كُلُ شيء هالكٌ إلا وجههُ): أي أن جميع أهل الأرض وأهل السماء سيموتون ويذهبُون إلا من شاء اللهُ، ولا يبقى إلا وجهُه -سُبحانهُ وتعالى-، والمُستثنى من الهلاك والفناء ثمانيةٌ، نظمها السُيوطيُ بقوله:
ثمانيةٌ حُكمُ البقاء يعُمُهـــا |
|
من الخلق والباقون في حيز العدم
|
هي العرشُ و الكرسيُ نارٌ وجنةٌ |
|
وعجبٌ وأرواحٌ كذا اللوحُ والقلمُ
|
(الشـرح) نعم ثمانيةٌ حُكمُ البقاء يعُمُها من الخلق، والباقون في حيز العدم هي العرشُ والكرسيُ نارٌ وجنةٌ وعجبٌ وأرواحٌ كذا اللوحُ والقلمُ، نعم.
هذه الثمانية مستثناة لإبقاء الله لها العرش والكرسي والجنة والنار وعجبُ الذنب الذي يُخلق منه بن آدم والجنة والنار، والروح لا تفنى تبقى بعد خروجها من الجسد مُعذبة أو مُنعمة، واللوح المحفوظ والقلم، هذه كتب الله لها البقاء نعم.
الطالب: والجنة بما فيها؟
الشيخ: نعم والحور بما فيها {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}[الزمر: 68] قيل يدخل في المستثنى، يدخُل الجنة وما فيها، ويدخل على الأرواح أيضًا ما تموت، الأرواح ما تموت، باقية، أرواح المؤمنين تُنقل إلى الجنة، ولها صلةٌ بالجسد وأراح الكفار تُنقل إلى النار ولها صلةٌ بالجسد، نعم.
(المتــن) وأما قولُهُ: (كُلُ شيء هالكٌ)، وقولُهُ: (كُلُ من عليها فان) فإن المُراد كلُ شيء كُتب عليه الفناءُ والهلاكُ هالكٌ.
(الشـرح) نعم، كل شيء كُتب عليه الفناء هالك، ومن كتب الله له البقاء فإنه لا يهلك هؤلاء الثمانية، كُل شيءٍ هالك لأن الله كتب عليه الفناء والهلاك، نعم.
(المتــن) والجنةُ والنارُ خُلقتا للبقاء لا للفناء، وكذا العرشُ فإنهُ سقفُ الجنة والكرسيُ إلى آخرها، فإن عموم (كُلُ) في كل مقام بحسبه، ويُعرفُ ذلك بالقرائن كقوله: (تُدمرُ كُل شيء بأمر ربها فأصبحُوا لا يُرى إلا مساكنُهُم ).
(الشـرح) يعني: الريح التي أهلك الله بها عاد تُدمر كُلُ شيء كل عامة ومع ذلك ما ثبت المساكن ولا ثبت السماء والأرض، تدمر كل شيء مما يقبل التدمير، أو مما أراد الله له التدمير، نعم.
(المتــن) ومساكنهُم شيءٌ لم تدخل في عموم كل شيء؛ لأن المُراد تدمرُ كل شيء يقبلُ التدمير بالريح عادةً، وكقوله عن بلقيس: (وأُوتيت من كُل شيء) فالمرادُ من كل شيء يحتاجُ إليه الملوكُ، وهذا القيدُ يُفهمُ من قرائن الكلام، إذ المرادُ أنها ملكةٌ تامةُ المُلك.
ففي هذه الآيات كغيرها من أدلة الكتاب والسُنـة إثباتُ صفة الوجه لله -سُبحانهُ وتعالى-، كما يليقُ بجلاله وعظمته، وإثباتُ أنهُ وجهٌ حقيقةً لا يُشبهُ وجوه خلقه، ليس كمثله شيءٌ، وهذا هو الذي عليه أهلُ السُنـة والجماعة، خلافًا للمُبتدعة من الجهمية وأشباههم، ممن نفوا الوجه وعطـلوه، وزعموا أنه مجازٌ عن الذات، أو الثواب أو الجهة أو غير ذلك، وهذه تأويلاتٌ باطلةٌ من وجوه عديدة. منها أنه
(الشـرح) (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) أهل البدع يقولون: ويبقى ذاته، يعني القصد من ذلك الوجه، وبعضهم يقول: ويبقى ثوابُهُ، كل هذه التأويلات باطلة، نعم.
(المتــن) وهذه تأويلاتٌ باطلةٌ من وجوه عديدة، منها أنه فرق بين الذات والوجه، وعطفُ أحدهما على الآخر يقتضي المُغايرة، كما في حديث: ((إذا دخل المسجد قال أعُوذُ بالله العظيم وبوجهه الكريم))، ومنها أنه أضاف الوجه إلى الذات، وأضاف النعت إلى الوجه، ولو كان ذكرُ الوجه صلةً ولم يكن صفةً للذات لقال ذي الجلال، فلما قال ذو الجلال تبين أنه نعتٌ للوجه، وأن الوجه صفةٌ للذات، كما ذكر معنى ذلك البيهقيُ والخطابيُ، وروى مسلمٌ في صحيحه حديث: ((إن الله لا ينامُ ولا ينبغي لهُ أن ينام، حجابُهُ النُورُ لو كشفهُ لأحرقت سُبحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصرُهُ من خلقه)). ومنها أن الوجه حيثُ ورد فإنما ورد مضافًا إلى الذات في جميع موارده، والمضافُ إلى الرب نوعان:
أعيانٌ قائمةٌ بنفسها، كبيت الله وناقة الله وروح الله وعبد الله،
الشيخ: ورسول الله، نعم:
فهذه إضافةُ تشريف وتخصيص،
الشيخ: مخلوق إلى الخالق، نعم:
فهذه إضافةُ تشريف وتخصيص، وهي إضافةُ مملوك إلى مالكه.
الثاني: صفاتٌ لا تقومُ بنفسها، كعلم الله وحياته وقُدرته وسمعه وبصره ونوره، فهذه إضافتهُا إليه -سُبحانهُ وتعالى- إضافةُ صفة إلى موصوف بها، إذا عُرف ذلك فإضافةُ السمع والبصر والوجه ونحو ذلك إضافةُ صفة إلى موصوف، لا إضافةُ مخلوق إلى خالقه , وفي سُنن أبي داود عنه -صلى اللهُ عليه وسلم- أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((أعُوذُ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسُلطانه القديم من الشيطان الرجيم))، فتأمل كيف قرن بين الاستعاذة بالذات وبين الاستعاذة بوجهه الكريم، وهذا صريحٌ في إبطال قول من قال: إنه الذوات نفسُها، وقول من قال: إنه مخلوقٌ،
الشيخ: لمن قال إن الوجه هو الذات أو أنه يعني هذه الصفات هي الذات نعم:
وقول من قال: إنه مخلوقٌ، إذ الاستعاذةُ لا تجوزُ بمخلوق، إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها ابنُ القيم رحمهُ اللهُ بالصواعق في إثبات الوجه صفةً لله -سُبحانهُ وتعالى-، وأنه وجهٌ حقيقيٌ يليقُ بجلاله وعظمته، وإبطال قول من زعم غير ذلك.
قولُهُ: (ما منعك أن تسجُد لما خلقتُ بيدي):
توقف: وفقك الله