بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والسامعين.
(المتن)
[فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ]
ومن حكمة العزيز الحكيم تسليط هذين الجنديين على القلوب المعرضة عنه ليردها عن كثير من معاصيها، ولا تزال هذه القلوب في هذا السجن حتى تخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله.
(الشرح)
يعني القلب واللسان.
(المتن)
ولا سبيل إلى خلاص القلب من ذلك إلا بذلك، ولا بلاغ إلا بالله وحده، فإنه لا يوصل إليه إلا هو، ولا يدل عليه إلا هو. وإذا أقام العبد في أي مقام كان، فبحمده وحكمته أقامه فيه، ولم يمنع العبد حقًا هو له، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه فيعطيه، وليرده إليه وليعزه بالتذلل له، وليغنيه بالافتقار إليه، وليجبره بالانكسار بين يديه، وليوليه بعزله أشرف الولايات، وليشهده حكمته في قدرته، ورحمته في عزته، وإن منعه عطاء، وعقوبته تأديب، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه، والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه، وأعلم حيث يجعل رسالته {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 53] .
فهو سبحانه أعلم بمحال التخصيص، فمن رده المنع إليه، انقلب عطاء.
(الشرح)
يعني انقلب المنع عطاء.
(المتن)
ومن شغله عطاؤه عنه، انقلب منعا، وهو سبحانه وتعالى أراد منا الاستقامة، واتخاذ السبيل إليه، وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا ومشيئتنا له، كما قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 29] . فإن كان مع العبد روح أخرى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى جسده يستدعي بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلاً، وإلا فمحله غير قابل للعطاء، وليس معه إناء يوضع فيه العطاء، فمن جاء بغير إناء رجع بالحرمان، فلا يلومن إلا نفسه.
(الشرح)
يعني الإنسان ليس محلاً, الله تعال أعلم بالمحال الذي يغرس غرس الكرامة, والمحال التي لا تصلح, {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم}[الأنعام/83].
(المتن)
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الهم والحزن، وهما قرينان، ومن العجز والكسل، وهما قرينان، فإن تخلف صلاح العبد وكماله عنه إما أن يكون لعدم قدرته عليه، فهو عجز، أو يكون قادرًا لكن لا يريده، فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين فوات كل خير، وحصول كل شر.
(الشرح)
وهو العجز والكسل, ينشأ عنه هاتين الخصلتين العجز والكسل, العجز الشيء الذي لا يستطيعه والكسل الذي يستطيعه ولا يريد فعله.
(المتن)
ومن ذلك الشر تعطيله عن النفع ببدنه وهو الجبن، وعن النفع بماله وهو البخل.
(الشرح)
يعني إذا لم ينتفع بالجسد هذا جبن منه, وإذا لمن ينتفع بماله فهو بخل منه.
(المتن)
ثم ينشأ له من ذلك غلبتان غلبة بحق وهي غلبة الدين، وغلبة بباطل وهي غلبة الرجال، وكل هذه ثمرة العجز والكسل. ومن هذا قوله في الحديث الصحيح للذي قضى عليه، فقال: «حسبي الله ونعم الوكيل، إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل حسبي الله ونعم الوكيل» فهذا قالها بعد عجزه عن الكيس الذي لو قام به لقضي له على خصمه، فلو فعل الأسباب ثم غلب فقالها، لوقعت موقعها.
(الشرح)
لأنه أدى ما عليه, إذا فعل الإنسان الأسباب فلا يلام بعد ذلك, لا شرعًا ولا عقلاً, أما إن ترك السبب فهو مغلوب شرعًا وعقلاً, الأسباب المأمور بها.
(المتن)
كما أن إبراهيم الخليل لما فعل الأسباب المأمور بها ولم يعجز بترك شيء منها، ثم غلبه العدو، وألقوه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل -فوقعت الكلمة موقعها، فأثرت أثرها.
(الشرح)
جاء الأمر من الله{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم}[الأنبياء/69].
ويروى أن جبريل عرض له في الهواء, النمرود, الملك في زمان إبراهيم جمع لإبراهيم نارًا حطبًا, مدة طويلة وهم يجمعون حطب ثم أججوها نارًا, فألقوا إبراهيم, يقال: وهو في الهواء, يقال هذه صيغة تمرير, إنه في الهواء قال له جبريل: ألك حاجة يا إبراهيم؟ الآن مقبل على النار, فقال: أما إليك فلا, وأما إلى الله فبلى, فجاء الفرج من الله, قال الله: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم}[الأنبياء/69].
فصار الجو معتدل, قال العلماء: لو قال الله يا نار كوني بردًا لمات من شدة البرد, ولو تركها لأحرقت النار, فلما قال: كوني بردًا وسلامًا صارت الجو معتدلاً لا حار ولا بارد, كوني بردًا وسلامًا, معتدل الجو, فرج الله أسرع من جبريل.
ويقال: إن الوزغ أنه ينفخ من بعيد في النار من خبثه, ينفخ النار تزداد اشتعالًا, من خبثه هواءه ما يؤثر هو بعيد, لكن من الخبث الذي في نفسه هو ينفخ, فلهذا جاء الحديث أنه يقتل لأنه كان ينفخ في نار إبراهيم, جاء في الحديث من ضربه الضربة الأولى له كذا, والضربة الثانية له كذا, لكن النفس الخبيثة هكذا تأبى إلا أن تفعل الشر.
(المتن)
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم أحد لما قيل لهم بعد انصرافهم من أحد: {إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] فتجهزوا وخرجوا لهم، ثم قالوها، فأثرت أثرها؛ ولهذا قال الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 2 - 3] .
وقال الله تعالى: {واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [المائدة: 11] .
(الشرح)
قال العلماء: هذا شرط, إذا تحقق الشرط فلابد أن يتحقق المشروط, إذا كان الإنسان متقيًا وضاقت به الحيل فلابد أن يفرج الله كربته, يقول: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا}؛ إذا كان الإنسان تقيًا واشتدت به الكرب فلابد أن يفرج الله كربته, لقول الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا}.
(المتن)
فالتوكل والحسب بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل.
(الشرح)
يعني ما يكفى التوكل والاعتماد, التوكل يكون بعد فعل الأسباب, التوكل يجمع أمرين: فعل الأسباب المشروعة, ثم الاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه في حصول النتيجة, أما ترك الأسباب هذا,, ويزعم أنه متوكل هذا عجز وتفريط وتواكل, التوكل الحقيقي لابد من فعل الأسباب.
الأسباب لابد من فعلها, إذا كان الإنسان له أرض؛ حتى في الأمور الدنيوية وفي الأمور الدينية, إذا كان الإنسان له أرض فلابد أن يفعل الأسباب, يبدر الأرض ويزرعها ويحرثها ويسقيها ويزيل عنها الأسباب المعوقة, ثم يفوض الأمر إلى الله في حصول النتيجة.
لكن شخص آخر بجواره له أرض مثله يقول: أنا متوكل على الله أن تخرج أرضي من الثمر مثل ما أخرجت أرض فلان, السماء لا تمطر ذهبًا افعل الأسباب, أفعل مثل ما يفعل جارك, احرث الأرض وابذرها وازرعها وأسقها ثم توكل على الله, يكون التوكل مع فعل الأسباب.
من الأسباب في حصول الولد الزواج تزوج هذا الزواج سبب في حصول الولد, لكن إنسان يقول: أنا ما أفعل الأسباب, إن قدر الله أن يأتيني ولد من زواج يأتيني, هذا مجنون هذا ليس له عقل, ما يمكن هذا, كذلك الأسباب الأخرى, من هذا الباب, إنسان يقول: أنا أنام وإن قدر الله أحضر حلقات دروس, وأنا أتمنى على الله أن أكون من العلماء الكبار, وهو نائم في بيته ما فعل الأسباب هذا ما يحصل.
كذلك الإنسان يتمنى أن الله يدخله الجنة, عليك بالإيمان والعمل الصالح, قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}[الزخرف/72].
افعل السبب, التوحيد والإيمان هو السبب في دخول الجنة, وإن كان دخول الجنة هو برحمة الله, فلابد من الأسباب في كل شيء في الدنيا والآخرة لابد من فعل الأسباب.
(المتن)
فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا، ولا عجزه توكلاً.
(الشرح)
نعم لا يجعل توكله عجز, يعني يترك الأسباب, ولا يجعل عجزه توكلاً يركن إلى الأسباب ولا يفوض الأمر إلى الله, بل يفعل الأسباب على أنها أسباب, ويفوض الأمر إلى الله, فلا يترك الأسباب ولا يركن إلى الأسباب, لا يتركها بالكلية ولا يركن إليها ويعتمد عليها, يعتمد على الله, لكن يفعل الأسباب على أنها أسباب جعلها الله أسبابًا.
(المتن)
بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ومن هنا غلط طائفتان، إحداهما: زعمت أن التوكل وحده سبب مستقل، فعطلت الأسباب التي اقتضتها حكمة الله.
(الشرح)
هؤلاء هم الجبرية, والجبرية والصوفية هم الذين تركوا الأسباب, فقالوا: الأسباب كلها تترك؛ لأن الأسباب يزعمون أنه ليس هناك مؤثر إلا الله, قالوا: فلو فعلت الأسباب لجعلتها مؤثرة, فتركوا الأسباب, فأنكروا الأسباب والطبائع والغرائز والعلل, وهذا مذهب الجبرية, الجهمية والأشاعرة والصوفية يقولون: ما في أسباب, والأشاعرية جبرية متوسطة, والجهمية جبرية خالصة, فالأشاعرة يسمون الأسباب أمارات وعلامات, يقولون: السكين ما تقطع, ليست السكين سبب في القطع, لو كانت تقطع بذاتها لصارت مؤثرة مع الله, إذًا نقول: إن الله تعالى يوجد القطع عند السكين لا بالسكين, والماء ليس يروي, لكن الله يجري الري عند الشرب لا بالشرب, والأكل ما يشبع لكن الله يوجد الشبع عند الأكل لا بالأكل, فإذا قيل: -- ((@ كلمة غير مفهومة- 14:55)) -- قال: هذا من باب الأمارات, هذه علامة جعل هذا علامة على هذا, كما أنه جعل زوال الشمس علامة على دخول وقت الظهر, وغروب الشمس علامة على دخول وقت المغرب, يسمونها علامات وأمارات, ولهذا في كتب الأصول المبنية على مذهب الأشاعرة في باب القياس يسمون العلل أمارات على طريقة الأشاعرة, لأنهم ينكرون الأسباب, ما في أسباب عندهم, لا أسباب ولا علل ولا طبائع ولا غرائز؛ لأنه يقول: تكون مؤثرة مع الله, وما في مؤثر إلا الله, وقالوا: الإنسان مجبور كالريشة في الهواء, وأنه يفعل وليس له اختيار ولا قدرة, حتى قالوا: إن الله هو المصلي والصائم, نعوذ بالله من هذا.
وقابلهم المعتزلة الذين ركنوا إلى الأسباب واعمدوا عليها, والطبائعية فقالوا: الأسباب هي المؤثرة بذاتها, فالمعتزلة قالوا: العبد هو الذي يخلق فعل نفسه, وهو الذي يوجد الطاعة وهو الذي يوجد المعصية, ويجب على الله عقلاً أن يثيب المطيع؛ لأنه عرق جبينه, يجب وجوب على الله أن يثيبه, كما أنه يستحق الأجير أجرته, هذا يستحق الثواب, يوجبون على الله, يقولون: هذا عرق جبينه ما لله فضل, نعوذ بالله, هكذا يقولون.
كما أنه قال: يجب على الله عقلاً أن يعاقب العاصي وليس له أن يعفو عنه ولا أن يرحمه؛ لأن الله توعد والله لا يخلف الميعاد, كذلك الطبائعون يقولون: الولد يحصل بالتفاعل بين المائين؛ لأنهم يركنون إلى الأسباب, الأسباب هي المؤثر وحدها, أهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء, فأثبتوا الأسباب على أن الأسباب جعلية بجعل الله لها أسباب, وليست مؤثرة بذاتها, ولكن الله هو الذي جعل فيها هذه الخاصية, فالقطع يكون بالسكين؛ لأن الله أوجد فيها خاصية القطع, والنار محرقة, الأشعري يقول: لا, النار ما تحرق؛ لكن الله يوجد الإحراق عند الله لا بالنار, لأن النار ما تحرق بنفسها؛ خوفًا من القول من أنها لها سبب, هذا باطل, النار محرقة بذاتها, والسكين تقطع بذاتها, الماء يروي بذاته, والماء يشبع, ليس مؤثرًا بذاته من نفسه, بل لأن الله جعل فيها هذه الخاصية, ولو شاء لسلبه كما سلب نار إبراهيم خاصية الإحراق فلم تحرق, وسلب السكين التي أجريت على حلق إسماعيل خاصية القطع فلم تقطع, أجراها إبراهيم على حلق إسماعيل فلم تقطع, النار التي ألقي فيها لم تحرقه؛ لأن الله سلبها الخاصية.
(المتن)
الثانية: قامت بالأسباب وأعرضت عن التوكل.
(الشرح)
هم المعتزلة والطبائعيون.
(المتن)
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم أرشد العبد إلى ما فيه غاية كماله، أن يحرص على ما ينفعه ويبذل جهده.
(الشرح)
للحديث احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز.
(المتن)
وحينئذ ينفعه التحسب، بخلاف من فرط ثم قال: حسبي الله ونعم الوكيل.
(الشرح)
يعني إذا فعل الأسباب ولم يقصر ثم جاءت الأمور على خلاف, أو أصابه شيء على خلاف ما توقع هذا الأمر لله, إن لله وإنا عليه راجعون, حسبنا الله ونعم الوكيل, قدر الله وما شاء فعل.
(المتن)
فإن الله يلومه، ولا يكون في هذه الحال حسبه، فإنما هو حسب من اتقاه ثم توكل عليه.
(الشرح)
وفق الله الجميع لطاعته.