شعار الموقع

14- شرح كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين

00:00
00:00
تحميل
24

 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والسامعين.

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين":

متن: قوله في غنى النفس أنه: "استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة" يريد استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيمًا لله سبحانه وأمره، وإيمانًا به، واحتسابًا لثوابه، وخشيةً من عقابه. لا طلبًا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربًا من ذمهم وازدرائهم، وطلبًا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربًا من ذمهم وازدرائهم، وطلبًا للجاه والمنـزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد منه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق.

فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها، لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعًا واختيارًا ومحبةً وإيمانًا واحتسابًا، بحيث تصير لذاتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يا بلال أرحنا بالصلاة» وقال صلى الله عليه وسلم: «حُبب إليَّ من دُنياكم النساء والطيبُ، وجُعلت قُرةُ عيني في الصلاة» فقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحبه، وأخبر أن قرَّة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها وتحضره لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين، وكيف تقر عين المحب بسواها.

فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر تخشى معه، وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه؟ فلا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسًا لطبيعة القلب، فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوَّامة، وإنما تصير مطمئنة بعد تبدل صفاتها وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق -جل جلاله- فجرى أثر ذلك النور في سمعه وبصره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه، وصارت ذاته نورًا وصار عمله نورًا، وقوله نورًا، ومدخله نورًا، ومخرجه نورًا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر.

وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي تُوجِب اقتحام الحدود المسخوطة والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضًا فتقاعدها عن المطلوب بينهما مُوجِب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما مُوجِب للآخر.

شرح: مُوجِبٌ لها أن تقف على معالي الأمور، ومعالي الأمور وتفصيلها عن معالي الأمور يُوجِب لها أن تستثير الشهوات.

متن: وترك الأوامر أقوى لها في افتقارها إلى الشهوات، فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تُدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالى: {إنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر}.

شرح: يقظة الأمر إذا أمر الله به، أمر من الأوامر عمومًا: الصلاة والصيام وغيرهم، إذا قام بالأمر اندفعت عنه الشهوات وإذا ضُيِّع الأمر جاءت الشهوات {إنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ} الصلاة هي لاهية عن الشهوات والذكر أكبر، والأوامر أكبر، (05:20)

متن: وقال تعالى: {إنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}. وفي القراءة الأخرى (يدفَعُ) فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه، فإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكُها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها، استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب، وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة.

ومدار ذلك كله على الاستقامة ظاهرًا وباطنًا ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}. وقال سبحانه: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.

شرح: استقامة، الاستقامة هذه، هذا هو الدين كله.

متن: وهذه الاستقامة ترقيها إلى الدرجة الثالثة من الغنى، وهو الغنى بالحق -تبارك وتعالى- عن كل ما سواه، وهي أعلى درجات الغنى، فأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله -عز وجل- إياك قبل ذكرك له، وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدَّر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئًا البتة، وذكرك تعالى بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله. قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}. فجعلك أهلًا لما لم تكن أهلًا له قط، وإنما هو الذي أهَّلك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكل جميل أولاكه لم يكن لك إليه سبيل، ومن الذي ذكَّرك باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النُّوَّام؟

شرح: مفهوم، الذي ذكرك بدون تشديد (ومن الذي ذَكَرك) ذكره الله أوجده ووافقه هذا،  (ومن الذي ذَكَرك)

القارئ: مضبوطة عندي بالتشديد.

 الشيخ: مشددة عندك؟

القارئ: مشددة.

الشيخ: محتمل.

متن: ومن الذي ذكَرك باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النُّوَّام؟ ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها، وأوقعها في قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأحيى عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبْتَ إليه وأقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذي ذكرك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها، وعَمَر قلبك بمحبته بعد طول الخراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرَّب إليك أولًا حتى تقربت إليه، ثم أثابك على هذا التقرُّب تقربًا آخر فصار التقرب منك محفوفًا بتقربين منه تعالى: تقرُّب بعده وتقرُّب قبله ، والحب منك محفوفًا بحبين منه: حبٍ قبله وحبٍ بعده، والذكر منك محفوفًا بذكرين: ذكرٍ قبله وذكرٍ بعده، فلولا سابق ذكره إياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إلى قلبك ذرةٌ مما وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقرب إليه، فهذه كلها آثار ذكره لك.

شرح: هذا فضل من الله، هو الذي ابتلى عبده بالنعم.

متن: ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس، فله عليك في كل طرفة عين ونَفَس نِعَم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إليك وتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده، إذ هو الجواد المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إلى ذلك كيف وهو الغني الحميد، فإذا وصل إليك أدنى نِعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظُم عندك لذكره لك بها، فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه وابتدأك بمعروفه وتحبب إليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك.

فإذا شهد العبد ذكر ربه له، ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنىً عالٍ لا يشبهه شيء، وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أُستاذه وسيده يذكره ولا ينساه، فهو يحصل له -بشعوره بذكر أُستاذه له- غنىً زائد على إنعام سيده عليه وعطاياه السَنيَّة له.

شرح: السَنيَّة له، مثل: الدرر السَنيَّة.

متن: وعطاياه السَنيَّة له، فهذا هو غنى ذكر الله للعبد.

وقد قال صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «مَنْ ذكرني في نفسه ذكرتهُ في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرتهُ في ملأ خيرٍ منهم» فهذا ذكر ثانٍ بعد العبد لربه غير الذكر الأول الذي ذكره به حين جعله ذاكرًا.

شرح: هذا ذكرٌ سابق وهذا ذكرٌ لاحق، هذا محفوف بالذكرين.

متن: وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنىً زائدًا على إنعام ربه عليه وعطاياه له، وقد ذكرنا في كتاب -الكلم الطيب والعمل الصالح- من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله لعبده، وذكرنا قريبًا من مائة فائدة تتعلق بالذكر كل فائدة منها لا خَطَرَ لها، وهو كتاب عظيم النفع جدًا والمقصود أن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغني قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصلٌ لهم، وما يظنون أنه حاصلٌ لهم من الغنى فهو من أكبر أسباب فقرهم.

[فصل في بيان الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز وجل]

دوام شهود أوَّليته تعالى، وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى مما قبله، والغنى به أتم من الغنى المذكور، لأنه من مبادي الغنى بالحقيقة، لأن العبد إذا فتح الله لقلبه شهود أوَّليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره وهو الإله الحق الكامل في أسمائه وصفاته، الغني بذاته عمَّا سواه، الحميد المجيد بذاته قبل أن يخلق مَنْ يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبودٌ محمودٌ حيٌ قيومٌ له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإنما كان به، وهو تعالى بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذي قيام كل شيء به، ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه.

فإذا شهد العبد سبقه تعالى بالأوَّلية ودوامَ وجوده الحق وغاب بهذا عمَّا سواه من المحدثات فني في وجوده من لم يكن كأنه لم يكن، وبقي من لم يزل واضمحلت الممكِنات في وجوده الأزلي الدائم بحيث صارت كالظلال التي يبسطها ويمدُّها ويقبضها، فيستغني العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى به عن فاقاته وحاجاته.

وإنما كان هذا عندهم أفضل مما قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إلى وجود العبد، وهذا الشهود الثاني سائر بالموجودات كلها سوى الأول تعالى.

شرح: هذا صناعة الصوفية، الشهود يعني ينسى ما سوى الله من الشهود فلا يشاهده.

فإذًا هذه الصوفية، ولكن من هذا أنه لا يفنيها، يبقيها على أنها معجزات، أن الله أوجدها وأنها دلائل على قدرته ووحدانيته.

متن: وإنما كان أفضل عندهم مما قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إلى وجود العبد، وهذا الشهود الثاني سائر بالموجودات كلها سوى الأول تعالى.

شرح: يلغيها من الشهود، هذا ترجع إلى الصوفية ثم يتلقون الغُنى من الوجود، ينكرون وجود ما سوى الله، وهذه الدرجة متوسطة عند الصوفية

متن: وهذا الشهود الثاني سائر بالموجودات كلها سوى الأول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت كأوَّليتها وهو العدم، فأفنتها أوَّلية الحق –تبارك وتعالى-، فبقي العبد محوًا صرفًا وعدمًا محضًا، وإن كانت آنيته متشخصة مشارًا إليه لكنها لما نسبت إلى أوَّلية الحق -عز وجل- اضمحلت وفنيت وبقي الواحد الحق الذي لم يزل باقيًا، فاضمحل ما دون الحق –تعالى- في شهود العبد كما هو مضمحل في نفسه، وشهد العبد حينئذ أن كل شيء ما سواه باطل، وأن الحق المبين هو الله وحده.

ولا ريب أن الغنى بهذا الشهود أتم من الغنى بالذي قبله، وليس هذا مختصًا بشهود أوَّليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب –جل جلاله- يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.

فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستواءه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به: الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجيًا له مُطرقًا واقفًا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه بين خاصته وأوليائه، فيستحي أن يصعد إليه من كلمه وعمله ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقليب الدول ومداولة الأيام بين الناس إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه.

الشرح: الله هو المصرف والمدبر سبحانه وتعالى، له في خلقه شئون.

متن: فمراسمه نافذة فيها كما يشاء {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}، فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال بل أحاط بذلك كله علمًا تفصيليًا ثم تعبَّد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره.

الشرح: من حراسة خواطره يعني أخذ جوارح عن المحرمات.

المتن: من حراسة خواطره وإرادته وعزماته وجوارحه علمًا بأن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإرادته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه، علانية له، بادية له، لا يخفى عليه منها شيء.

فكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواءٌ عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله جهر من جهر عن سمعه لصوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع ولا تُغلِطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنـزلة نفس واحدة.

الشرح: قال الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}.

متن: وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير -جل جلاله- الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية فحرس حركاته وسكناته وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء.

وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه وجزاء المسيء إليه، وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى.

وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية، وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة ألا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك.

شرح: لأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير.

متن: فلا أحد سواه يستحق أن يؤلَّه ويُعبد، ويُصلى له ويُسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده، وله الحكم وحده، فكل عبودية لغيره باطلة وعناءٌ وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى بغيره فقر وفاقة، وكل عز بغيره ذل وصغار، وكل تكثُّر بغير قلة وذلة، فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك يستحيل أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإن الإله على الحقيقة هو الغني الصمد، الكامل في أسمائه وصفاته، الذي حاجة كل أحد إليه ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره، ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك، ولو كان في الوجود إلهان.

شرح: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.

متن: ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال، كما يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإن استقلالهما ينافي استقلالهما.

شرح: استقلال الفاعلين ينافي استقلال الإلهين، الربوبية والألوهية.

متن: فإن استقلالهما ينافي استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفِطر لها.

الشرح: في توحيد الربوبية قال الله -عز وجل-: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.

وفي توحيد الألوهية قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، هذا سمعنا في الربوبية وهذا سمعنا في الألوهية.

متن: ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية، وكذلك كان عُبَّاد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون: {أجَعَلَ الآلِهَةَ إلهاً وَاحِداً} مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله تعالى الرسل تذكرهم بما في فطرهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه، فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات، وحظ العِباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات، ولذلك كان أكمل الخلق فيه أعرفهم بالله وأسماءه وصفاته، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله -جل جلاله-، فإن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تُضاف الأسماء الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، قال الله تعالى: {وَللهِ الأسماءُ الْحُسْنَى}، فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها.

شرح: مشهد الألوهية هذا والمشرك ليس بمشهد الربوبية وليس بمشهد الألوهية.

متن: فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية وقام بحقه من التعبُّد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإله الحق، وصار من أغنى العِباد، ولسان حال مثل هذا يقول:

وإن الغنى العالي عن الشيء لا به

 

غنيت بلا مال عن الناس كلهم

 

فيا له من غنى ما أعظم خطره وأجل قدره، تضاءلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم.

[فصل الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب]

أحسن الله إليك.

 

logo
2025 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد