(المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم اغفر لشيخنا وارزقنا وإياه علماً نافعاً وعملاً صالحاً متقبلا.
قال الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد:
كتاب التوحيد
وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ
وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.
وقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.
وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
وقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتقونَ.
قال ابن مسعود : «من أراد أن ينظر إلى وصية محمّد ﷺ التي عليها خاتَمُه فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا - إلى قوله - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا الآية.
وعن معاذ بن جبل قال: كنتُ رديفَ النبي ﷺ- على حمار، فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقُّ اللهِ على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذِّبَ من لا يُشرك به شيئاً. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشِّرهم فيتّكلوا. أخرجاه في الصحيحين
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله سلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
فهذا كتاب التوحيد للإمام المجدد الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى المجدد لما درس من معاني التوحيد من النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري المولود سنة خمس عشرة ومائة وألف والمتوفى سنة ست ومائتين وألف رحمة الله عليه.
هذا الكتاب كتاب التوحيد كتاب عظيم ألفه هذا الإمام لبيان توحيد العبادة بالأدلة وما ينافيه أو ينافي كماله الواجب مع بيان توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
والتوحيد كما قرر أهل العلم باستقراء أنواع ثلاثة: توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وهذا الكتاب كتاب عظيم لم يؤلف في بابه مثله قال شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز-رحمه الله-: لا نعلم أنه ألف في معناه مثل هذا الكتاب وهو توحيد العبادة في موضوع توحيد العبادة، نعم حتى الإمام البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح عقد كتابا في آخر الجامع كتاب التوحيد ولكن البخاري رحمه الله الأبواب التي بحثها النصوص التي أوردها في إثبات توحيد الربوبية والأسماء والصفات وذلك لأنه في زمانه وجد أهل البدع انتشر مذهب المعتزلة والجهمية والأشاعرة فلهذا أراد رحمه الله بيان معتقد أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء والصفات لله والرد على أهل البدع ولهذا اسم الكتاب "كتاب التوحيد والرد على الجهمية"البخاري رحمه الله في آخر الجامع سمى كتاب التوحيد والرد على الجهمية والجهمية ينكرون الأسماء والصفات فلذلك اعتنى البخاري رحمه الله ببيان وفي تقرير توحيد الأسماء توحيد الربوبية والأسماء والصفات لوجود أهل البدع المعطلة في زمانه أما الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإنه ألف في كتاب التوحيد في بيان توحيد العبادة موضوعه بيان توحيد العبادة بالأدلة وما ينافيها وينافي كماله الواجب مع بيان توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسبب ذلك انتشار الشرك في زمانه انتشار الشرك الذي ينافي توحيد العبادة وذلك أن القبور التي تعبد من دون الله كانت منتشرة في نجد وفي جزيرة العرب عامة و في غيرها فلهذا ألف رحمه الله هذا الكتاب في بيان توحيد العبادة وما ينافيه من الشرك الأكبر أو ينافي كماله الواجب لأن القبور منتشرة تعبد من دون الله ويدعى أصحابها من دون الله وينذر لهم ويذبح لهم فلهذا اعتنى رحمه الله بتوحيد العبادة وألف هذا الكتاب وبوبه وجعل فيه أبوابا تزيد عن الستين ستة وستين باباً.
وطريقته فيه طريقة البخاري رحمه الله في التراجم وفي الاستدلال وهو أنه يذكر الترجمة إما أن يذكر الترجمة أو تكون الترجمة آية من كتاب الله ثم يذكر الآيات ثم الأحاديث ويذكر أيضاً الآثار ذكرها عن الصحابة، الصحابة أو التابعين أو من بعدهم وأقوال أهل العلم ومن تبعهم من غيرهم قد ينقلوا أقوال شيخ الإسلام قد ينقلوا أقوال ابن القيم ولغيرهم وطريقته طريقة البخاري رحمه الله ثم يذكر المسائل في آخر كل باب طريقة الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد هي طريقة البخاري هي تراجم والتبويب.
وذكر الأدلة من الكتاب ومن السنة وأقوال السلف والمؤلف رحمه الل.
ه ابتدأ كتابه بقول بسم الله الرحمن الرحيم اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بالحديث كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع والحديث أخرجه ابن حبان (من طريقين) وقال ابن صلاح حديث حسن وله شواهد لأبي داود وابن ماجة: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع و في لفظ لأحمد: كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع. وعند الدارقطني عن أبي هريرة : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع. واقتصر المؤلف رحمه الله في بعض النسخ على البسملة لأنها من أبلغ الثناء والذكر. واقتداء بالنبي ﷺ فإنه يقتصر عليها في مراسلاته كما في كتاب لهرقل عظيم الروم فإنه ابتدأ بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم جميع الأريسيِين.
في بعض النسخ اقتصر المؤلف رحمه الله على بسم الله الرحمن الرحيم وفي بعضها زيادة أثنى بالحمد والصلاة على النبي ﷺ فقال الحمد لله وصلى الله على محمد وآله وسلم ثنى بالحمد والصلاة على النبي ﷺ وعلى آله وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي و بالحمدلة نسبي إضافي أي بالنسبة لما بعد الحمد يكون مبدوءا به والحمد.
قوله (الحمد لله والصلاة الله على محمد و آله وسلم) هذه الجملة في بعض النسخ دون البعض والحمد معناه الثناء, الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم الحمد أبلغ من المدح الحمد هو الثناء على المحمود على فعله الاختياري مع حبه وإجلاله وتعظيمه بخلاف المدح فإن المدح ثناء عليه بالصفات الموجودة فيه وقد لا تكون اختيارية ولا يجب أن يكون معه حب فأنت تثني على الأسد بأنه قوي عضلاته ولكنك لا تحبه بخلاف الحمد فإن الحمد ثناء على المحب على صفاته الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه ولهذا ورد في الكتاب والسنة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ في حق الرب بالحمد قال الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ولم يقل أمدح الله قال الْحَمْدُ لِلَّهِ.
والحمد يكون بالقلب وباللسان وهو أخص من الشكر لأن الشكر يكون باللسان وبالقلب وبالجوارح فهو أعم من الحمد متعلقاً وأخص منه سبباً لأن الشكر يكون في مقابل النعم والحمد يكون مقابل النعمة وغيرها فالشكر أعم من الحمد متعلقاً وأخص منه سبباً أعم منه لأن الشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح ولكن سببه النعمة والحمد أعم سبباً وأخص متعلقاً لأن الحمد يكون بالقلب واللسان ويكون في مقابل النعمة وغيرها فبينهما عموم وخصوص وجهي يجتمعان في النعمة فالثناء على المنعم يسمى شكراً ويسمى حمداً وينفرد كل واحد منهما عن الآخر في مادة. فينفرد الحمد بأنه يكون بالقلب واللسان وينفرد الشكر بأنه في مقابل النعمة وقيل لا فرق بينهما وكل منهما يكون بالقلب واللسان والجوارح.
وقوله(صلى الله على محمد) أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده ما ذكره البخاري رحمه الله (عن ابن العالية) قال صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى يعني عند الملائكة وقيل أن الصلاة تشمل الثناء والرحمة إلا إذا اجتمعا كما في قوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ فتختص الصلوات بالثناء.
وقوله: (على محمد) اسم نبينا عليه الصلاة والسلام وله أسماء كثيرة محمد وأحمد والماحي والحاشر، الماحي الذي يمحو الله به الكفر و الحاشر الذي يحشر الناس على عقبيه والعاقر الذي ليس بعده نبي وله أسماء متعددة عليه الصلاة والسلام ومحمد من أشهرها وأعظمها وأفضلها سمي محمدا لكثرة محامده عليه الصلاة والسلام لكثرة ما يحمد عليه من الخصال.
وعلى آله، آله: قيل المراد بهم أزواجه وذريته وقيل المراد بهم أتباعه على دينه والصواب أن الآل هم أتباعه على دينه ويشمل الصحابة ويشمل أزواجه وذريته فعطف الصحب على الآل من باب عطف الخاص على العام وعطف الآل على الصحب من باب عطف العام على الخاص وهناك قال المؤلف وصلى الله على محمد وآله، آله: أتباعه على دينه ويدخل في ذلك دخولاً أولياً أزواجه زوجاته وذريته المؤمنون وعمه ابن العباس وحمزة ولا يدخله غير المسلمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وقد يجمع بينهم وقد يقول وعلى محمد وآله وعلى آله وصحبه أو على صحبه وأصحابه وآله فإذا جمع بينهما صار عطف الآل على الصحب من باب عطف العام على الخاص وإذا قدم الآل وعطف عليه الصحب صار عطف الخاص على العام لأن آله تشمل الصحابة وتشمل من بعدهم تشمل الذرية وتشمل الأزواج.
(وسلم): الدعاء له بالسلامة.(صلى الله عليه): أي أن تدعو الله أن يثني عليه في الملأ الأعلى عليه الصلاة والسلام وتدعو الله أن يسلمه من شرور الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (كتاب التوحيد): كتاب مصدر كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتباً وهذه المادة كـ و تـ و بـ تدور على الجمع ومنهم من قال تكتب بنو فلان يعني إذا اجتمعوا ومنه كتيبة لجماعة الخير والكتابة بالقلم باجتماع الأقلام والحروف سمي الكتاب كتاباً لأنه يجمع علوماً متنوعة.
والتوحيد قسمه العلماء إلى ثلاثة أقسام توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع دليلها الاستقراء العلماء استقرؤا النصوص من الكتاب والسنة فوجودا التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام ومن العلماء من قسمه إلى قسمين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم قالوا: التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات وهذا يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد وهذا هو توحيد العبادة.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ
وقوله بالجر معطوف على التوحيد (كتاب التوحيد وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) فالمؤلف رحمه الله صدر هذا الكتاب بالآيات ثم بالأحاديث وأقوال بعض الصحابة على طريقة البخاري رحمه الله كما سبق. هذه الآية قول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ فيها بيان الحكمة من خلق الجن والإنس وأن الله تعالى خلق الجن والإنس لعبادته والعبادة هي التوحيد خلقهم لعبادته وتوحيده والطاعة وهناك حكم أخرى من خلق الجن والإنس وهي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا كما قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ومنها من الحكم أيضاً أن يعرف الرب بأسمائه وصفاته وأنه على كل شيء قدير وأنه محيط بكل شيء علما كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
والجن والإنس هما الثقلان وقدم الجن على الإنس لأنهم أكثر قدم الجن لأنهم أكثر من الإنس وسمي الجن جنا من الاجتنان وهو الاستتار لأنهم يستترون ويختفون عن الأعين والإنس من النوس وهو الحركة فالإنس لأنهم يأنسون ويظهرون أما الجن فإنهم يستترون ويختفون وقد يظهرون أحياناً ولكن الغالب أنهم يختفون وأنهم يروننا ونحن لا نراهم هذا هو الأصل كما قال الله تعالى عن الشيطان: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ وهذا هو الأغلب وقد يظهرون أحياناً.
ثم قال المؤلف رحمه الله وقول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ. هذه الآية فيها بيان الحكمة من إرسال الرسل بين الله تعالى أن الحكمة من إرسال الرسل هو دعوتهم وأممهم لعبادة الله وإخلاصه في التوحيد له وقوله: أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هو معنى لا إله إلا الله فإن معناها لا معبود بحق إلا الله والتوحيد لا بد فيه من اجتناب الطاغوت والكفر بالطاغوت والإيمان بالله كما قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
وهذه الآية فيها الأمران وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ هذا الإيمان بالله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هذا الكفر بالطاغوت قول لا إله في كلمة التوحيد هذا اجتناب الطاغوت والكفر بالطاغوت وقول إلا الله هذا الإيمان بالله.
ومعنى الكفر بالطاغوت البراءة من كل معبود سوى الله ونفي عبادة غير الله وإنكارها والبراءة منها ومن أهلها والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده الطاغوت من الطغيان ومجاوزة الحد حد العبد أن يكون عبداً لله فإذا تجاوز حده بأن دعا غير الله أو رضي أن يعبد من دون الله أو حكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون طاغوتاً بتجاوز الحد. حد الإنسان أن يكون عبداً لله مخلوقاً لعبادة الله فإذا تجاوز هذا الحد بأن دعا إلى غير الله أو حكم بغير ما أنزل الله أو رضي بأن يعبد من دون الله فإنه يكون طاغوتاً بتجاوزه الحد الذي حد له وهو أنه عبد لله ﷺ ويشمل الكافر والمبتدع والعاصي فإن المبتدع والعاصي عنده نوع من الطغيان والطغيان الكامل هو طغيان الكافر والكافر طاغوت تجاوز حده وكذلك المبتدع والعاصي عنده نوع من تجاوز الحد وإن لم يكن تجاوزا كاملاً.
ثم قال المؤلف وقول الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ يعني أمر ووصى بأن لا يعبد إلا إياه وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ هو معنى لا إله إلا الله لا تعبدوا إلا إياه لا إله إلا الله فيها نفي وإثبات أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ نفي العبادة عن غير الله وإثباتها لله. وقوله: وَقَضَى أي أمر ووصى. أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ أي تعبدوه وحده دون من سواه وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
والتوحيد لا يكون إلا بالنفي والإثبات أما النفي المحض فلا يكون توحيداً بل يكون شركاً وكذلك الإثبات دون النفي لا يكون توحيداً فلا يكون التوحيد إلا متضمنا النفي والإثبات. وهذه الآية الكريمة فيها وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ فيها أوامر ووصايا ابتدأها بالتوحيد بالأمر بالتوحيد وهو حق الله بأنه أعظم الحقوق ثم أوصى بالوالدين وإعطائهما حقهما قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا يعني وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا كما قضى بالعبادة له وحده لا شريك له قضى أن تحسنوا بالوالدين إحساناً وقرن الله حق الوالدين بحقه لعظم حق الوالدين قرن الله تعالى حقه بحق الوالدين وحقه بآيات كثيرة منها هذه الآية آية الإسراء ومنها آية النساء والآيات التي بعدها وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ومنها أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
ثم قال موصيا الأبناء على حق الوالدين إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَر هذا خطاب للابن إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أي الوالدين أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا هذه أوامر من الله تعالى للأبناء والبنات من الذكور والإناث قال: َفَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ نهاهما عن التأفيف والمعنى لا تسمعهما قولاً سيئاً ولا حتى التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء ثم قال وَلا تَنْهَرْهُمَا أي لا يصدر منك إليهما فعل قبيح ولا ترفع صوتك عليهما ولا تنفض يديك عليهما ثم بعد ذلك ثم لما نهاهما عن فعل القبيح وعن القول القبيح أمرهما بالفعل الحسن والقول الحسن فقال: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ نلاحظ أن هناك أربعة أوامر: الأمر الأول القول الحسن والفعل الحسن، نهيان وأمران النهي الأول نهي عن القول السيء والثاني نهي أيضاً عن الفعل السيء ثم أمران أمر بالقول الحسن وأمر بالفعل الحسن. فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ هذا القول السيء وَلا تَنْهَرْهُمَا هذا الفعل السيء يشمل رفع الصوت ونفض اليدين نفض اليدين عنهما والأمران ثم أمرهما بالأمر الحسن والفعل الحسن، فالأمر الحسن قال: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا والفعل الحسن وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا أي قولا ليناً طيباً بأدب وتوقير وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي تواضع لهما وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا دعاء أي ادعوا الله لهما في كبرهما وعند وفاتهما أيضاً كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
هذه أوامر و وصايا عظيمة تدل على عظم حق الوالدين عدة أوامر أولاً قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا هذا عام ثم قال فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ستة أوامر: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ، وَلا تَنْهَرْهُمَا ، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا، وذلك أن الوالدين هما السبب في وجود الإنسان. حقهما يكون بعد حق الله .
وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. هذه الآية الثالثة التي ذكرها في الترجمة وهذه الآية من سورة النساء تسمى آية الحقوق العشرة لأن الله ذكر فيها عشرة حقوق وابتدأها بالحق الأعظم وهو حقه سبحانه قال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وهذا هو معنى كلمة التوحيد أمر بالعبادة ونهي عن الشرك أمر بالعبادة هذا هو الإيمان بالله والنهي عن الشرك هذا كفر بالطاغوت والمناسبة ظاهرة للترجمة كتاب التوحيد ظاهرة فإن المؤلف رحمه الله صدر بهذه الآيات التي فيها أمر بتوحيد الله متضمن للنفي والإثبات في جميع الآيات قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ في الآية الأولى والعبادة هي التوحيد والطاعة والتوحيد لا يكون إلا متضمنا للنفي والإثبات ثم الآية الثانية: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ نفي وإثبات ثم الآية الثالثة: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ أيضا نفي وإثبات ثم الآية الخامسة وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أيضاً متضمنة النفي والإثبات وَاعْبُدُوا اللَّهَ هذا الإثبات وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
هذا هو النفي ثم ذكر الله بعد ذلك بقية الحقوق التسعة: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ،ثم قال وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى، أمر الله بالإحسان إلى الوالدين وَبِذِي الْقُرْبَى الإحسان إلى الأقارب وَالْيَتَامَى جمع يتيم وهو من فقد أباه دون البلوغ وَالْمَسَاكِينِ وهم الفقراء وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ (وابن السبيل وهو الغريب المنقطع سمي ابن السبيل لملازمته للطريق يعني ابن الطريق وهذا إذا كان منقطعاً يعطى ولو كان من الزكاة أمر الله بالإحسان إليه)، وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى الجار القريب، وَالْجَارِ الْجُنُبِ الجار البعيد وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: قيل هي الزوجة وقيل هو الصاحب في السفر، وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وابن السبيل: ابن الطريق، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ : هم الأرقاء وهم العبيد من الذكور والإناث هذه الآية (25:41).
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى وقول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إلى آخر الآيات الثلاث هذه الآيات الثلاث من آخر سورة الأنعام تسمى آيات الوصايا العشر فيها وصايا عشر وصى الله تعالى بها عباده إذا عملوا بها وامتثلوها حصلوا على خيري الدنيا والآخرة وأول هذه الوصايا العشر الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وهذا هو معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله وبهذا تظهر مناسبة الترجمة الآية فقال الله سبحانه: قُلْ تَعَالَوْا قل: خطاب للنبي ﷺ قل يا محمد، تَعَالَوْا خطاب موجهة للنبي ﷺ بقوله:قُلْ تَعَالَوْا : يعني هلموا وأقبلوا أَتْلُ يعني أقص عليكم مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أي لا تخرسا ولا ظناً بل وحياً من الله قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فالله تعالى وصى عبادة قال: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ونفي الشرك يستلزم التوحيد إذا انتفى الشرك حل محله التوحيد والمعنى وحدوا الله وابتعدوا عن الشرك أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا هذه الوصية الأولى من الوصايا العشر.
والوصية الثانية قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الإحسان إلى الوالدين ثم الوصية الثالثة قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ الإملاق هو الفقر، نهي عن قتل الأولاد خشية الفقر كما يفعله أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفقر ومنهم من يقتلهم خشية العار يدفنون البنات يدفنونهن وهن أحياء خشية العار وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ وهو الفقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
ثم الوصية الرابعة وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ هذا نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء.
ثم الوصية الخامسة وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ نهي عن قتل النفس المعصومة إلا بالحق والحق بينه حديث مخرج من الصحيحين الذي رواه عبد الله ابن مسعود أن النبي ﷺقال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة هذه حقوق خمسة ذكرت في الآية الأولى ختمها سبحانه بقوله: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ذلكم إشارة إلى هذه المحرمات والوصية هي الأمر المؤكد المقرر وقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لعل لام التعليل فإن الله وصانا بهذه الوصايا نعقلها عنه ونعمل بها.
ثم قال سبحانه وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ هذه الوصية السادسة وهذا نهي عام عن القرب الذي يعم وجوه التصرف وفيه سد للذريعة ثم استثنى ما يحسن وهو السعي لنمائه وقوله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ المراد بالرشد سواء بالسفهه مع البلوغ.
ثم قال سبحانه: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا هذه الوصية السابعة يأمر الله تعالى فيها بإقامة العدل بالأخذ والإعطاء ولا يكلف الله الإنسان إلا على حسب وسعه فإذا اجتهد في أداء الحق وأخذه واستفرغ الوسع وبذل الجهد فلا حرج عليه إن حصل خطأ.
ثم قال سبحانه في الوصية الثامنة وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا هذا أمر بالعدل على بالقول والفعل على القريب والبعيد كما قال الله في الآية الأخرى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فلا يميل الإنسان إلى القريب ولكنه يقول الحق على القريب والبعيد
ثم قال سبحانه في الوصية التاسعة: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا المعنى: وبوصية الله التي وصاكم بها الله أوفوا وامتثال الوصية طاعة الله في أوامره والانتهاء عن نواهيه و العمل بكتابه وسنة رسوله ﷺ وهذا هو الوفاء بعهد الله ثم ختم سبحانه الآية بقوله ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني لعلكم تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه مما يخالف شرع الله.
ثم بين الله في الآية الثالثة الوصية العاشرة وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أمر الله تعالى اتباع الصراط المستقيم والصراط المستقيم هو دين الإسلام وهو حبل الله و دينه وهو ما جاء به محمد ﷺ من الشريعة الخاتمة وهو ما جاء في القرآن والسنة هذه هي الوصية العاشرة لقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ وحد الصراط المستقيم وحد الصراط لأن دين الله واحد و الحق واحد وجمع السبل لأن طرق الباطل متشعبة كثيرة متعددة ثم ختم الآية بقوله: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتقونَولهذا سميت هذه الآية بالوصايا العشر ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتقونَ. الآية الأولى قال: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وفي الآية الثانية قال: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وفي الآية الثالثة قال: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتقونَ وذلك لأنهم إذا تعقلوا تذكروا ثم عملوا فصاروا متقين. أولاً التعقل إذا تعقل الإنسان ثم تذكر ثم عمل ثم صار من المتقين.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله بعد هذه الآيات قال ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمّد ﷺ التي عليها خاتَمُه فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا - إلى قوله - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتقونَ).
معنى كلام ابن مسعود أن النبي ﷺ لم يوص ولو أوصى لكانت وصيته هي وصية الله بمعنى لو أن النبي ﷺ لو أوصى لكانت وصيته هي وصية الله لعباده و الله تعالى أوصى عباده بهذه الوصايا العشر ولا يمكن أن يوصي النبي ﷺ أمته إلا بما وصاه الله به. ولهذا قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمّد ﷺ التي عليها خاتَمُه فليقرأ هذه الآيات لأن وصية النبي ﷺ هي وصية الله لعباده.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث معاذ بن جبل الذي أخرجه الشيخان عن معاذ بن جبل قال: كنتُ رديفَ النبي ﷺ على حمار، فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله؟. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقُّ اللهِ على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذِّبَ من لا يُشرك به شيئاً. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشِّرهم فيتّكلوا. أخرجاه في الصحيحين
هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن معاذ وهذا الحديث قاله النبي ﷺ وهو رديفه على الحمار فيه تواضع النبي ﷺ حيث أردف معاذاً على الحمار على خلاف عادة المتكبرين الذين يستنكرون أن يكون لهم رديف بعض العظماء و الأمراء يستنكر أن يكون معه رديف أما النبي ﷺ فهو متواضع عليه الصلاة والسلام وهو قدوة المتواضعين عليه الصلاة والسلام ثم قال: أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ أخرجه بصيغة السؤال حتى أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم وفي حديث آخر قال: أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ وفي حديث آخر النبي ﷺ كرر يا معاذ، ثم سار ساعة ثم ناداه يا معاذ ثم سار ساعة جزءاً من الزمن وذلك ليتشوق معاذ لما يلقى إليه أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله فقال معاذ: فقلت: الله ورسوله أعلم هذا فيه حسن الأدب من المتعلم فينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك يقول: الله ورسوله أعلم وهذا في حياته عليه الصلاة والسلام قال الله ورسوله أعلم أما بعد وفاته فإنه يقال: الله أعلم فقط لأن الرسول ﷺ لا يعلم الغيب قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً يعني حق الله العبادة يوحدوه بالعبادة بالحب بغاية الحب مع غاية الذل والخضوع. كما قال ابن القيم رحمه الله:
وعبادةُ الرحمن غايةُ حُبِّه | مع ذُلِّ عابده هُما قطبــان |
وعليهما فَلكُ العبادة دائرٌ | ما دار حتى قامتِ القُطبــان |
ومَدارهُ بالأمر أمرِ رَسوله | لا بالهوى والنفسِ والشيطانِ |
هذه أعظم الحقوق حق الله التوحيد ثم قال: وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً فيها بيان الفرق بين الحقين حق الله هو التوحيد لا الخصومة فيه وحق العباد أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا وهناك فرق بين الحقين حق الله حق إلزام وإيجاب وحق العباد حق تكرم وتفضل قال الشاعر:
ما للعباد عليه حق واجب | كلا ولا سعي لديه ضائع |
إن عذبوا فبعدله أو نعموا | فبفضله وهو الكريم الواسع |
حق الله حق إيجاب وإلزام أما حق العباد حق تفضل وإكرام ثم قال معاذ : قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشِّرهم فيتّكلوا فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره لما كان عليه الصحابة من الاستبشار فقال النبي ﷺ: لا تبشِّرهم فيتّكلوا يعني فيعتمدوا على ذلك ويتركوا التنافس في الأعمال الصالحة وجاء في رواية أن معاذاً أخبر بها عند موته تأثماً أي تحرجاً من الإثم خشي من الإثم فأخبر بها بهذه البشارة عند وفاته وهذا الاتكال من بعض الناس قد يتكل بعض الناس لكن الأكياس والأخيار فإنهم لا تزيدهم هذه البشارة إلا نشاطاً وقوة وزيادة في العمل الصالح فإذا سمعوا مثل هذا زادوا في الطاعة ولهذا أخبر بها معاذ تأثماً عند موته.
سؤال:
(37:28)
الجواب:
نعم، في الإسلام أو بعد ذلك قد يأتي فيما بعد من يسمع الحديث فيتكل ولكن لا بد من إظهار العلم وإفشائه والنبي ﷺ ومعاذ كان قد فهم من النبي ﷺ أنه لم يرد كتمانها وإنما يكتمها في وقت دون وقت نعم ليس ببعيد هذا المقصود أن النبي ﷺ لا يتكلوا في ذلك الوقت ثم أخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
وفق الله الجميع لطاعته وﷺ.
(المتن)
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
باب فضل التوحيد وما يُكفِّر من الذنوب
وقول الله تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ
عن عُبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسوله،وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنةَ حقٌّ والنَّار حقٌّ؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. أخرجاه
ولهما في حديث عِتبان : فإن الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلاّ الله يبتغي بذلك وجه الله.
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال: قال موسى: يا ربِّ، علِّمني شيئاً أذكُرُكَ وأدعُوكَ به. قال: قلْ يا موسى: لا إله إلاَّ الله. قال: يا رب كلُّ عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أنَّ السموات السبع وعامرهُن غيري والأرضين السبع في كِفَّةٍ، ولا إله إلاّ الله في كِفَّة، لمالتْ بهن لا إله إلاّ الله. رواه ابن حبان والحاكم وصححه
وللترمذي وحسَّنه عن أنس سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً لأتيتُك بقُرابها مغفرة.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
هذا هو الباب الثاني من أبواب كتاب التوحيد المبارك والمؤلف رحمه الله تعالى قال: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب والمراد بالتوحيد توحيد العبادة وهو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة الباطنة والظاهرة كالدعاء والذبح والنذر ونحوه كما قال الله تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ قال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. هذا الباب معقود لفضل توحيد العبادة وما يكفر من الذنوب وقول الله تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة وَلَمْ يَلْبِسُوا ولم يخلطوا إِيمَانَهُمْ توحيدهم بظُلْمٍ بشرك أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. لهم الأمن من العذاب في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا والمراد بالظلم هنا الشرك وقد فسرها النبي ﷺ هذه الآية للصحابة فإن الصحابة أشكلت عليهم هذه الآية لما نزلت وشق ذلك عليهم قالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ أينا لا يظلم نفسه؟ ظنوا أن المراد بالظلم ظلم العبد لنفسه الذي هو دون الشرك فقال النبي ﷺ: إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْك .فالصحابة ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد لنفسه وأن لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه فبين لهم النبي ﷺ ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله فلا يحصل الأمن ولا الاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم فمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الاهتداء كما أنه يكون من أهل الاصطفاء الذين ذكرهم الله ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير.
والظلم أنواعه ثلاثة: الظلم ظلم الشرك، والظلم العباد في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين الله من الشرك فمن سلم من أنواع الظلم الثلاثة كان له الأمن التام والهداية التامة كان له الهداية التامة في الدنيا وله الأمن من العذاب في الآخرة العذاب الأمن من دخولها ودخول النار فمن سلم من الظلم الأكبر وهو الشرك ولم يسلم من ظلم العبد لنفسه كان له مطلق الأمن ومطلق الهداية فله مطلق الهداية في الدنيا وليس له الهداية التامة وله مطلق الأمن في الآخرة فهو آمن من الدخول في النار وقد يدخلها لكنه إذا دخلها بذنوبه فإنه يعذب بقدر ذنوبه ومعاصيه ثم يخرج منها إلى الجنة فالنبي ﷺ لما أشكل على الصحابة أجابهم بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك وهذا هو الجواب السديد أن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء الظلم المطلق التام هو الشرك رافع للأمن التام وللاهتداء التام وأما مطلق الظلم فلا يرفعه مطلق الأمن ولا يرفعه مطلق الاهتداء ولا يمنع أن يكون مطلق الظلم مانعاً مطلق الأمن ومطلق الفئة والهدى فالمطلق المطلق والحص الحص فالظلم المطلق يمنع الأمن المطلق والهداية المطلقة، ومطلق الأمن يكون لصاحبه مطلق الظلم يكون لصحابه مطلق الأمن ومطلق الهداية.
ثم قال المؤلف رحمه الله عن عُبادة بن الصامت ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأنَّ الجنةَ حقٌّ والنَّار حقٌّ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. أخرجاه يعني الشيخان البخاري ومسلم من شهد أن لا إله إلاّ الله يعني أقر بهذه الكلمة وتكلم بها عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً فلا بد في الشهادة من العلم واليقين والعمل بمدلولها كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أما النطق بها بدون معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من براءة من الشرك وإخلاصه من القول والعمل فغير نافع بالإجمال وقول وحده تأكيد للإثبات لا شريك له تأكيد للنفي من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله يعني من شهد بذلك وشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وهو عبد الله ورسوله أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعاً للإفراط والتفريط لأن كثيراً ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولاً وعملاً وفرط بترك متابعته فلا بد أن يشهد أن محمداً عبد الله ورسوله هو عبد ورسول يطاع ويتبع ليس رباً وليس إلهاَ وليس كسائر الناس بل هو خصه الله بالنبوة والرسالة وهو نبي كريم يطاع ويتبع ويحب وتصدق أخباره وتنفذ أوامره ويتعبد الله بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ.
وأن عيسى عبد الله ورسوله يعني وشهد أن عيسى عبد الله ورسوله خلاف لما يعتقده النصارى أن عيسى هو الله أو أن الله ثالث ثلاثة تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا قال الله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله خلقه الله من أنثى بلا ذكر كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فليس رباً ولا إلهاً سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وقوله وكلمته سمي عيسى كلمة لوجوده بكلمة كن بأن الله خلقه بكلمة كن كما قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وكما بين بذلك السلف من المفسرين وغيرهم كما قال الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كُنْ فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن ولكنه بكن كان فعيسى خلقه الله بكلمة كن فكن من الله تعالى قول وليس كن مخلوقاً كما تزعم النصارى والجهمية فعيسى خلقه الله بكلمة كن وليس عيسى كن كما تقول النصارى كن عيسى النصارى يقولون أن عيسى هو نفس الكلمة فيجعلونه جزء من الله -أعوذ بالله – والجهمية يقولون كن مخلوق كلمة كن مخلوق من كلام الله المخلوق والذي عليه المسلمون أن عيسى مخلوق من كلمة كن ليس هو الكلمة ولكنه مخلوق من الكلمة سماه الله الكلمة لأن الله خلقه بكلمة وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ومعنى ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر الله كما ذكر الحافظ بن الكثير وغيره وقوله وَرُوحٌ مِنْهُ المعنى أن عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله واستنطقها كما قال الله تعالى عندما استخرج ذرية آدم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى بعثه الله إلى مريم فدخل فيها وروح منه المعنى أنه كائن منه كما قال الله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ.
وقوله: والجنةَ حقٌّ والنَّار حقٌّ أي شهد أن الجنة حق والنار حق أي من شهد أن الجنة التي وردت في كتابه ووعد بها المتقين حق ثابت لا شك فيه وشهد أن النار التي أخبر بها في كتابه وعد فيها الكافرين حق كذلك ثابته أدخله الله الجنة على ما كان من العمل هذه الجملة جواب شرط وفي رواية أدخله الله من أي أبواب الجنة شاء أدخله الله الجنة على ما كان من العمل قيل من المعنى من صلاح أو فساد لأن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة ويحتمل أن قوله على ما كان من العمل أي أن يدخل أهل الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات.
ثم قال المؤلف رحمه الله ولهما يعني الشيخين البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عتبان فإن الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلاّ الله يبتغي بذلك وجه الله.حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله هذا يشترط الإخلاص هذا يتبين مناسبة الترجمة وفضل التوحيد وأنه يكفر الذنوب فالذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك لهم الأمن من العذاب في الآخرة ولهم الهداية في الدنيا ومن وحد الله وأخلص له العبادة وشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وشهد أن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة دل على أن التوحيد أهل التوحيد هم أهل الجنة في حديث عتبان إن الله حرم النار على من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله هذا الإخلاص يريد بذلك وجه الله وهذا يدل على فضل التوحيد وأنه يكفر الذنوب وأن من أخلص العبادة لله ووحد الله فإن الله يحرمه على النار لكن على من مات على توحيد خالص من الشرك والبدع والكبائر حرمه تحريم دخوله وإن مات على توحيد ملطخ بالمعاصي والكبائر حرمه الله على الأرض تحريم خلود قد يدخل النار وقد يعفى عنه.
ثم قال المؤلف رحمه الله وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال: قال موسى: يا ربِّ، علِّمني شيئاً أذكُرُكَ وأدعُوكَ به يعني أثنيك به أدعوك أي أسألك قال: قلْ يا موسى: لا إله إلاَّ الله أي أن الذاكر يقول بها كلها لا إله إلا الله ولا يقتصر على لفظ الجلالة ولا على هو كما يقول الصوفية، الصوفية ذكره الله الله والخاص الخاص ذكره هو هو وهذا من جهلهم وضلالهم يقول لا إله إلا الله كلمة التوحيد لا بد فيها من نفي وإثبات.
فقال موسى: يا رب، كلُّ عبادك يقولون هذا وإنما أريد شيئاً تخصني به فقال الله : يا موسى، لو أنَّ السموات السبع وعامرهُن غيري والأراضين السبع في كِفَّةٍ، ولا إله إلاّ الله في كِفَّة، لمالتْ بهن لا إله إلاّ الله أي رجحت فكلمة التوحيد ترجح بالسموات السبع والأراضين السبع وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة والدين فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها واستقام على ذلك فهذه الحسنة لا يوازنها شيء كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
ودل هذا الحديث على أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله أفضل الذكر فهي أفضل الذكر كما في حديث عبدالله ابن عمر خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهذه الكلمة أفضل الذكر أفضل الكلام كلمة التوحيد بعد كلام الله وفي هذا الحديث المناسبة الظاهرة للترجمة وفضل التوحيد وأن كلمة التوحيد ترجح بالسموات والأرض لثقلهما رواه ابن حبان والحاكم في صحيحه.
وللترمذي وحسَّنه عن أنس سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً لأتيتُك بقُرابها مغفرة. هذا حديث قدسي كلام الله لفظاً ومعنى وهو مثل القرآن كلام الله لفظاً ومعنى إلا أن له أحكام تختلف عن أحكام القرآن.
قوله لو أتيتني بقراب الأرض أي بملئ الأرض أو ما يقارب ملأها خطايا يعني ذنوب ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتُك بقُرابها مغفرة. لأتيتُك بقُرابها مغفرة. لكن بهذا الشرط ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتُك بقُرابها مغفرة. ثقيل الوعد بحصول مغفرة وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله صغيره وكبيره ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله وهو القلب السليم، الذي سلم من الشبهات والشهوات كما قال الله تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم فمن كمل توحيده وإخلاصه لله تعالى وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه أو بقلبه ولسانه عند الموت فإنه يوجب له ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها ويمنعه من الدخول إلى النار بالكلية فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرج الذنوب كل ما سوى الله محبة وتعظيماً وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً وحينئذ تحرق ذنوبه الخطايا كلها ولو كانت مثل زبد البحر إذا حقق التوحيد والإخلاص وقوي التوحيد والإخلاص تحرق الشبهات والشهوات وإذا ضعف التوحيد والإخلاص في القلب جاءت الشهوات فالصادق في إيمانه وتوحيد لا يبقى معه شبهة ولا شهوة وإذا ضعف التوحيد والإيمان جاءت الشبهات والشهوات ومن حقق التوحيد وأخلص العبادة لله فإن الله تعالى يغفر ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ولا يمكن أن يصر على معصية المحقق لتوحيد الصادق لله لا يمكن أن يصر على معصية ولا يمكن أن يصر على كبيرة بخلاف ضعيف التوحيد والإيمان فإنه يصر على المعاصي والكبائر بسبب ضعف توحيده وإيمانه وبهذا يتبن مناسبة هذه الترجمة أن التوحيد فضله عظيم وأنه فضل عظيم وأنه يكفر الذنوب بقول التوحيد عن إيمان وصدق وإخلاص في القلب فإنه يحرق الشبهات والشهوات وإذا لقي الله به فإن الله تعالى يلقاه بالمغفرة والجزاء من جنس العمل من لقي الله لا يشرك به شيئا فإن الله تعالى يغفر ذنوبه إذا حقق التوحيد والإخلاص ولهذا قال الرب سبحانه في الحديث القدسي لو أتيتني بقراب الأرض خطايا يعني بدع ومعاص ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة وهذا لا يحصل لمن نقص توحيده فإن التوحيد الخالص الذي لا يبقى معه لأنه تضمن محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجاءه وحده هذا يوجب غسل الذنوب ولو كانت مثل قراب الأرض فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي.
وفي هذا في الحديث كثرة ثواب التوحيد وسعة كرم الله وجوده ورحمته وفي هذا الحديث الرد على الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالمعاصي والرد على المعتزلة والقائلين بأنه يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر يكون في منزلة بين المنزلتين يسمى فاسقاً لا مؤمن ولا كافر والصواب قول أهل السنة والجماعة لا يسمى مطلق الإيمان ولا يعطى الإيمان المطلق لا يقال ليس بمؤمن ولا يقال هو مؤمن فيعطى الإيمان المطلق بقول هو مؤمن ولا يستبعد من مطلق الإيمان ويقال ليس بمؤمن بل يعطى مطلق الإيمان فيقال مؤمن عاص مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وفي النفي يقال ليس بمؤمن حقاً ليس بصادق الإيمان وعلى هذا دل الكتاب و السنة وإجماع سلف الأمة.
وفق الله الجميع لطاعته وصلى الله على نبينا محمد.