بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
(يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:في العقيدة الواسطية: والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة)
قصد المؤلف رحمه الله الرد على القدرية، القدرية الذين أنكروا العبد أن يكون له فعل واختيار وقالوا إن العبد مجبور على أفعاله والأفعال هي أفعال الله، فالله هو المصلي والصائم، تعالى الله عما يقولون، هذا قول القدرية المجبرة، القدرية طائفتان القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، فالقدرية النفاة يقولون إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه اختيارًا استقلالاً لم يخلق أفعال العباد، وقابلهم الجبرية فقالوا إن العباد مجبورين على أفعالهم، فالأفعال هي أفعال الله وحركاتهم كلها اضطرارية كحركة المرتعش والنائم، وتوسط أهل الحق فقالوا: إن العباد لهم قدرة واختيار لكن الله خلقهم وخلق قدرتهم واختيارهم فهي من الله خلقًا وإيجادًا ومن العبد فعلاً ومباشرة وتسببًا وكسبًا.
(يقول الشارح على قوله: والعباد فاعلون إلى آخره قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، أي خلقكم والذي تعملونه، فدلت على ان أفعال العباد مخلوقة لله وعلى أنها أفعال لهم حقيقة ففيها الرد على الجبرية الذين يقولون: إن العبد لا فعل له، وفيها الرد على القدرية الذين يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه استقلالاً)
القدرية النفاة ورد على القدرية المجبرة الأولى، فالقدرية طائفتان نفاة وجبرية نعم .
(وفي حديث حذيفة أن الله خالق كل صانع وصنعته، فالله سبحانه خلق الإنسان بجميع أغراضه وحركاته، والآيات الدالة على خلق أفعال العباد كثيرة فقول المصنف: والعباد فاعلون حقيقة ردٌ على الجبرية الذين يقولون: إن العبد ليس بفاعل أصلاً بل هو مجبور على أفعاله وواقعة بغير اختياره وأن الفاعل فيه سواه، والمحرك له غيره فهو آلة محضة وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات المرتعش)
يعني يقولون الأفعال أفعال الله والعبد تمر عليه وعاء كالوعاء كالكوب الذي يصب فيه الماء،قالوا فالعباد كالكوب والله صب الماء فيه، فالأفعال تمر عليهم ويتحركون بها حركات اضطرارية لا اختيار لهم فيها، تعالى الله عما يقولون.
(وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها وشرها لموافقتها للمشيئة والقدر)
هذا الغلاة منهم يرون أنه إذا ارتفع إلى درجة خاصة وألغى صفاته وجعلها صفات لله وأفعال لله سقطت عنه التكاليف ويقولون الأفعال كلها طاعات حتى الزنا والسرقة ويقول أحدهم أنا إن عصيت أمره الديني والشرعي فقد وافقت أمره القدري، يقول: أصبحت منفعلاً لما يختاره ففعلي كله طاعات وهذا باطل، هل هذا تشريع، قول فاسد، والله تعالى أعطى العبد القدرة والاختيار ويستطيع الإنسان يذهب ويجيء ويقوم ويأكل ويشرب ويبيع ويشتري ما أحد يجبره، كذلك الإنسان يصلي ويصوم ويعمل الطاعات ويفعل المعاصي باختياره، ولهذا فإن غير المكلف الذي ليس له عقل يرفع عنه التكليف.
(وهؤلاء شر من القدرية النفاة وأشد عداوة لله ومناقضة لكتابه ورسله ودينه)
أيهما أشد القدرية الجبرية ولا القدرية النفاة؟ القدرية الجبرية أشد؛ لأن القدرية النفاة وإن سموا مجوس هذه الأمة وقالوا بخالق غير الله إلا أنهم يعظمون الشرائع والأوامر والنواهي بخلاف القدرية الجبرية فإن قولهم فيه إبطال للشرائع ومعاداة لله ولرسله ولأنبيائه، هكذا تكون الشرائع عبث تعالى الله عما يقولون.
(والله خالق أفعالهم ردٌ على القدرية النفاة الذين يقولون إن الله لم يخلق أفعالهم)
هؤلاء القدرية النفاة يسمون مجوس هذه الأمة.
(وأنها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم دون مشيئة الله وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه، وأن الله لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتديًا)
الإنسان هو المهتدي والضال بنفسه وهو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه هكذا يقولون، شبهتهم يقولون أن الله لو كان خلق المعاصي وعذب عليها لكان ظالمًا ففروا منها وقالوا العبد هو الذي يخلق فعل نفسه الطاعات والمعاصي، ولذلك يجب على الله أن يثيب المطيع ويستحق الثواب من الله كما يستحق الأجير أجرته؛ لأنه هو الذي فعل الطاعات، ويجب على الله أن يعذب العاصي وليس له أن يعفو عنه لئلا يخلف الوعيد هكذا يقولون تعالى الله عما يقولون.
(وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله فشابهوا المجوس في كونهم أثبتوا خالقًا مع الله ولذا سموا مجوس هذه الأمة)
وجه الشبه وبين المجوس القول بتعدد الخالق، المجوس قالوا بآلهين، قالوا هناك ربين خالق للخير وهو النور وخالق للشر وهو الظلمة، والقدرية قالوا: كل عبد يخلق فعل نفسه، فأثبتوا خالقين فهم من هذه الجهة زادوا على المجوس، المجوس ما ثبتوا إلا خالقين، وهؤلاء أثبتوا خالقين بعدد الناس، لكن هؤلاء لما كانوا في شبهة لم يكفروا؛ لأن هذه شبهة عرضت لهم، بخلاف المجوس فإنهم كفار.
(والأدلة على فساد قولهم وبطلانه كثيرة جدًا وقد أطبق الصحابة والتابعون على ذمهم وتبديعهم وتضليلهم وبين أئمة الإسلام أنهم أشباه المجوس وأنهم قد خالفوا أدلة الكتاب والسنة بل وخالفوا العقل والفطرة والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم إلى آخره، قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} [النساء:56]، وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على نسبة أفعال العبد إليه من أفعال عبيده، بل العبد حقيقة هو المصلي والصائم وهل يليق بالله أن يعاقبهم على نفس فعله، بل إنما يعاقبهم على أفعالهم التي فعلوها حقيقة كما قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] ، فالعبد هو الذي صام)
هذه النصوص كلها فيها يضيف الفعل للعبد إن الذين كفروا، إن الذين آمنوا، أضيفت الأفعال إليهم فدل على أنها أفعالهم، يؤمنون بالله ورسوله أضيف الإيمان إليهم.
(فالعبد هو الذي صام وصلى وأسلم وهو الفاعل حقيقة بجعل الله له فاعلاً)
بجعل الله له فاعلاً.
(وهو الفاعل حقيقة بجعل الله له فاعلاً، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24])
لما صبروا فأضاف الصبر واليقين إليهم.
(وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41])
يدعون أضاف الفعل إليهم.
(إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن العبد فاعل حقيقة وأن فعله ينسب إليه وأنه يثاب على حسنته ويجازى على سيئته، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8])
الشاهد من يعمل أضاف العمل إليهم.
(وللعباد قدرة على أعمالهم)
(قال: فإن كان لما أخبر الله به ورسوله حقيقة وإنه والله حق الحقيقة فلا يمكن أن يروه إلا من فوقها)
يعني الرؤية الحقيقة التي تكون في مواجهة الرائي ومقابلته، والمؤمنون يرون ربهم من فوقهم خلافًا للأشاعرة الذين أثبتوا الرؤية وأنكروا الفوقية، الأشاعرة دائمًا يكونوا بين أهل السنة وبين المعتزلة، لهم يد مع المعتزلة ويد مع أهل السنة، فهم أنكروا الفوقية والعلو فصاروا مع المعتزلة وأثبتوا الرؤية فكانوا مع أهل السنة، وأهل السنة في الرؤية من فوقهم، فعجزوا أن يجمعوا بينهم، فقالوا: إن الله يرى لا في جهة قيل للأشاعرة كيف يرى؟ أين ترون ربكم من فوق؟ قالوا: لا، من تحت؟ قالوا: لا، أمام؟ قالوا:لا، من خلف؟ قالوا: لا، يمين؟ قالوا: لا، شمال؟ قالوا: لا، من أين يرى؟ قالوا: لا في جهة، فضحك العقلاء من كلامهم وسخروا منهم، وقالوا: إن هذا لا يتصور، الرؤية لا بد أن تكون بجهة من الرائي، الذي يرى لابد أن يكون الرائي مواجهًا له ومباينًا له، لا بد يكون في جهة منه، أما أن تقول: لا في جهة، هذا كلام غير معقول ولا يتصور وهذا بسبب كونهم تأثروا بالمعتزلة، ولهذا سماهم بعض العلماء خناثى كالخناثى ليسو مع أهل السنة وليسو مع المعتزلة.
وهذا يحصل في غير الرؤية دائمًا يكونون مع المعتزلة ومع أهل السنة بين بين، في الكلام مثلاً المعتزلة قالوا: كلام الله مخلوق لفظه ومعناه، أهل السنة قالوا كلام الله منزل لفظه ومعناه، أما الأشاعرة فصاروا وسط بين بين، قالوا كلام الله لفظه مخلوق ومعناه غير مخلوق، فصاروا مع المعتزلة في اللفظ ومع أهل السنة في المعنى، قالوا: الكلام اللفظ والحروف ما هو بكلام، ليس بكلام، بل الكلام المعنى، وقالوا: إن الله لا يتكلم بحرف ولا سمع جبرائيل منه شيئًا إنما الكلام معنى قائم بنفس الرب.
كيف فهم جبريل كلام الله؟ قالوا: اضطره الله ففهم المعنى القائم بنفسه فعبر بهذا القرآن، قالوا القرآن عبارة عبر به جبريل وبعضهم قال عبر به محمد، قالوا: ما في حروف والله ما يتكلم بالحروف ولا الألفاظ لئلا يكون محل الحوادث الحروف حادثة ولا يمكن أن تحل الحادثة في الرب فلذا فرارًا من ذلك قالوا: الكلام معنى في النفس، معنى جعلوا الرب أبكم لا يتكلم والعياذ بالله نسأل الله العافية، هذا مذهب الأشاعرة فصاروا خناثى، كالخناثى، لا أنثى ولا ذكر.
(ولا يجتمع في قلب عبد اطلع على هذه الأحاديث وفهم معناها إنكارها والشهادة بأن محمد رسول الله، قال: قوله بأن المؤمنين يرون)
يعني ما يمكن لإنسان ينكرها وهو يشهد أن محمد رسول الله لا بد أن يؤمن.
(قال: ولا يجتمع في قلب عبد اطلع على هذه الأحاديث وفهم معناها إنكارها والشهادة بأن محمد رسول الله أبدًا، انتهى، قوله بأن المؤمنين يرون).