يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحه الله تعالى- (وفي باب وعيد الله بين المُرجئة و بين الوعيدية من القدرية وغيرهم).
(الشـرح) المؤلف جمع الأدلة بين المُرجة وبين القدرية، يعني: أهل السنة والجماعة وسط في باب الوعيد بين القدرية وبين المُرجئة، القدرية يعني: المُعتزلة الذين يرون أن المؤمن يخرج من الإيمان بالمعاصي، وكذلك أيضاً الخوارج الذين يُكفرونه، وبين المُرجئة الذين يقولون المعاصي لا تضُر، أهل السُنة وسط، والمعاصي تضُر قوة الإيمان وتُضعفه، لكنها لا تقضي عليه، كما يقول الخوارج والمعتزلة، فيكفر ويخرج من الإيمان ولكن يبقى معهُ أصل الإيمان ويضعف الإيمان، يتأثر الإيمان ولكن لا ينتهي، لا ينتهي الإيمان كما تقوله الوعيدية، ويتأثر لا كما تقوله المُرجئة بان الإيمان يبقى كاملا، نعم.
(المتــن) قال الشيخ الرشيد -رحمه الله تعالى- في قولُه: وفي باب وعيد الله: الوعيدُ: التخويفُ و التهديدُ، فالوعيدُ والإيعادُ في الشر، وأما الوعدُ والعدةُ ففي الخير، كما قال الشاعرُ:
وإني وإن أوعدتُه أو وعدتُه |
|
مُخلفُ إيعادي ومُنجزُ موعدي |
(الشـرح) الوعيد في الشر والوعد في الخير، وعدتُك كذا، وعدتُ، نعم.
(المتــن) قولُه: المُرجئةُ: المُرجئةُ نسبة إلى الإرجاء، أي: التأخير؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان، حيثُ زعموا أن مرتكب الكبيرة غيرُ فاسق، وأن الناس في الإيمان سواء، فإيمانُ أفسق الناس كإيمان الأنبياء، وأن الأعمال الصالحة ليست من الإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكُلية، ومذهبُهم باطل تردُه أدلةُ الكتاب والسُنة، ولا شك أن هذا المذهب من أخبث المذاهب وأفسدها؛ إذ يدعو إلى الانسلاخ من الدين وإهمال جميع الأعمال، واستباحة جميع المنكرات، وهؤلاء أحدُ فرق المبتدعة، قال الشيخ تقيُ الدين: لا تختلفُ نصوصُ أحمد أنه لا يكفرُ المُرجئة، فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، والمُرجئةُ فرقتان:
الأُولى: الذين قالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان، وهُم مع كونهم مبتدعةً في هذا القول فقد وافقوا أهل السُنة على أن الله يعذبُ من يعذبُه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجُهم بالشفاعة، كما جاءت به الأحاديثُ الصحيحةُ، وعلى أنه لا بُد في الإيمان أن يتكلم به بلسانه، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركُها مستحقُ للذم والعقاب، وقد أُضيف هذا القولُ إلى بعض الأئمة من أهل الكوفة.
أما الفرقةُ الثانيةُ: فهم الذين قالوا: إن الإيمان هُو مجردُ التصديق بالقلب، وإن لم يتكلم به، ولا شك في فساد هذا القول، ومصادمته لأدلة الكتاب والسُنة، فإن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، فإذا اختل واحد من هذه الأركان لم يكُن الرجُلُ مؤمنا، وعلى هذا أدلةُ الكتاب والسُنة.
(الشـرح) يعني: جعلوا المُرجئة فرقتان: مُرجئة الفُقهاء، والثانية وهم المُرجئة المحضة، ومنهم من قسمهم إلى ثلاث فرق، ذكر شيخ الإسلام قال: المُرجئة ثلاثةُ أصناف ذكر مُرجئة الفُقهاء وذكر فرقتان: فرقةٌ تُدخل أعمال القلوب وفرقة تُحرج أعمال القلوب، ويمكن جلهم أربع فرق يُقال مُرجئة الجهمية، ومُرجئة الكرّامية، ومُرجئة الماتُريدية، ومُرجئة الفُقهاء، نعم.
(المتــن) على هذا السلفُ الصالحُ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين. انتهى. من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- بتصرُف.
قولُه: الوعيديةُ: وهُم القائلون بالوعيد، وهُو أصل من أصول المعتزلة، وهُو أن الله لا يغفرُ لمرتكب الكبيرة إلا بالتوبة، وأن أهل الكبائر مخلدون في النار، ويخرجُونهم من الإيمان بالكُلية، ويكذبون بشفاعة النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- وغيره زعمًا منهم أنه إذا أوعد عبيده فلا يجوزُ أن يعذبهم ويُخلف وعيده، وهذا المذهبُ يقولُ به المعتزلةُ والخوارجُ، وهُو باطل تردُه أدلةُ الكتاب والسُنة.
المتواترةُ والإجماعُ، قال اللهُ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) قال في (فتح المجيد): وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذُنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار.
(الشـرح) لأن قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) جعله تحت الشرك، نعم.
(المتــن) ولا يجوزُ أن يُحمل قولُه سبحانه: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) على التائب، فإن التائب من الشرك مغفور له، كما قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) فهُنا عمم وأطلق؛ لأن المراد هنا التائبُ، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتُب، هذا ملخصُ كلام شيخ الإسلام تقي الدين -رحمهُ اللهُ-.
أما القولُ الوسطُ الذي عليه أهلُ السُنة والجماعة فهُو أن الفاسق معه بعضُ الإيمان واصله ، وليس معه جميعُ الإيمان الواجب الذي يستوجبُ به الجنة، فهُو تحت مشيئة الله إن عفى عنه أدخله الجنة من أول وهلة، وإلا عذبه بقدر ذُنوبه، ثم أدخله الجنة، فلا بد له من دخول الجنة، فلا يُعطى الإيمان المطلق، ولا يُسلبُ عنه مُطلقُ الإيمان، بل يُقالُ مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقالُ مؤمن ناقصُ الإيمان، وهذا هُو الحقُ الذي دلت عليه أدلةُ الكتاب والسُنة، ودرج عليه السلفُ الصالحُ، عكس ما عليه الخوارجُ والمعتزلةُ والمُرجئةُ، فالمُرجئةُ في طرف، والخوارجُ والمعتزلةُ في طرف آخر، فالخوارجُ والمعتزلةُ غلوا، والمُرجئةُ جفوا، فالمُرجئةُ يقولون: لا يضُرُ مع الإيمان ذنب، والخوارجُ يقولون: يكفرُ المسلمُ بكُل ذنب. وكذلك المعتزلةُ يقولون: يحبطُ إيمانُه كُلُه بالكبيرة فلا يبقى معه شيء من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: يخرجُ من الإيمان، ويدخُلُ في الكُفر، والمعتزلةُ يقولون: يخرجُ من الإيمان، ولا يدخُلُ في الكُفر، بل يكونُ في منزلة بين منـزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار، وكلاهما مخالف للسُنة المتواترة ولإجماع سلف الأمة وأئمتها.
وأما استدلالُهم بقوله سبحانه: (لا يصلاها إلا الأشقى) فقد بين النبيُ -صلى اللهُ عليه وسلم- أن هذا الصلي لأهل النار الذين هم أهلُها، كما في حديث أبي سعيد، وأن الذين ليسوا هُم من أهلها، فإنها تُصيبُهم بذُنوبهم، وأن الله يُميتُهم فيها حتى يصيروا فحما، ثم يُشفعُ فيهم فيخرجون، ويؤتى بهم إلى نهر الحياة فينبُتون كما تنبُتُ الحبةُ في حميل السيل، وهذا المعنى مستفيض عن النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- بل متواتر في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما، قال والصليُ المذكورُ في الآية هُو الصليُ المطلقُ، وهُو المُكثُ فيها والخلودُ على وجه يصلُ العذابُ إليهم دائما.
(الشـرح) (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى) يعني: مُخلد، نعم.
(المتــن) فأما من دخل وخرج فإنه نوع من الصلي المطلق. انتهى. من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- بتصرُف.
يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى- وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرُورية والمُعتزلة، وبين المُرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسُول الله صلى اللهُ عليه وسلم بين الرافضة و بين الخوارج.
(الشـرح) في باب أسماء الدين، يعني: أهل السُنة ولجماعة وسط في باب أسماء الدين بين الحرُورية والمُعتزلة الذين يُسمون العاصي كافراً ويخلدونه في النار، وبين المُرجئة الذين يقولون: لا يضُر مع الإيمان ذنب، وأن المعاصي لا تؤثر، نعم.
(المتــن) قال الشيخ الرشيد - رحمه الله تعالى-: وفي باب أسماء الإيمان والدين، أي أن هؤلاء تنازعوا في الأسماء والأحكام أي: أسماء الدين، مثل مسلم وكافر وفاسق، وكذلك في أحكام هؤلاء في الدُنيا والآخرة، فالخوارجُ والمعتزلةُ متفقون في اسم الدين مثل مؤمن ومسلم وفاسق وكافر، إلا أن المعتزلة أحدثوا المنـزلة بين المنـزلتين، وهذه خاصةُ المعتزلة التي اختُصُوا بها دون غيرهم دون سائر أقوالهم، فقد شاركهم فيها غيرُهم، فالخوارجُ والمعتزلةُ يقولون: إن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد، ولكن لا يزيدُ ولا ينقُصُ، ومن أتى كبيرةً كفر عند الحرورية، وصار فاسقًا عند المعتزلة في منـزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر.
(الشـرح) يعني: هم يوافقون -الخوارج والمعتزلة- أهل السُنة يقول: بأن الإيمان قولٌ وعمل واعتقاد، لكن يُخالفونهم في أنهُ لا يزيد ولا ينقُص، وفي أنهُ لو صار كبيرة ذهب الإيمان كُلهُ، نعم.
(المتــن) وأما الحُكمُ، فالمعتزلةُ وافقوا الخوارج على حُكمهم في الآخرة، فعندهم أن من أتى كبيرةً فهُو خالد مخلد في النار لا يخرجُ منها لا بشفاعة ولا بغير شفاعة، أما في الدُنيا فالخوارجُ حكموا بكفر العاصي واستحلُوا دمه وماله، وأما المعتزلةُ فحكموا بخروجه من الإيمان ولم يُدخلُوه في الكفر، ولم يستحلُوا منه ما استحلتهُ الخوارجُ.
(الشـرح) نعم. فإن الخوارج يقتلونه ويستحلون دمه وماله، والمعتزلة لا يفعلون هذا، لكن في الآخرة يتفقون على التخليد في النار، نعم.
(المتــن) وقابلتُهم المُرجئةُ والجهميةُ ومن اتبعهُم، فقالوا: ليس من الإيمان فعلُ الأعمال الواجبة، ولا تركُ المحظورات البدنية، فإن الإيمان لا يقبلُ الزيادة ولا النُقصان، بل هُو شيء واحد يستوي فيه جميعُ المؤمنين من الملائكة والمقتصدين والمُقربين والظالمين.
(الشـرح) يعني: لا فرق بين المؤمنين والعُصاة والظالمين، كُلهم شيءٌ واحد في الإيمان، نعم.
(المتــن) بل هُو شيء واحد يستوي فيه جميعُ المؤمنين من الملائكة والمقتصدين والمُقربين والظالمين، فالمُرجئةُ يقولون: الإيمانُ مجردُ التصديق، والجهميةُ يقولون: مجردُ المعرفة.
(الشـرح) مُجرد التصديق يعني: غير الجهمية، والتصديق هو القول، والمُرجئة الماتُريدية تقول: هو التصديق، والجهمية تقول هي المعرفة، نعم.
(المتــن) والأعمالُ ليست من الإيمان، فإيمانُ أفسق الناس كإيمان الأنبياء والمرسلين، وقالوا: لا يضُرُ مع الإيمان ذنب، فالخوارجُ والمعتزلةُ غلوا، والمُرجئةُ والجهميةُ جفوا، وهدى اللهُ أهل السُنة والجماعة للقول الوسط، وهُو كما تقدم أن الإيمان والدين قول وعمل واعتقاد، وأنه يزيدُ وينقُصُ، وأن صاحب الكبيرة مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقصُ الإيمان، وأما حُكمُه في الآخرة، فهُو تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة من أول وهلة، وإلا عذب بقدر ذُنوبه ثم دخل الجنة، فلا بد له من دخول الجنة، هذا هُو القولُ الحقُ الذي تدلُ عليه أدلةُ الكتاب والسُنة، وعليه السلفُ الصالحُ والأئمةُ.
قولُه: الحروريةُ: هم الخوارجُ، سُمُوا حروريةً نسبةً إلى قرية حروراء بالفتح والمد، قرية بالعراق قريبة من الكوفة اجتمعوا فيها حين خرجُوا على علي -رضي اللهُ عنه- فسُمي الخوارجُ حروريةً.
وأما المعتزلةُ فهم أصحابُ واصل بن عطاء الغزال.
(الشـرح) واصل بن عطاء الغزال وعمرو بن عُبيد رؤوس المُعتزلة، ويُقال أن واصل بن عطاء كان فصيحاً ولكنه كان فيه لدغةٌ قبيحة في الراء، فكان من فصاحته وبلاغته أنهُ يتجنب الراء، يُلقي الخُطبة الطويلة ويتجنب الراء، بفصاحته وقُدرته حتى لا تتبين لدغتهُ، فقيل لهُ مرةٌ قُل: أمر الأميرُ بحفر البئر في قارعة الطريق، كُل كلمة فيها راء، فقال: أوعز القائد بقلب القليبُ في الجادة، أتى بالمعنى وتجنب الراء، نعم.
(المتــن) وأما المعتزلةُ فهم أصحابُ واصل بن عطاء الغزال، اعتزل عن مجلس الحسن البصري، وأخذ يقررُ أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، ويُثبتُ له المنـزلة بين المنـزلتين. فقال الحسنُ: قد اعتزل عنا واصل، ويُلقبُون بالقدرية لإسنادهم أفعال العباد إلى قُدرتهم، وقالوا: إن من يقولُ بالقدر خيره وشره من الله أولى باسم القدرية، ويردُه قولُه -صلى اللهُ عليه وسلم-: ((القدريةُ مجوسُ هذه الأمة)). ولقبوا أنفُسهم بأصحاب العدل والتوحيد، لقولهم بوُجوب الأصلح على الله، وقولهم بنفي الصفات، وبأن كلامه مخلوق مُحدث، وبأنه غيرُ مرئي في الآخرة، ويجبُ عليه رعايةُ الحكمة في أفعاله، وثوابُ المطيع والتائب، وعقابُ صاحب الكبيرة، ثم افترقوا عشرين فرقةً يكفر بعضُهم بعضا.