مدة المحاضرة: 18:00
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
يقول الأمام ابن القيم-رحمه الله- في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين":
متن: [فصل]
ويجمع هذين الأصلين العظيمين أصل ثالث هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإثباته على وجهه يتم بناء هذين الأصلين وهو إثبات الحمد كله لله رب العالمين فإنه المحمود على ما خلقه.
الشيخ: الأصلين السابقين؟
القارئ: لعله يقصد الحكمة والقدرة لأنها أتت بعد السياق هذا، يعني إن الله حكيم قادر على كل شيء، نعم تكلم على تلك الصفات في الماضي، تكلم بعدما عدَّد الطوائف الأربع، قال: وقال في آخر كلامه: وهذه الطائفة كُمَّل أهل البصر التام، والأولى لهم العمى المطلق.
الشيخ: الطائفة الكُمَّل ما هو قولهم؟
القارئ: الكُمَّل هم الطائفة الرابعة، هم {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، فآمنوا بالكتاب كله، وأقروا بالحق جميعه، ووافقوا كل واحدة من الطائفتين على ما معها من الحق، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل، فآمنوا بخلق الله وأمره بقدره وشرعه.
الشيخ: خلق الله وأمره، الخلق والأمر، والقدر والشرع، آمنوا بالقدر والشرع، بالخلق والأمر والقدر والشرع، الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع وهناك أمرٌ ثالث، قال وهناك ايش؟
القارئ: أُعرِّف بالطوائف يا شيخ؟ أُعرِّف بالطوائف الثلاث؟
الشيخ: لا معروف القدرية والجبرية سبق وكان، لكن نتكلم في السنة الذين آمنوا بالأصل بالخلق والأمر والشرع والقدر وهناك أصل ثالث.
متن: ويجمع هذين الأصلين العظيمين.
شرح: الأصلان هما الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع.
متن: أصل ثالث هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإثباته على وجهه يتم بناء هذين الأصلين وهو إثبات الحمد كله لله رب العالمين فإنه المحمود على كل ما خلقه وأمر به ونهى عنه، فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأعدائهم، وهو المحمود على عدله في أعدائه كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأرض ومن فيهن: {وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وكان من قول النبي صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع: «ربنا ولك الحمد، ملء السماء وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد» فله سبحانه الحمد حمدًا يملأ المخلوقات والفضاء الذي بين السموات والأرض، ويملأ ما يُقدَّر بعد ذلك مما يشاء الله أن يُملأ بحمده. وذلك يحتمل أمرين: أحدهما أن يملأ ما يخلقه الله بعد السموات والأرض، والمعنى لك الحمد ملء ما خلقته وملءُ ما تخلقه بعد ذلك.
الثاني: أن يكون المعنى ملء ما شئت من شيء يملؤه حمدك، أي يُقدَّر مملوءً بحمدك وإن لم يكن موجودًا ولكن قد يقال: المعنى الأول أقوى لأن قوله: «ما شئت من شيء بعد» يقتضي أنه شيء يشاؤه، وما شاء كان، فالمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له فتأمله، لكنه إذا شاء كونه فله الحمد ملؤه، فالمشيئة راجعة إلى المملوء بالحمد، فلابد أن يكون شيئًا موجودًا يملؤه حمده.
وأيضًا فإن قوله: «من شيء بعد» يقتضي أنه شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات، كما يخلقه بعد ذلك من مخلوقاته من القيامة وما بعدها. ولو أُريد تقدير خلقه لقيل: وملء ما شئت من شيء مع ذلك، لأن المقدَّر يكون مع المحقق.
وأيضًا فإنه لم يقل: ملء ما شئت أن يملأهُ الحمد، بل قال: ما شئت. والعبد قد حمد حمدًا أخبر به، وإن ثناءه ووصفه بأنه يملأُ ما خلقه الرب سبحانه وما يشاء بعد ذلك.
وأيضًا فقوله «وملء ما شئت من شيء بعد» يقتضي إثبات مشيئة تتعلق بشيء بعد ذلك، وعلى الوجه الثاني قد تتعلق المشيئة بملء المقدَّر، وقد لا تتعلق.
وأيضًا فإذا قيل"ما شئت من شيء بعد ذلك" كان الحمد مالئًا لما هو موجود يشاؤه الرب دائمًا، ولا ريب أن له الحمد دائمًا في الأولى والآخرة، وأما إذا قُدِّر ما يملؤه الحمد وهو غير موجود فالمقدرات لا حد لها، وما من شيء منها إلا يمكن تقدير شيء بعده وتقدير ما لا نهاية له كتقدير الأعداد، ولو أُريد هذا المعنى لم يحتج إلى تعليقه بالمشيئة، بل قيل (ملء ما لا تناهى) فأما ما يشاؤه الرب -تعالى- فلا يكون إلا موجودًا مقدرًا، وإن كان لا آخر لنوع الحوادث وبقاء ما يبقى منها فهذا كله مما يشاؤه بعد.
وأيضًا فالحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته وإما ظاهرة في مخلوقاته، فأما المعدوم المحض الذي لم يُخلق ولا خُلِق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة فالحمد لله الذي يملأ المخلوقات ما وُجد منها وما يُوجد هو حمد يتضمن الثناء عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته، وأما ما لا وجود له فلا محامد فيه ولا مذام، فجعل الحمد مالئًا له جعله مالئًا لما لا حقيقة له.
وقد اختلف الناس في معنى كون حمده يملأُ السموات والأرض وما بينهما، فقالت طائفة هذا على وجهة التمثيل: أي لو كان أجسامًا لملأ السموات والأرض وما بينهما قالوا: فإن الحمد من قبيل المعاني والأعراض التي لا تُملأ بها الأجسام، ولا تُملأ الأجسام إلا بالأجسام، والصواب أنه لا يحتاج إلى هذا التكلف البارد، فإن ملء كل شيء يكون بحسب المالئ والمملوء، فإذا قيل امتلأت الإناء ماءً وامتلأت الجفنة طعامًا فهذا الامتلاء نوع.
شرح: هذا امتلاء حسِّي.
متن: وإذا قيل: امتلأت الدار رجالًا وامتلأت المدينة خيلًا ورجالًا فهذا نوع آخر. وإذا قيل: امتلأ الكتاب سطورًا فهذا نوع آخر، وإذا قيل: امتلأت مسامع الناس حمدًا أو ذمًا لفلان فهذا نوع آخر كما في أثر معروف: "أهل الجنة من امتلأت مسامعه من ثناء الناس عليه، وأهل النار من امتلأت مسامعه من ذم الناس له".
الشيخ: مع هذا تعليق عليه؟
القارئ: لا.
الشيخ: ماذا قال؟
القارئ: يقول: رواه عبد الله بن المبارك في الزُهد وابن ماجة في سننه والطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في الزُهد الكبير، قال الكناني في مصباح الزجاجة: إسناده صحيح، رجاله ثقات، وقال الألباني في صحيح سنن ابن ماجة: حسنٌ صحيح.
الشيخ: والحاصل إن هذا من الأصول، الأصول الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع وحمد الله -سبحانه وتعالى- على القدر والشرع.
متن: وقال عمر بن الخطاب في عبدالله بن مسعود: (كُنيِّف) مُليء علمًا.
شرح: يعني امتلاء يناسبه، امتلاء العلم غير امتلاء الإناء، كلٌ بحسبه.
متن: ويقال: فلان علمه قد ملأ الدنيا. وكان يقال: ملأ ابن أبي الدنيا الدنيا علمًا.
شرح: ابن أبي الدنيا هذا المؤلف المعروف، مثلما قال ملأ سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- ذكر وصيتًا وعلمًا ودعوةً، هذا كلها امتلاء من كل شيء بما يناسبه.
المتن: قال: "أهل الجنة من امتلأت مسامعه من ثناء الناس عليه".
الشيخ: الشخص.
متن: ويقال: صيت فلان قد ملأ الدنيا (فطبَّق) الآفاق وحبه قد ملأ القلوب، وبغض فلان قد ملأ القلوب، وامتلأ قلبه رعبًا، وهذا أكثر من أن تُستوعب شواهده، وهو حقيقة في بابه. وجعل الملء والامتلاء حقيقة للأجسام خاصةً تحكم باطل ودعوى لا دليل عليها البتة، والأصل الحقيقة الواحدة، والاشتراك المعنوي هو الغالب على اللغة والأفهام والاستعمال، فالمصير إليه أولى من المجاز والاشتراك اللفظي، وليس هذا موضع لتقرير هذه المسألة.
إذ المقصود أن الرب –تعالى- أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوءٍ وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعلٌ خالِ عن الحكمة والمصلحة، وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.
موصوف بصفات الكمال مذكور بنعوت الجلال منـزَّه عن الشبيه والِمثال ومنـزه عما يُضاد صفات كماله: فمنـزَّه عن الموت المضاد للحياة، وعن السِنة والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية، وموصوف بالعلم منـزَّه عن أضداده كلها من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه، موصوف بالقدرة التامة منـزَّه عن ضدها من العجز واللغوب والإعياء، موصوف بالعدل منـزَّه عن الظلم، موصوف بالحكمة منـزَّه عن العبث، موصوف بالسمع والبصر منـزَّه عن أضدادهما من الصمم والبكم.
شرح: لأنه ارتباط صفة الكمال، يلزم من إثبات صفة الكمال نفي أضدادها؛ كما يلزم من إثبات صفة السمع نفي صفة الصمم، والبصر بنفي صفة العمى، إثبات القدرة يلزم إثبات نفي العجز وهكذا.
متن: موصوف بالعلو والفوقية منـزَّه عن ضدِّ ذلك، موصوف بالغنى التام منـزَّه عما يضاده بوجه من الوجوه، ومستحق للحمد كله فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي، بل الحمد كله واجب لذاته فلا يكون إلا محمودًا كما لا يكون إلا إلهًا وربًا وقادرًا.
فإذا قيل "الحمد كله لله" فهذا له معنيان:
أحدهما: أنه محمود على كل شيء وبكل ما يُحمد به المحمود الحمد التام. وإن كان بعض خلقه يُحمد أيضًا –كما يحمد رسله وأنبياؤه وأتباعهم- فذلك من حمده -تبارك وتعالى- بل هو المحمود بالقصد الأول وبالذات، وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده فهو المحمود أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وهذا كما أنه بكل شيء عليم، وقد علَّم غيره من علمه ما لم يكن يعلمه بدون تعليمه، وفي الدعاء المأثور: "اللهم لك الحمدُ كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجعُ الأمر كله، أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله"، وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملكة بعض خلقه، وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاء.
وكما أن ملك المخلوق داخل في ملكه، فحمده أيضًا داخل في حمده، فما من محمود يُحمد على شيء ما دقَّ أو جلَّ إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية أيضًا، وإذا قال الحامد: "اللهم لك الحمد" فالمراد به أنت المستحق لكل حمد، ليس المراد به الحمد الخارجي فقط.
والمعنى الثاني أن يقال: "لك الحمد كله" أي الحمد التام الكامل فهذا مختص بالله –عز وجل- ليس لغيره فيه شركة.
شرح: الحمد التام نعم، لغيره حمد ناقص.
متن: والتحقيق أن له الحمد بالمعنيين جميعًا، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه، فهو المحمود على كل حال وعلى كل شيء أكمل حمدٍ وأعظمه، كما أن له الملك التام العام فلا يملك كل شيء إلا هو وليس الملك التام الكامل إلا له، وأتباع الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد فإنهم يقولون: إنه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيءٌ البتة فله الملك كله. والقدرية المجوسية يخرجون من ملكه أفعال العباد، فيخرجون طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمؤمنين من ملكه، كما يخرجون سائر حركات الملائكة والجن والإنس عن ملكه. وأتباع الرسل يجعلون ذلك كله داخلًا في ملكه وقدرته، ويثبتون كمال الحمد أيضًا، وأنه المحمود على جميع ذلك وعلى كل ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحِكَم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل.
نقف هنا، رحمه الله كلام جميل.