قال الشيخ الرشيد -رحمه الله تعالى- قولُهُ: فهم وسط في باب صفات الله: أي أهلُ السُنة وسط، أي عدل خيار معتدلون بين الطرفين المنحرفين، فهم معتدلون في باب توحيد الله، يصفونهُ -سُبحانهُ- بما وصف به نفسهُ وبما وصفهُ به رسولهُ أعرفُ الناس بربه -صلى اللهُ عليه وسلم- من غير تعطيل فلا ينفي عنهُ ما وصف به نفسهُ أو وصفهُ به رسولُهُ، ولا تشبيه فلا يقالُ لهُ سمع كأسماعنا، ولا بصر كأبصارنا ونحوُ ذلك.
(الشـرح) نعم وسط بين أهل التعطيل الذين ينفون الصفات، وبين أهل التشبيه الذين يُمثلون الصفات بصفات الخلق، فهم مُثبتون بلا تمثيل ويُنزهون بلا تعطيل، نعم.
(المتــن) كما قال سُبحانهُ: (ليس كمثله شيء وهُو السميعُ البصيرُ) فقولُهُ: (ليس كمثله شيء) رد على المشبهة، وقولُهُ: (وهُو السميعُ البصيرُ) رد على المعطلة.
قولُهُ: أهلُ التعطيل: أي الذين نفوا حقائق أسماء الله وصفاته وعطلوهُ منها، من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وأشباههم، فالجهميةُ نفوا صفات الله لفظها ومعناها، وزعموا أن إثباتها يفضي إلى التشبيه فعطلوها، فرُوا من شيء ووقعوا في أشد منهُ، فإنهم لم يعطلوها حتى شبهوا الله -سُبحانهُ- بخلقه، واعتقدوا أن صفات الله كصفات المخلوق، فعطلوها فرارًا من التشبيه بزعمهم، فوقعوا في أشد من ذلك، وهو تشبيهُه -سُبحانهُ وتعالى- بالمعدومات والناقصات، فشبهوا أولاً وعطلوا ثانيًا، ثم شبهوا ثالثًا.
(الشـرح) نعم. شبهوا أولاً لأنهم لما رأوا نصوص الصفات أثبتها الله لنفسه، قالوا: إنها تشبه صفات المخلوقين فوقعوا في نصوص التشبيه، فلما وقعوا في نفوسهم أنه لو أثُبت لله لكان مشابهاً لخلقه نفوا، فعطلوا، ثم لو نفوا وعطلوا وقعوا في التشبيه في المعدومات والجمادات، فصاروا شبهوا أولاً ثم عطلوا ثانياً ثم شبهوا ثلاثاً، -نسأل الله العافية- نعم.
حتى الجماد ما يوجد شيء ليس لهُ صفات، الجماد مثل: الجدار لهُ طول ولهُ عرض لهُ عمق ولهُ بياض، فالشيء لا صفة له لا وجود له، معدوم الذي ليس له صفات ولا سمع معدوم، والموجودات لها صفات حتى الجمادات لها صفات ولها اسم، فإذا نُفيت الاسماء و الصفات عن شيء فلا وجود لها إلا في الذهن صار معدوم، نعم.
(المتــن) فإن من لا صفات لهُ بالكلية لا وجود لهُ، فإن من ليس لهُ سمع ولا بصر ولا قدرة، ولا إرادة ولا هو فوق ولا أسفل ولا يمين ولا شمال إلى آخر ما هو موجود في كُتبهم ليس لهُ وجود بالكلية، بل هو مقدر في الأذهان لا وجود له في الأعيان، تعالى اللهُ عن قولهم علوًا كبيرًا، وكلامُ العلماء في ذمهم وأنهم يدورون على أن يقولوا ليس ثم إلا العدمُ,
(الشـرح) يعني: أنهم قالوا: كلام الجهمية يدور على أن يقولوا ليس فوق العرش إله، هذا الكلام يدور على إنكار وجود الله، كل كلامهم يدور على ذلك -نعوذ بالله- نعم.
(المتــن) وأما المعتزلةُ فأثبتوا الأسماء ونفوا المعاني، فيقولون إنُهُ -سُبحانهُ- سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم إلى غير ذلك مما يقولونه، وتصوُر هذا المذهب كاف في رده وإبطاله، وأما الأشاعرةُ فأثبتوا لله بعض الصفات ونفوا البعض، فاضطربوا وتناقضُوا.
قولُهُ: الجهميةُ: نسبةً إلى الجهم بن صفوان الترمذي الضال، والنسبةُ إليه جهمي بفتح الجيم، والجهمُ أخذ بدعتهُ هذه، أي بدعةُ تعطيل الصفات من الجعد بن درهم، فهو أولُ من تكلم في التعطيل في الإسلام، فقتلهُ خالدُ بنُ عبد الله القسريُ بعد أن استشار علماء التابعين فأفتوا بقتله، فخطب في يوم عيد الأضحى فقال: يا أيها الناسُ ضحُوا تقبل اللهُ ضحاياكم فإني مُضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليمًا، فنزل فذبحهُ في أصل المنبر، قال ابن القيم رحمهُ اللهُ.
ولذا ضحى بجعد خالد الـ |
|
قسريُ يوم ذبائح القربان
|
إذ قال إبراهيمُ ليس خليله |
|
كلا ولا موسى الكليمُ الداني
|
شكر الضحية كلُ صاحب سُنة |
|
لله درُك من أخي قربان
|
(الشـرح) إذ قال إبراهيمُ ليس خليله، كلا ولا موسى الكليمُ الداني، يعني: انكر الكلا وأنكر التكليم، انكر الصفين، الجعد هو المؤسس عقيدة نفي الصفات، المؤسس هو الجعد بن درهم، وأول ما بدأ بالتعطيل نفى الصفتين فقط، صفة الكلام وصفة الخُلة، لكن هاتين الصفتين ترجع إلى مذهب نفي الصفات، نفي صفة الكلام إنكار للنبوة والرسالات والكتب السماوية، والخُلة كذلك صفة من صفات الله، كمال المحبة قطع الصلة بين الله وبين خلقة، ثم جاء بعده الجهم وتوسع في هذه العقيدة ونفى جميع الصفات، نعم.
(المتــن) والجعدُ بنُ درهم أولُ من قال بخلق القرآن، أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبانُ عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم زوج ابنته، وأخذها لبيدُ عن يهودي باليمن.
(الشـرح) هذه سلسلة عقيدة نفي الصفات، الجعد أول من تكلم بعقيدة نفي الصفات، والجهم أخذها عن الجعد والجعد أخذها عن أبان بن سمعان وأبان أخذها عن طالوت بن أُخت لبيد، وطالوت أخذها عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الساحر الذي سحر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فصارت عقيدة نفي الصفات تقتصر إلى اليهود، ثم أيضاً أخذ عن الصابئة الجعد، وهم عُباد الكواكب وكانت في أرض حران، فصارت عقيدة نفي الصفات تقتصر على اليهود والصابئة والمشركين، هنا قال: أن لبيد أخذ عن يهودي في اليمن، يكفي أنهُ أخذها عن لبيد بن أعصم، نعم.
(المتــن) وأخذ هذه البدعة عن الجعد الجهمُ بنُ صفوان الترمذيُ، وأخذ عن الجهم بشر المريسيُ، وأخذها عن بشر أحمدُ بنُ أبي داؤد.
(الشـرح) أحمد بن أبي دؤاد الذي كان رئيس القُضاة في زمن المأمون، حينما حمل الناس على قوله خلق القرآن، لأن المعتزلة أثروا عليه ورئيسهم أحمد بن أبي دؤاد، وذكر الجعد بن درهم (...) ، نعم.
(المتــن) وأما الجهمُ بنُ صفوان فقتلهُ سلمُ بنُ أحوز أميرُ خراسان سنة مائة وثمانية وستين، ونُسبت الطائفةُ إلى الجهم؛ لأنه الذي ناضل عن هذا المذهب الخبيث وأظهرهُ ودعا إليه، وتقلد هذا المذهب الخبيث بعدهُ المعتزلةُ، ولكن كان الجهمُ أدخل في التعطيل منهم.
(الشـرح) أنتقل هذا المذهب إلى المعتزلة، وأدخل: يعني أوسع وأشدُ غلوا لأن المعتزلة نفوا الصفات وأثبتوا الأسماء، والجهم نفى الصفات، وهو ادخل التعطيل يعني: أشد تعطيلاً، نعم.
(المتــن) لأنهُ ينكرُ الأسماء حقيقةً وهم لا ينكرون الأسماء بل الصفات، قال جمع من العلماء في الجهمية: إنهم ليسوا من فرق هذه الأمة الثنتين والسبعين فرقةً، منهم عبدُ الله بنُ المبارك ويوسفُ بنُ أسباط وغيرُهم.
قال ابنُ القيم رحمهُ اللهُ في (النُونية):
ولقد تقلد كُفرهم خمسون في |
|
عشر من العلماء في البلدان
|
واللالكائي الإمامُ حكاهُ عنهم |
|
بل قد حكاهُ قبلهُ الطبراني
|
(الشـرح) خمسون يعني: عشر وخمسمائة.
(المتــن) قال الشيخُ تقيُ الدين بنُ تيمية رحمه اللهُ: المشهورُ من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفيرُ الجهمية، وهم المعطلةُ لصفات الرحمن، فإن قولهُم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسلُ من الكتاب والسنة.
(الشـرح) يعني أكثر العلماء على تكفير الجهمية، كما قال بن عباس، نعم.
(المتــن) من الكتاب والسنة، وحقيقةُ قولهم جحودُ الصانع وجحودُ ما أخبر به على لسان رسوله بل وجميع الرسُل.
(الشـرح) -نعوذ بالله-، يعني: يؤدي به النفي إلى نفي الصانع خبر عن الله من باب الخبر وليس أسم، والجحود مما أخبر به، يعني: يؤدي كلامهم إلى إنكار وجود الله، وإنكار ما أخبر الله به، نعم.
(المتــن) وحقيقةُ قولهم جحودُ الصانع وجحودُ ما أخبر به على لسان رسوله بل وجميع الرسُل، ولهذا قال عبدُ الله بنُ المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيعُ أن نحكي كلام الجهمية، وقال غيرُ واحد من الأئمة: إنهم أكفرُ من اليهود والنصارى.
قولُهُ: وأهلُ التمثيل المشبهةُ: أهلُ التمثيل المشبهةُ الذين شبهوا الله بخلقه ومثلوه بهم – تعالى اللهُ عن قولهم علوًا كبيرًا – والتشبيهُ ينقسمُ إلى قسمين كما تقدم:
الأول: تشبيهُ الخالق بالمخلوق، كما تقولُ: لله يد كأيدينا، وعين كأعيننا، وقدم كأقدامنا.
الثاني: تشبيهُ المخلوق بالخالق كتشبيه الأصنام والأوثان بالله -سُبحانهُ وتعالى عن ذلك- فإنهُ -سُبحانهُ- لا شبيه لهُ ولا مثيل لهُ ولا نظير، قال تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ) – (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) – (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ) – (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) فالمعطلةُ غلوا في النفي حتى شبهوه بالمعدومات والناقصات، والمشبهةُ غلوا في الإثبات حتى شبهوهُ بالمخلوقات، وأهلُ السُنة والجماعة أثبتوا لله الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات.
(الشـرح) وهذا هو الصراط المستقيم، وهو الوسط (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) خياراً عدولا، نعم.
(المتــن) قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: هم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية.
قال الشارح -رحمه الله-: فالجبريةُ نفوا أفعال العباد، وزعموا أنهم لا يفعلون شيئًا ألبتة، وإنما اللهُ هو فاعلُ تلك الأفعال حقيقةً، فهي نفسُ فعله لا أفعالهم، والعبيدُ ليس لهم القدرةُ ولا إرادة ولا فعل ألبتة، وإنما أفعالُ العباد كحفيف الأشجار أو كحركة المرتعش والكلُ فعلُ الله، وعليه فسائرُ الأفعال طاعة؛ لأنها موافقة لإرادة الله الكونية القدرية، فالزنا واللواطُ والقتلُ وشربُ الخمر على هذا القول طاعات.
(الشـرح) نعوذ بالله فالجبرية يقولون: الأفعال أفعالُ الله، فهو المُصلى والصائم، والعباد وعاءٌ للأفعال كالكوب الذي يُصبُ فيه الماء واللهُ تفضل بملئه، هكذا يقول العبدُ وعاء، -نسأل الله العافية-، نعم.
(المتــن) وقد قال بعضُ غلاتهم:
أصبحتُ منفعلاً لما يختارُهُ |
|
ربي ففعلي كلُه طاعاتُ
|
(الشـرح) -لا حول ولا قوة الا بالله - إذا كانت الأفعال أفعال الله فتكون كُلها طاعات ولو كانت معاصي، نعم.
(المتــن) ولا شك في فساد هذا المذهب، وأدلةُ الكتاب والسنة بل والعقلُ متواطئة على رده وإبطاله، بل لا يمكنُ أن تعيش أمة على هذا المذهب الخبيث، أو تنتظم أمورُها، ولا شك أن هذا المذهب مخالف لجميع أديان الأنبياء، والجبريةُ سمُوا بذلك لأنهم يقولون: إنا مجبورون على أفعالنا، فغلوا في إثبات القدر، وزعموا أن العبد لا فعل له ألبتة، قال في التعريفات: الجبريةُ من الجبر، وهو إسنادُ فعل العبد إلى الله
(الشـرح) يعني: طائفتان، غُلاةٌ ومتوسطون، فالغلات الجهمية، والمتوسطون الأشاعرة، نعم.
(المتــن) والجبريةُ اثنان متوسطة تثبتُ للعبد كسبًا في الفعل كالأشعرية. متوسطة تثبتُ للعبد كسبًا في الفعل كالأشعرية، وخالصة لا تثبتُ كالجهمية، انتهى.
(الشـرح) نعم هم طائفتان، متوسطة وغُلاة، يُثبتون للفعل أفعال بين مقدورين، فالأشاعرة يقول: العبد لا فعل له، ومع ذلك يقول: لهُ فعل، يعني القدرة بين مقدورين، يُسموه الكاسب، يقول لا، العبد لا فعل له، ولكن لهُ كسب، كيف يكون لهُ كسب ولا فعل له! قال: هكذا. قدرة بين مقدورين ولهذا يُقالُ الحالات الثلاث كسبٌ +، كيف العبد لهُ كسبٌ ولا فعل له!؟ غير معقول، فالحالات الثلاث: كسبُ الأشعري، وقصص النظام، ومرحلة النهاية، قصص النظام يقول النملة، قصصت، انتقلت من مكان إلى مكان وهي في مكانها، هذا غير معقول، وسط العبد قالوا العبد مجبور ثم (...) كسباً، نعم. ومع ذلك صاروا أخف من الجهمية، نعم.
(المتــن) ولفظُ جبر لفظ مبتدع أنكرهُ السلفُ، كالثوري، والأوزاعي، وأحمد، وغيرهم، وقالوا: الجبرُ لا يكونُ إلا من عاجز، فيقالُ جبر كما جاءت به السُنةُ، أشار إلى ذلك الشيخُ تقيُ الدين وابنُ القيم رحمهما اللهُ، وأصلُ قول الجبرية مأخوذ عن الجهم بن صفوان، فهو إمامُ المجبرة، والجبريةُ عكسُ القدرية نفاة القدر، فإن القدرية نُسبوا إلى القدر لنفيهم إياهُ، وقد تُسمى الجبريةُ قدريةً؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر، والتسميةُ على النافين أغلبُ: قال الشيخُ تقيُ الدين في (تائيته):
ويُدعى خصومُ الله يوم معادهم |
|
إلى النار طُرًا فرقة القدرية
|
سواء نفوا أو قد سعوا ليُخاصمُوا |
|
به الله أو ماروا به للشريعة
|
فالقدريةُ النُفاةُ همُ الذين ورد فيهم الحديثُ الذي في السُنن أنهم مجوسُ هذه الأمة، وأكثرُ المعتزلة على هذا المذهب الباطل، فإنهم يقولون: إن أفعال العباد وطاعتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فاللهُ -سُبحانهُ وتعالى- على زعمهم لا يقدرُ على أفعال العباد ولا شاءها منهم، ولكنهم يعملونها دون مشيئة الله وقدرته، وأن الله لا يقدرُ أن يهدي ضالاً ولا يُضل مهتديًا، فأثبتوا خالقًا مع الله سُبحانهُ، وهذا إشراك مع الله في توحيد الرُبُوبية.
(الشـرح) وأنهم قالوا العباد خالقون لأفعالهم، جعلوا الأفعال لها رب، ولكل إنسان ربٌ خالقٌ لأفعاله، فجعلوا خالق مع الله، نعم.
(المتــن) قال الشيخُ تقيُ الدين بنُ تيمية -رحمه اللهُ-: "وقولُ القدرية يتضمنُ الإشراك والتعطيل، فإنه يتضمنُ إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل، ويتضمنُ إثبات فاعل مستقل غير الله، وهاتان شُعبتان من شُعب الكُفر، فإن أصل كُل كُفر هو التعطيلُ والشركُ". انتهى. (منهاج).وقد وردت أحاديثُ في ذم القدرية وأنهم مجوسُ هذه الأمة، وذلك لمضُاهاة قولهم لقول المجوس، فإن المجوس يُثبتون خالقين، خالق الخير وخالق الشر، وهما النُورُ والظُلمةُ، فالنُورُ خالقُ الخير، والظُلمةُ خالقةُ الشر، وكذلك القدريةُ أثبتوا خالقين: أثبتوا أن الله خالقُ الحيوان وأن الحيوان يخلُقُ فعل نفسه، فمما ورد في ذمهم ما رواه أبو داود في "سننه" من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما - أن النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: ((القدريةُ مجُوسُ هذه الأمة، إن مرضُوا فلا تعُودُوهُم، وإن ماتُوا فلا تشهدُوهُم)). ورُوي في ذم القدرية أحاديثُ أُخرُ، تكلم أهلُ الحديث في صحة رفعها، والصحيحُ أنها موقوفة، وأولُ من تكلم في القدر معبد الجهنيُ، ثم غيلانُ الدمشقيُ، وكان ذلك في آخر عصر الصحابة، وأنكر عليهمُ الصحابةُ وتبرءوا منهم وبدعُوهم.
(الشـرح) ومنهم من قال هُناك من سبقهم رجلٌ يقال لهُ شوشن، شوشن أول من تكلم بالقدر، وشوشن غير مسلم وغير عربي، تكلم به، لكن المشهور عند العلماء معبد الجهني وكان ذلك في البصرة، نعم.
(المتــن) وكان ذلك في آخر عصر الصحابة، وأنكر عليهمُ الصحابةُ وتبرءوا منهم وبدعُوهم، فالجبريةُ غلوا في إثبات القدر، والمعتزلةُ غلوا في نفيه، وهدى اللهُ أهل السُنة والجماعة للقول الوسط الذي تؤيدُه أدلةُ الكتاب والسُنة، فأثبتوا أن العباد فاعلون حقيقةً، وأن أفعالهم تُنسبُ إليهم على جهة الحقيقة لا على جهة المجاز، وأن الله خالقُهم وخالقُ أفعالهم، كما قال: (واللهُ خلقكُم وما تعملُون) وأثبتوا للعبد مشيئةً واختيارًا تابعين لمشيئة الله، كما قال –سبحانه-: (وما تشاءُون إلا أن يشاء اللهُ ربُ العالمين). وسيأتي الكلامُ على هذه المباحث إن شاء اللهُ.