مدة المحاضرة: 24:00
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين":
متن: [فصل في أن الله خلق دارين وخصَّ كل دار بأهل]
والله –سبحانه- مع كونه خالق كل شيء فهو موصوفٌ بالرضا والغضب والعطاء والمنع والخفض والرفع والرحمة والانتقام، فاقتضت حكمته تعالى أن خلق دارًا لطالبي رضاه العاملين بطاعته المؤثرين لأمره القائمين بمحابه وهي الجنة، وجعل فيها كل شيء مرضيٍ وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهىً ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محِل كل طيب من الذوات والصفات والأقوال. وخلق دارًا أُخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنم، وأودعها كل شيء مكروهٍ وشحنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر بحذافيره فيها، وجعلها محَل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.
فهاتان الداران هما دارا القرار، اقتضاء الحكمة خلق الدنيا وما فيها.
وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا، ثم أخرج إليها من (آثار) الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما.
شرح: من آثار، من آثارها الحياة الطيبة التي يجدها المؤمن، والحياة النكرة التي يجدها الكافر هذه من آثار {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} هذه من الآثار.
متن: ثم أخرج إليها من (آثار) الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالدارين -وإن كان غبيًا- وجه شهادة تَستأنس به النفوس وتستدل به.
شرح: ثم يجد الحياة الطيبة ولذة في العبادة، هذه آثار، والكافر يجد الحياة النَكِدَة والنغص والقلق ولو كانت في أبَّهة ولو كان عنده أموال ولو كان عنده اختراعات وعنده ما عنده.
متن: ثم أخرج إليها من (آثار) الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يُستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالدارين –وإن كان غبيًا- وجه شهادة تَستأنس به النفوس وتستدل به، فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومشتهاها ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكَّرهم بما هناك من الحبرة والسرور والعيش الرخي كما قيل:
فإذا رآك المسلمون تيقنوا |
|
حور الجنان لدى النعيم الخالد |
فشمَّروا إليه وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة وأحدثت لهم رؤيته عزَمَات وهممًا وجدًا وتشميرًا، لأن النعيم يذكِّر بالنعيم، والشيء يذكِّر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: موعدك الجنة، وإنما هي عَشيَّة أو ضحاها. فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزادٌ لهم من هذه الدار إليها، فهي زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار، فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسه ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم.
وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يُستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفَسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله –سبحانه- بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما.
شرح: كما ذكر الحديث، أن الله -تعالى- أذِن لجهنم نفَسين نفسًا في الشتاء وذلك أشد ما يجد الناس من البرد، ونفسًا في الصيف وذلك أشد ما يجد الناس من الحر، لأن جهنم -والعياذ بالله- نوعان: حر وبرد، زمهرير وحرٌ شديد، نسأل الله السلامة.
متن: فاقتضى ذانك النفسان آثارًا ظهرت في هذه الدار كانت دليلًا عليها وعبرة، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله في نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} تذكرة تذكِّر بها الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقواء وهم المسافرون.
شرح: لأنها تذكرة، تُذكِّر بالآخرة ومتاعًا للمسافرين، وأيضًا المسافر في الغالب يحتاج إلى إيقاد النار، وكذلك أهل المدن والنازلون كذلك.
متن: وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله في نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} تذكرة تذكِّر بها الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقواء وهم المسافرون، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقِيّ والقَوَى وهي الأرض الخالية، وخصَّ المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهًا لعباده –والله أعلم بمراده من كلامه- على أنهم كلهم مسافرون وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابروا سبيل وأبناء سفر.
شرح: وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
متن: والمقصود أنه سبحانه أشهدهم في هذه ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار.
شرح: في هذه الدنيا، ما أعد لأوليائه في دار القرار أي في الدار الآخِرة ما أعد لأوليائه في الجنة وأعد لأعدائه في النار.
متن: وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر، وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذروا كل الحذر واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات، وكان وجودها في هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمة منه بهم وإحسانًا إليهم وتذكرة وتنبيهًا.
ولما كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلَّص خيرها من شرها وخصَّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار الشرور المحضة، فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط.
شرح: الدنيا ممتزجة: الخير بالشر، والألم بما يحبه الإنسان، والأفراح بالأتراح ممزوجة، أما الدار الآخرة خلصها، ما فيها مزج، الجنة دار سرور باستمرار ولا فيها آلام ولا أحزان، والنار أيضًا دار أحزان وهموم وأتراح وليس فيها شيء من الأفراح.
متن: فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض.
شرح: خلق فيها المؤمنين والكفار، والأبرار والفجَّار يبتلي هذا بهؤلاء وهؤلاء بهؤلاء، يبتلي الكفار بالمؤمنين وبالمصلحين المفسدين، امتزاج، اختلاط، فيها المؤمن وفيها الكافر وفيها البر وفيها الفاجر، كذلك أيضًا فيها المصائب وفيها العقوبات وفيها أيضًا الملاذ وفيها المكروهات، أما الآخرة، الجنة ما فيها امتزاج، كلها ملاذ، سرور، ولا فيها أتراح ولا هموم، والنار والعياذ بالله كلها أحزان وهموم وأتراح وليس فيها شيء من الأفراح ولا من الملاذ.
متن: وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة بهرت العقول.
شرح: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}.
متن: حكمة بالغة بهرت العقول، وعِزة قاهرة.
فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه، بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلَّط بعضه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك. فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه بالتمييز والتخليص، فميَّز بينهما بدارين ومحلَّين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها، وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءه الكافرين لنقمته، والمخلِّطين للأمرين معًا: فهؤلاء أهل الرحمة وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل الرحمة والنقمة.
شرح: أهل الرحمة الجنة، وأهل النقمة النار، والمخلِّطين قد ينالهم وقد يصيبهم أوساط الموحدين قد يُعذَّبون في النار مدة ثم يخرجون منها إلى الجنة المخلِّطين خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم، قد يُعفى عنه وقد يصيبه أهوال وشدائد يوم القيامة وقد يُعذَّب في قبره وقد يُعذَّب في النار لكنه مآله إلى الجنة إذا مات على التوحيد، يعني هؤلاء لا أهل الرحمة ولا أهل النقمة، وهؤلاء لهم الرحمة ولهم النقمة إذا دخلوا النار أو عُذبوا.
متن: وقسم آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ورتَّب على كل قسم من هذه الأقسام حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاء، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه.
الشرح: وقسم لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا، من هم هؤلاء القسم؟
إجابة من أحد الحضور: أهل الفترة.
الشيخ: ظاهر النصوص أنهم يدخلون في الجنة، يمتحنون، أهل الفترة عُرِضَ لهم أحاديث ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله فيهم أحاديث أنهم يمتحنون يوم القيامة، تأتي أحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف وبعضها حسن، يمتحنون.
لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا؟ سيأتي، لعله يذكره المؤلف.
غير المكلفين، محتمل.
متن: وقسم آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ورتَّب على كل قسم من هذه الأقسام حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاء، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، وعقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحَل المقتضي لذلك.
شرح: أوصاف الموحدين، يُعذَّبون ثم يُخرجون إلى الجنة.
متن: ويجمع بينهما في المحَل المقتضي لذلك ولا يظلم أحدًا ولا يبخسه شيئًا من حقه ولا يعاقبه بغير جنايته، هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفسهم من القوة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسر كل شيء بمقابله ومصادمته بضده، ليظهر عليه آثار القهر وسمات الضعف والعجز ويستيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحدًا، وأنه يستحيل أن يكون له شريك.
شرح: نعم ليس له شريك، هو القهار وحده -سبحانه- هو الغفار هو العليم هو الحكيم ليس له شريك.
متن: بل القهر والوحدة متلازمان: فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضدٌ ومنافٍ ومشارك.
شرح: نعم ما سواه كله من خلقه له ضد، له منافس، له مشارك، له منافٍ، إلا الله ليس له شريك ولا مثيل ولا ند إلا الله –سبحانه وتعالى-.
متن: فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضدٌ ومناف ومشارك.
قف على قوله: فالخلق والملك والقدرة.