بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين:
المتن: فصل في تفسير الفقر ودرجاته.
وقوله: الدرجة الثانية الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يُورث الخلاص من رؤية الأعمال ويقطع شهود الأحوال ويُمحِّص من أدناس مطالعات المقامات فهذه الدرجة أرفعُ من الأولى وأعلى والأولى كالوسيلة إليها، لأن في الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أن يتأله غير مولاه الحق
شرح: يتأله، هاء واحدة، أن يتأله غير مولاه يعني يتأله أن يتعبَّد لغير الله، هذا يتكلم على طريقة (1.34) رحمه الله.
المتن: أن يتأله غير مولاه الحق وأن يُضيِّع أنفاسه في غير مرضاته وأن يُفرِّق همومه في غير محابِّه وأن يؤثر عليه في حال من الأحوال فيوجب له هذا الخُلُقْ وهذه المعاملة صفاء العبودية وعمارة السر بينه وبين الله وخلوص الوداد فيُصبح ويُمسي ولا هم له غير ربه قد قطع همه بربه عنه جميع الهموم وعطَّلت إرادته جميع الإرادات ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه كما قيل:
لقد كان يُسقي القلب في كل ليلةٍ يهيم بهذا ثم يألف غيره وقد كان قلبي ضائعًا قبل حبكم فلما دعا قلبي هواك أجابه حُرمت الأماني منك إن كنت كاذبًا وإن كان شيء في الوجود سواكم وإن لعبت أيدي الهوى بمُحِبكم فإن أدركته غربة عن دياركم وكم من مشتر في الخلق قد سام قلبه هوى غيركم نار تلظى ومحبس فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم |
|
ثمانون بل تسعون نفسًا وأرجحُ ويسلوهم من فوره حين يُصبحُ فكان بحب الخلق يلهو ويمرحُ فلست أراه عن خِبائك يبرحُ وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرحُ يقر به القلب الجريح ويفرحُ فليس له عن بابكم متزَحزحُ فحبكم بين الحشا ليس يبرحُ فلم يراه إلا لحبك يصلحُ وحبكم الفردوس أو هو أفسحُ ويا رحمة ممن يجول ويكدحُ |
والله عز وجل لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحب يخرج منه هم وإرادة وحب يقابله، هو إناء واحد والأشربة متعددة.
شرح: إن دخل في قلبه حب الله وإرادة الله خرج منه حب الخلق وإرادة الخلق، وإذا دخل حب الخلق وإرادة الخلق خرج منه حب الله وإرادة الله، ما يجتمعان {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، هذا وهذا ما يجتمعان حب الخلق وحب الخالق وإرادة الخلق وإرادة الخالق لا يجتمعان إذا دخل أحدهما خرج الآخر.
المتن: والله عز وجل لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحب يخرج منه هم وإرادة وحب يقابله، هو إناء واحد والأشربة متعددة، فبأي شراب ملئه لم يبق فيه موضع لغيره وإنما يمتلئ
الشرح: إذا ملئه بحب الله لم يبق فيه موضع لحب الخلق وإذا ملئه بحب الخلق لم يبق فيه موضع لحب الله.
المتن: فبأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره وإنما يمتلئ الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا فأما إذا صادفه ممتلئًا من غيره لم يُساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه كما قال بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى |
|
فصادف قلبا خاليًا فتمكنًا |
ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إنائه من كل شراب مسكر وكل شراب غير شراب المحبة والمعرفة فمسكر ولابُد، وما أسكر كثيره فقليله حرام وأين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سُكره ولا يستفيق.
الشرح: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}.
لا يكون هذا التسنيم ما يكون في إناء فيه شرابٌ خبيث، لا يمكن.
المتن: ولو فارق هذا السُكر القلب لطار بأجنحة الشوق إلى الله والدار الآخرة ولكن رضي المسكين بالدون وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأخس الثمن صفقة خاسرة مجبون وسيعلم أي حظ أضاع إذا فاز المحبون وخسر المبطلون.
[فصلٌ في أن حقيقة الفقر توجه العبد بجميع أحواله إلى الله].
وإذا كان التلوث بالأعراض قيدًا يقيد القلوب عن سفرها إلى بَلَدَ حياتها ونعيمها الذي لا سكن لها غيره ولا راحة لها إلا فيه ولا سرور لها
الشرح: كل هذا جاء مجاز رحمه الله تعالى.
المتن: وإذا كان التلوث بالأعراض قيدًا يُقيِّد القلوب عن سفرها إلي بَلَدَ
الشرح: قيدًا يقيِّد القلوب التلوث بالأعراض الأعراض عن الله وعن الدار الأخرة هذا قيد يقيد القلوب عن السفر إلي الله.
المتن: وإذا كان التلوث بالأعراض قيدا يقيد القلوب عن سفرها إلى بَلَدَ حياتها ونعيمها الذي لا سكن لها غيره ولا راحة لها إلا فيه ولا سرور لها إلا في منازله ولا أمن لها إلا بين أهله فكذلك الذي باشر قلبه روح التأله وذاق طعم المحبة وآنس نار المعرفة له أقراض دقيقة حالية تُقيِّد قلبه عن مكافحة صريح الحق وصحة الاضطرار إليه والفناء التام به والبقاء الدائم بنوره الذي هو المطلوب من السير والسلوك.
وهو الغاية التي شمَّر إليها السالكون والعَلَم الذي أمَّه العابدون ودندن حوله العارفون.
الشرح: العَلَم يعني الذي أمَّه يعني قصده علم أمامه، مثل العلم الذي يقدم الجيوش يؤمُّونه ويقصدونه.
المتن: والعلم الذي أمَّه العابدون ودندن حوله العارفون فجميع ما يحجب عنه أو يقيد القلب نظره وهمه يكون حجابًا يحجب الواصل.
الشرح: نظره وهمه يكون حجاب كل ما قد يقال إذا نظر واهتم به صار حجاب يحجبه عن الله وعن الدار الأخرة.
المتن: ويوقف السالك وينكس الطالب فالزهد فيه على أصحاب الهمم العلية متعين تعين الواجب الذي لا بد منه وهو كزهد السالك إلى الحج في الظلال والمياه التي يمر بها في المنازل فالأول مُقيِّد عن الحقائق برؤية الأغراض والثاني مُقيِّد عن النهايات برؤية الأحوال، فتقيد كل منهما عن الغاية المطلوبة وترتب على هذا القيد عدم النفوذ وذلك مُؤخَّر مُخلَّف.
وإذا عرف العبد هذا وانكشف له تعين عليه الزُهد في الأحوال والفقر منها كما تعين عليه الزُهد في المال والشرف وخلو قلبه منهما ولما كان موجب الدرجة الأولى من الفقر الرجوع إلى الآخرة فأوجب الاستغراق في هم الآخرة نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أَو طلبًا، وإِسكات اللسان عنها مدحًا أَو ذمًا.
وكذلك كان موجب هذه الدرجة الثانية الرجوع إِلي فضل الله -عز وجل- ومطالعة سبقه الأَسباب والوسائط، فبفضل الله ورحمته وجِدَت منه الأَحوال الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إِلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته وموالاته وكان سبحانه هو الأَول في ذلك كله كما أَنه الأَول فى كل شيء، وكان هو الآخر فى ذلك كما هو الآخر في كل شيء، فمن عبده باسمه الأَول والآخر حصل له حقيقة هذا الفقر، فإن انظاف إِلى ذلك عبوديته باسمه الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهرًا وباطنًا، فعبوديته باسمه الأَول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عنها أو الالتفات إِليها
الشرح: والأسباب لابُد منها، الصوفية هم الذين يرون في فقه الأسباب الشرائع الصوفية، الأسباب لو على أسباب شرعها الله لابد من فعلها، وأسباب ممنوعة محرمة هذه لابد من تركها وأسباب مباحة، يكون في هذه الأمور مباحة.
المتن: فعبوديته باسمه الأَول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عنها أو الالتفات إِليها، وتجريد النظر إِلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأَنه هو المبتدئ بالإِحسان من غير وسيلة من العبد، إِذ لا وسيلة له فى العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت، وإِنما هو عدم المحض، وقد أَتى عليه حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فمنه سبحانه الإِعداد.
الشرح: في نظر فقه الأسباب، هذا على إطلاقه في نظر، والمعروف أن الصوفية هم الذين يدركون الأسباب، الأسباب لابُد منها، أعظم الأسباب: التوحيد والإيمان وهو السبب في دخول الجنة، الصوفية يرون ترك الأسباب هذا في مذهب أحد الفرق.
المتن: فعبوديته باسمه الأَول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عندها أو الالتفات إِليها.
الشرح: الأسباب من الناس من يتركها للكلية وهذا باطل، ومن الناس من يركن إليها ويعتمد عليها وهذا غلط كما يفعل المعتزلة والطلائعيون الذين يعتمدون على الأسباب، ويقول إن الولد إنما وُجِد بالتفاعل بين المائيين، وكذلك المعتزلة يعتمدون على الأسباب ويقولون إن الإنسان العابد يستحق على الله الثواب كما يستحق الأجير أجرته لأنه يعتمد على الأسباب، ويقابلهم الصوفية الذين يتركون الأسباب وكذلك الأشاعرة الذين يتركون الأسباب، والجهمية جبرية، وإن العبد مجبور يترك الأسباب وهو الحق في الأسباب لابد منها، الأسباب يفعل الإنسان السبب على أنها أسباب لكن لا يعتمد عليها جعل الله لها أسبابًا بالكلية، ترك الأسباب نقص في العقل وقدح في العقل، ولهذا يقول العلماء الالتفات إلى الأسباب شرك، لأنه يلزم الاعتماد عليها ، وترك الأسباب أن تكون أسبابًا قدحٌ في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدحٌ في العقل، وفعل الأسباب والتوحيد هو أن تفعل الأسباب على أنها أسباب متوصلًا بيها إلى الوسيلة، تأخذ بالأسباب والاعتماد على الله، الأسباب التي شرعها الله لابد من فعلها، وأعظم الأسباب: الإيمان والتوحيد فهما سبب في دخول الجنة، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أما ترك الأسباب بالكلية فهذا طريقة في الصوفية والأشاعرة والجهمية، الجهمية هذه جبرية ولا أكثر والأشاعرة أقل منهم، الأشاعرة يقولون: السكين لا تقطع، وأن الله يجري القطع عند السكين لا بالسكين فرارًا من القول بالأسباب، فيقول: كيف تقطع، يقول: أن الله إذا أجريت السكين أوجد الله القطع لا بالسكين، لكن عند السكين، والأكل لا يُروي، ليس سببًا في الشبع، ولكن ما يُشبع الشبع عند الأكل لا بالأكل، والماء لا يروي، لكن ما يجدر الريء عند الشرب لا بالشرب، فرارًا من القول بالأسباب وهذا باطل، الأسباب جعل الله الأسباب، التراب مملوء {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} الله تعالى ربط الأسباب بالمسببات، الأسباب لا تُسبب بالكلية ولا يُوكل إليها، وإنما فعلها الله سبحانه وتعالى إنها أسباب، والأسباب المحرمة تُترك، والأسباب المشروعة تُفعل، هذه الأسباب المباحة، هذه العبارة دندن الشيخ رحمه الله على كلام الصوفية هنا.
المتن: والوقوف عندها أو الالتفات إِليها، وتجريد النظر إِلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأَنه هو المبتدئ بالإِحسان من غير وسيلة من العبد، إِذ لا وسيلة له فى العدم قبل وجوده، وأَي وسيلة كانت، وإِنما هو عدم المحض، وقد أَتى عليه حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فمنه سبحانه الإِعداد ومنه الإِمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أُخرى فمن نزَّل اسمه الأَول على هذا المعنى أَوجب له فقرًا خاصًا وعبودية خاصة، وعبوديته باسمه الآخر
الشرح: اسم الله الأول والآخر والظاهر والباطن هذا اسمه متقابلان، الأول والآخر للزمان، والظاهر والباطل للمكان.
المتن: وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضًا عدم ولوجه ووقوفه بالأسباب والوقوف معها فإنها تعدُم لا محالة بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلقٌ بعدمٍ وينقضي، والتعلق بالآخر عز وجل تعلق بالحي الذى لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيقٌ ألا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر.
الشرح: المتعلق به حقيقةً ألا يزول ولا ينقطع، المتعلق بغير الله ينقطع ويزول، يعني ما سوى الله عز وجل، فهذا التوكل.
المتن: فالمتعلق به حقيقٌ ألا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخِر يفنى به، فكما نظر العارف إليه بسبق الأَولية حيث كان قبل الأَسباب كلها، وكذلك نظره إِليه ببقاء الآخِرية.
الشرح: الآخِرية: اسم الله الآخِر، بكسر الخاء.
المتن: وكذلك نظره إِليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه.
فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إِلى الله وحده ودوام الفقر إِليه دون كل شيءٍ سواه، وأَن الأَمر ابتدأَ منه وإِليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإِليه ينتهى الأمر بسببٍ غير الأَسباب والوسائل، فهو أَول كل شيء وآخرُه، وكما أَنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إِلا بأَن يكون هو غايته وحده كما أنه لا وجود له إلا بكونه وحده هو ربه وخالقُه ولا مُلك إلا له ولا صلاح إلا بكونه تعالى وحده هو غايته ونهايته ومقصوده.
فهو الأَول الذى ابتدأَت منه المخلوقات، والآخر الذى انتهت إِليه عبوديتها وإِرادتها ومحبتها، فليس وراءَ الله شيء يُقصد ويُعبد ويتأَله كما أَنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأَ، فكما كان واحدًا في إِيجادك فاجعله واحدًا في تأَلهك.
الشرح: كما أنه إله في إيجادك، تعتقد أن الله هو الذي أحدثك، كذلك أيضًا اجعل تألهك له، لا تعبد إلا هو.
المتن: وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتأَلهك إليه لتصلح لك عبوديته باسمه الأول والآخر.
الشرح: يعني أنت تعتقد أن الله هو الذي أوجدك وحده، وليس له شريك، فكذلك أيضًا تعبَّد وتألَّه له وحده بدون شريك، تعبَّد لله باسمه الأول واسمه الآخر.
المتن: وأكثر الخلق تعبَّدوا له باسمه الأول، وإنما الشأْن في التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده.
وأما عبوديته باسمه الظاهر.