الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد:
المتن
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والإِجْماعُ هُو الأصْلُ الثَّالِثُ الَّذي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في العِلْمِ والدِّيِن، وهُمْ يَزِنُونَ بهذه الأصولِ الثَّلاثَةِ جَميعَ ما عليهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوالٍ وأَعْمالٍ باطنةٍ أَوْ ظاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تعلُّقٌ بالدِّينِ
الشرح
والأصول الثلاثة هي الكتاب والسنة والإجماع.
نعم:
المتن
والإِجماع الَّذي يَنْضَبِطُ هُو مَا كانَ عَلَيْه السَّلَفُ الصَّالحُ، إِذْ بَعْدَهُم كَثُرَ الاخْتِلافُ، [ وانْتَشَر في الأمَّةِ ].
نعم:
الشرح
إجماع ما كان عليه السلف الصالح, قال الإمام أحمد رحمه الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب, يعني بعد موت الصحابة فنقل الإجماع إجماع الصحابة, ومن بعد الصحابة انتشر الناس وتفرقوا في البلدان والأمصار فلا يمكن أخذ أقوالهم حتى يُعلم أنهم أجمعوا, كيف يحصل الإجماع والناس تشتتوا, والعلماء تشتتوا, وقد يكون العالم في قرية ما أُخذ قوله, قد يكون العالم غير معروف فلهذا قال المؤلف الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة, ومن بعدهم كثر الناس وتفرقوا, ولهذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب يعني بعد عصر الصحابة, والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح, من هم السلف الصالح؟ هم الصحابة مثل ما قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب.
نعم:
المتن
قال الشيخ عبدالعزيز الرشيد رحمه الله تعالى: قولُه: (والإجماعُ) الإجماعُ يُطلَقُ لغةً: على العَزمِ، كما قال -سُبْحَانَهُ- {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ}
الشيخ: يعني اعزموا وصمموا.
نعم:
وقال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: «لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيلِ» وهَذَا يَتأتَّى مِن الواحدِ والجماعةِ، ويُرادُ بِهِ أيضًا الاتِّفاقُ، واصطلاحًا: "هُوَ اتِّفاقُ علماءِ العصرِ مِن الأمَّةِ على أمْرٍ دِينيٍّ" وهُوَ حُجَّةٌ قاطِعةٌ يَجِبُ العَملُ بِهِ عندَ الجمهورِ، وأنْكرَه بعضُ المبتدِعَةِ مِن المعتزِلةِ والشِّيعةِ، والدَّليلُ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ قولُه تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} وعن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- مرفوعا: «لاَ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الأُمَّةُ على ضَلاَلَةٍ أَبَداً» رواه الترمذيُّ، وعن أنسٍ رضي اللَّهُ عنه مرفوعا: «لاَ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ضَلاَلَةٍ، فِإِنْ رَأَيْتُمُ الاخِتْلاَفَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ الحَقِّ وَأَهْلِهِ» رواه ابنُ ماجهْ، وعن أبي ذَرٍّ مرفوعا: «عَلَيْكُمْ باِلْجَمَاعَةِ، فِإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْمَعْ أُمَّتِي إِلاَّ عَلَى هُدًى» رواه أحمدُ.
وعن أبي ذَرٍّ مرفوعا: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ» رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، وعن ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: «مَا رآهُ المسلمونَ حَسَناً فهُوَ عندَ اللَّهِ حَسنٌ، وما رآه المسلمونَ سَيِّئاً فهُوَ عندَ اللَّهِ سَيِّئٌ» رواه أبو داودَ الطيالسيُّ، وأَخرَجَه البزَّارُ، وأبو نُعيمٍ في ترجمةِ ابنِ مسعودٍ.
قولُه: (وهُوَ الأصلُ الثَّالِثُ) الأصْلُ لغةً: أَسْفلُ الشَّيءِ وأساسُه، واصطلاحا: ما بُنِيَ عليه غيرُه.
قولُه: (الثَّالِثُ) أي مِن الأدِلَّةِ التي هي الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والثَّالِثُ هُوَ الإجماعُ، ولم يَزلْ أئمَّةُ الإسلامِ على تقديمِ الكتابِ على السُّنَّةِ، والسُّنَّةِ على الإجماعِ، وجَعلِ الإجماعِ في المرتبةِ الثَّالثةِ، قال الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الحُجَّةُ كتابُ اللَّهِ وسُنَّةُ رَسولِه واتِّفاقُ الأئمَّةِ، وروى الترمذيُّ في جامِعِه عن مُعاذٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال له لما بَعَثَه إلى اليَمنِ: «كَيْفَ تَقْضي»؟ قال: أَقْضي بما في كتابِ اللَّهِ، قال: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ»؟ قال: بِسُنَّةِ رَسولِ اللَّهِ، قال: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» قال: أَجْتهِدُ برأيي، قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ» اهـ.
الشرح
الحاكم يأخذ دليله من الكتاب ثم من السنة ثم بعد ذلك يجتهد.
نعم:
المتن
الإجماع: (الذي يُعتمدُ عليه في العِلمِ والدِّينِ) أي: يُستنَدُ ويُرْكَنُ إليه، للأدلَّةِ الكثيرةِ الدَّالَّةِ على عِصمةِ هَذِهِ الأمَّةِ مِن الاجتماعِ على ضلالةٍ، وأنَّ الإجماعَ كما تقدَّمَ حُجَّةٌ قاطِعةٌ يَجِبُ العملُ بِهِ لما تقدَّمَ.
قولُه: (وهم يَزنِونَ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ يَعْرِضُونَ جميعَ الأقوالِ والاعتقاداتِ على هَذِهِ الأصولِ الثَّلاثةِ، – وَهِيَ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ – ويَجعلون هَذِهِ الأصولَ الثَّلاثةَ هي المعيارُ الذي تُوزنُ بِهِ الأعمالُ؛ إذْ لا حُجَّةَ إلاَّ في هَذِهِ الأصولِ المتقدِّمةِ، وأمَّا القِياسُ ففيه خلافٌ معروفٌ.
(ممَّا له تعلُّق بالدِّينِ) والإجماع جميع ما عليه الناس مما له تعلق بالدين أي: كصلاةٍ وصيامٍ وحَجٍّ وزكاةٍ ومُعامَلاتٍ ونَحوِ ذَلِكَ، أمَّا ما لا تَعلُّق له بالدِّينِ كأمورِ المعائِشِ والعاداتِ، فالأصلُ فيه الإباحةُ فالإجماعُ ليس بحُجَّةٍ فيها، قال الكورانيُّ: لا معنى للإجماعِ في ذَلِكَ لأنَّه ليس أَقْوى مِن قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وهُوَ ليس دليلا لا يُخالَفُ فيه، واستدلَّ على ذَلِكَ بما رَوى مسلمٌ في "صحيحِه" عن أنسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».
قولُه: (والإجماعُ جميعُ ما عليه النَّاسُ) إلخ أي: مِن عباداتٍ ومعاملاتٍ وغيرِ ذَلِكَ.
قولُه: (مما له تعلُّق بالدِّينِ) احتُرِزَ مِن اتِّفاقِهم على أمْرٍ دُنيويٍّ، كإقامةِ مصنعٍ أو حِرفةٍ أو مَتْجرٍ أو نحوِ ذَلِكَ، فإنَّ ذَلِكَ ليس إجماعًا شَرعياًّ: قال في اللُّمَعِ: أمَّا أمورُ الدُّنْيَا كتَجْهِيزِ الجُيوشِ وتدبيرِ الحروبِ والعِمارةِ والزِّراعةِ وغيرِها مِن مصالحِ الدُّنْيَا، فالإجماعُ ليس بحُجَّةٍ فيها؛ لأنَّ الإجماعَ فيها ليس بأكثرَ مِن قولِ الرَّسولِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد ثَبَتَ أنَّ قولَه إنَّما هُوَ حُجَّةٌ في أحكامِ الشَّرْعِ دُونَ مصالِحِ الدُّنْيَا، ولهَذَا رُوِيَ أنَّه نَزَلَ مَنْزِلاً فقِيلَ له إنَّه ليس برأيٍ فتَرَكَهُ.
قولُه: (والإجماعُ الذي يَنضبِطُ) إلخ أي: الإجماعُ الذي يَنضبِطُ، أي يُحفَظُ ويُضبطُ ضَبْطا تاماًّ بِدُونَ نقصٍ، ويُمكِنُ العِلمُ بِهِ هُوَ ما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، لا ما بعدَ ذَلِكَ، فتَعذَّرَ العِلمُ بِهِ غالبًا لانتِشارِ الإسلامِ وكَثرةِ العلماءِ وتفرُّقِهم في البلادِ، فالعِلمُ بحادثةٍ واحدةٍ انتشَرَتْ في جميعِ الأقطارِ، ووَقَفَ كُلُّ مجتهدٍ عليها ثم أطْبَقُوا فيها على قولٍ واحدٍ، هَذَا مما لا تُساعِدُ العادةُ على وُقوعِه، فَضلاً عن العِلمِ به، وهَذَا هُوَ الذي أَنْكَره أحمدُ وغيرُه، لا وقوعَ الإجماعِ.
قال الإسنويُّ: ولأجْلِ هَذِهِ الاحتمالاتِ قال الإمامُ أحمدُ: مَن ادَّعى الإجماعَ فهُوَ كاذِبٌ، قال أبو المعالي: والإنصافُ أنَّه لا طَرِيقَ لنا إلى معرفةِ الإجماعِ إلا في زَمَنِ الصَّحابةِ، وقال البيضاويُّ: إنَّ الوقوفَ عليه لا يَتعذَّرُ في أيامِ الصَّحابةِ، فإنَّهم كانوا قَليلِينَ مَحْصورِين ومُجتِمعِين في الحِجازِ، ومَن خَرجَ منهم بَعدَ فتحِ البلادِ كان مَعروفًا في مَوضِعِه، وقال ابنُ بَدْرانَ في شرحِ رَوضةِ النَّاظرِ بعد ذِكْرِ ما تقدَّمَ.
قلتُ: وهُوَ الحقُّ البَيِّنُ. انتهى.
وقال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الإعلامِ: وليس عَدمُ عِلمِه بالمخالِفِ إجماعا، وقد كذَّبَ أحمدُ مَن ادَّعى الإجماعَ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعيُّ في رِسالِته الجديدةِ، على أنَّ ما لا يُعلَمْ فيه بخلافٍ لا يُقالُ له إجماعٌ، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ: سمعتُ أبي يقولُ: ما يَدَّعِي فيه الرَّجُلُ الإجماعَ فهُوَ كَذِبٌ، لعلَّ النَّاسَ اختلَفوا، هَذِهِ دَعْوى بِشْرٍ المَرِيسِيِّ والأصَمِّ، فهَذَا هُوَ الذي أنكرَه أحمدُ والشَّافِعيُّ لا ما يَظُنُّه بعضُ النَّاسِ أنَّه استبِعادٌ لوُجودِه.
الشرح
وصلنا للإجماع حجة, والإجماع مستند إلى نص الإجماع, مستند إلى نص فلا يمكن أن يكون إجماع بدون نص, لكنه الإجماع كأن يقال أجمع العلماء على كذا مستندين إلى نص من كتاب أو سنة, ولكن الإجماع لينضبط هو إجماع الصحابة أم بعد الصحابة تفرق الناس لا يمكن أخذ أقوالهم, قد يكون أحد من العلماء لا يعرف مكانهم ولهذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب أي يعني بعد عصر الصحابة؛ لأنه لا يمكن أخذ أقوال المجمعين؛ لأن فُتحت البلدان وتفرق الناس بعض الصحابة معرفون انتشرت الناس في الولايات والأقاليم متعددة فيصعب أخذ الأقوال, ولهذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب.
وفق الله الجميع لطاعته
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك