بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين":
متن: ثم تعبد له باسمه الآخر بأن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءه فكما انتهت إليه الأواخر وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإن إلى ربك المنتهى، إليه انتهت الأسباب والغايات فليس وراءه مرمى يُنتهى إليه. وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر. وأما التعبد باسمه الباطن فهذا شهدت إحاطته بالعوالم وقرب البعيد منه وظهور البواطن له وبدوِّ السرائر له وأنه لا شيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذه الشهود، وطَهِّر له سريرتك فإنها عنده علانية وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة وزكِّ له باطنك فإنه عنده ظاهر.
فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة جامع المعرفة بالله.
شرح: هي الأول والآخر والظاهر والباطن، اسمان لأزليته وسبقه للأشياء وآخِريته، واسمان لظهوره وعلوه وبطونه وعدم حجبه شيء من الأشياء وخفائه عليه سبحانه وتعالى.
متن: فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة جامع المعرفة بالله، وجامع العبودية له، فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومِنَّتِه فلا يرى لغيره شيئًا إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به أو يتخذه عقده أو يراه ليوم فاقته أو يعتمد عليه في مهمٍ من مهماته، فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع كما هو شأن الطبيعة والهوى وموجِب الظلم والجهل، والإنسان ظلوم جهول فمن جلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمَّل فطرته وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كالمفلس حقًا من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجِب ذلك. فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق مِنَّته ودوامها، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابين: أحدهما الخلاص من رؤية الأعمال حيث كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها فيستغرق بمطالعة الفضل غائبًا عنها ذاهبًا عنها فانيًا عن رؤيتها، الثواب الثاني: أن يقطعه عن شهود الأحوال – أي عن شهود نفسه فيها متكثِّرة بها- فإن الحال محله الصدر والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب وثبت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل وتقرر انيَّتها لأنها جاهلة ظالمة وهذا مقتضى الجهل والظلم. فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنَّة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول، ذهل القلب والنفس به وصار العبد فقيرًا إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، فصار مقطوعًا عن شهود أمر أو حال ينسبه إلى نفسه بحيث يكون بشهادته لحاله مفصومًا مقطوعًا عن رؤية عزة مولاه وفاطره وملاحظة صفاته.
فصاحب شهود الأحوال منقطع عن رؤية منَّة خالقه وفضله ومشاهدة سبق الأولية للأسباب كلها، وغائب بمشاهدة عزة نفسه عن عزة مولاه، فينعكس هذا الأمر في حق هذا العبد الفقير وتشغله رؤية عزة مولاه ومنته ومشاهدة سبقه بالأولية عن حال يعتز بها العبد أو يشرف بها. وكذلك الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يمحِّص من أدناس مطالعات المقامات، فالمقام ما كان راسخًا فيه، والحال ما كان عارضًا لا يدوم.
فمطالعات المقامات وتشوفه بها وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمَّله فاستحق أن يُنسَب إليه ويُوصَف به مثل أن يُقَال زاهد صابر خائف راج محب راض، فكونه يرى نفسه مستحقًا بأن تُضاف المقامات إليه وبأن يوصف بها – على وجه الاستحقاق لها- خروجًا عن الفقر إلى الغنى، وتعد لطور العبودية، وجهل بحق الربوبية، فالرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يستغرق همة العبد ويمحِّصه ويطهره من مثل هذه الأدناس، فيصير مصفَّى بنور الله سبحانه عن رذائل هذه الأرجاس.
قوله: والدرجة الثالثة صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطُّع الوحداني
الشرح: الحاصل أن إخلاص العبد يجعله يرى المنَّة والفضل لله عز وجل ولا يرعى عمله، ولا يستكثر من عمله، ولا يمن به على ربه، بل يرى فضل الله وإحسانه، ويرى سبقه للأشياء بأنه الأول -سبحانه وتعالى- وسابقٌ للأشياء، وأن بيده كل شيء، وأنه الذي يوفقه، وهو الذي يمن عليه ، وهو الذي هداه، هو الذي أعطاه.