بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما الدرجة الثانية فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السماوات والأرض وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه)
الدرجة الثانية من درجات القدر ذكر المؤلف رحمه الله أن القدر على درجتين:
الدرجة الأولى: العلم والكتابة، والدرجة الثانية: الإرادة والمشيئة وهي أربع مراتب، مراتب الإيمان بالقدر أربعة من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر، الأولى: العلم والثانية الكتابة والثالثة الإرادة والمشيئة والرابعة الخلق والإيجاد، العلم والكتابة مولانا مشيئته ، خلقه وإيجاده وتقديره، العلم يشمل العلم الماضي في الأزل والعلم في الحاضر والعلم في المستقبل والعلم ما لم يكن لو كان كما يكون .
والكتابة عامة تشمل كتابة الذات والصفات والأفعال والحركات والسكنات والعز والذل والفقر والغناء والسعادة والشقاوة والكيس والعجز كل شيء مكتوب، والإرادة المراد بها أن كل شيء في هذا الوجود سبق فيها علم الله وسبقت فيها إرادة الله ومشيئته والخلق والإيجاد فهو أيضًا خلق كل شيء الذات والصفات كل شيء خلق الله، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11]، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62].
(يقول الشيخ عبد العزيز الرشيد رحمه الله تعالى: هذه المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر وهو إثبات مشيئة الله النافذة أي الماضية التي لا راد لها من نفذ السهم نفوذًا إذا خرق الرمية، ونفذ الأمر مضى، هذه المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر وهو إثبات نفوذ قدرته ومشيئته وشمول قدرته، قد دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها سلف الأمة قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:253]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] .
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على نفوذ مشيئته، فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه، وفي هذه الآيات وغيرها الرد على القدرية والمعتزلة نفاة القدر الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله من العبد وشاءه، وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله في كل شيء مما يوافق ما شرعه وما يخالفه من أفعال العبد وأقواله، فالكل بمشيئة الله فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه كما قال سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] الآية).
القدرية يخرجون أفعال العباد عن مشيئة الله (...) قالوا: إن الله شاء كل شيء إلا أفعال العباد وخلق كل شيء إلا أفعال العباد، شبهتهم يقولون: لو كان الله خلق المعاصي وعذب عليها لكان ظالمًا فراراً من ذلك قالوا: إن العباد خلقوا أفعالهم الطاعات والمعاصي وقالوا: إن العبد يستحق الثواب على الله كما يستحق الأجير أجرته؛ لأن هذا فعله الذي فعله استقلالاً وكما أنه إذا فعل معصية يجب على الله أن يعذبه وليس له أن يعفو عنه لأن الله لا يخلف وعيده هكذا أوجبوا على الله.
وهذه الشبهة باطلة ويلزم على ذلك مفاسد، فروا من شيء فوقعوا في شيء، يلزم من ذلك أن يقع في ملك الله ما لا يريد ويلزم من ذلك أن تغلب مشيئة العبد مشيئة الله، وأما القول بأن الله خلق المعاصي فهذا لحكمة يترتب عليها ما يترتب على خلق المعاصي من الحكم وحصول العبودية المتنوعة عبودية الجهاد في سبيل الله وعبودية الولاء والبراء وعبودية الدعوة إلى الله وعبودية الحب في الله، لولا خلق الله المعاصي والكفر لما وجدت عبودية الجهاد في سبيل الله، ولما وجدت عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعبودية الولاء والبراء وعبودية الحب في الله والبغض في الله فهي مرادة لله لما يترتب عليها لا لذاتها بل لما يترتب عليها من الحكم.
ولله المثل الأعلى الطبيب إذا أمر المريض بشرب الدواء المر العلقم فهو يقدم عليه باختياره لا لذاته بل لما يترتب عليه من الشفاء، فالله تعالى خلق المعاصي والكفر لما يترتب عليها من الحكم وهي بالنسبة إلى الله خير ورحمة ، وبالنسبة إلى العبد شر فالعبد الذي كان سببها وباشرها وفعلها بالنسبة إليه شر؛ لأنها ضرته وساءته هذا الذي ينسب إلى العبد المباشرة والتسبب والفعل والذي ينسب إلى الله الخلق والإيجاد والخلق والإيجاد مبني على الحكمة فهي خير بالنسبة إلى الله، وشر بالنسبة إلى العبد الذي باشرها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "والشر ليس إليك" لأن الشر المحض الذي لا حكمة في تقديره لا وجود له وهذه حكمة خلقها لحكم وأسرار فهي خير.
(قوله: وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن إلى آخره فسر المصنف معنى الإيمان بهذه المرتبة وأشار بهذا إلى الرد على القدرية والمعتزلة الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف مشيئة الله وتقدم ذكر الأدلة الدالة على بطلان قولهم وهل أضل ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله تعالى الله عن قولهم وقد تقدم ذكر أقسام الإرداة والمشيئة)
لكن هذه الشبهة لم يكفرهم العلماء، قالوا: أنهم مبتدعة لأجل الشبهة التي عرضت لهم ولم يكن لهم شبهة إلا الجاحد يكفر، مثلاً شخص لو قال جحد قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] يكون كافر؛ لأنه كذب الله وأنكر الاستواء، لكن شخص آخر قال:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، آية على العين والرأس لكن معنى استوى استولى هذا لا يكفر؛ لأنه تأول له شبهة.
(قوله: وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات إلى آخره، قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6] ففيها دليل على شمول قدرته فكل ممكن فهو مندرجٌ فيها، وفيها الرد على القدرية فإن مذهبهم أنه سبحانه ليس على كل شيء قدير وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه)
يقول هذا قول المعتزلة ما يقولون إنه على كل شيء قدير، قالوا: إنه على ما يشاء قدير، إذا رأيت في بعض الكتب إنه على ما يشاء قدير فهذا يتمثل قول المعتزلة والقدرية؛ لأنهم يخرجون أفعال العباد يقولون أفعال العباد لا يشاءها، فهو على ما يشاء قدير لكن السنة يقولون: إن الله على كل شيء قدير وهذا يدخل فيها أفعال العباد.
(وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه وأنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتديًا، وهذا المذهب باطلاً ترده أدلة الكتاب والسنة وهو كما قال بعض العلماء: شركٌ في الربوبية مختصر، ولذلك ورد أن القدرية مجوس هذه الأمة لمشابهة قولهم لقول المجوس وأما أهل السنة فيثبتون أن العبد فاعلٌ حقيقة ولكنه مخلوق لله ومفعول ولا يقولون هو نفس فعل الله ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول، قوله: من الموجودات والمعدومات، من الموجودات كأفعال خلقه من الملائكة والنبيين وسائر حركات العباد، فلا يخرج عن خلقه وملكه شيء، قوله: والمعدومات كما قال سبحانه: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، وقال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9]، أي شيئًا في الخارج وإن كان شيئًا في علمه سبحانه، وأما المحال لذاته فلا حقيقة له ولا يتصور وجوده، فلا يسمى شيئًا باتفاق العقلاء وذلك مثل كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا ومن هذا الباب خلق مثل نفسه).
(قوله: والمعدومات كما قال سبحانه: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، وقال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9]، أي شيئًا في الخارج وإن كان شيئًا في علمه سبحانه، وأما المحال لذاته فلا حقيقة له ولا يتصور وجوده)
وهو متناقض في نفسه يعني كون الشيء موجود معدوم هذا ما يقال شيء، ليس بشيئًا وهو متناقض في نفسه، فالوجود ينقض العدم، والعدم ينقض الوجود فلا يسمى شيئًا، والله على كل شيء قدير هذا يدخل تحته كل ما يسمى شيئًا يدخل من الموجودات والمعدومات، أما المحال، المحال لذاته ليس شيئًا حتى يقال له يدخل تحته؛ لأنه متناقض في نفسه.
(وذلك مثل كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا ومن هذا الباب خلق مثل نفسه، قوله: فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه، سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه، قوله: فما من مخلوق قال الله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام:101]، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، فامتدح بأن الله خلق كل شيء وبأنه يعلم كل شيء فكما أنه لا يخرج عن علمه شيء فكذا لا يخرج عن خلقه شيء، فثبت أن الأفعال خيرها وشرها كلها صادرة عن خلقه وإحداثه إياها، انتهى)
(وفي هذه الآيات الرد على القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه استقلالاً بدون مشيئة الله وإرادته، ولا شك في بطلان هذا المذهب وفساده ومصادمته لأدلة الكتاب والسنة، فإن قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، شامل لأفعال العباد لدخولها في عموم كل ولا يدخل في ذلك أسماء الله وصفاته، كما أنه سبحانه لم يدخل في عموم كل فكذلك أسمائه وصفاته، قال ابن القيم ما معناه: في هذه الآيات دليلٌ على أنه سبحانه خالق أفعال العباد كما أنه خالق ذواتهم وصفاتهم فالعبد كله مخلوق صفاته وذاته وأفعاله ومن أخرج أفعاله عن خلق الله فقد جعل فيه خالقًا مع الله، ولهذا شبه السلف القدرية النفاة بالمجوس وقالوا: هم مجوس هذه الأمة، صح ذلك عن ابن عباس انتهي، وقوله: لا خالق غيره ولا رب سواه).