بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين":
متن: [فصل الدرجة الثالثة]
بعد أن سبق ذكر الدرجة الأولى: أن تشهد ذكر الله.
والدرجة الثانية: من درجات الغنى بالله دوام شهود أوَّليته تعالى في تقسيمه لدرجات غنى النفس.
الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب -جل جلاله-: الفوز بوجوده.
شرح: أي بوجود الغنى، لابد أن نستشعر الغنى هنا، إذا استشعر استغنى، فعرف فضل الله تعالى ونعمه عليه.
المتن: هذا الغنى أعلى درجات الغنى، لأن الغنى الأول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه إليه، ففاض على القلب من صدق التوجه أنوار الصفات المقدسة، فاستغنى القلب بذلك وحصل له أيضًا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته له وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أيضًا.
هذا الغنى أعلى درجات الغنى، لأن الغنى الأول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه إليه.
الدرجة الأولى: أن تشهد ذكر الله -عز وجل- إياك قبل ذكرك له.
الدرجة الثانية: من درجات الغنى بالله-عز وجل- دوام شهود أوَّليته وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى مما قبله.
الدرجة الثالثة: من درجات الغنى بالرب -جل جلاله-: الفوز بوجوده، هذا الغنى أعلى درجات الغنى، لأن الغنى الأول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه إليه، ففاض على القلب من صدق توجهه أنوار الصفات المقدسة، فاستغنى القلب بذلك وحصل له أيضًا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته له وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أيضًا.
وأما هذا الغنى الثالث –الذي هو الغنى بالحق- فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات، وإنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد، فهذا أوله وكماله عند طلوع شمسه فيتقطع ضباب الوجود الفاني، وتشرق شمس الوجود الباقي، فينقطع لها كل ضباب، وهذا عبارة عن نور يُقذف في القلب يُكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كُشِف له بالنور الذي قبله عن عظمة الصفات، فإذا كان أثر من آثار صفات الذات أو صفات الأفعال يُغني القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأرواح من أنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر يُقضى ومن غنى يدوم ومن عيش ألذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب فإنما هي عزمة صادقة ونهضة حر لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أن يبيعها بالدون.
وقد جاء في أثر إلهي يقول الله عز وجل: «ابن آدم خلقتُك لنفسي فلا تلعب، وتكفلتُ برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيءٍ، وإن فُتَّكَ فاتك كل شيءٍ، وأنا أحب إليك من كل شيءٍ».
شرح: ايش قال في آخِر هذا؟
القارئ: لم أقف على التخريج حسب جهدي القاصر، وذكره ابن كثير في تفسير القرآن العظيم في موضعين، وقد ورد في بعض الكتب الإلهية ولعله من الإسرائيليات.
يقول: لم أقف على تخريج حسب جهد القاصر.
الشيخ: من هذا؟
القارئ: هذا المحقق عائد المظفر العجيلي، وعبد الله بن عائد القحطاني، وخالد بن علي عبد الله العابد، ثلاثة.
الشيخ: ايش قال الـمُخرِّج؟
(07:00) إلى (08:20) نقاش غير واضح مع أحد الحاضرين.
متن: فمن طلب الله بصدق وجده، ومن وجده أغناه وجوده عن كل شيء، فأصبح حرًا في غنى ومهابة على وجهه أنواره وضياؤه، وإن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه، ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده، ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح والدنيا أكبر همِّهِ جعل الله فقرهُ بين عينيه وشتت عليه شمله ولم يأتهِ من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له، ومن أصبح والآخرة أكبر همهِ جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمةٌ، وكان الله بكل خيرٍ إليه أسرع»، فهذا هو الفقر الحقيقي.
الشيخ: التخريج.
القارئ: قال جزء من حديث رواه الإمام أحمد في المسند بنحو، وابن ماجه، وابن حِبَّان في صحيح الإحسان كتاب الرقائق والدارمي بنحوه، والحديث صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
متن: فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي، وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة.
شرح: الغني الحقيقي غني القلب والفقر الحقيقي فقر القلب، بعض الناس عندهم ملايين، مليارات، لكنه فقير القلب والعياذ بالله، لايزال يتلهف ويطلب ويبخل الواجبات وعنده ملايين، أمثاله والعياذ بالله فقره في قلبه، بعض الناس جعل الله الغنى في قلبه، أتاه رزقه كفاه وينفقه ويتصدق ويؤدي الواجبات ومرتاح النفس، هذا أعطاه الله غناه في قلبه.
متن: فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي، وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه فكيف من كان الله -عز وجل- أكبر همه، فهذا من باب التنبيه والأولى.
شرح: إذا كانت الآخرة همه، فكيف الذي يكون أكبر همه ربه -سبحانه وتعالى- والتلذذ بمناجاته، هذا أعلى وأعلى.
متن: [فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى]
قال يحيى بن معاذ: الفقر أن لا تستغني بشيء غير الله ورسمه عدم الأسباب كلها.
قلت: يريد عدمها في الاعتماد عليها والطمأنينة بها، بل تصير عدمًا بالنسبة إلى سبق مسببها بالأوَّلية، وتفرده بالأزلية.
وسئل محمد بن عبدالله الفرغاني عن الافتقار إلى الله –تعالى- والاستغناء به أيهما أكمل فقال: إذا صح الافتقار إلى الله –تعالى- صح الاستغناء به، وإذا صح الاستغناء به صح الافتقار إليه، فلا يقال أيهما أكمل لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر.
قلت: الاستغناء بالله هو عين الفقر إليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيآن يطلب تفضيل أحدهما على الآخر، وإنما يُتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إليه، فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى غنى بالنسبة إلى فراغه من الموجودات الفانية، و فقرًا بالنسبة إلى قصر همته وجمعها على الله -عز وجل-، فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إلى الله فقر فإذا وصلت إليه استغنت به بكمال فقرها إليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقٌر آخر غير فقرها الأول، وإنما يكمل فقرها بهذا الوصل.
وسئل رويم عن الفقر فقال: إرسال النفس في أحكام الله –تعالى-.
قلت: إن أراد الحكم الديني فصحيح، وإن أراد الحكم الكوني القدري فلا يصح هذا الإطلاق بل لابد فيه من التفصيل كما تقدم بيانه.
وإرسال النفس في أحكامه التي يسخطها ويبغضها، أو إرسالها في أحكامه التي يجب منازعتها ومدافعتها بأحكامه خروج عن العبودية.
وقيل نعت الفقير ثلاثة أشياء: حفظ سره، وأداء فرضه، وصيانة فقره.
قلت: حفظ السر كتمانه صيانة له من الأغيار، وغيرة عليه أن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يُؤمن عليه.
وأداء الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأغيار، وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع.
وقال إبراهيم بن أدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر.
وسئُل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: هو الأمن بالله عز وجل.
وسُئل أبو حفص: بماذا ينبغي أن يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره.
وقال بعضهم: إن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذارًا أن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغني الحريص من الفقر أن يدخله فيفسد عليه غناه.
وقال بشر بن الحارث: أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر.
قلت: ومن ها هنا قال القائل:
قالوا: غدًا العيد ماذا أنت لابسه؟ فقر وصبر هما ثوبان تحتهما الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي |
|
فقلت: خلعة ساق حبه جرعًا قلب يرى أِلفه الأعياد والجمعا والعيد مادمت لي مرأى ومستمعًا |
وسُئِلَ ابن الجلاء: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟
فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه.
فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له.
قلت: معنى هذا أنه لا يبقى عليه بقية من نفسه، فإذا كان لنفسه فليس لها بل قد أضاع حقها وضيَّع سعادتها وكمالها.
شرح: تكون نفسه كلها معلَّقة بالله -عز وجل-.
متن: وإذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له، وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أنفسهم.
وقيل: حقيقة الفقر أن لا يستغني الفقير في فقره بشيء إلا بمن إليه فقره.
شرح: وهو الله -سبحانه وتعالى-.
متن: وقال أبو حفص: أحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال.
وقال بعضهم: ينبغي للفقير أن لا تسبق همته خطوته.
قلت: يشير إلى تعلق همته بواجب وقته، وأنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله. وأيضًا يشير إلى قصر أمله، وأن همته غير متعلقة بوقت لا يُحدِّث نفسه ببلوغه وأيضًا يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت، وألا يُضعفها بتقسيمها على الأوقات.
وقيل: أقل ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء: علم يسوسه.
نقف هنا.
أحسن الله إليك.