بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين والسامعين.
(المتن)
[فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والغزوات]
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والغزوات لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام.
(الشرح)
يعني أعلاه كما في الحديث, ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله.
(المتن)
ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة.
(الشرح)
في الحديث «أعد الله في الجنة مائة درجة للمجاهدين في سبيله, ما بين كل درجتين كما ما بين السماء والأرض».
(المتن)
كما لهم الرفعة في الدنيا.
(الشرح)
الفضل والشرف والذكر, والوعد الحسن.
(المتن)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه.
(الشرح)
هو إمام المجاهدين عليه الصلاة والسلام, وإمام المتقين, وإمام المرسلين عليه الصلاة والسلام.
(المتن)
واستولى على أنواعه كلها.
(الشرح)
أنواع الفضائل وأنواع الجهاد.
(المتن)
فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان، والدعوة والبيان، والسيف والسنان، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد؛ ولهذا كان أعظم العالمين عند الله قدرًا. وأمره تعالى بالجهاد من حين بعثه، فقال: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرًا} [الفرقان/52] .
(الشرح)
جاهدهم بالقرآن الأول, جاهدهم به جهادًا كبيرًا, قبل أن يشرع الجهاد بالسيف والسنان, قال: جاهدهم بالقرآن, لا تطع الكافرين وجاهدهم به أي القرآن؛ جهادًا كبيرًا, بالدعوة.
(المتن)
فهذه سورة مكية أمره فيها بالجهاد بالبيان.
(الشرح)
هذا جهاد البيان, كما في سورة الفرقان, {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به}؛ بالقرآن {جهادا كبيرًا}؛ يعني بالبيان والدعوة الإبلاغ وإقامة الحجة.
(المتن)
وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بالحجة وهو أصعب من جهاد الكفار.
(الشرح)
وكذلك جهاد الفساق بالحجة والبيان, جهاد المنافقين بالحجة وهو الأصعب, ما كل أحد يستطيع أن يقيم الحجة إلا الخواص, العلماء يجاهدوهم, لكن الجهاد بالسيف كل واحد يستطيع العامي والعالم, وهذه ميزة العلماء, العلماء يجاهدون بالبيان, ولذلك الله تعالى أخبر قال: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}؛ يعني بقيت طائفة {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون}[التوبة/122].
يعني ينفر للجهاد طائفة وتبقى طائفة تتعلم وتفقه الناس في الدين, {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}؛ يعني بقيت طائفة {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ}[التوبة/122].
حذف للعلم به, لدلالة السياق عليه, فتبقى هذه الطائفة تتعلم وتتفقه, ويبقى العلماء يعلمون الناس؛ لأن بقاؤهم أولى من ذهابهم, فيبقون يعلمون الناس دينهم, ويقيمون الحجج على الفساق وعلى العصاة وعلى المنافقين, فهذا جهاد لا يستطيعه ألا العلماء.
(المتن)
وهو جهاد خواص الأمة، وورثة الرسل والقائمون به.
(الشرح)
هذا جهاد الخواص, وذاك جهاد العوام, عامة الناس كلهم يجاهدون بالسلاح, كلٌ يتعلم الجهاد بالسلاح, يتعلم ويجاهد, ولكن جهاد الخواص بالعلم وإقامة الحجة, وإقامة الأدلة, وكشف الشبه, والرد على العصاة والمشبهين والمنافقين, هذا جهاد الخواص وهم العلماء.
(المتن)
أفراد في العالم، والمعاونون عليه -وإن كانوا هم الأقلين عددًا- فهم الأعظمون قدرًا. ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض مثل أن يتكلم به عند من يخاف سطوته، كان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من ذلك الحظ الأوفر.
(الشرح)
ولذلك في الحديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
(المتن)
وكان له صلى الله عليه وسلم من ذلك أكمله وأتمه، ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا على جهاد النفس، كما قال صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله».
(الشرح)
يعني جهاد النفس هو الأول ثم يأتي جهاد الناس في الخارج, ما يصلح أن يجاهد الإنسان ويقاتل الأعداء حتى يجاهد نفسه أولًا, جهاد داخلي, داخل نفسك حتى تؤدي ما أوجب الله عليك, وتجاهدها حتى تنتهي عما حرم الله عليك, وتجاهدها حتى تستقم على طاعة الله؛ ثم لا تجاهد الأعداء, ما تستطيع أن تجاهد العدو حتى تجاهد نفسك الآن, الإنسان ما يجاهد نفسه ولا يستطيع أن يؤدي الواجبات ولا يستطيع أن يؤدي المحرمات إلا أن يجاهد نفسه, كيف يجاهد الناس؟! ما يمكن هذا.
أول شيء ابدأ نفسه, جاهد النفس حتى تؤدي الواجبات, جاهدها حتى تنتهي عن المحرمات, حتى تستقيم على طاعة الله ثم بعد ذلك يجاهد الناس, يجاهد الفساق بالدعوة, ويجاهد المنافقين بإقامة الحجة والبيان والأدلة, ثم يجاهد الكفار بالسلاح والسنان, بعد أن يجاهد نفسه, يجاهد نفسه أولًا ثم يجاهد الناس.
(المتن)
ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا على جهاد النفس، كما قال صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله» كان جهادها مقدمًا. فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما، وهو الشيطان.
(الشرح)
قسم ثالث النفس والشيطان والكفرة والفساق, ولا يستطيع أن يجاهد نفسه وأن يجاهد عدوه؛ حتى يجاهد الشيطان, الشيطان هو الذي أمره بترك الطاعة وفعل المعصية, فلابد أن يجاهد الشيطان حتى يتغلب عليه, فإذا تغلب عليه جاهد نفسه, فأدى والواجبات وترك المحرمات, ثم جاهد العدو الخارجي, جاهد الفساق والمنافقين بالحجة والبيان, وجاهد الكفار بالسلاح والسنان.
(المتن)
قال الله تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر/6] . والأمر باتخاذه عدوًا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته، فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها، وسلطت عليه امتحانًا من الله.
(الشرح)
سلطت هذه الأعداء عليه, النفس والشيطان والكفار والفساق, كلهم مسلطون على الإنسان ابتلاء وامتحان, اختبار وابتلاء من الله؛ حتى يخرج الإنسان نقيًا صافيًا بعد الامتحان, من جاهد نفسه وصبر على الجهاد نجح في الامتحان, ومن لم يجاهد نفسه أخفق في الامتحان, فلم يؤدي ما أوجب الله عليه, فاستولت عليه النفس واستولى عليه الشيطان ولم يستطع أن يجاهد الكفار.
(المتن)
وأعطي العبد مددًا وقوة، وبلي أحد الفريقين بالآخر.
(الشرح)
بلي هذا بهذا, الشيطان بلي بالإنسان, الإنسان بلي بالشيطان, كذلك الأعداء أنت مبتلى بهم وهم مبتلون بك.
(المتن)
وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم، فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى، وأنزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله، وأمدهم بملائكته، وأمرهم بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم.
(الشرح)
هذا كله مدد من الله رزق الإنسان البصر وعقل يفهم, أنزل الله الكتب وأرسل الرسل بالأوامر والنواهي, كل هذه مدد من الله وعون من الله.
(المتن)
وأخبرهم أنهم إن امتثلوه لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم، وأنه إن سلطه عليهم؛ فلتركهم بعض ما أمروا به.
(الشرح)
وأنه إذا سلط عليهم بسبب ذنبوهم, تركوا بعض ما أمر الله فسلط عليه العدو, فإذا امتثلوا أمر الله وتابوا نصروا عليهم, وإلا سلط عليهم.
(المتن)
ثم لم يؤيسهم، بل أمرهم أن يداووا جراحهم.
(الشرح)
إذا وقعوا في المعصية لا ييئسوا بل يداووا هذه الجراح, مداواة الجراح بالتوبة, التوبة والندم والعزم الصادق على عدم العودة.
(المتن)
ويعودوا إلى مناهضة عدوهم بصبرهم.
(الشرح)
يعودوا مرةً أخرى بعد التوبة وبعد الصبر.
طالب: -- ((@ كلمة غير مفهومة- 11:22)) --؟.
الشيخ: نعم المسلم مبتلى بالكافر, وكذلك العاصي يبتلى المطيع بالعاصي والعاصي بالمطيع, ويبتلى الإنسان بالشيطان والشيطان مبتلى منه, ما منا إلا مبتلى, {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور}[الملك/2].
كل واحد مبتلى في هذه الدنيا, فالصحيح مبتلى بصحته؛ أن يستعملها في طاعة الله أو في معصيته, والمريض مبتلى بمرضه هل يصبر أو يجزع؟ والغني مبتلى بغناه هل يشكر أم يكفر؟ والفقير مبتلى بفقره هل يصبر أو يجزع؟ فما منا إلا مبتلى{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور}[الملك/2].
(المتن)
وأخبرهم أنه مع المتقين منهم، ومع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المؤمنين.
(الشرح)
كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}[النحل/128].
{إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}[البقرة/153].
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين}[العنكبوت/69].
(المتن)
وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم.
(الشرح)
كما قال في سورة الحج: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور}[الحج/38].
(المتن)
بل بدفاعه عنهم انتصروا، ولولا ذلك لاجتاحهم عدوهم. وهذه المدافعة بحسب إيمانهم، فإن قوي إيمانهم قويت، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه. وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر - .
(الشرح)
هذا جاء تفسيره في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران/102].
تقول: حق تقاته أن يطاع فلا يعصى, وأن يذكر فلا ينسى, وأن يشكر فلا يكفر.
(المتن)
فحق جهاده أن يجاهد نفسه؛ ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله وبالله.
(الشرح)
حق الجهاد أن يجاهد نفسه.
(المتن)
لا لنفسه ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره.
(الشرح)
الشيطان يقف خطيبًا يوم القيامة بين أوليائه عندما يستقروا في النار{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}[إبراهيم/22].
هذه خطبة الشيطان يوم القيامة يخطب بين أوليائه نسأل الله العافية, تبرأ منهم ويتبرؤون منه.
(المتن)
فإنه يعد الأماني، ويمني الغرور، ويأمر بالفحشاء، وينهى عن الهدى وأخلاق الإيمان كلها، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وعدة، يجاهد بها أعداء الله بقلبه ولسانه ويده وماله؛ لتكون كلمة الله هي العليا.
واختلفت عبارات السلف في حق الجهاد، فقال ابن عباس: هو استفراغ الطاقة فيه.
(الشرح)
اختلف العلماء في معنى قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج/78]. والمعنى حق جهاد.
(المتن)
فقال ابن عباس: هو استفراغ الطاقة فيه وأن لا يخاف في الله لومة لائم. وقال ابن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى. ولم يُصب من قال: إن الآيتين منسوختان؛ لظنه تضمنهما ما لا يطاق، وحق تقاته وحق جهاده: هو ما يطيقه كل عبد في نفسه.
(الشرح)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران/102].
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج/78].
هذا منسوخ ما يستطيع أحد أن يتق الله حق تقاته ولا يستطيع أن جاهد في الله حق جهاده, فهو منسوح, الشيخ رحمه الله ير أنه غير منسوخ, وأنه يأتي بما يستطيع من التقوى ومن الجهاد؛ لأن الله قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن/16].
بعضهم يقول: هذه ناسخة للآيتين, الشيخ يرى ما في نسخ وأنه ليس المراد حق الجهاد, المراد ما يستطيع ويكفي هذا, وهو قول قوي, قول ابن القيم قول قوي, والكثير من السلف يرون النسخ.
(المتن)
وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين. وتأمل كيف عقب الأمر بذلك بقوله: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] .
والحرج: الضيق. وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» ، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، وقد وسع الله سبحانه على عباده غاية التوسعة في دينه ورزقه وعفوه ومغفرته، فبسط عليهم التوبة ما دامت الروح في الجسد.
(الشرح)
إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ما لم تخرج الروح من الحلقوم.
(المتن)
وجعل لكل سيئة كفارة، وجعل لكل ما حرم عوضًا من الحلال، وجعل لكل عسر يمتحنهم به يسرًا قبله ويسرًا بعده.
(الشرح)
ولن يغلب عسر يسرين.
(المتن)
فكيف يكلفهم ما لا يسعهم، فضلاً عما لا يطيقونه.
(الشرح)
يقول: معنى حق تقاته, وحق جهاده؛ ليس المراد الشيء الذي لا يطيقونه.
وفق الله الجميع لطاعته