شعار الموقع

45- شرح كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين

00:00
00:00
تحميل
12

مدة المحاضرة: 39:00

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين" ولا زال الكلام في فصل فإن الله خلق دارين وخصَّ كل دار بأهل والكلام على الابتلاء والامتحان قال -رحمه الله-:

متن: هذا ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحِكَم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم.

شرح: هذه يكون في هذا النوع، استخراج الصبر، صبرهم على البلاء، والثواب اللي يحصل هذا والامتحان والاختبار والتمييز، نعم هذا ما في ضمن، نعم.

متن: هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحِكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم، من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم.

شرح: لولا الابتلاء ما حصل الصبر، لولا الابتلاء ما حصل الشكر، لولا الابتلاء ما حصل الجهاد، لولا الابتلاء ما حصل التوكل، كل هذه عبوديات عظيمة كلها ناشئة عن الابتلاء والامتحان، نعم.

متن: واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفوسهم من القوة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسر كل شيء بمقابله ومصادمته بضده، ليظهر عليه آثار القهر وسمات الضعف والعجز ويستيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحدًا، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان: فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناف ومشارك: فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تُصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها، وخلق الماء وسلط عليه الرياح تُصرفه وتكسِره، وخلق النار وسلط عليها الماء يكسرها ويطفئها وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها.

شرح: الحجارة التي في الجبال تتكسر بالحديد، والحديد يذاب بالنار، والنار تطفئها الماء، كل شيء له ضد، والله سبحانه وتعالى هو القاهر وهو الواحد القهار، الذي لا ند له، ولا ظهير ولا مساعد، هو وحده القهار، نعم.

متن: وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مَطرد، وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلط كلا منها على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار وقهر كلا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه.

شرح: الضروب يعني الأنواع، على اختلاف ضروبه يعني أنواعه، نعم. 

متن: وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد ومغالب. فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد وأن من تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه وربط بعضه ببعض وإحواج بعضه إلى بعض وقهر بعضه ببعض وابتلاء بعضه ببعض وامتحان خيره بشره وجعل شرَّهُ لخيره الفداء.

أحد الحاضرين: في النسخة التي معي: وامتزج خيره بشره.

الشيخ: لعله: امتزج خيره بشره، نعم.

 متن: ولهذا يُدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافر فيقال له: هذا فداؤك من النار.

شرح: بلفظٍ آخر: هذا فكاكك من النار، نعم.

وهكذا في الحقيقة لكل إنسان مقعدان، مقعدٌ في النار، ومقعدٌ في الجنة، وأن المؤمن يطأ الجنة يقال هذا فداؤك.

متن: وهكذا المؤمن في الدنيا يُسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله.

شرح: فداؤه: فكاكه من عذاب الله، نعم

متن: وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرور أكبر منها في هذا العالم أيضًا، فليعطِ اللبيب هذا الموضع حقه من التدبر يتبين له حكمة اللطيف الخبير.

[فصل]

وقد تقرر أن الله سبحانه كامل الصفات له الأسماء الحسنى، ولا يكون عن الكامل في ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم، وهو سبحانه خلق عباده على الفطرة، وكل مولود فإنما يولد على الفطرة التي فُطِرَ الخلائق عليها، ولكن الآباء والكافرين للمولودين يخرجونهم عن الفطرة، ويعدلون بهم عنها، ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرها.

شرح: كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه او يمجِّسانه» ولم يقل يسلمانه، لأنه هو نزل على الإسلام على الفطرة «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه او يمجِّسانه» يعني ينقلانه الى اليهودية، أو الى النصرانية، أو إلى المجوسية، ولم يقل يسلمانه لأنه على الإسلام على الفطرة، الفطرة هي الإسلام ، نعم

متن: ولكن أخرجوهم عن سنن الحنيفية وأفسدوا فطرهم وقلوبهم، وهكذا بالأضداد والأغيار يخرج بعض المخلوقات عن سنن الإتقان والحكمة، ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت في مرتبتها كالمولود في فطرته، ولذلك أمثلة:

(المثال الأول): أن الماء خلقه الله في الأصل طاهرًا مطهرًا، فلو تُرِكَ على حالته التي خُلِقَ عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يكن إلا طاهرًا.

شرح: نعم مثل المولود يولد على الفطرة كذلك الماء إذا بقي على حالته لم يخالطه شيء بقي على طهارته، نعم

متن: ولكن بمخالطته أضداده من الأنجاس والأقذار تغيرت أوصافه وخرج عن الخلقة التي خُلِقَ عليها، فكانت تلك النجاسات والقاذورات بمنزلة أبوي الطفل وكافله الذين يُهوِّدونه ويُنصِّرونه ويمجِّسونه ويُشرِّكونه.

شرح: يُشرِّكونه من الشرك، يُهوِّدانه من اليهودية، ويُنصِّرانه من النصرانية وهي تساوي الشرك، نعم.

متن: وكما أن الماء إذا فسد بمخالطته الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة فكذلك القلوب إذا فسدت فطرها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس.

(المثال الثاني): الشراب المعتصر من العنب فإنه طيب يصلح للدواء ولإصلاح الغذاء والمنافع التي يصلح لها، فلو خُلِّي على حاله لم يكن إلا طاهرًا طيبًا، ولكن أُفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرًا، فخرج بذلك عن خلقته التي خُلِقَ عليها من الطهارة والطيب، فصار أخبث شيء وأنجسه. فلو انقلب خلًا أو زال تغير الماء، كان بمنـزلة رجوع الكافر إلى فطرته الأولى، فإن الحكم إذا ثبت لعلةٍ زال بزوالها. والله أعلم.

شرح: يعنى الخمر، إذا تخلل طَهُرَ، تخلل بنفسه بدون معالجة، أما إذا خُلِّل فلا، فإذا انقلب بنفسه وصار خلًا طهُر، مثل الكافر إذا رجع إلى الإسلام، على عادة الخمر محرمة، فإذا انقلبت الخمر بنفسها وصارت خلًا، تخللت، طَهُر، وإن كان بمعالجة أحد فلا، على الصحيح.

متن: (المثال الثالث): الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطن الحيوان واستقرت هنالك خرجت عن حالتها التي خُلقت عليها واكتسبت بهذه المخالطة والمجاورة خُبثًا وفسادًا لم يكن فيها.

شرح: الأغذية طيبة فإذا خالطت بدن الإنسان وكذا انتقلت إلى النجاسة تخرج من البول ثم تخرج من الغائط، وكذلك البهائم، تأكل مثلًا البرسيم تأكل شيئًا طيبًا ثم يخرج شيئا آخر، يخرج رجيع وإن كان كل منهما طاهر لكن تغيَّر، ما كان على حالته الأولى، والآدمي إذا أكل طعامًا طيبًا تغيَّر بباطنه وأمعائه فصار منه ما هو دم للجسد ومنه ما يخرج غائط، نجس، بالتغير، نعم.

متن: واكتسبت بهذه المخالطة والمجاورة خُبثًا وفسادًا لم يكن فيها لسلوكها في غير طرقها التي بها كمالها. فلما أنزل الله سبحانه الماء طاهرًا نافعًا فمازج الأرض وسالت به أوديتها أوجد جل جلاله بينهما بسبب هذه المخالطة والممازجة أنواع الثمار والفواكه والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات وأوجد مع ذلك المر والشوك والحنظل وغير ذلك، واللقاح واحد ولكن الأم مختلفة.

شرح: الأم الأرض، واللقاح واحد، مختلفة يعني فعلًا تجد الأرض تخرج كذا وهذه تخرج كذا والمطر واحد، كما قال تعالى في سورة الرعد:                                           {يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}.

{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ}.

واحد ولكنها تختلف، كذلك الأراضي تختلف، فالماء ينزل على هذه، هذه تخرج كلأ وهذه تخرج كذا ، وهذه تخرج كذا، وهذه تخرج فواكه، وهذه تخرج حنظل، وهذه تخرج مر،  وهذه تخرج تمور، أنواع كل منها مختلف عن الآخر، نعم.

متن: ولكن الأم مختلفة قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

ثم إنه سبحانه يُصرِّف ما أخرجه من هذا الماء ويقلِّبه ويحيل بعضه إلى بعض وينقل بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، وهذا كما خلق كل دابة من ماءٍ ثم خالف بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما تصلح له، وأمشى بعضها على بطنه وبعضها على رجلين وبعضها على أربع، حكمةً بالغة وقدرةً باهرة.

شرح: سبحان الله، خلق كل دابة من ماء، مخلوقة من الماء، لكن متفاوتة.

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

{فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ} مثل الزواحف والحيات وغيرها.

{وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ} كالإنسان والطير.

{وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ}  كالحيوانات.

وهي كلها مخلوقة من ماء، سبحان الله، نعم.

متن: وكذلك سبحانه يقلب الليل والنهار ويقلب ما يوجد فيهما ويقلب أحوال العالم كما يشاء ويسلك بذلك كله مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده ويظهر ملكه{ألاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهذا القرآن المجيد عمدته ومقصوده الإخبار عن صفات الرب جل جلاله وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناء عليه والإنباء عن عظمته وعلائه وحكمته وإبداع صنعه والتقدم إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله وتبيين مراده من ذلك كله، وكان من تمام ذلك الإخبار عن الكافرين والمكذبين وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسالات ربهم ووصف كفرهم وعنادهم وكيف كذبوا على الله وكذَّبوا رسله وردُّوا أمره ونصائحه، فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوح شواهد الحق وقيام أدلته وتنوعها، وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى وتنـزيهه من الثناء عليه، فإن أسماءه تعالى الحسنى وصفاته العلا هي موضع الحمد، ومن تمام حمده تسبيحه وتنـزيهه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به.

وكان في تنوع تنـزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضاده ويخالفه، ولهذا كان تسبيحه تعالى من تمام حمده، وحمده من تمام تسبيحه، ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين.

الشيخ: وفي النسخة الثانية قربتين، الصحيح قرينين، هو يصلح قربتين يعني كلهما قربة لكنهما مقترنان، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.

متن: ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين، فكان ما نسبه إليه أعداؤه والمعطلون لصفات كماله – من علوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلم به على رسله وغير ذلك من  صفات كماله- موجبًا لتنزيه رسله له وتسبيحهم عن ذلك مما نزَّه عنه نفسه وسبح به نفسه، فكان في ذلك ظهور حمده لخلقه وتنوع أسبابه وكثرة شواهده وسعة طرق الثناء عليه به وتقرير عظمته ومعرفته في قلوب عباده، فلولا معرفة الأسباب التي يُسبح ويُنـزه ويتعالى عنها، وخلق من يضيفها إليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أي شيء يسبحونه وعما ذا ينـزهونه.

شرح: هما قربتان وقرينان.

متن: ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين.

شرح: يعني مقترنين وهما قربتان، هذا قربة وهذا قربة ، نعم.

 متن: فكان ما نسبه إليه أعداؤه والمعطلون لصفات كماله – من علوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلم به على رسله وغير ذلك من  صفات كماله- موجبًا لتنزيه رسله له وتسبيحهم عن ذلك مما نزه عنه نفسه وسبَّح به نفسه، فكان في ذلك ظهور حمده لخلقه وتنوع أسبابه وكثرة شواهده وسعة طرق الثناء عليه به وتقرير عظمته ومعرفته في قلوب عباده، فلولا معرفة الأسباب التي يُسبح ويُنـزه ويتعالى عنها، وخلق من يضيفها إليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أي شيء يسبحونه وعن ماذا ينـزهونه.

شرح: أعد السطرين.

متن: فلولا معرفة الأسباب التي يُسبح ويُنـزه ويتعالى عنها، وخلق من يضيفها إليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح.

شرح: الأسباب وخلق من يضيفها إلى نفسه، لأن الله خلق هذه الأسباب وخلق من يضيفها وينسبها إليه لما حصل هذا.

متن: فلولا معرفة الأسباب التي يُسبح ويُنـزه ويتعالى عنها، وخلق من يضيفها إليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أي شيء يسبحونه وعما ذا ينـزهونه فلما رأوا في خلقه من قد نسبه إلى ما لا يليق به وجحد من كماله ما هو أولى به سبحوه حينئذ تسبيح مجلٌ له معظمٌ له منـزهٌ له عن أمر قد نسبه إليه أعداؤه والمعطِّلون لصفاته ونظير هذا اشتمال كلمة الإسلام –وهي شهادة أن لا إله إلا الله- على النفي والإثبات، فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات وتحقيق معنى الإلهية وتجريد التوحيد الذي يُقصد بنفي الإلهية عن كل ما ادعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى، فتجريد هذا التوحيد من العقد واللسان بتصور إثبات الإلهية لغير الله كما قاله أعداؤه المشركون ونفيه وإبطاله من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله وتقريره وظهور أعلامه ووضوح شواهده وصدق براهينه.

ونظير ذلك أيضًا أن تكذيب أعداء الرسل لهم وردهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجبة لظهور براهين صدق الرسل ودفع ما احتج به أعداؤهم عليهم من الشبه الداحضة ودحض حججهم الباطلة وتقرير طرق الرسالة وإيضاح أدلتها، فإن الباطل كلما ظهر فساده وبطلانه أسفر وجه الحق واستنارت معالمه ووضحت سبله وتقررت براهينه، فكسر الباطل ودحض حججه وإقامة الدليل على بطلانه من أدلة الحق وبراهينه.

شرح: يعني تكذيب المكذبين هذا سبب في ظهور آيات الله وحججه، والله تعالى شدد قلب فرعون وإنكاره حتى ظهرت حجج الله وآياته وبراهينه، أعطى الله بني إسرائيل تسع آيات،  {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا}.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ}.

فهو شدد على فرعون حتى تظهر الحجج والآيات والبراهين للمكذبين للرسل هؤلاء تكذيبهم سببٌ في ظهور الحق، وظهور آياته وحججه، والبراهين التي توضِّح الحق وتبرزه، وتكشفه حتى يكون واضحًا  لكل أحد، نعم.

متن: فتأمل كيف اقتضى الحق وجود الباطل، وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل.

شرح: سبحان الله، كيف يظهر الحق ويزهق الباطل، فتأمل كيف يظهر الحق ويزهق الباطل، يعني الحق ابتغى أن يوجد الباطل حتى يظهر الضد، والضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، قال: اقتضى الحق وُجِدَ الباطل، الحق توحيد الله، لولا وجود الشرك ما عُرِفَ حسن التوحيد، ولولا وجود إبليس والشياطين والكفرة ما عُرِفَ فضل المؤمنين والموحدين، هكذا فالضد يظهر حسنه الضد، نعم.

متن: فتأمل كيف اقتضى الحق وجود الباطل، وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل، وكيف كان كفر أعداء الرسل بهم وتكذيبهم لهم ودفعهم ما جاؤوا به هو من تمام صدق الرسل وثبوت رسالات الله وقيام حججه على العباد، ولنضرب لذلك مثالًا يتبين به، وهو ملك له عبد قد توحَّد في العالم بالشجاعة والبسالة والناس بين مصدق ومكذب، فمن قائل: هو كذلك، ومن قائل: هو بخلاف ما يظن به فإنه لم يقابل الشجعان ولا واجه الأقران، ولو نازل الأقران وقابل الشجعان لظهر أمره وانكشف حاله. فسمع به شجعان العالم وأبطالهم فقصدوه من كل أوب وأتوه من كل قطر، فأراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة فمكن تلك الشجعان والأبطال من منازلته ومقاومته وقال: دونكم وإياه وشأنكم به. فهل تسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه إلا لإعلاء شأنه وإظهار شجاعته في العالم وتخويف أعدائه به، وقضاء الملك أوطاره به، وكما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته وحصول مقصوده بذلك، فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته وظهور عجزهم وفضيحتهم وخزيهم وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمات الملك وحوائجه فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته وعدل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرفه في ملكه وأنه لو استعملهم في تلك المهمات لتشوش أمر المملكة وحصل الخلل والفساد والله أعلم حيث يجعل رسالته وهو أعلم بالشاكرين.

شرح: يعن هذا مثل عبد مشهور بالشجاعة والقوة والنشاط ومنازلة الأعداء، لكن ما حصل شيء ولا جُرِّب، فقيل للشجعان من أراد أن يقابله قابله، ها الشجاعة، فأتي الشجعان من كل مكان يريدون أن يقابلوه، وينظرون في شجاعته، فسلطهم عليه الملك قال: يلا، كل واحد يظهر شجاعته، تقاتلا فجعلوا يتقابلون فظهر شجاعة هذا العبد، ونشاطه واستولى عليهم وغلبهم بشجاعته وقوته فظهر بذلك، الملك أراد أن يظهر فضل هذا العبد وشجاعته، وأراد أيضًا من خلال ذلك أن يعلم أن هؤلاء لا يصلحون، وأنهم ليس عندهم قوة ولا نشاط بحيث يقابلون هذا العبد ويصلحون لأن يتولون مهام الشجاعة لأنهم ما وصلوا إلى ما وصل إليه ولا يمكن أن تكون عندهم أهلية كالأهلية التي حصلت لهذا العبد، أعد هذا.  

متن: ولنضرب لذلك مثالًا يتبين به، وهو ملك له عبد قد تَوَحَّدَ في العالم بالشجاعة والبسالة.

شرح: تَوَحَّدَ في العالم يعني هو الوحيد، مثل ما يقول الملاكم الفلاني، الملاكم الدولي، ملاكم شخص ما له نظير، وهذا توحَّد في العالم، كل تسامعوا به الناس أن هذا شجاع وليس له نظير، لا بد يُنظر الآن، لابد يظهر للناس حتى يصدقون، بالفعل ما يكفي إنه اشتهر، نعم.

متن: والناس بين مصدق ومكذب.

شرح: يقولون صحيح هذا هو الوحيد في العالم؟! ما يصدق ولا يكذب، لكن لما حصل بالفعل وقابل الشجعان وغلبهم، خلاص ظهر اتضح لكل أحد، زال الشك والتكذيب من المكذبين، والشك من الشاكين، نعم.

متن: فمن قائل: هو كذلك ومن قائل: هو بخلاف ما يظن به فإنه لم يقابل الشجعان ولا واجه الأقران، ولو نازل الأقران وقابل الشجعان لظهر أمره وانكشف حاله. فسمع به شجعان العالم وأبطالهم فقصدوه من كل أوب وأتوه من كل قطر، فأراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة فمكن تلك الشجعان والأبطال من منازلته ومقاومته وقال: دونكم وإياه وشأنكم به.

شرح: قال تقابلوا أيكم يغلب الآخر، تقابلوا حتى يظهر قوته وشجاعته وحتى يتبين فيما بعد أنهم ليسوا أهلًا لأن يتولوا الأعمال التي قام بها هو، نعم.

متن: فهل تسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه إلا لإعلاء شأنه وإظهار شجاعته في العالم وتخويف أعدائه به، وقضاء الملك أوطاره به، وكما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته وحصول مقصوده بذلك، فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادَّعى مقاومته وظهور عجزهم وفضيحتهم وخزيهم وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمات الملك وحوائجه فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته وعدل بها عنهم.

شرح: كان مصيبًا، خلاص، إذا عدل بهم ولم يعطهم المهمات التي أعطاها للعبد كان مصيب في هذا ، حصل تجربة، حصل فعل، نعم.

متن: فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته وعدل بها عنهم، كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرفه في ملكه وأنه لو استعملهم في تلك المهمات لتشوش أمر المملكة.

شرح: لو استعمل أولئك الذين قابلوه وعجزوا، لو وظَّفهم في أمورٍ ليسوا أهلًا لها لتشوش الملك، نعم.

متن: لتشوش أمر المملكة وحصل الخلل والفساد والله أعلم حيث يجعل رسالته وهو أعلم بالشاكرين.

والمقصود أن خلق الأسباب المضادة للحق وإظهارها في مقابلة الحق من أبين دلالاته وشواهده، فكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت بها تلك الحكمة.

شرح: الكافر يقابل المؤمن والشرك يقابل التوحيد، وهكذا، والباطل يقابل الحق،  والمعصية تقابل الطاعة، والشر يقابل الخير، وهكذا المتفرع، الليل يقابل النهار، والحر يقابل البرد، والبرودة تقابل الحرارة، والملامسة تقابل الخشونة، وهكذا، انظروا قدرة الله على المتقابلات، وظهور ما في ذلك من الحكم والأسرار، نعم.

متن: والمقصود أن خلق الأسباب المضادة للحق وإظهارها في مقابلة الحق من أبين دلالاته وشواهده، فكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت بها تلك الحكمة وهي أحب إلى الله تعالى من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب. والله أعلم.

[فصل وللناس في دخول الشر في القضاء الإلهي طرق]

فضيلة الشيخ : كفى، كلام عظيم رحمه الله، ابن القيم رحمه الله جهبذ، سبحان الذي أعطاه وفهَّمه.

 

logo
2025 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد