قال الشيخ عبد العزيز الرشيد -رحمه الله تعالى- قولُهُ: (أفضلُ الأيمان أن تعلم أن الله معك)) إلى أخره، في هذا الحديث دليل على إثبات معيته -سُبحانهُ وتعالى- والمعيةُ تنقسمُ إلى قسمين وقد تقدم الكلامُ عليها.
(الشـرح) نعم عام وخاص وهو صفة من صفات الله تعلم أن الله معك، وإثبات المعية لله عز وجل، ومعية الله لعباده نوعان: معية عامة للمؤمن والكافر، وتأتي في سياق المُحاسبة والمُجازاة، وتقتضي الإحاطة والقدرة والمشيئة، ومعية خاصة بالمؤمن وتأتي في سياق المدح والثناء، وتقتضي الحرص والكلاءة والنصر والتأييد،
(المتــن) وهذا الحديثُ فيه ذكرُ المعية العامة، وهي معيةُ العلم والاطلاع، وقد تكاثرت الأدلةُ بالندب إلى استحضار قُربه -سُبحانهُ- في حال العبادات، كقوله -صلى اللهُ عليه وسلم-: ((إذا قام أحدُكُم يُصلي فإنهُ يُناجي ربهُ)) وقوله -صلى اللهُ عليه وسلم-: ((إن الله ينصبُ وجههُ لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت)) قال ابنُ رجب رحمه اللهُ: ومن فهم من هذه الأحاديث تشبيهًا أو حلولاً أو اتحادًا فإنما أُتي من جهله وسوء فهمه عن الله ورسوله، واللهُ ورسولُه بريئان من ذلك كله، فسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميعُ البصيرُ. انتهى.
وفي هذا الحديث دليل على أن الإيمان يتفاضلُ، ودليل على أن بعض خصال الإيمان أفضلُ من بعض، وفيه دليل على أفضل عمل القلب، ودليل على أن أعمال القلوب داخلة في مُسمى الإيمان، وفيه الردُ على من زعم أن الإيمان لا يزيدُ ولا ينقصُ، وفيه دليل على أن الإحسان أكملُ مراتب الدين، وهو أن يعبد العبدُ ربهُ كأنه يراهُ فيستحضرُ قُرب الله واطلاعهُ وأنه بين يديه وذلك يوجبُ الخشية والخوف والتعظيم، ويوجبُ النُصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها، فيجمعُ العبدُ بين الإيمان بعلو الله -سُبحانهُ وتعالى- واستحضار قربه، ولا منافاة بين الأمرين.
قال شيخ الإسلام -رحه الله- وقولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: (( إذا قام أحدُكُم إلى الصلاة؛ فلا يبصُقن قبل وجهه، ولا عن يمينه؛ فإن الله قبل وجهه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه )). متفق عليه
قال الشيخ عبدالعزيز الرشيد -رحمه الله- قولُهُ: ((إذا قام أحدُكُم إلى الصلاة)) إلخ: هذا الحديثُ رواهُ البخاريُ ومسلم، وغيرُهما عن جماعة من الصحابة، منهم أنس وأبو هريرة وجابرُ بنُ عبد الله وابنُ عمر وغيرُهُم.
قولُهُ: ((يبصُقُ)): أي يتفلُ والبصاقُ والبزاقُ لغتان، والبصاقُ لغة قليلة.
قولُهُ: ((قبل)) بكسر القاف وفتح الباء، أي مواجه، في هذا الحديث فوائدُ، فيه دليل على قُرب الله -سُبحانهُ وتعالى- وإحاطته كما يليقُ بجلاله وعظمته كما قال سُبحانهُ: (واللهُ من ورائهم مُحيط) فإذا كان محيطًا بالعالم فهو فوقهُ بالذات عال عليه من كل وجه وبكل معنًى، فالإحاطةُ تتضمنُ العلو والسعة والعظمة، وإحاطتُهُ بخلقه لا تنفي مباينتهُ ولا علوهُ على مخلوقاته بل هو -سُبحانهُ- فوق خلقه محيط بهم مُباين لهم. انتهى من (الصواعق) باختصار.
قال الشيخُ تقيُ الدين رحمهُ اللهُ في (الحموية): وكذلك العبدُ إذا قام يُصلي فإنهُ يستقبلُ ربهُ وهو فوقهُ، فيدعوهُ من تلقائه لا عن يمينه ولا عن شماله، ويدعوهُ من العلو لا من السفل، كما إذا قُدر أنه يخاطبُ القمر فإنه لا يتوجهُ إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه، ا هـ. وقد نزع بهذا الحديث بعضُ المعتزلة إلى أن الله في كل مكان بذاته، وهذا جهل فاضح، والأدلةُ المتواترةُ تردُ ذلك، وتفيدُ علو الله واستواءهُ على عرشه، وأيضاً فإن آخر الحديث ينقضُ قولهُم وهو قولُهُ: ((أو تحت قدمه)) وفي الحديث إشارة للندب إلى استحضار قُربه -سُبحانهُ وتعالى- ومعيته في حال العبادة، فإن ذلك يوجبُ الخشية والخوف من الله، ويدعو إلى إتمام العبادة على الوجه اللائق، وفيه دليل على القيام في الصلاة وأن العمل اليسير لا يُبطلُها ،وفيه دليل على جواز البصاق وهو يُصلي، وفيه دليل على الندب إلى إزالة المستقذر أو ما يتنزهُ عنه من المسجد، وفيها أن النفخ والتنحنح في الصلاة جائزان؛ لأن النُخامة لا بُد أن يقع معها شيء من ذلك، وفيه النهيُ عن البُصاق قبل وجهه والنهيُ عن البصاق عن يمينه تشريفًا لها، وفي رواية البخاري ((ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكين))، وفيه جوازُ البصاق تحت قدمه وعن يساره، والمرادُ إذا كان خارج المسجد، فأما في المسجد فلا يجوزُ البصاقُ في أرض المسجد مطلقًا، لحديث ((البُصاقُ في المسجد خطيئة وكفارتُها دفنُها)) فهذا مخصص للحديث المتقدم، فإذا بدره البُصاقُ في المسجد بصق في ثوبه ودلك بعضها في بعض كما دلت على ذلك الأحاديثُ المخصصةُ لما تقدم، واستفيد من الحديث تحريمُ البُصاق إلى القبلة، سواء كان في المسجد أو لا، وفي صحيحي ابن خُزيمة وابن حبان من حديث حذيفة رضي اللهُ عنه مرفوعًا (( من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه))، ولأبي داود وابن حبان من حديث السائب بن خلاد أن رجلاً أم قومًا فبصق في القبلة فلما فرغ قال رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-: ((لا يُصلي لكُم)) الحديث، وفيه أنك قد آذيت الله ورسوله، وفي هذه الآيات دليل على أن النُخامة والبُصاق طاهران، ودليل على صيانة المساجد وتعظيمها.
س: ج. نعم هذا ظاهر الحديث، إذا (...) فلا يُبصقن قبل وجهه أو عن يمينه، بعضهم قال: أنهُ ينبغي أن يحرص على هذا في غير الصلاة، نعم.
(المتــن) يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم-: (( اللهُم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كُل شيء، فالق الحب والنوى، مُنزل التوراة والإنجيل والقُرآن، أعُوذُ بك من شر نفسي ومن شر كُل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأولُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيء وأنت الباطنُ فليس دُونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر )). رواه مُسلم.
قال الشيخ عبد العزيز الرشيد -رحمه الله تعالى- قال شيخ الإسلام رحمه قولُهُ: ((اللهُم رب السماوات)) إلخ: هذا الحديثُ أخرجه مسلم من حديث سهيل قال: كان أبو صالح يأمُرُنا إذا أراد أحدُنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقولُ: ((اللهُم رب السماوات السبع)) الحديث، قال: وكان يروي ذلك عن أبي هريرة وأخرجه أيضًا أهلُ السُنن.
قولُهُ: ((اللهُم)): أصلُه يا اللهُ، فالميمُ عوض عن ياء، ولذلك لا يُجمعُ بينهُما، وشذ قولُ بعض العرب
إني إذا ما حدث ألما |
|
أقُولُ يا اللهُم يا اللهما
|
قال الحسنُ البصريُ: اللهم مجمعُ الدُعاء، وقال النضرُ بن الشُميل: من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه.
قولُهُ: ((رب)): تأتي لفظةُ رب بمعنى المُربي والمالك والخالق.
وقولُهُ: ((رب السماوات السبع)): أي هو خالقُ العالم العلوي.
قولُهُ: ((ورب العرش العظيم)): أي الكبيرُ، في الحديث: ((ما السماواتُ السبعُ والأرضُون السبعُ وما بينهُن وما فيهن في الكُرسي إلا كحلقة مُلقاة في أرض فلاة وأن الكُرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة)) وقال الضحاكُ عن ابن عباس رضي اللهُ عنهما: إنما سُمي عرشًا لارتفاعه. وعن ابن عباس رضي اللهُ عنه: العرشُ لا يقدرُ قدره إلا اللهُ، فيه إثباتُ عظمة العرش، وأنه أعظمُ المخلوقات، وأنه مخلوق، ومنه يُستفادُ عظمةُ الباري بعظمة مخلوقاته، وفيه الردُ على من زعم أن العرش ليس بمخلوق، أو أن عرشهُ مُلكُه، أو قُدرتُه، وقد تقدم الكلامُ على هذا.
قولُهُ: ((ربنا ورب كُل شيء)): فيه إثباتُ عموم ربوبيته ومُلكه، وأنه خالقُ كل شيء، وأنه المنعمُ الحقيقيُ على سائر الخلق، وفيها الردُ على القدرية الذين يزعُمون أن العبد يخلقُ فعل نفسه، فإن ربوبيته العامة وقدرته التامة تشملُ أفعال خلقه، فمن زعم أن العبد يخلقُ فعل نفسه.
(الشـرح) وهم القدرية، القدرية يقولون: أن العبد يخلق فعل نفسه استقلالاً، القدرية المتوسطة المتأخرين، في الصفة التي حصلت لهم، يقولون أن الله خلق المعاصي وعذب عليها كان ظالماً، قاولا: أن العبد الذي خلقها، لكن لزمهم على ذلك أحاديث يلزم على ذلك أن يكون خالق مع الله، ويلزم مع ذلك أن تغلب مشيئة العزم مشيئة الله، فالله يُريد الطاعة من العبد والعبد يُريدُ المعصية، تقع مشيئة العبد، فهذه محاذير، لكن هؤلاء القدرية المتوسطون مبتدعة في سؤال الحق لهم، أما القدرية الأولى فهم كفرة، الذين ينفون العلم، وكانوا في عصر الصحابة ينفون العلم والكتابة يوقون أن المر مُستأنف وجديد، نعم.
(المتــن) فمن زعم أن العبد يخلقُ فعل نفسه، فقد أثبت خالقًا مع الله، ولم يُدخل أفعال خلقه في عموم قُدرته وربوبيته.
قولُهُ: ((فالق الحب والنوى)): أي شاقُ، والفلقُ الشقُ، أي الذي يشقُ حب الطعام ونوى التمر ونحوهما للإنبات، والنوى عجمُ التمر ونحوه.
قولُهُ: ((مُنزل التوراة والإنجيل والقُرآن)): أي مُنزلُ التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد، فيه دليل على أن هذه الكتب من كلام الله، وأنها منـزلة من عند الله، وأنها غيرُ مخلوقة.
(الشـرح) نعم فيه الرد على من قال: أنها مخلوقة وهم المعتزلة، يقولون: أن كلام الله مخلوق، وكذلك الأشاعرة الذين يقولون المعنى من الله واللفظ من الرسول، يقولون القرآن معناه من الله واللفظ من الرسول، يقولون: القرآن هذا ليس كلامُ الله وإنما عبارة عن كلام الله، كلام الله قائم بالنفس، وهذا باطل، نعم.
(المتــن) خلافًا لأهل البدع الذين يزعمون أن كلام الله مخلوق، أو أنها كلامُ غيره، وفيه دليل على علو الله سُبحانهُ؛ لأن الإنزال والنـزول والتنـزيل المعقول عند العرب لا يكونُ إلا من أعلى إلى أسفل.
(الشـرح) نعم فيه إثبات العلو، نعم.
(المتــن) قولُهُ: ((أعُوذُ)): أي ألتجئُ وأعتصمُ وألتصقُ بجناب الله من شر كل ذي شر، والعياذُ يكونُ لدفع الشر، واللياذُ يكونُ لطلب الخير كما قال المُتنبي:
يا من ألوذُ به فيما أؤمله |
|
ومن أعوذُ به مما أحــاذرُهُ |
لا يجبرُ الناس عظماً أنت كاسرُه |
|
ولا يهيضون عظماً أنت جابرُه
|
قولُهُ: ((دابة)): الدابةُ لغةً: كل ما دب على وجه الأرض، وأُطلق عرفًا على ذوات الأربع.
قولُهُ: ((بناصيتها)): أي تحت قهره وسلطانه سُبحانهُ، أي أعوذُ بك من شر كل شيء من المخلوقات؛ لأنها كلها في سُلطانه وهو آخذ بنواصيها متصرف فيها يصرفُها كيف يشاءُ، والناصيةُ مقدمُ الرأس.
قولُهُ: ((أنت الأولُ فليس قبلك شيء)): هذا تفسيرُ رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم- فلا تفسير أكملُ من تفسيره، ففيه دليل على أوليته -سُبحانهُ- وأنه قبل كل شيء، ففيه الردُ على من زعم قدم هذه المخلوقات، وفيه دليل على أبديته -سُبحانهُ- وبقائه بعد كل شيء، وفيه دليل على عُلوه -سُبحانهُ- على خلقه وفوقيته واستوائه على عرشه، فإن الظاهر هو العالي المرتفعُ.
قولُهُ: ((وأنت الباطنُ)): فيه دليل على قُربه -سُبحانهُ- وإحاطته وأنه أقربُ إلى كل شيء من نفسه، وقُربُه -سُبحانهُ- لا يُنافي ما ذُكر من علوه وفوقيته، فإنه ليس كمثله شيء، وليس قربهُ كقرب الأجسام بعضها من بعض – تعالى اللهُ أن يُشبهه شيء من خلقه – فهذه الأسماءُ الأربعةُ متقابلة، اسمان منها لأزلية الرب وأبديته.
(الشـرح) وهما الأول والأخر.
(المتــن) واسمان لعلوه وقربه.
(الشـرح) وهما الظاهر والباطن.
وقولُهُ: ((اقض عني الدين)): هذا فعلُ دعاء، أي أدِ، قولُهُ: ((الدين)): أي واحدُ الدُيون، والمرادُ به حقوقُ الله وحقوقُ عباده كلُها من جميع الأنواع.
قولُهُ: ((اغنني)): الغنى بالكسر والقصر هو عدمُ الحاجة، وبفتح الغين النفعُ وبالكسر مع المد الأصواتُ المُطربةُ، كما قال بعضُهم:
غناءُ الصوت ممدود بما يستجلبُ الطرب |
|
وكلُ غنًى فمقصور كذا نطقت به العربُ
|
والفقر بالفتح ضدُ الغنى، وهو في اصطلاح الفقهاء: من وجد أقل من نصف كفايته أو لم يجد شيئًا أصلاً، وأما المسكينُ فهو: من وجد نصف كفايته فأكثر، فالفقيرُ أشدُ حاجةً من المسكين، لكن إذا أُطلق الفقيرُ دخل فيه المسكينُ وبالعكس.
(الشـرح) وبعض العلماء منهم من يرى أن المسكين أشد حاجة من الفقير، نعم.
(المتــن) وإذا ذُكرا معًا فُسر كلُ واحد منهما بتفسير، كالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
(الشـرح) إذا ذُكر المسكين نسب الإسلام والإيمان، إذا ذُكر أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا صار لكل واحد منهم معنى، نعم.
(المتــن) وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: دعاءُ الله بأسمائه وصفاته، وهذا مما تكرر في الأحاديث، وهذا هو التوسلُ الشرعيُ والمتوسلُ بهذه الوسيلة جدير بالإجابة.
قال الشيخ الإسلام -رحمه الله- وقولُهُ -صلى الله عليه وسلم- (( إنكُم سترون ربكُم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تُضامُون في رُؤيته، فإن استطعتُم أن لا تُغلبُوا على صلاة قبل طُلُوع الشمس وصلاة قبل غُرُوبها؛ فافعلُوا )). مُتفق عليه
قال الشيخ رشيد -رحمه الله-قولُهُ: ((إنكُم سترون ربكُم)): إلخ: هذا الحديثُ رواهُ البخاريُ ومسلم وغيرُهما من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، وقال: ((إنكُم سترون ربكُم عيانًا كما ترون هذا لا تُضامُون في رُؤيته، فإن استطعتُم أن لا تُغلبُوا على صلاة قبل طُلُوع الشمس وقبل الغُرُوب فافعلُوا، ثم قرأ: (وسبح بحمد ربك قبل طُلُوع الشمس وقبل الغُرُوب) وفي بعض ألفاظه: ((ستُعاينُون ربكُم كما تُعاينُون القمر)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-: ((هل تضارُون في القمر ليلة البدر؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((هل تضارُون في الشمس ليس دُونها حجاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((إنكُم ترونهُ كذلك)). إلى غير ذلك من الأحاديث التي بلغت حد التواتُر.
(الشـرح) يعني: احااديث الرؤية بلغت حد التواتُر، ((يرى المؤمنين ربهم يوم القيامة))، والآية الكريمة كذلك واضحة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) فهذه كُلها في إثبات رؤية الله عز وجل، نعم.
(المتــن) قال يحيى بنُ معين: عندي سبعة عشر حديثًا في الرؤية، كُلُها صحاح، وقال أحمدُ: والأحاديثُ التي رُويت عن النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- ((إنكُم ترون ربكُم)) صحيحة، وأسانيدُها غيرُ مدفوعة، والقرآنُ شاهد أن الله يُرى في الآخرة، انتهى.
وقد تواطأ على إثبات ذلك أدلةُ الكتاب والسُنة المتواترة وإجماعُ الصحابة وأئمة الإسلام وأهل الحديث، وقد أنكر الرؤية الجهميةُ والمعتزلةُ وأضرابُهم، اعتمادًا على عقولهم الفاسدة وتقليدًا لأعداء الدين الذين نبذوا كتاب الله وسُنة رسوله وراءهم ظهريًا.
قولُهُ: ((إنكُم سترون)): السينُ فيه لتأكيد الوعد وتحقيق الأمر.
قولُهُ: ((سترون)): أي رؤيةً بصريةً، والمخاطبُ بذلك المؤمنون، فالكفارُ محجوبون عن رؤيته كما قال تعالى (كلا إنهُم عن ربهم يومئذ لمحجُوبُون ).
قولُهُ: ((كما ترون القمر ليلة البدر)): القمرُ بعد ثلاث من الشهر إلى آخر الشهر، سُمي قمرًا لبياضه. والبدرُ: القمرُ ليلة كماله وهو الممتلئُ نورًا، وهي ليلةُ الرابعة عشر من الشهر، سُمي بذلك لمبادرة طلوعه قبل غروب الشمس، وطلوعها قبل غروبه.
قولُهُ: ((كما ترون القمر)):اي تحقيقاً للرؤية ونفيًا لتوهُم المجاز الذي يظنهُ المعطلون فترونهُ رؤيةً حقيقيةً بالعين البصرية، والتشبيهُ في قوله: ((كما ترون القمر)) تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي فإنه -سُبحانهُ- لا شبيه ولا نظير.
قولُهُ: ((لا تُضامُون في رُؤيته)): بضم الفوقية وتخفيف الميم، أي لا يلحقُكم ضيم، ورُوي بالفتح وتشديد الميم من التضام والازدحام، كما ينضمُ بعض إلى بعض في رؤية الشيء الخفي، كالهلال، يعني إنكم ترونه رؤيةً محققةً كل منكم يراهُ في مكانه، فهذا الحديثُ أفاد إثبات رؤية الله -سُبحانهُ وتعالى- في الآخرة.
قال ابنُ القيم رحمه اللهُ: دل الكتابُ والسُنةُ المتواترةُ وإجماعُ الصحابة وأئمةُ الإسلام وأهلُ الحديث على أن الله -سُبحانهُ- يُرى بالأبصار عيانًا، كما يُرى القمرُ ليلة البدر صحوًا، وكما تُرى الشمسُ في الظهيرة، فإن كان لذلك حقيقة وأن الرؤية حق فلا يمكنُ أن يرونهُ إلا من فوقهم لاستحالة أن يروه من أسفل منهم
(الشـرح) هذا فيه الرد على الأشاعرة.
(المتــن) فإن كان لذلك حقيقة وأن الرؤية حق فلا يمكنُ أن يروهُ إلا من فوقهم لاستحالة أن يروه من أسفل منهم أو خلفهم أو أمامهم، وإن لم يكن لذلك حقيقة كما يقولُهُ أفراخُ الصابئة والفلاسفة والمجوس والفرعونية بطل الشرعُ والقرآنُ. انتهى.
وفيه الردُ على من زعم أن المراد بالرؤية العلمُ
(الشـرح) وهم المعتزلة.
(المتــن) لأن رأى بمعنى علم تتعدى إلى مفعولين، تقولُ رأيتُ زيدًا فقيهًا، أي علمتُه، فإن قلت: رأيتُ زيدًا، لم يُفهم منهُ إلا رؤيةُ البصر، ويزيدهُ تحقيقاً قولُهُ في الحديث: ((إنكُم سترون ربكُم عيانا)) لأن اقتران الرؤية بالعيان لا يحتملُ أن يكون بمعنى العلم، وفي الحديث -كما تقدم- دليل على إثبات علو الله، وأنهم يرونهُ من فوقهم كما في حديث جابر الذي رواهُ أحمدُ وغيرُه.
قولُهُ: ((فإن استطعتُم أن لا تُغلبُوا)): معناهُ: لا تصيروا مغلوبين بالاشتغال عن صلاتي الصبح والعصر، فهي المرادةُ في الحديث كما في صحيح مسلم، ففي هذا الحديث دليل على فضل هاتين الصلاتين، وأن المحافظ عليهما حقيق بأن يرى ربه يوم القيامة، قال بعضُ العلماء: ووجهُ مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضلُ الطاعات، وقد ثبت أن لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما، ما ذُكر من اجتماع الملائكة فيهما، ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضلُ الصلوات، فناسب أن يجازى عليهما بأفضل العطايا. وهو النظرُ إلى وجه الله -سُبحانهُ وتعالى.