بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
(فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم وهذه الدرجة من)
هذا معتقد أهل السنة والجماعة أن للعباد قدرة وإرادة والله خالق قدرتهم وإرادتهم خلافًا للقدرية النفاة مجوس هذه الأمة فيقولون: العبد ليس له قدرة ولا اختيار ، خلاف القدرية المجوسية الجبرية الذين يسلبون العبد قدرته واختياره ويقولون: العبد كالريشة في الهواء وأنه مجبور على أعماله وأن أعماله تجري عليه بدون اختياره وأن حركاته كحركات المرتعش والنائم وأن الأفعال هي أفعال الله، والله هو المصلي والصائم والعباد وعاء، أوعية للحركات كالماء الذي يصب في الكوب، قال فالعباد كأنهم كوب والله هو الذي صب الماء فيه.
وهذا من أبطل الباطل العباد لهم قدرة واختيار يأكلون ويشربون ويزرعون ويمشون ويبيعون ويشترون ويصلون باختيارهم ما أحد يمنعهم والله تعالى منحهم القدرة والاختيار ، فالقول أنهم لا قدرة لهم ولا اختيار هذا مصادم للحس كما أنه مصادم للشرع فهو مصادم للحس، الناس كلهم يدركون هذا أن الإنسان له قدرة واختيار وهو مجبور، ويفرقون بين الحركات الاضطرارية والحركات الاختيارية، فالعبد له حركات اضطرارية كحركة المرتعش وحركة النائم، هذا حركة اضطرارية، واما الحركة الاختيارية التي يفعلها الإنسان باختياره فهذا له اختيار يحاسب عليه وهم لا يفرقون بينهما، هذا من أبطل الباطل، يقول الجبرية: كل حركات الإنسان اضطرارية هذا يخالف الفطرة، كل إنسان يدرك الفرق بين حركة المرتعش وحركة الإنسان باختياره.
(وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة)
جعل القدر كل درجة تشتمل على مرتبتين الدرجة الأولى: العلم والكتابة وهذه الدرجة أنكرها غلاة القدرية الذين كفرهم الصحابة وأما الدرجة الثانية فهي الإرادة والخلق والإيجاد وهذه يكذب بها عامة القدرية المتأخرين من شبهة عرضت لهم، يقولون: إن العبد لم يرد المعاصي ولا الطاعات وهو الذي يخلق فعل نفسه فرارًا من القول بأن الله خلق المعاصي ويعذب عليها، فهذا قول المبتدعة ثم عامة القدرية، أما الغلاة الذين أنكروا العلم فانقرضوا هؤلاء الكفرة.
(ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره)
وهم الجبرية والطائفة الأولى يقولون إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، غلوا في إثبات فعل العبد حتى قالوا العبد يخلق فعل نفسه استقلالاً، والطائفة الثانية غلوا في نفي قدرة العبد سلبوا العبد قدرته واختياره، قالوا: ليس له قدرة ولا اختيار وهدى الله أهل السنة والجماعة للحق فعملوا بالنصوص من الجانبين وقالوا: إن العبد له قدرة واختيار ويفعل بقدرته واختياره والله خالقه وخالق قدرته، فالأفعال منها نوعان النوع الاضطراري كحركة المرتعش والنائم ونوع اختياري، والأفعال الاختيارية هي من الله خلقًا وإيجادًا وتقديرًا، ومن العبد فعلاً وتسببًا وكسبًا ومبشرة.
(ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها)
وهم الجبرية يسلبون العبد قدرته واختياره وينفون الحكم والغرائز والطبائع، يقولون: ما في حكمة ولا غريزة ولا طبيعة ولا علة كل هذا ينكرونها، قالوا: الرب يفعل لا لحكمة، بل لمجرد المشيئة وهذا من أبطل الباطل، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] ، والقرآن مملوء بذكر الأسباب والعلل {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون:3]، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:99]، {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء:59]، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151]، كل هذا تعليل، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26] كل هذا ذكره هؤلاء نعم.
(يقول الشيخ عبد العزيز الرشيد: وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة إشارة للرد على الجبرية، قوله: والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم إلى آخره إشارة للرد على القدرية فالجبرية والقدرية في طرفي نقيض، فالجبرية غلوا في الإثبات، والقدرية غلوا في النفي، وهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط فأثبتوا أن العباد فاعلون ولهم قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة ومشيئة وأن الله سبحانه وتعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، فأثبت مشيئة للعبد وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الله، فأفعال العبد تضاف إليه على جهة الحقيقة، والله خلقه وخلق فعله كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فأخبر أن العباد يعملون ويصنعون ويؤمنون ويكفرون)
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أضاف العمل إليهم.
(ويفسقون ويكذبون والأدلة على إثبات أفعال العباد كثيرة جدًا)
قال الله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10]، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، كل هذا إضافة الأفعال إليهم تدل على أن لهم قدرة واختيار.
(وهذه الدرجة من القدر وهي إثبات أن العبد فاعلٌ حقيقة وأن الله خلقه وخلق فعله يكذب بها عامة القدرية أي جميع القدرية أو أكثرهم فيزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه استقلالاً)
لشبهة عرضت لهم وهذه الشبهة أنهم يزعمون يقولون ان الله خلق المعاصي وعذب عليها لكان ظالمًا، فالعبد هو الذي خلق المعصية حتى إذا عذب عليها عذب على فعله كما أنه خلق الحسنة والطاعة فيستحق الثواب على الله كما يستحق الأجير أجرته فلهذه الشبهة صاروا مبتدعة ولا يكفرون، لم يكفرهم العلماء؛ لأنهم متأولون.
(فيزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه استقلالاً بدون مشيئة الله وإرادته وسموا قدرية إنكارهم القدر وكذلك تسمى جبرية المحتجون بالقدر قدرية لخوضهم في القدر، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب، قال ابن تيمية في تائيته: ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طرًا)
الطائفة الأولى ما هي الطائفة الأولى؟ المعتزلة النفاة.
(قال ابن تيمية في تائيته: ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى الله طرًا معشر القدرية سواءً نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به الشريعة)
سواء نفوه هذا النفاة، أو سعوا ليخاصموا أي أثبتوا غلوا في إثباته وقالوا إن العبد مجبور، وهؤلاء خصمهم الله خاصمهم يدعوا إلى النار، خصمه الله؛ لأنهم يقولون: نحن مجبورون ويقول قائلهم يعني يمثل يقول كيف الرب الآن يكلف الإنسان بالعمل وقد قدر عليه أن لا يعمل فمثلهم كمثل رجل كتف إنسان وألقاه في البحر وقال لا يمس الماء ويتمثلون بهذا البيت:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء، هذا من جهلهم وضلالهم، هؤلاء هم خصماء الرحمن، هذا كلام فيه جور أنتم أعطاكم الله الأسماع والأبصار والأفئدة تستطيعون أن تذهبون وان تجيئون ولا أحد يمنعكم، والإنسان يدرك هذا كل، الإنسان يدرك هذا بعقله ويستطيع أن يذهب ولهذا لا يكلف الذي لا يستطيع، الإنسان غير العاقل لا يكلف لكن أعطاه العقل والسمع والبصر يكلف، ونقول لهم أيضًا أنتم في أمور دنياكم هل تطردون هذا إن كنتم صادقين.
في أمور دنياهم لو جاء إنسان وأخذ ماله وقال أنا مجبور قدر، هل يوافقون؟ ما يوافقون إذا اعتدى على ماله أو اعتدى على أهله أو اعتدى على ولده أو أخذ ماله هل يسكت القدري؟ ما يسكت، الجبري ما يسكت فلماذا نقول أنه في أمور دنياك ما تحتج بالقدر وتطالب بحقوقك، وفي أمر ربك تحاج وتقول أنا مجبور، فلو صفعه إنسان وقال أنا مجبور هل يسكت ولا يصفع؟ يصفع.
لو أخذ إنسان ماله وقال أنا مجبور وقدر علي ما يطالب بماله؟ يطالب بالمال، فهذا يدل على أنهم ظلمة وأنهم يحتجون بالقدر فيما أوجبه الله عليهم وشرعه لهم، ولا يحتجون بالقدر في أمور دنياهم وفيما يخصهم لأنفسهم.
(قوله: مجوس هذه الأمة سموا بذلك لمضاهاه قولهم لقول المجوس)
نعم في القول بتعدد الخالق، فالمجوس يقولون العالم له خالقان النور والظلمة خالق الخير وخالق الشر، والقدرية يقولون كل عبد يخلق فعل نفسه، كل شخص يخلق نفسه، فأشبهوا المجوس في القول بتعدد الخالق لكنهم زادوا على المجوس، فالمجوس ما قالوا إلا بإثبات خالقين وهؤلاء قالوا بإثبات خالقين على عدد البشر، كل واحد خالق، فهم أردأ من المجوس في هذه الخصلة، وإن كان المجوس كفرة وهم ليسو كفرة هم مبتدعة، لكن من جهة القول بالتعدد هؤلاء أثبتوا خالقين وهؤلاء أثبتوا خالقين متعددين.
(فإن المجوس يثبتون خالقين وكذلك القدرية أثبتوا أن الله خلقهم وأنهم خلقوا أفعالهم استقلالاً كما روى أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم"، وروى أبو داود أيضًا عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر ومن مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوه، وهم شيعة الدجال وحقٌ على الله أن يلحقهم بالدجال")
والأحاديث في القدرية الأحاديث المرفوعة فيها ضعف ولكن الصحيح موقوف على الصحابة، الأحاديث في القدرية صحيحة عن الصحابة مثل قول ابن عمر "القدرية مجوس هذه الأمة الأمة إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم" نصها صحيح أما رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، الأحاديث المرفوعة ففيها ضعف، بخلاف الخوارج فإن المرفوعة صحيحة، وفي الصحيحين ما يقارب من عشرة أحاديث في الخوارج.
أما القدرية فالأحاديث المرفوعة فيها ضعف وما تخلو من ضعف، وأما الآثار الموقوفة عن الصحابة عن القدرية فهي صحيحة.
(وأحاديث القدرية المرفوعة كلها ضعيفة وإنما يصح منها الموقوف، وقد تقدم الكلام على هذا الموضوع، وقد اختلف العلماء في تكفير هؤلاء، وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد وغيرهما من أئمة الإسلام على تكفيره، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، ويغلو فيها قومٌ)
يعني يقول القضية طائفتان الطائفة الأولى الذين أنكروا العلم القديم هؤلاء نص العلماء على أنهم كفار؛ لأهم أنكروا العلم ونسبوا الله إلى الجهل، وأما القدرية المتأخرون الذين أنكروا وقالوا الإنسان يخلق فعل نفسه ففي خلاف في تكفيرهم والصواب أنهم مبتدعة لهم شبهة.
(وقد اختلف العلماء في تكفير هؤلاء، وأما من أنكر العلم القديم)
هؤلاء يعني القدرية المتأخرون عامة القدرية
(وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد وغيرهما من أئمة الإسلام على تكفيره)
أولئك كفار لأنهم أنكروا العلم ونسبوا الله إلى الجهل.
(ويغلو فيها قوم إلى أخره، أشار المصنف بقوله هذا إلى المجبرة فإنهم غلوا في نفي أفعال العباد حتى سلبوا العباد قدرتهم واختيارهم، وزعموا أنهم لا يفعلون شيئًا البتة وإنما الله هو فاعل تلك الأفعال حقيقة فهي نفس فعله لا أفعالهم، والعبيد ليس لهم قدرة ولا إرادة ولا فعل البتة وأن أفعالهم بمنزلة حركة الجمادات لا قدرة له عليها، وإمام هؤلاء الجهم بن صفوان الترمذي وقولهم باطل؛ لأننا نفرق بالضرورة بين حركة البطش وحركة المرتعش ونعلم بأن الأول باختياره دون الثاني؛ ولأنه لو لم يكن للعبد فعلٌ أصلاً لما صح تكليفه ولا ترتب استحقاق الثواب والعقاب على أفعاله ولا إسناد الأفعال التي تقتضي سابقة قصد إليه على سبيل الحقيقة)
كل هذا مناقشة الجبرية في قولهم بأن الأفعال كل اضطراري، أول كلام الجبرية؟ نقف على أول كلام الجبرية.
(ويغلو فيها قوم).