بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والسامعين.
(المتن)
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والغزوات]
فصل إذا عرف هذا، فالجهاد على أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس وهو أيضًا أربع مراتب:
أحدها: أن يجاهدها على تعلم الهدى. الثانية: على العمل به بعد علمه. الثالثة: على الدعوة إليه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله. الرابعة: على الصبر على مشاق الدعوة، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، ويدعو إليه.
(الشرح)
الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس, وجهاد الشيطان, وجهاد المنافقين والفساق, وجهاد الكفار.
وجهاد النفس أمر آخر, يجاهدها على تعلم ما أوجب الله عليها, يتعلم كيف يصلي, كيف يصوم, كيف يتطهر, يتعلم ثم إذا تعلم وعرف الحكم الشرعي يجاهدها على العمل والامتثال, ثم إذا امتثلت يجاهدها على تعليم الناس والدعوة إليه, هذا الخير الذي أعطاه الله, ثم يجاهدها على الصبر والتحمل, إذا استكمل هذه الأمور الأربعة صار من الرابحين, صار من العلماء الربانيين, قال الله تعالى: {وَالْعَصْر * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}[العصر/3].
يعصمه الله تعالى -- ((@ كلمة غير مفهومة- 02:08)) – أن كل إنسان خاسر إلا من اتصف بهذه الصفات, إلا الذين آمنوا, إيمان مبني على العلم, وعملوا الصالحات هذا العمل, وتواصوا بالحق هذه الدعوة إلى الله, والتواصي بالصبر, هذه صفات الرابحين, من كملها وأقامها واستقام عليها تم الربح, ومن ضيعها تم خسرانه, ومن نقص منها شيئًا فاته من الربح وحصل على ا لخسران بقدر تقصيره.
(المتن)
المرتبة الثانية: جهاد الشيطان، وهو مرتبتان: أحداهما: جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات. الثانية: على دفع ما يلقي من الشهوات، فالأول يكون بعده اليقين، والثاني يكون بعده الصبر.
(الشرح)
وجهاد الشيطان مرتبتان:
- جهاد على دفع الشهوات.
- وجهاد على دفع الشبهات.
دفع الشهوات باليقين, يقين القلب وعلمه وتحققه حتى لا يكون عنده شبهة.
والثانية: دفع الشهوات, وهي المعاصي, المعاصي من الشهوات, شهوة الزنا شهوة المال السرقة والتعامل بالربا وهكذا, يجاهد على دفع الشبهات بعدة اليقين, ويجاهد على دفع الشهوات بعدة الصبر والتحمل, يصبر على الشهوات حتى لا يفعلها.
(المتن)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون}[السجدة/24].
(الشرح)
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين, أي فمن دفع الشبهات صار عنده يقين, ومن دفع الشبهات صار عنده صبر, وبهذا تكون له الإمامة, والصبر واليقين تنال الإمامة في الدين, كما قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون}[السجدة/24].والصبر صبر عن الشهوات, واليقين فيه دفع للشبهات.
(المتن)
والمرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب، بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
(الشرح)
ونجعل لها مرتبة ثالثة: الأصل أن جهاد المنافقين والفساق هذا باللسان, ثم يأتي جهاد الكفار بالمال والسلاح المرتبة الرابعة, جعلها مرتبة ثم قسمها.
(المتن)
المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع، وهو ثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه.
(الشرح)
لحديث أبي سعيد في صحيح مسلم «من رأى منكم منكرًا فليغره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه».
(المتن)
والمرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب، بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
(الشرح)
جهاد المنافقين هو جهاد الفساق والعصاة, يجاهدهم باللسان, برد الشبه وبيان الأدلة ودفع الشبه, ويجاهد المنافقين والعصاة باللسان, وقال المؤلف: بالنفس, يعني بالنفس وبالمال, وباللسان وبالقلب, بالقلب يعني يكره هذا المنكر بقلبه ويبغضه, باللسان يرد الشبه, وباليد إذا كان يستطيع أن ينكر بيده إذا كان له سلطة, والكفار أخص, الكفار زادهم باليد يعني بالسلاح والمال, والفساق جاهدهم باللسان أخص.
بالقلب يعني ينكر المنكر, واللسان بيان الشبه وردها, والمال أيضًا يعني الأمر بدفع المال لجهاد المنافقين, وإلا جهاد الكفار معروف الجهاد بالمال يجاهد بالمال والنفس, جهاد الكفار أخص بالمال, وباليد, وجهاد المنافقين يكون باللسان وباليد.
(المتن)
المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع.
(الشرح)
يعني هؤلاء الفساق جعلهم مستقلين, أرباب الظلم وأهل البدع هؤلاء من قال فيهم النبي «من رأى منكم منكرًا فليغره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه», أرباب الظلم والبدع, أرباب الظلم يعني الذي تعامل بالربا, وكذلك يبتدعون البدع وغيرها, هؤلاء يجاهدون أولًا باليد إذا كان الإنسان له سلطة, إذا كان ولي أمر أو كان من رجال الحسبة والهيئات فيما خول لهم, يزيلون المنكر بأيدهم, فإن لم يستطع أنكر بلسانه بالبيان والتحذير, فإن ترتب على إنكاره باللسان ضرر أنكر بقلبه, ينكر هذا المنكر ولا يجلس معهم يفارقهم.
(المتن)
وهو ثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر.
(الشرح)
إذا كان من أهل اليد.
(المتن)
فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه, فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، و «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق» . ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان.
(الشرح)
الإيمان هو الأصل الأساس الذي تبنى عليه الأعمال, قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}[البقرة/218].
يرجون رحمة الله بهذه الأعمال, الإيمان, والهجرة, والجهاد, بهذه الأعمال كانوا يرجون رحمة الله, الرجاء لابد أن يكون مع العمل وإلا صار غرور وتمني, الرجاء بدون عمل غرور وتمني, وإنا يكون بالعمل يعمل ثم يرجو ويحسن الظن بالله, فمن حسن عمله حسنت ظنونه, ومن ساء عمله ساءت ظنونه.
(المتن)
والراجون لرحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة.
(الشرح)
الإيمان, والهجرة, والجهاد.
(المتن)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}[البقرة/218].
وكما أن الإيمان فرض على كل أحد، ففرض عليه هجرتان في كل وقت: هجرة إلى الله عز وجل بالإخلاص، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة، وفرض عليه جهاد نفسه وشيطانه فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد.
(الشرح)
وهذا فرض على كل أحد يجاهد نفسه حتى تستقيم على طاعة الله, يجاهدها على تعلم ما أوجب الله, ثم يجاهدها على العمل, ثم الدعوة, ثم الصبر, كذلك يجاهد الشيطان بدفع الشبهات وبدفع الشهوات, هذا ما ينوب أحد أحد, ما في أحد ينوب عنك في جهاد نفسك, وما في أحد ينوب عنك في جهاد الشيطان أنت بنفسك تجاهد النفس وتجاهد الشيطان, ما في إنابة هنا, قتال الكفار قد ينوب بعض الناس عن بعض, لكن في جهاد النفس وجهاد الشيطان ما في نيابة, فرض على كل أحد أن يجاهد نفسه؛ حتى تتعلم ما أوجب الله عليها, ثم تجاهدها على العمل, ثم تجاهدها على التعليم والدعوة, ثم تجاهدها على الصبر, يجاهد الشيطان بدفع الشبهات, وبدفع الشبهات, هذا فرض على الإنسان ما ينوب أحد عن أحد, أما قال الكفار نعم ينوب أحد عن أحد.
(المتن)
وأما جهاد الكفار والمنافقين، فقد يكتفى فيه ببعض الأمة.
(الشرح)
نعم إذا وجد من يرد على المنافقين وعلى الشبه من أهل العلم كفى, وكذلك إذا وجدت طائفة تقوم بالجهاد وقتال الكفار يكفي ينوب بعضهم عن بعض, لكن جهاد النفس وجهاد الشيطان ما في نيابة, كل واحد ملزم أن يجاهد نفسه على ما أوجب الله عليه, ويجاهد الشيطان بدفع وساوسه وشكوكه.
(المتن)
وأكمل الخلق عند الله عز وجل، من أكمل مراتب الجهاد كلها؛ ولهذا كان أكمل الخلق عند الله وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه محمد، فإنه كمل مراتبه، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع فيه من حين بعثه الله إلى أن توفاه، فإنه لما أنزل عليه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأَنذِر * وَرَبَّكَ فَكَبِّر * وَثِيَابَكَ فَطَهِّر}[المدثر/1-4]. شمر عن ساق الدعوة، وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، ولما أنزل عليه {فاصدع بما تؤمر} [الحجر: 94] . صدع بأمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، فدعا إلى الله الكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والجن والإنس. ولما صدع بأمر الله، وصرح لقومه بالدعوة، وبادأهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم، اشتد أذاهم له ولمن استجاب له، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه، كما قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيم}[فصلت/43].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون}[الأنعام/112].
وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون}[الذاريات/52-53].
فعزى الله سبحانه نبيه بذلك، وأن له أسوة بمن تقدمه، وعزى أتباعه بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ}[البقرة/214].وقوله: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون}[العنكبوت/1-2]. إلى قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِين}[العنكبوت/10].
فليتأمل العبد سياق هذه الآيات، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم، فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقولوا ذلك، بل يستمر على السيئات، فمن قال: آمنا، فتنه ربه، والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا، فلا يحسب أنه يفوت الله ويسبقه، فمن آمن بالرسل، عاداه أعداؤهم، وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة.
فلا بد من حصول الألم لكل نفس، لكن المؤمن يحصل له الألم ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير إلى الألم الدائم، وسئل الشافعي رحمه الله: أيما أفضل للرجل، أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى.
والله عز وجل ابتلى أولي العزم من رسله، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألمًا عظيمًا مستمرًا بألم منقطع يسير، وأسفههم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم المستمر العظيم.
(الشرح)
هذا كلام عظيم, كل نفس لابد لها من ألم, لكن الرسل وأتباعهم يحصل لهم الألم أولًا, ثم تكون العاقبة, {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}[الأعراف/128]. العاقبة في الدنيا النصر والتأييد وفي الآخرة كرامة الله عز وجل, وأما المعرض فإنه يحصل له اللذة أول الأمر, ثم يكون الألم مستمر, في آخر حياته وفي الآخرة نسأل الله السلامة والعافية.
وفق الله الجميع لطاعته.