شعار الموقع

4- شرح كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين

00:00
00:00
تحميل
11

 

المتن: قال شيخ الإسلام الأنصاري: الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة وهو على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: فقر الزهَّاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا وإسكات اللسان عنها ذمًا أو مدحًا والسلامة منها طلبًا أو تركًا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه.

الدرجة الثانية: الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يُورث الخلاصة من رؤية الأعمال ويقطع شهود الأحوال ويُمحِّص من أدناس مطالعة المقامات.

والدرجة الثالثة: صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطيع الوجداني والاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية.

فقوله: الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة، يعني أن الفقير هو الذي يُجرِّد رؤية الملك لمالكه الحق فيرى نفسه مملوكة لله لا يرى نفسه مالكًا بوجه من الوجوه ويرى أعماله مستحقةً عليه.

الشرح: ويرى أعماله مستحقةً: أي مستحقة لله.

المتن: ويرى أعماله مستحقةً عليه بمقتضى كونِهِ مملوكًا عبدًا مستعملًا فيما أمره به سيده، فنفسه مملوكة وأعمالُهُ مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكًا لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أعماله بل كل ذلك مملوكٌ عليه، مستَحَقًا عليه كرجل اشترى عبدًا بخالص ماله ثم علمه بعض الصنائع فلما تعلمها قال له اعمل وأدِ إلي فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء، فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم ير له فيها شيئًا بل يراه كالوديعة في يده وأنها أموال أستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده مستودعها متصرفًا فيها لسيده لا لنفسه.

كما قال عبد الله ورسولُهُ وخيرته من خلقه: (والله إني لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمِرت) فهو متصرف في تلك الخزائن بالأمر المحض تصرف العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أوامر سيده.

 فالله -عز وجل- هو المالك الحق وكل ما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإمساك.

وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله -عز وجل- فيبذل أحدهم الشيء رغبةً في ثواب الله -عز وجل- ورهبةً من عقابه وتقرُّبًا إليه وطلبًا لمرضاته أم يكون البذل والإمساك منهم صادرًا عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع! فيعطي لهواه ويمنع لهواه؛ فيكون متصرفًا تصرف المالك لا المملوك فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رِفعةٍ أو منزلةٍ أو مدحٍ أو حظٍ من الحظوظ أو الرهبة من فوتِ شيءٍ من هذه الأشياء، وإذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه لا محالة مالكًا فادَّعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسي فقره ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أنما هو مملوكٌ ممتحن في صورة مالكٍ متصرف.

الشرح: نعم هو الأموال في يده وديعة، في الظاهر إنه مالك، والواقع أنه مملوك ممتحن.

المتن: كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾[يونس:14].

الشرح: وفي الحقيقة أن الله مستخلفهم فيها: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}.

المتن: وحقيق بهذا الممتَحن أن يوكل إلى ما ادعته نفسه من الحالات والملكات مع المالك الحق سبحانه؛ فإنه من ادَّعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وُكِلَ إليها ومن وُكِلَ إلى شيء غير الله فقد فُتِحَ له باب الهلاك والعطب وأغلق عنه باب الفوز والسعادة فإن كل شيء ما سوى الله باطل، ومن وُكِلَ إلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إلا على الحرمان، فكل من تعلق بغير الله انقطع سعيه ولم يحصل إلا على الحرمان، وكل من تعلق بشيءٍ غير الله انقطع أحوج ما كان إليه، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}.

فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي كانت بغير الله ولغير الله فتقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أسبابها وبطلت.

الشرح: كما قال: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال انقطعت عنهم وحالتهم أحوج ما كانوا إليها.

المتن: فإن الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها وكل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه سبحانه وكل عمل باطلٌ إلا ما أريد به وجهُهُ وكل سعيٍ لغيره فباطل ومضمحل، وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكد والخدمة التي يفعلها العبد لمتولٍ أو أميرٍ أو صاحب منصب أو مال فإذا زال ذلك الذي عمل له عُدِمَ ذلك العمل وبطل ذلك السعي.

الشرح: يعمل عند الملوك أو عند التُجَّار أو غيرهم فإذا ذهب مُلكهم أو ذهبت تجارتهم خلاص راح يعملون لأشخاص معينين فإذا زال ملكهم أو زال ماله خلاص ما صار له قيمة، الأول له قيمة عند الملك أو عند الأمير أو عند التاجر الفلاني فإذا ذهب التاجر وذهب الأمير ما صار له قيمة.

المتن: فإنه إذا زال ذلك الذي عمل له عُدِمَ ذلك العمل وبطل ذلك السعي، ولم يبق في يده سوى الحرمان ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة لعباده: (أليس عدلًا مني أنِّي أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في الدنيا)

فيتولى عُبَّاد الأصنام والأوثان أصنامهم وأوثانهم فتتساقط بهم في النار ويتولى عابدو الشمس والقمر والنجوم آلهتهم فإذا كورت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت الحسرة عليهم ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾، ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده فإنه يُحال على مفلس كل الإفلاس بل على عدمٍ والموحد حوالته على المليء الكريم.

الشرح: وهو الله سبحانه وتعالى، المليء الله -عز وجل- الكريم، والذي يتولى غير الله يُحال على مفلس أو معدم.

المتن: والموحِّد حوالته على المليء الكريم، فيا بُعد ما بين الحوالتين.

الشرح: نعم من بحال على المليء الكريم وهو الله، ومن يحال على معدمٍ مفلس.

المتن: وقوله البراءة من رؤية الملِكة ولم يقل الملَكة لأن الإنسان قد يكون فقيرًا لا مَلَكة له في الظاهر وهو عري عن التحقيق بنعت الفقر الممدوح أهله الذين لا يرون مَلَكَة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فُوِّضَ إليه من ذلك شيء وجُعِلَ كالخازن فيه كما كان سليمان بن داود -عليه السلام- أُوتي مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده وكذلك الخليل وشعيب والأغنياء من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وكذلك أغنياء الصحابة فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملَكة في الظاهر وهم بريئون من الملَكة لنفوسهم فلا يرون لها مُلكًا حقيقيًا بل يرون ما في أيديهم لله عارية ووديعة في أيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أو تصرف المالك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم.

فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره، إنما يقدح في فقره رؤيته لملَكته فمن عُوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره، وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله فهذا لو كان بيده من المال أمثال جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف ذلك ادَّعت نفسه الملَكة

الشرح: يعني إذا كان يصرفه في مصارفه الشرعية ما يضره لو عنده أموال الدنيا كلها، لأن في يده عارية، ويعلم أن المالك هو الله، وينفقها في المصارف الشرعية، ولا يضر هذا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح لما قال لأبي ذر قرب غروب الشمس قال: «ترى الجبل؟ جبل أحد، قال: لو أن لمثلي جبل أُحدٍ ذهبًا ما أحببت أن تمضي عليَّ ثلاث ليال وعندي منه شيء، إلا دينار أرصده لدين».

لذا نقول به إلا شيئًا نرصده لدين ، لا نقول ينفقه هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله وأمامه وخلفه، يعني هو لو كان عنده مثل أُحد ذهب والآن يصرف، ما صرف شيء، ما يضره، ما يضره لأنه في يده،  اتصرف فيه في مصارفه الشرعية، لكن يضره الذي يأخذ المال من وجوهٍ مشبوهة أو محرمة وإذا كسبه منع حق الله فيه، وصرفه في مصارف محرمة، نعم.

المتن: ومن لم يُعافِ ذلك ادَّعت نفسه الملَكة.

الشرح: ادعت نفسه الملَكة: يعني أنه مالك .

المتن: وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق فهو أكبر همه ومبلغ علمه إن أُعطي رضي وإن مُنع سخط فهو عبد الدينار والدرهم يصبح مهمومًا ويمسي كذلك يبيت مُضَاجعًا له.

الشرح: يبيت مُضَاجِعًا للمال، نعم.

المتن: يبيت مُضَاجعًا له فهو عبده وحارسٌ له، تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء بل يكاد يتلف إذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر.

والأول مستغنٍ بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض وإذا أصاب المال الذي في يده نائبةً رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب ماله نفسه، فما للعبد وما للجزع والهلع وإنما تصرف مالك المال في مُلكه الذي هو وديعة في يد مملوكه فله الحكم في ماله إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه .

الشرح: فالإنسان يكون لو أصابه شيء من هذا قال يُضرب ببعضه حتى لو سقطت الأسهم فظن الناس مات وبعضهم مرض لأنهم تعلقوا بالمال، يرى أنه مالكه، نعم.

المتن: فلا يتهم مولاه في تصرفه في مُلكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة.

الشرح: كما قال شيخ الإسلام إنه يرى يعني الإنسان يعني المتقين يرى أن المال الذي في يده وديعة وأنه وسيلة وليس غاية، بمنزلة الحمار الذي يركبه، قال: بل بمنزل البساط الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته، وسيلة/ ما هو غاية، ليس غاية وإنما وسيلة إلى مرضاة الله، نعم .

المتن: ويرى تدبيره هو موجب الحكمة، فليس لقلبه بالمال تعلق.

الشرح: ويرى تدبيره: هو تدبير الله سبحانه وتعالى هو موجب الحكمة ، نعم.

المتن: فليس لقلبه بالمال تعلق، ولا له به اكتراث.

الشرح: اكتراث يعني اهتمام، نعم.

المتن: لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق فهو غني به وبحبه .

الشرح: هو غني بالله وبحبه لا بالمال، هو ليس متعلقًا بالمال، نعم .

المتن: فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه وهو فقير إليه دون ما سواه فهذا هو البريء عن رؤية الملَكة الموجبة للطغيان كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ}، ولم يقل إن استغنى بل جعل الطغيان ناشئةً عن رؤيته غنى نفسه ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل بل قال: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}، وهذا والله أعلم لأنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه وذكر في سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته فإنه لو افتقر إليه لتقرَّب إليه بما أمره من طاعته، ففعل المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بُدًا من امتثال أوامره ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه إعطاء ما وُجِب عليه من الأقوال والأعمال وأداء المال وجمع إلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ}.

ومن فسَّرها بشهادة أن لا إله إلا الله فلأنها أصل الإحسان

الشرح: قال الراوي: الحسنى هي شهادة ألا إله إلا الله، لأنها أصل الإحسان.

المتن: ومن فسَّرها بشهادة أن لا إله إلا الله فلأنها أصل الإحسان وبها تُنال الحسنى، ومن فسَّرها بالخلف في الإنفاق فقد هضم المعنى حقه وهو أكبر من ذلك وإن كان الخلف جُزءًا من أجزاء الحسنى.

والمقصود أن الاستغناء عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لكل عُسرى.

الشرح: يعني سعادة العبد في فقره لربه، فإذا استغنى عن الرب هلك.

المتن: ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه وكلاهما منافٍ للفقر والعبودية.

قوله الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا وإسكات اللسان عنها ذمًا أو مدحًا والسلامة منها طلبًا أو تركًا، وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه، فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا، والذهول عن الفقر منها، والزُهد فيها، وعلامة فراغ اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا فهو لا يضبط يده مع وجودها شحًا وضنًّا بها، ولا يطلبها مع فقدها سؤالًا وإلحافًا وحرصًا فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب إذ لو كان لها في القلب منزلةً لكان الأمر بضد ذلك وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إليها.

وأيضًا من أقسام الفراغ إسكات اللسان عنها ذمًا ومدحًا لأنه من اهتم بأمرٍ وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحًا أو ذمًا فإنه إن حصُلت له مدحها وإن فاتته ذمها، ومدحها وذمها علامة موضعها من القلب وخطرها فحيث اشتغل اللسان بذمها كان بذلك لخطرها في القلب لأن الشيء إنما يُذم على قدر الاهتمام به والاعتناء شفاء الغيظ منه بالذم، وكذلك تعظيم الزُهد فيها إنما هو على قدر خطرها في القلب إذ لولا خطُرها وقدْرُها لما صار للزهد فيها خطر، وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإن من أحب شيئًا أكثر من ذكره وصاحب هذه الدرجة لا يضبطها مع وجودها ولا يطلبها مع عدمها ولا يفيض من قلبه على لسانه مدحًا لها يدل على محبتها ولا يفيض من القلب على اللسان ذمًا يدل على موقعها وخطرها فإن الشيء إذا صغر أعرض القلب عنه مدحًا أو ذمًا، وكذلك صاحب هذه الدرجة مازعٌ عن النظر إلى تركها وهو الذي تقدم من ذكر خطر الزُهد فيها؛ لأن نظر العبد إلى كونه تاركًا لها زاهدًا فيها تتشرف نفسه بالترك وتلِذ فيه، دليلٌ على شغله بها ولو على وجه الترك، وذلك من خطرها وقدْرِها ولو صَغُرت في القلب لصَغُر تركها والزهد فيها ولو اهتم القلب بمهمةٍ من المهمات المطلوبة التي هي مذاقات أهل القلوب والأرواح لذَهل عن النظر إلى نفسه بالزُهد والترك، فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأمراض كلها من مرض الضبط والطلب والذم والمدح والترك فهي بأسرها.

 الشرح: طلب وضبط أخذها وطلبها ومدحها يعني الدنيا.

المتن: فهي بأسرها وإن كان بعضها ممدوحًا في العلم مقصودًا يستحق المتحقق به الثواب والمدح، لكنها آثار وأشكال مشعرةٌ بأن صاحِبَها لم يذق حال الخلوة والتجريد الباطن فضلًا عن أن يتحقق من الحقائق المتوقعة المتنافسة فيها، فصاحب هذه الدرجة متوسط بين درجتين:

الداخل بكليته في الدنيا قد ركن إليها واطمأن إليها واتخذها وطنًا وجعلها له سكنًا.

وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه وتخلص من قيودها ورعونتها وآثارها وارتقى إلى ما يَسُّر القلب ويحييه ويفرحه ويبهجه من جذبات العزة فهو في البرزخ كالحامل الـمُقرِب ينتظر ولادة الروح والقلب صباح ومساء، فإن من لم تُولد روحه وقلبه ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته فهو كالجنين في بطن أمه الذي لم ير الدنيا وما فيها.

فهكذا الذي بَعُد في مشيمة النفس والظلمات، ثلاثة هي: ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى، فلابُد من الولادة مرتين كما قال المسيح للحواريين: إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أبًا للمؤمنين كما في قراءة أُبيِّ:  (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم).

الشرح: هذه قراءة شاذة {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وفي قراءة (وهو أب لهم) هذه قراءة شاذة، احمل على التفسير (29:55)

المتن: ولهذا تفرَّع على هذه الأبوة أن جُعِلت أزواجه أمهاتهم فإنَّ أرواحهم وقلوبهم ولدت به ولادة أخرى غير ولادة الأمهات.

الشرح: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أمهات المؤمنين في الفضل والشرف وعدم الزواج بهن، لا في الكشف، يعني أمهات المؤمنين، تسمى أمهات المؤمنين في الشرف وفي الفضل وأنه لا يجوز لأحد منهم أن يتزوجها لكن في الكشف لا، ما تكشف، كشف الوجه.

المتن: فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي إلى نور العلم والإيمان وفضاء المعرفة والتوحيد فشاهدت حقائق أخر وأمورًا لم يكن لها بها شعور قبله، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}.  

وقاله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.

وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.

والمقصود أن القلوب في هذه الولادة ثلاث: قلب لم يولد ولم يأن له بل هو جنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال.

الشرح: نسأل الله العافية.

وقلب قد وُلِد وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى فقرَّت عينه بالله وقرَّت عيونٌ به وقلوب وأنست بقربه الأرواح وذكَّرت رؤيته بالله فاطمأن بالله وسكن إليه وعكف بهمته عليه وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى، لا يَقرُّ بشيء غير الله ولا يسكن إلى شيء سواه ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عِوضًا ولا يجد من الله عِوضًا أبدًا فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه ومحبته قوته.

الشرح: ومحبته قوته: قوت القلب يعني.

المتن: ومحبته قوته ومعرفته أُنسه أو أنيسه، وعدوه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافيًا.

الشرح: من جذب قلبه عن الله فهو عدوه ولو كان قريبًا مصافيًا.

المتن: ووليه من رده إلى الله وجمع قلبه عليه وإن كان البعيد مناويًا، فهذان قلبان متباينان غاية التباين.

وقلبٌ ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحا ومساء قد أصبح على فضاء التجريد وآنس من خلال الديار أشعة التوحيد تأبى غلبات الحب والشوق إلا تقرُّبًا إلى من السعادة كلها في قربه والحظ كل الحظ في طاعته وحبه، وتأبى غلبات الطباع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه فهو بين الدَّاعيين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات وبقي عليه مفاوز وفلوات والمقصود أن صاحب هذا المقام إذا تحقق به ظاهرًا وباطنًا وسَلِم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده فهو فقير حقيقي، ليس فيه قادح من القوادح التي تحطه عن درجة الفقر.

واعلم أنه يَحسُن إعمال اللسان في ذم الدنيا في موضعين:

أحدهما موضع التزهيد فيها للراغب.

والثاني عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها ولا يأمن من إجابة الداعي فيستحضر في نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها فإنه إن تم عقله وحضر رشده زَهد فيها ولا بُد.

[فصلٌ في تفسير الفقر ودرجاته].

 

 

 

logo
2025 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد