يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى- وليس معنى قوله: ( وهُو معكُم ) أنهُ مُختلط بالخلق؛ فإن هذا لاتُوجبُهُ اللُغةُ، وهُو خلافُ ما أجمع عليه سلفُ الأمة، وخلافُ ما فطر اللهُ عليه الخلق.
(الشـرح) هذه الآية ( وهو معكم) فيها إثبات صفة المعية لله عز وجل، كما يليق بجلاله وعظمته، ومعيتهُ سبحانه لا تُشابه معية المخلوق، بل هي صفة من صفاته، والمعيةُ نواعان: معيةٌ عامة، ومعيةٌ خاصة، معيةٌ عامة فالله مع الخلق كُلهم باطلاعه، وإحاطته ونفوذ قُدرته ومشيئته ورؤيته لهم من فوق عرشه، ومعيته الخاصة وهي تقتضي التوفيق والتسديد وهذه خاصةٌ بالمؤمنين والصابرين والأنبياء، مثال الأولى قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)، (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) هذه المعية العامة، مثال على المعية الخاصة: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) هكذا هذه معية خاصة، والمعية في اللغة: لمطلق المصاحبة ولا تقتضي الاختلاط او الامتزاج ، فقد ولي هل البدع بمعية وضربوا النصوص بعضُها ببعض، فأبطلوا نصوص العلو والفوقية بنصوص المعية، ونفوا أن يكون الرب فوق الخلق وان يكون مستوي على العرش، وقالوا: أنهُ مختلط بمخلوقاته تعالى الله عما يقولون ، وهذا كُفرٌ وضلال، نعم.
(المتــن) قولُه: (وليس معنى قوله: (وهُو معكُم) أنه مختلط بالخلق): بل المعنى أنه معهم بعلمه واطلاعه ومشاهدته، وقد تقدم طرف من الكلام في هذا الموضوع.
قولُه: (فإن هذا لا تُوجبُه اللُغةُ). أي لُغةُ العرب لا تُوجبُ أن (مع) تفيد اختلاطا أو امتزاجًا أو مجاورة، فإن مع في كلام العرب للصُحبة اللائقة لا تُشعرُ بامتزاج، ولا اختلاط، ولا مماسة، ولا مجاورة، فتقولُ: زوجتي معي، وهي في مكان وأنت في مكان، ويقولون: ما زلنا نسيرُ والقمرُ معنا، وقال تعالى: (وكُونُوا مع الصادقين). فليس في هذا ما يدُلُ على الاختلاط والامتزاج.
(الشـرح) كونوا مع الصادقين كونوا معهم يعني أتصفوا بصفاتهم وكونا منهم ولو كانوا في مكان بعيد، كوانوا معهم وكونوا منهم واتصفوا بصفاتهم نعم.
(المتــن) فليس في هذا ما يدُلُ على الاختلاط والامتزاج. فكيف تكونُ حقيقةُ المعية في حق الرب ذلك، فليس في ذلك ما يدلُ على أن ذاته فيهم، ولا مُلاصقةً لهم ولا مُجاورةً بوجه من الوُجوه، وغايةُ ما تدلُ عليه المصاحبةُ، وهي في كُل موضع بحسبه.
قولُه: (وهُو خلافُ ما أجمع عليه سلفُ الأمة): أي: أن ما زعمه أهلُ البدع أنه -سُبحانهُ- في كُل مكان بذاته أو أنه مختلط بالخلق ممتزج بهم، أو حال فيهم، إلى غير ذلك من الأقوال مبتدعة مخالفة ما عليه السلفُ الصالحُ، فإن السلف الصالح أجمعوا على أن الله -سُبحانهُ- مُستو على عرشه، عال على خلقه، بائن منهم ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، كما تواترت بذلك الأدلةُ، وقد تقدم أيضًا ذكرُ إجماع السلف على معنى قوله: (وهُو معكُم) أنه معهم بعلمه، وقال أبو بكر الآجُريُ إمامُ عصره في الحديث والفقه في كتابه: فإن قال قائل فما معنى قوله: (ما يكُونُ من نجوى ثلاثة إلا هُو رابعُهُم) الآيةُ، قيل له: علمُه معهم، واللهُ على عرشه، وعلمُه محيط بهم، كذا فسرهُ أهلُ العلم، والآيةُ تدلُ أولُها وآخرُها على أنه العلمُ، وهُو على عرشه، هذا قولُ المسلمين. انتهى.
قولُه وخلاف ما فطر الله عليه الخلق قوله : (فطر) أي: خلق ابتداءً، ومنه (فاطر السماوات والارض) الآية، أي أن ما زعموه من أنه -سُبحانهُ- مختلط بالخلق أو حال فيهم خلافُ ما فطر اللهُ عليه الخلق، فإن الخلق فُطروا على الإقرار بعُلُوه -سُبحانهُ- على خلقه، وإنما جاءت الرُسلُ بتقرير ما في الفطر والعُقول، فالعقلُ الصحيحُ لا يُخالفُ النقل الصريح، ولما سأل النبيُ -صلى اللهُ عليه وسلم- الجارية: ((أين اللهُ؟)) قالت: في السماء. وقال يزيدُ بنُ هارون: من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهُو جهمي.
قال الشيخُ تقيُ الدين بنُ تيمية -رحمهُ اللهُ-: والذي تقرر في قلوب العامة هُو ما فطر اللهُ عليه الخليقة من توجُهها إلى ربها عند النوازل والشدائد إليه تعالى نحو العُلُو، لا تلتفتُ يمنةً ولا يسرةً، من غير مُوقف وقفهم عليه، ولكن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وما من مولود إلا وهُو يُولدُ على هذه الفطرة حتى يُجهمهُ وينقُلهُ إلى التعطيل من يُقيضُ له. انتهى.
(الشـرح) والمعنى أن علو الله على خلقه ثابت بالكتاب والسنة والأجماع والفطرة، دل على أن الله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ )، إلى غير ذلك من الأدلة التي دلت على عليه السنة من حديث: ((أين الله؟ قال في السماء))،والإجماع والفطرة، الله تعالى فطر الخلق على أن الله في العلو حتى الحيوانات اذا (...) رفعت رأسها إلى السماء، بخلاف الاستواء على العرش فإنهُ دل عليه الشرع، ولوا أن الله تعالى أخبرنا بالاستواء على العرش لما علمنا ذلك، لأن الاستواء على العرش علو خاص، لأن العرش كان بعد خلق السماوات والأرض، بخلاف العلو فإنهُ من الصفات الذاتية، التي (...) الذي لا يتفق عليه الباري ، دل على الإجماع والسنة والعقل والفطرة، نعم.
قال شيخ الإسلام: بل القمرُ آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهُو موضوع في السماء، وهُو مع المُسافر وغير المُسافر أينما كان.
قولُه: (بل القمرُ آية) الآيةُ لغةً: العلامةُ. والآيةُ، والدليلُ، والبُرهانُ، والسُلطانُ، والحُجةُ، ألفاظ متقاربة، أي أن القمر من الآيات الدالة على وُجوده -سُبحانهُ- وعظيم قُدرته، وأنه المستحقُ للعبادة، قال اللهُ -سُبحانهُ وتعالى-: (ومن آياته الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ) الآية، وقد أقسم اللهُ -سُبحانهُ- بالقمر الذي هُو آيةُ الليل، وفيه من الآيات الباهرة الدالة على رُبوبية خالقه وبارئه، وحكمته وعلمه ما هُو معلوم بالمشاهدة.
والآياتُ تنقسمُ إلى قسمين: آيات مشاهدة مرئية، كالسماوات والأرض والشمس والقمر ونحو ذلك، وآيات مسموعة متلُوة كالقرآن، وكذلك السُنةُ فإنها مُبينة ومقررة لما دل عليه القرآنُ.
(الشـرح) نعم والآية المسموعة هي كلامُ الله سبحانه وتعالى الذي تكلم به، والآيات المرئية المشاهدة هي مخلوقة مثل: الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والأرض هذه آيات كونية آياتٌ مرئية آياتٌ مخلوقة، وأما الآيات الشرعية فهي كلامُ الله عز وجل، وهي صفةٌ من صفاته، فالآيات تنقسم إلى قسمين: آياتٌ كونية مخلوقة وآيات شرعية دينية، ولهذا فإن القسم إذا أرادوا أن يُقسم يُقسم بآيات الله الشرعية، واما كان بعض المجالس اذا اقسم يقول ايات الله الكونية ، هذا مجمل لا يصلح، قسم بآيات الله الشرعية وبآياته القُرآنية، لأنها إذا كان يُقسم بآيات الله الكونية هذا لا يجوز شرك، يُقسم بسماء والأرض والشمس والقمر، حدد آيات الله الشرعية وآيات الله القُرآنية أما أن تترك هكذا فهذا محتمل، نعم.
(المتــن) فآياتُه العيانيةُ في خلقه تدلُ على صدق آياته المسموعة المتلُوة، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )، أي أن القرآن حق، فأخبر أنه يدلُ بآياته المرئية على صدق آياته المتلُوة المسموعة.
(الشـرح) يعني: الآيات الكونية تُطبق الآيات الشرعية، ( سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم أنهُ الحق) ان القران حق وان كلامُ الله حق، نعم.
(المتــن) قولُه: (وهُو موضوع في السماء): أي القمرُ موضوع في السماء الدُنيا.
قولُه: (وهُو مع المسافر): من السفر، وهُو لغةً: قطعُ المسافة من أسفر إذا برز، ومنه السفرُ وهي الكُتبُ؛ لأنه يُسفرُ عما فيه، قيل سُمي السفرُ بالفتح سفرًا؛ لأنه يُسفرُ عن أخلاق الرجال.
قولُه: (وهُو مع المسافر وغير المسافر أينما كان) أي: القمرُ مع المسافر وغير المسافر، فإنه يُقالُ ما زلنا نسيرُ والقمرُ معنا أو النجمُ والقمرُ في مكانه غيرُ مختلط بهم، ولا مُحاذ ولا مماس ولا مُجاور.
(الشـرح) لأن المعية لا يُشترط فيها المُحذاة ولا المُماسة ولا الاختلاط، المعية معناها في اللغة العربية: المُصاحبة، فقط المُصاحبة، والمُصاحبة تختلف باختلاف تنوع اختلاف متعلقها، والقمر معنا وهو فوق رأسه لا يلزم منه محاباة ولا مماسة، تقول(...) معي وان كان فوق (...)، هؤلاء الجهمية الذين انكروا علو الله على خلقه