بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ ابن حبان رحمنا الله وإياه في صحيحه:
باب ما جاء في الابتداء بحمد الله تعالى
ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ابتداء الحمد لله جل وعلا في أوائل كلامه عند بغية مقاصده
1 - أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي العشرين، قال: حدثنا الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله، فهو أقطع».
(الشرح)
الحديث فِيهِ ضعيف لكن له شواهد, إسناده ضعيف لضعف قرة - وهو ابن عبد الرحمن بن حيوئيل المعافري المصري - ضعفه ابن معين، وأحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي.
وأخرجه أحمد 2/359 من طريق عبد الله بن المبارك، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم "494"، وأبو داود"4840" في الأدب: باب الهدي في الكلام.
الحديث المشهور أَنَّهُ ضعيف لكن له طرق متعددة, قَدْ يكون له شواهد, قَدْ يشهد له ما بعده.
(المتن)
ذكر الأمر للمرء أن تكون فواتح أسبابه بحمد الله جل وعلا لئلا تكون أسبابه بترًا
2 - أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان أبو علي بالرقة، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله، أقطع».
(الشرح)
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف، وهو مكرر ما قبله.
ما في خلاف؟ ما في خلاف قوله في الأول: «فَهُوَ أقطع», وفي الآخر «أقطع».
والحديث يدور عَلَى قرة, المؤلف رحمه الله كرر التراجم كثيرًا حَتَّى تستنبطوا الفوائد.
أي: أن إسناده ضعيف لـ قرة كذلك.
(المتن)
باب الاعتصام بالسنة، وما يتعلق بها نقلا وأمرًا وزجرًا
3 - أخبرنا أبو يعلى، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو أسامة، حدثنا بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش، وإني أنا النذير، فأطاعه طائفة من قومه، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش وأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق».
(الشرح)
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وفي لفظ «أنا النذير العريان» والنذير العريان, والنذير العريان أصله أن رجلاً كَانَ بعيد عَنْ قومه, وَقَدْ أقبل جيش العدو يريد أن يجتاحهم وَهُوَ بعيد عنهم يريد أن يخبرهم وَهُوَ بعيد, جعل يلوح بيده وخلع ثوبه من شدة المبالغة, فصار مثلاً: النذير العريان, ولهذا قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أنا النذير العريان», فشبه نفسه عليه الصلاة والسلام بالنذير الناصح، كالرجل الذي خلع ثوبه وصار عريانًا من شدة نصحه وتحذيره لقومه، فهذا المثل ضربه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لمن اعتصم بالسنة وعمل بالكتاب فَإِنَّهُ ينجو, ومن ترك الكتاب وَالسُّنَّة هلك.
فمن أطاع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يكون ناجيًا ومن عصاه يكون هالكًا, كالذي يأتي لقومه وَهُوَ الناصح الَّذِي يَقُولُ: صبحكم الجيش يحذرهم, فأطاعه قومٌ فذهبوا ونجوا, وكذبه آخرون فبقوا فجاءهم العدو واجتاحهم.
(المتن)
4 - وقال صلى الله عليه وسلم: «إن مثل ما آتاني الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت ذلك، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».
(الشرح)
وَهَذَا رواه البخاري من حديث أبي موسى, وَفِيهِ تقسيم النَّاس إِلَى ثلاثة أقسام كالأرض, قسم الأرض:
طائفة قبلت الماء أنبتت الكلأ والعشب الكثير, قَالَ العلماء هَذَا مثل العلماء الَّذِينَ تعلموا وتفقهوا, حفظوا الأحاديث, تعلموا وتفقهوا وفجروا ينابيع النصوص, فانتفعوا بأنفسهم ونفعوا غيرهم.
والطائفة الثانية: إِنَّمَا هِيَ قيعان أمسكت الماء فشرب النَّاس وسقوا وزرعوا, مثلها مثل المحدثين الَّذِينَ حفظوا الأحاديث وضبطوها وأرسلوها إِلَى من بعدهم, ولكن ليسوا كالطائفة الأولى الَّذِينَ تفقهوا في النصوص وتفهموا معانيها, مثل القاع, فالقاع الَّذِي يمسك النَّاس, فيأتي النَّاس ويستفيدون منه, كَذَلِكَ المحدثون حفظوا الأحاديث وأرسلوها إِلَى غيرهم فاستفادوا مِنْهَا.
والطائفة الثالثة: الأجادب لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ, لا تستفيد بنفسها ولا تفيد غيرها, وَذَلِكَ مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله بِهِ يَقُولُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فعلم وعلم «ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».
الأجادب ما قبل هدى الله ما استفاد ولا أفاد, ما قبل هدى الله, لَمْ يقبل النصوص, وَلَمْ يستفد مِنْهَا.
فَإِن قِيلَ: أحسن الله إليك الحديث قسم قسمين, فكانت منها طائفة طيبة قبلت ذلك، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا؟ في البخاري فِيهِ تفصيل, في حديث أبي موسى في البخاري « «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
القيعان هِيَ الَّتِي لا تمسك الماء, الَّتِي يذهب الماء في داخلها ولا تنبت.
(المتن)
ذكر وصف الفرقة الناجية من بين الفرق التي تفترق عليها أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم
5 - أخبرنا أحمد بن مكرم بن خالد البرتي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، حدثني خالد بن معدان، حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وحجر بن حجر الكلاعي، قالا: أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه}[التوبة/92]، فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا مجدعًا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث فِيهِ الحث عَلَى لزوم الكتاب وَالسُّنَّة, وَفِيهِ السمع وطاعة لولاة الأمور في طاعة الله, وفي الأمور المباحة, أَمَّا المعاصي فلا, هَذَا مقيد بالحديث الآخر: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, إِنَّمَا الطاعة في المعروف».
قوله: «وإن كَانَ عبدًا حبشيًا», يَعْنِي وإن كَانَ عابدًا حبشيًا, يَجِبُ السمع والطاعة لولي الْأَمْرِ إذا ثبتت له البيعة بالانتخاب أو بولاة العهد أو بالغلة والقوة وَجَبَ السمع له والطاعة, في طاعة الله في الأمور المباحة, وإن كَانَ عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف.
لِأَنَّ هَذَا فِيهِ استتباب الأمن, وَفِيهِ اجتماع الكلمة, أَمَّا الخروج عَلَى ولاة الأمور ففيه الفوضى والاضطراب وإراقة الدماء, واختلاف الكلمة وتربض البعض بهم الدوائر, ولهذا فَإِن الخروج عَلَى ولاة الأمور من كبائر الذنوب, إِلَّا إِذَا كفر كفرًا صريحًا واضحًا كما في الحديث عندكم «من الله فِيهِ برهان». ووجد البديل واستطاع النَّاس.
(المتن)
قال أبو حاتم في قوله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي» عند ذكره الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنن، قال بها، ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنه.
(الشرح)
المؤلف هُوَ أبو حاتم وَهُوَ ابن حبان, يَعْنِي اللي ويواظب عَلَى السنن يَقُولُ بها ويعمل بها.
(المتن)
ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحفظه نفسه عن كل من يأباها من أهل البدع، وإن حسنوا ذلك في عينه وزينوه
6 - أخبرنا إبراهيم بن علي بن عبد العزيز العمري بالموصل، حدثنا معلى بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، فقال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: «وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»، ثم تلا: «{وأن هذا صراطي مستقيمًا} إلى آخر الآية[الأنعام/153]».
(الشرح)
قال: إسناده حسن معلى بن مهدي هُوَ الموصلي قَالَ فِيهِ أبو حاتم في الجرح والتعديل: شيخ يحدث أحيانًا بالحديث المنكر.
والحديث اللي قبله: إسناده صحيح.
والحديث فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإنسان أن يستقيم عَلَى صراط الله وأن يلزم الْحَقِّ وَهُوَ صراط الله وما جاء بِهِ الرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم وَهُوَ دين الله وَهُوَ الإسلام وَهُوَ ما جاء في الْقُرْآن هَذَا هون الخط المستقيم, من استقام عَلَيْهِ استقام عَلَى الصراط الحسي يوم القيامة, وعبر الصراط, وَهَذِهِ الخطوط المتعرجة عَنْ يمينه وَعَنْ شماله هِيَ سبل الضلال.
(المتن)
ذكر ما يجب على المرء من ترك تتبع السبل، دون لزوم الطريق الذي هو الصراط المستقيم
7 - أخبرنا علي بن الحسين بن سليمان المعدل بالفسطاط، قال: حدثنا الحارث بن مسكين، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني حماد بن زيد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو له»، ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيمًا، فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}[الأنعام/153]. الآية كلها الأنعام.
(الشرح)
رحمه الله كرر التراجم من أجل استنباط الأحكام.
(المتن)
ذكر البيان بأن من أحب الله جل وعلا وصفيه صلى الله عليه وسلم، بإيثار أمرهما، وابتغاء مرضاتهما على رضا من سواهما، يكون في الجنة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
8 - أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن أعرابيًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا هم أجدر أن يسألوه من أصحابه، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟، قال: «وما أعددت لها؟ » قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال: «فإنك مع من أحببت» قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام أشد من فرحهم بقوله.
(الشرح)
من آثر محبة الله ومحبة الصفي يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, من أحب الله وأحب رسوله آثر العمل بأوامر الله ورسوله, وانتهى عَنْ ما نهى الله عنه أو نهى عنه رسوله, هَذَا هُوَ دَلِيل المحبة, {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي}[آل عمران/31]؛ من أحب الله امتثل أمره من أحب رسوله امتثل أمره واجتنب النهي.
الحديث صحيح ثابت رواه الشيخان, وَهَذِهِ بشارة لكل مؤمن يحب الله ورسوله أَنَّهُ يحشر معه, لكن المحب يجاهد نفسه؛حَتَّى يعمل بعمل من أحبه, هُوَ يجتهد في العمل المحب الصادق في محبته هُوَ الَّذِي يجتهد في العمل بما يعمل بِهِ محبوبه؛ حَتَّى يلحق بِهِ, فَإِذَا حصل تقصير, فَإِن المحبة تجبر هَذَا النقص, أَمَّا من يدعي المحب وَهُوَ يجلس ولا يعمل هَذَا لَيْسَ صادقًا في محبته, الصادق في محبته هُوَ الَّذِي يبذل وسعه في أن يقتضي بمن يحبه ويعمل بِهِ.
الصادق في محبة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هون الَّذِي يقتضي بِهِ ويتأسى بِهِ في أقواله وأفعاله, هَذَا و الصادق, فإذا حصل النقص جبر هَذَا لنقص المحبة, لكنه يبذل وسعه في العمل واللحاق بمحبوبه.
(المتن)
ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم هدي المصطفى بترك الانزعاج عما أبيح من هذه الدنيا له بإغضائه
9 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال: حدثنا ابن أبي السري، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخلت امرأة عثمان بن مظعون، واسمها خولة بنت حكيم على عائشة وهي بذة الهيئة، فسألتها عائشة: ما شأنك؟، فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت عائشة ذلك له فلقي النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون، فقال: «يا عثمان، إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك في أسوة حسنة؟ فوالله إني لأخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده» صلى الله عليه وسلم.
(الشرح)
وهو في "مصنف" عبد الرزاق برقم"10375"، ومن طريقه أخرجه أحمد 6/226، والبزار "1458" وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين.
ينبغي للإنسان ألا يترك ما أباح الله من المباحات وَهَذَا مثل حديث الرهط الَّذِينَ جاءوا إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وسألوا أزواج النَّبِيّ عَنْ عبادته في السر, فكأنهم تقالوها, قَالَ أحدهم: أَمَّا أنا أصلي ولا أنام, وَقَالَ الثاني: أَمَّا أنا فأصوم ولا أفطر, وَأَمَّا الثالث قَالَ: فلا أتزوج النساء, فَلَمَّا جاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأخبر خبرهم قَالَ: «ما بال رجالٌ يَقُولُونَ كذا وكذا, ولكني أخشاكم لله وأتقاكم لله, ولكن أصلي وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم, وأتزوج النساء, فمن رغب عَنْ سنتي فَلَيْسَ مني».
فينبغي للإنسان أن يزلم هدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وألا يترك ما أباح الله وأن ينصرف إِلَى نوع من العبادة ويقصر في الأنواع الأخرى؛ لِأَنَّ الإنسان إِذَا انصرف إِلَى صلاة الليل أو الصوم أخل بالواجبات الأخرى, أخل بالكسب له ولأولاده, وقصر في حَقّ الضيوف, وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يعط جسده حقه, ولهذا قَالَ النَّبِيّ لسلمان لَمَّا كَانَ زار أبا الدرداء وَقَدْ آخى بينه وبين أبي الدرداء, كانت أم الدرداء متبذلة فسألها سلمان, فقالت: إن أخاك أبا الدرداء لَيْسَ له حاجة في الدنيا, فزار أبا الدرداء سلمان فقدم له طعام, قَالَ أو الدرداء لسلمان: قل فإني صائم, فَقَالَ: لا آكل حَتَّى تأكل, فأفطر فأكل, ثُمَّ نام, فَلَمَّا أراد أبو الدرداء أن يقوم من الليل قَالَ: نم, فَلَمَّا مضى جزء من الليل أراد أن يقوم قَالَ: نم, فَلَمَّا مضى نصف الليل أراد أن يقوم قَالَ: نم, فَلَمَّا كَانَ آخر الليل قَالَ: قم الآن, فقام وصليا, ثُمَّ قَالَ له سلمان: إن لنفسك عليك حَقّ وإن لأهلك عليك حقًا, وإن لزوجك عليك حقًا, فاعط كُلّ ذي حقٍ حقه, فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صدق سلمان، صدق سلمان, صدق سلمان».
قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني بأسانيد، وبعض أسانيد الطبراني رجالها ثقات.
(المتن)
ذكر الإخبار عما يجب على المرء من تحري استعمال السنن في أفعاله، ومجانبة كل بدعة تباينها، وتضادها
10 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه نذير جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين» يفرق بين السبابة والوسطى ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»، ثم يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضيعة فإلي وعلي».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث رواه الشيخان, ومن أصح الحديث يه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خطب يلقي خطبته بشجاعة وحماس؛ لِأَنَّ بَعْضُ خطبائنا يلقي الخطبة كَأَنَّهُ ميت, الخطبة تحتاج إِلَى شجاعة وحماس, كَانَ إِذَا خطب احمر وجهه وعلا صوته كَأَنَّهُ منذر جيش, يَقُولُ: صبحكم ومساكم عليه الصلاة والسلام؛ لِأَنَّ هَذَا أوقع في نفوس السامعين, إِذَا ألقاها بقوة وشجاعة ووضوح.
وَفِيهِ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ في خطبة الجمعة: أَمَّا بَعْد, يشرع للإنسان أن يَقُولُ: أَمَّا بَعْد, في الخطب وفي الكتب, وَهُوَ ا,لى من قول بَعْضُهُمْ وَبَعْد, أَمَّا بَعْدَ أولى ومن قول: وَبَعْد.
وَكَانَ يَقُولُ في خطبة الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»، وَهَذَا هون الشاهد من الحديث أَنَّهُ ينبغي لزوم هدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ خير الهدي هدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, وَفِيهِ التحذير من البدع وَأَنَّهَا كلها ضلال, وما قاله بَعْضُ العلماء من تقسيم البدع إِلَى بدع حسنة وبدع سيئة لَيْسَ بجيد, والصواب أن البدع كلها سيئة, البدع كلها ضلال؛ لِأَنَّ كُلّ بدعة ضلالة, لَيْسَ في بدع شَيْء حسن.
(المتن)
ذكر إثبات الفلاح لمن كانت شرته إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم
11 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال: حدثنا أبو خيثمة، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل عمل شرة، وإن لكل شرة فترة، فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت شرته إلى غير ذلك فقد هلك».
(الشرح)
إسناده صحيح عَلَى شرطهما, الشرة يَعْنِي النشاط والقوة, كُلّ عمل له نشاط وقوة, من كَانَ نشاطه وقوته للسنة فقد أفلح, ويعتري هَذَا فترة, لِأَنَّ النشاط والقوة يعتريها فترة, هَذَا فِيهِ الحث عَلَى لزوم السنن, أَنَّهُ ينبغي أن يكون نشاط الإنسان وقوته في العمل بالسنة.
قال الطحاوي: فوفقنا بذلك على أنها هي الحدة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عز وجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب منهم فيها ما دون الحدة التي لا بد من القصر عنها والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه ولزومهم إياه، حتى يلقوا ربهم عز وجل عليه.
(المتن)
ذكر الخبر المصرح بأن: سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها عن الله لا من تلقاء نفسه
12 - أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص، حدثنا كثير بن عبيد المذحجي، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن مروان بن رؤبة، عن ابن أبي عوف، عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إني أوتيت الكتاب وما يعدله، يوشك شبعان على أريكته أن يقول: بيني وبينكم هذا الكتاب، فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا وإنه ليس كذلك».
(الشرح)
وَهَذَا فِيهِ بيان أن السن وحي من الله عز وجل وَأَنَّهُ لَابُدَّ من الأخذ بالسنة, من لَمْ يأخذ بالسنة فَهُوَ كافر, ومن أنكر السُّنَّة كفر, قَالَ تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[الحشر/7].
فِيهِ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ألا إني أوتيت الكتاب وما يعدله»، وَهِيَ السُّنَّة «يوشك شبعان على أريكته», عَلَى سريره ينكر السُّنَّة يَقُولُ:«بيني وبينكم هذا الكتاب، فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه»، يَعْنِي ولا يعمل بالسنة «ألا وَإِنَّهُ ليس كذلك».
إسناده قوي أخرجه الترمذي والطبراني والبيهقي وأحمد وابن ماجة بطرق.
بَعْضُ النَّاس من لمتأخرين يسمون القرآنيين يدعون أَنَّهُمْ ما يعملون إِلَّا بالقرآن وهم كذبة, لو كَانَ يعمل بالقرآن لعمل بالسنة؛ لِأَنَّ الله يَقُولُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[الحشر/7].
(المتن)
13 - حدثنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن مالك بن أنس، عن سالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعرفن الرجل يأتيه الأمر من أمري، إما أمرت به، وإما نهيت عنه، فيقول ما ندري ما هذا، عندنا كتاب الله ليس هذا فيه».
(الشرح)
وَهَذَا تحذير من هَذَا العمل أن الإنسان يَقُولُ: يأتينا أمر من الرَّسُوْل فيقول: ما أعرف هَذَا, إِنَّمَا عندنا كتاب الله يكفينا, يَعْنِي ينكر السُّنَّة, ما يعمل بالسنة, السُّنَّة وحي من الله من أنكرها كفر.
(المتن)
ذكر الزجر عن الرغبة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله جميعًا
14 - أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حدثنا محمد بن أبي صفوان الثقفي، حدثنا بهز بن أسد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
(الشرح)
وَهَذَا رواه الشيخان وَفِيهِ الحث عَلَى لزوم السُّنَّة والعمل بها, وأن هدي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أكمل الهدي, وأن ما يفعله بَعْضُ النَّاس من زعمه أن يعمل عملاً زائدًا عَلَى السُّنَّة هَذَا ضلال, لكن الصَّحَابَة هؤلاء فعلوه من باب الاجتهاد, فزجرهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فانتهوا.
(المتن)
فصل ذكر البيان بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمته بما يحتاجون إليه، من أمر دينهم قولًا وفعلاً معًا
15 - أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولي، حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: حدثني إبراهيم بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، فقال: «يعمد أحدهم إلى جمرة من النار، فيجعلها في يده»، فقيل للرجل بعدما ذهب: خذ خاتمك، فانتفع به، فقال: لا والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الشرح)
وَهَذَا فيه تحريم لبس الذهب للرجال؛ لِأَنَّهُ لا يجوز للرجل أن يلبس الذهب, لكن يجوز له أن يتختم بخاتم من فضة, ثبت أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ في أول الْأَمْرِ يلبس خاتم من ذَهَبَ, وَالصَّحَابَة يلبسون خواتم من ذَهَبَ, ثُمَّ جاء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فنزعه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فنزعه أصحابه خواتمهم, فحرم بِذَلِكَ الذهب عَلَى الرجال.
والحديث أخرجه مسلم.
قوله: (فصل ذكر البيان بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمته بما يحتاجون إليه، من أمر دينهم قولًا وفعلاً معًا), وَهَذَا من أمر دينهم يتعلق بدينهم, نهى هَذَا الرجل عَنْ التختم بالذهب وَهُوَ نهي لِلْأُمَّة كلها؛ لِأَنَّ الشريعة عامة.
(المتن)
ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشيء، لا يجوز إلا أن يكون مفسرًا يعقل من ظاهر خطابه
16 - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نودي بالأذان، أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل يخطر بين المرء ونفسه: اذكر كذا، اذكر كذا , لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى، فإذا لم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس».
(الشرح)
وَهَذَا رواه الشيخان وَفِيهِ حرص الشيطان عَلَى ابن آدم, وَأَنَّهُ حريص عَلَى إفساد العبادة, وَفِيهِ أن ذكر الله يضايق الشيطان وَأَنَّهُ لا بقى معه, إِذَا نودي بالأذان أقبل الشيطان وله ضراط؛ حَتَّى يشوش عَلَى نفسه حَتَّى لا يسمع الأذان, ثُمَّ يقبل فإذا سمع تثويب وَهِيَ الإقامة؛ لِأَنَّهُ رجوع إِلَى النداء مرة أخرى, هرب, ثُمَّ يقبل فيوسوس للإنسان يقترب بينه وبين نفسه؛ حَتَّى يَقُولُ: اذكر كذا, اذكر كذا, فلا يزال يوسوس له حَتَّى لا يدري كما صلى, نسأل الله العافية.
أخرجه مسلم والبخاري وأحمد والنسائي.
والإنسان إِذَا شك في صلاته وَلَمْ يَبْقَ عنده غلة ظن فَإِنَّهُ يسجد سجدتين قبل الصَّلَاة, فَإِن كَانَ عنده غلبة ظَن يتم صلاته؛ ثُمَّ يسجد سجدتين ثُمَّ يسلم عَلَى ما جاء في حديث ابن مسعود.
أَمَّا إِذَا كَانَ عنده غلبة ظَن كما في حديث أبي سعيد فَإِنَّهُ يسجد سجدتين قبل السلام.
(المتن)
قال أبو حاتم رضي الله عنه: أمره صلى الله عليه وسلم لمن شك في صلاته فلم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس، أمر مجمل، تفسيره أفعاله التي ذكرناها، لا يجوز لأحد أن يأخذ الأخبار التي فيها ذكر سجدتي السهو قبل السلام، فيستعمله في كل الأحوال، ويترك سائر الأخبار التي فيها ذكره بعد السلام، وكذلك لا يجوز لأحد أن يأخذ الأخبار التي فيها ذكر سجدتي السهو بعد السلام، فيستعمله في كل الأحوال، ويترك الأخبار الأخر التي فيها ذكره قبل السلام.
(الشرح)
لَابُدَّ من أن يضم الأدلة بعضها إِلَى بَعْضُ, النصوص تضم بعضها إلى بعض.
(المتن)
ونحن نقول: إن هذه أخبار أربع يجب أن تستعمل، ولا يترك شيء منها، فيفعل في كل حالة مثل ما وردت السنة فيها سواء، فإن سلم من الاثنتين أو الثلاث من صلاته ساهيًا، أتم صلاته وسجد سجدتي السهو بعد السلام، على خبر أبي هريرة، وعمران بن حصين اللذين ذكرناهما، وإن قام من اثنتين ولم يجلس أتم صلاته وسجد سجدتي السهو قبل السلام على خبر ابن بحينة، وإن شك في الثلاث أو الأربع يبني على اليقين على ما وصفنا.
(الشرح)
عَلَى حديث أبي سعيد, المعنى أَنَّهُ لَابُدَّ أن تضم النصوص بعضها إِلَى بَعْضُ ويعمل بالنصوص كلها.
(المتن)
وسجد سجدتي السهو قبل السلام، على خبر أبي سعيد الخدري، وعبد الرحمن بن عوف وإن شك ولم يدر كم صلى أصلا تحرى على الأغلب عنده وأتم صلاته، وسجد سجدتي السهو بعد السلام، على خبر ابن مسعود الذي ذكرناه، حتى يكون مستعملاً للأخبار التي وصفناها كلها، فإن وردت عليه حالة غير هذه الأربع في صلاته، ردها إلى ما يشبهها من الأحوال الأربع التي ذكرناها.
ذكر إيجاب الجنة لمن أطاع الله ورسوله، فيما أمر ونهى
17 - أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ببست، ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم، مولى ثقيف بنيسابور قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد على الله كشراد البعير»، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى».
قال أبو حاتم: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الانقياد لسنته بترك الكيفية والكمية فيها، مع رفض قول كل من قال شيئا في دين الله جل وعلا بخلاف سنته دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة، والمخترعات الداحضة.
(الشرح)
يَجِبُ عَلَى الإنسان أن يُسلّم لله ولرسوله, وأن يقبل الأوامر والنواهي, ولا يتأول تأويلات باطلة. أخرجه البخاري.
(المتن)
ذكر البيان بأن المناهي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، والأوامر فرض على حسب الطاقة على أمته، لا يسعهم التخلف عنها
18 - أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وسفيان، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه، فانتهوا، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم».
قال ابن عجلان: فحدثت به أبان بن صالح، فقال لي: ما أجود هذه الكلمة قوله: «فأتوا منه ما استطعتم».
(الشرح)
وَهَذَا دَلِيل عَلَى أن النواهي تترك يا, وَأَمَّا الأوامر فَإِنَّهُ يفعل ما يستطيع, لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن/16].
لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صل قائمًا فَإِن لَمْ تستطع فقاعدًا فَإِن لَمْ تستطع فعلى جنب», فالأوامر يأتي الإنسان مِنْهَا ما يستطيع, وَأَمَّا النواهي فيجب تركها والبعد عنها.
والحديث إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين ما عدا إبراهيم بن بشار الرمادي, وهون حافظ ثقة, أبو الزناد هُوَ عبد الله بن ذكوان, والأعرج هُوَ عبد الرحمن بن هرمز, والطريق الثاني سنده حسن وأخرجه مسلم في الفضائل.
(المتن)
ذكر البيان بأن النواهي سبيلها الحتم، والإيجاب إلا أن تقوم الدلالة على ندبيتها
19 - حدثنا عمر بن محمد الهمداني، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم».
(الشرح)
الأصل في النواهي هِيَ المنع هَذَا هُوَ الأصل, إِلَّا إِذَا وجد صارف يصرفها؛ كما جاء عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عَنْ الشرب قائمًا؛ ثُمَّ شرب قائمًا في زمزم لَمَّا أتاهم وهم يسقون, فانصرف النهي عَنْ التحريم إِلَى التنزيه, صار الشرب قائمًا جائز والشرب قاعدًا أفضل, وَإِلَّا فأصل النهي التحريم.
(المتن)
20 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا ابن أبي السري، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وما أمرتكم بالأمر، فأتوا منه ما استطعتم».
(الشرح)
أخرجه أحمد ومسلم.
والحديث الَّذِي قبله: عند البخاري برقم "7288" في: الاعتصام: باب الاقتداء بسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقدم ذكر طرقه فيما قبله.
(المتن)
21 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا ابن أبي السري، قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بسؤالهم واختلافهم عَلَى أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بالشيء، فأتوا منه ما استطعتم».
(الشرح)
وَهَذَا دَلِيل عَلَى أن المناهي تترك, أَمَّا الأوامر يفعل ما يستطيع مِنْهَا, رواه ابن ماجة بِهَذَا اللفظ.
(المتن)
ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بشيء» أراد به من أمور الدين، لا من أمور الدنيا
22 - أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة وثابت، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتا، فقال: «ما هذه الأصوات؟ »، قالوا: النخل يأبرونه، فقال: «لو لم يفعلوا لصلح ذلك»، فأمسكوا، فلم يأبروا عامته، فصار شيصا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإذا كان شيء من أمر دينكم فإلي».
(الشرح)
هَذَا فِيهِ دَلِيل عَلَى أن قوله: «إِذَا أمرتك بِأَمْرِ فأتوا», يَعْنِي من أمور الدين, أَمَّا أمور الدنيا جاء في اللفظ الآخر: «أنتم أعلم بأمور دنياك», لَمَّا رآهم يلقحون النخل قَالَ: هلا تركتموه فتركوه فصار شيصًا في تلك السنة, فَقَالَ: «أنتم أعلم بأمور ديناكم».
وإسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه أحمد 6/123، ومسلم "2363" في الفضائل: باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي.
(المتن)
ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «فما أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم» أراد به: ما أمرتكم بشيء من أمر الدين، لا من أمر الدنيا
23 - أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، قال: حدثنا عبد الله بن الرومي، قال: حدثنا النضر بن محمد، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو النجاشي، قال: حدثني رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يؤبرون النخل يقول يلقحون، قال: فقال: «ما تصنعون؟ »، فقالوا: شيئًا كانوا يصنعونه، فقال: «لو لم تفعلوا كان خيرًا»، فتركوها فنفضت، أو نقصت، فذكروا ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، إذا حدثتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا حدثتكم بشيء من دنياكم، فإنما أنا بشر».
(الشرح)
قوله: (ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «فما أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم» أراد به: ما أمرتكم بشيء من أمر الدين، لا من أمر الدنيا), هَذَا مثل الترجمة السابقة.
والتأبير هُوَ التلقيح وَهُوَ أن يؤخذ شَيْء من طلع نخل الذكر ويجعل في طلع النخل الأنثى.
(المتن)
ذكر نفي الإيمان عمن لم يخضع لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اعترض عليها بالمقايسات المقلوبة، والمخترعات الداحضة
24 - أخبرنا أبو خليفة، حدثنا أبو الوليد، حدثنا ليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير حدثه، أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك»، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر»، قال الزبير: فوالله لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء/65].
(الشرح)
قوله: «أن كَانَ ابن عمتك», يَعْنِي لأجل أن كَانَ ابن عمتك.
وَهَذَا الحديث رواه ملم في صحيحه, وَفِيهِ أن الأنصاري اختصم من الزبير في شراج الحرة, الشراج يَعْنِي مسير الماء, مسير من (..) وَذَلِكَ أن الصَّحَابَة لهم مزارع فيسقون من المطر ومن الوادي إِذَا سال, يسقى الأول فالأول, الأعلى ثُمَّ من بعده, ثُمَّ من بعده وهكذا, إِذَا جاء السيل يبدأ الأول فالأول, الأعلى ثُمَّ الأسفل, وَكَانَ الزبير أعلى والأنصارى بعده.
فَلَمَّا مر الماء المطر عَلَى الزبير وَهُوَ يسقي قَالَ الأنصاري: سرف الماء, اجعل الماء يمر عَلَى بستاني, فأبى عَلَيْهِ الزبير؛ حَتَّى يرتوي ثُمَّ يرسله, فشكاه إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم للزبير: «اسقي يا زبير ثُمَّ أرسل الماء إِلَى جارك», فغضب الأنصاري وَقَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: أن كَانَ ابن عمتك, يَعْنِي لأجل أن كَانَ ابن عمتك, يَعْنِي حفت وجعلته يسقي ويبلغ الماء الأرض ثُمَّ,, فتلون وجه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أغضبه الأنصاري في اللفظ الآخر: «استوعى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم, وَكَانَ في الأول أشار عَلَيْهِ بالصلح, قَالَ: اسقي ثُمَّ سرح الماء إِلَى جارك, فَلَمَّا أغضبه الأنصاري أعطاه الحكم الصريح, قَالَ: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثُمَّ أرسل الماء إِلَى جارك»، والجدر هَذَا مرتفع بمقدار ما يغطي الرجل هَذَا الحكم الشرعي, يَعْنِي يسقي بمقدار ما يغطي الرجل ثُمَّ يرسله إِلَى جاره.
ثُمَّ الثاني يأخذ الماء؛ حَتَّى يغطي الماء الرجل ثُمَّ يرسل إِلَى جاره وهكذا, في الأول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه الصلح قَالَ: اسق يا زبير ثُمَّ أرسل الماء إِلَى جارك, الزبير ما هُوَ مستوفي الماء؛ حَتَّى يصل إِلَى الجدر, يريد أن يأخذ الماء ثُمَّ يرسله, فَلَمَّا أغضبه الأنصاري استوفى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم, قال الزبير: فوالله لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء/65].
هَذَا الرجل يحتمل أَنَّهُ منافق من المنافقين, من الأنصار؛ لِأَنَّ النافق من الأنصار, ويحتمل أَنَّهُ شدة الغضب وغير وتكدر, وَلَمْ يتبين ما في هَذِهِ الكلمة,، والمؤلف ابن حبان رحمه الله حمل عَلَى أَنَّهُ منفي عنه الإيمان, وَأَنَّهُ منافق, ولهذا في الترجمة قَالَ: (ذكر نفي الإيمان عمن لم يخضع لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اعترض عليها بالمقايسات المقلوبة، والمخترعات الداحضة).
ابتلي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا وأمثاله, مثل الرجل الَّذِي اعترض عَلَيْهِ وَقَالَ: اعدل يا محمد فإنك لَمْ تعدل, قسمةٌ ما أريد بها وجه الله, إِذَا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أشرف الخلق اعترض عَلَيْهِ بِهَذَا, فكيف يرجوا الإنسان بعده السلامة من النَّاس؟! ما يسلم من النَّاس أحد.
وَهَذَا الحديث إسناده صحيح عَلَى شرط الشيخين, أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة ومسلم.
(المتن)
ذكر الخبر الدال على أن من اعترض على السنن بالتأويلات المضمحلة، ولم ينقد لقبولها كان من أهل البدع
25 - أخبرنا أبو يعلى، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن عبد الرحمن بن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال: بعث علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهب في أدم، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين زيد الخيل، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وعلقمة بن علاثة، فقال أناس من المهاجرين والأنصار: نحن أحق بهذا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فشق عليه، وقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباحًا ومساء؟ » فقام إليه ناتئ العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الوجه كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله، اتق الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو لست بأحق أهل الأرض أن أتقي الله؟ » ثم أدبر، فقام إليه خالد سيف الله فقال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: «لا، إنه لعله يصلي»، قال: إنه رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال: «إني لم أومر أن أشق قلوب الناس، ولا أشق بطونهم»، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو مقفى، فقال: «إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» قال عمارة فحسبت أنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.
(الشرح)
المعروف قتل عاد, وَكَانَ هَذَا جامع بين حديثين يظهر أن حديث الخوارج غير حديث لَمْ أؤمر أن أنقب عَنْ قلوبهم, إن هَذَا الرجل لَمَّا اعترض عَلَيْهِ قَالَ: إنه سيخرج من ضئضئ هَذَا قوم تحقرون صلاتكم, وليس فِيهِ أَنَّهُ يصلي.
إسناده صحيح عَلَى شرط الشيخين وأخرجه البخاري, لكن كَانَ في جمع بين حديثين, حديث«إني لم أومر أن أشق قلوب الناس، ولا أشق بطونهم»، هَذَا حديث غير حديث الذهيبة عندما النَّبِيّ وزعها, هَذَا حديث وَهَذَا حديث.
إسناده صحيح على شرط الشيخين: أبو خيثمة: هو زهير بن حرب، وجرير: هو ابن عبد الحميد، وأخرجه مسلم "1064" "145" في الزكاة: باب ذكر الخوارج وصفاتهم، من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، بهذا الإسناد.
وَفِيهِ أن هَذَا الرجل مبتدع, هَذَا عل القول بأن الخوارج مبتدعة, وَهُوَ الَّذِي مشى عَلَيْهِ الصَّحَابَة, بدعوا الخوارج هَذَا أصل الخوارج, قَالَ: «يخرج من ضئضئ هَذَا قوم تحقرون صلاتكم إِلَى صلاتهم».
ومن العلماء من كفرهم, وفي رواية عَنْ الإمام أحمد قولي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية», وَفِيهِ «لأقتلنهم قتل عاد», وهنا «قتل ثمود».
(المتن)
ذكر الزجر عن أن يحدث المرء في أمور المسلمين، ما لم يأذن به الله ولا رسوله
26 - أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، أن رجلاً أوصى بوصايا أبرها في ماله، فذهبت إلى القاسم بن محمد أستشيره، فقال القاسم: سمعت عائشة، تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد».
(الشرح)
وَهَذَا رواه الشيخان البخاري ومسلم وَفِيهِ التحذير من البدع والمحدثات في الدين, أن الواجب عَلَى الإنسان أن يعمل بالسنن وأن يجتنب البدع, وفي لفظ لمسلم «من عمل عملاً لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنا فَهُوَ رد».
(المتن)
ذكر البيان بأن كل من أحدث في دين الله حكما ليس مرجعه إلى الكتاب والسنة، فهو مردود غير مقبول
27 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا محمد بن الصباح الدولابي، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد».
فصل ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو غير عالم بصحته
28 - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من قال: علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار».
(الشرح)
وَهَذَا رواه الشيخان وَهُوَ من الأحاديث المتواترة وَفِيهِ الوعيد الشديد عَلَى من كذب عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ متوعد بالنار, وبالغ بَعْضُ العلماء؛ حَتَّى قَالَ بكفره من تعمد كذبه عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .
(المتن)
ذكر الخبر الدال على صحة ما أومأنا إليه في الباب المتقدم
29 - أخبرنا عمران بن موسى السختياني، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من حدث حديثا، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين».
(الشرح)
يُرى بمعنى يظن, ويَرى بمعنى يعلم, الكاذبين روي بالجمع يَعْنِي أحد الكذبة, أو الكاذبين بأن الَّذِي كذب هُوَ الَّذِي رواه.
(المتن)
ذكر خبر ثان يدل على صحة ما ذهبنا إليه
30 - أخبرنا ابن زهير بتستر، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب، قال: حدثنا علي بن حفص المدائني، قال: حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا، أن يحدث بكل ما سمع».
(الشرح)
وَهَذَا رواه الإمام مسلم في صحيحه, أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه وأبو داود والحاكم.
(المتن)
ذكر إيجاب دخول النار لمتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
31 - أخبرنا أبو خليفة، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا ليث بن سعد، عن الزهري، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار».
(الشرح)
وَهَذَا وعيد شديد يوجب الحذر من القول عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بما لَمْ يقل, الإنسان إِذَا شك أو قَالَ كذا أو بمعناه أو إِذَا لَمْ يتأكد ما يروى أو يذكر فلا يجزم.
(المتن)
ذكر البيان بأن الكذب على المصطفى صلى الله عليه وسلم من أفرى الفرى
32 - أخبرنا ابن قتيبة، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن من أعظم الفرية ثلاثًا، أن يفري الرجل على نفسه، يقول: رأيت، ولم ير شيئًا في المنام، أو يتقول الرجل على والديه، فيدعى إلى غير أبيه، أو يقول: سمع مني، ولم يسمع مني».
(الشرح)
أخرجه البخاري في المناقب وأحمد, وأخرجه الطبراني في الكبير.
قوله: (فيدعى), الظاهر أَنَّهُ فيدعي ما يدعى هُوَ الَّذِي يدعي, كلمة يتقوى تدل عَلَى أَنَّهُ يدعي هُوَ.
(المتن)
كتاب الوحي
33 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، حدثنا ابن أبي السري، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة يراها في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب له الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدة ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فتزوده لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال لي: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}[العلق/1] حتى بلغ {ما لم يعلم}[العلق/5]، قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
ثم قال: «يا خديجة ما لي؟ » وأخبرها الخبر وقال: «قد خشيته علي»، فقالت: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وكان أخا أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: أي عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعًا، أكون حيًا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمخرجي هم؟ » قال: نعم، لم يأت أحد قط بما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
وفتر الوحي فترةً؛ حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا غدًا منه مرارًا لكي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منها تبدى له جبريل، فقال له: يا محمد، إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فيقول له مثل ذلك.
(الشرح)
وَهَذَا الحديث رواه البخاري في صحيحه في كتاب الوحي, وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أنا بقارئ», لَيْسَ امتناعًا وَإِنَّمَا معناه لست قارئًا يَعْنِي ما تعلمت القراءة, وَأَمَّا في آخر القصة أَنَّهُ يتبدى له أَنَّهُ يريد أن يتردى من الجبل هَذَا منقطع هَذَا من قول الزهري ليست مسندة, رواه الزهري منقطعة وَأَنَّهُ لَمَّا فتر عنه الوحي أراد أن يتردى ثُمَّ بدا له ليست مسندة, فَهِيَ من قول الزهري.
ورقة هُوَ أول من آمن بهذه الأمة, قوله: كَانَ أخيها لأبيه, عند البخاري: "ابن عم خديجة" وعند عبد الرزاق، ومسلم وابن عساكر -وهي إحدى روايات البخاري- "وهو ابن عم خديجة أخي أبيها".
قالت له: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك.
قال الحافظ في "الفتح" 12/359:
القائل: "فيما بلغنا" هو الزهري، ومعنى الكلام: أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة. وهو من بلاغات الزهري وليس موصولاً. ومعلوم أن بلاغات الزهري واهية.
منقطعة مثل بلاغات الإمام مالك.
أخرجه البخاري في التفسير وأخرجه البخاري أَيْضًا في بدأ الوحي.
(المتن)
ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة الحديث أنه يضاد خبر عائشة الذي تقدم ذكرنا له
34 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا أبان بن يزيد العطار، حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل أول؟، قال: {يا أيها المدثر}[المدثر/1]، قلت: إني نبئت أن أول سورة أنزلت من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}[العلق/1].
قال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل أول؟ قال: {يا أيها المدثر}[المدثر/1]، فقلت له: إني نبئت أن أول سورة نزلت من القرآن: {اقرأ باسم ربك}[العلق/1] قال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " جاورت في حراء، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر شيئًا، فنوديت، فنظرت فوقي، فإذا أنا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، فجئثت منه، فانطلقت إلى خديجة، فقلت: دثروني دثروني، وصبوا علي ماء باردًا، فأنزلت علي: {يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر}[المدثر/2] ".
(الشرح)
وفي رواية «جثثت», يَعْنِي هَذَا يعارض الخبر السابق أَنَّهُ أول ما نزل عَلَيْهِ أقرأ, وَهَذَا الخبر استدل بِهِ بَعْضُهُمْ قَالَ: إِنَّهُ يعارض الخبر الآخر, ما يعارض, نزول المدثر كانت بَعْدَ نزول اقرأ.
(المتن)
قال أبو حاتم: في خبر جابر هذا: إن أول ما أنزل من القرآن: {يا أيها المدثر}[المدثر/1]، وفي خبر عائشة: {اقرأ باسم ربك}[العلق/1]، وليس بين هذين الخبرين تضاد، إذ الله عز وجل أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {اقرأ باسم ربك}[العلق/1] وهو في الغار بحراء، فلما رجع إلى بيته دثرته خديجة وصبت عليه الماء البارد، وأنزل عليه في بيت خديجة: {يا أيها المدثر، قم}[المدثر/1] من غير أن يكون بين الخبرين تهاتر أو تضاد.
(الشرح)
أبو حاتم هِيَ كنية ابن حبان, والحديث صحيح عَلَى شرط الشيخين وأخرجه مسلم في الإيمان.
يَعْنِي الأول نزل عَلَيْهِ اقرأ, ثُمَّ لَمَّا ذَهَبَ ودثر نزل عَلَيْهِ آية المدثر.
قَالَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله نبأ بــ اقرأ وأرسل بالمدثر.
(المتن)
ذكر القدر الذي جاور المصطفى صلى الله عليه وسلم بحراء عند نزول الوحي عليه
35 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل أول؟ قال: {يا أيها المدثر}[المدثر/1]، قلت: أو {اقرأ}[العلق: 1]، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، فقال: {يا أيها المدثر}[المدثر/1]، فقلت: أو {اقرأ}[العلق/1]، فقال: إني أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر أحدًا، ثم نوديت، فنظرت إلى السماء، فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، ثم صبوا علي الماء، وأنزل الله علي {يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر}[المدثر/2].
ذكر وصف الملائكة عند نزول الوحي على صفيه صلى الله عليه وسلم
36 - أخبرنا أبو خليفة، حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن أبي هريرة، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق وهو السميع العليم، فيستمعها مسترق السمع، فربما أدركه الشهاب قبل أن يرمي بها إلى الذي هو أسفل منه، وربما لم يدركه الشهاب حتى يرمي بها إلى الذي هو أسفل منه».
قال: وهم هكذا بعضهم أسفل من بعض ووصف ذلك سفيان بيده فيرمي بها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى تصل إلى الأرض، فتلقى على فم الكافر والساحر، فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق، ويقال: أليس قد قال في يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فصدق.
(الشرح)
وَهَذَا من الأحاديث الَّتِي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد, وَفِيهِ أن الملائكة لا يصلحون للعبادة؛ لِأَنَّهُم يصعقون ويصيبهم الصعق دل عَلَى ضعفهم, وَفِيهِ أن الشياطين يسترقون السمع وهم غير متلاصقين, وَفِيهِ أن الشهب تلاحقهم, وَفِيهِ أَنَّهَا وصلت إِلَى الساحر فيكذب معها مائة كذبة, فيصدقه النَّاس في هَذَا الكذب, وَفِيهِ دَلِيل عَلَى قبول النَّاس للشر, كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟!
(المتن)
ذكر وصف أهل السماوات عند نزول الوحي
37 - أخبرنا محمد بن المسيب بن إسحاق، حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فينادون: الحق الحق».
(الشرح)
فِيهِ إثبات صفة الكلام لله عز وجل وأن الملائكة يسمعون كلام الله, وَفِيهِ الرد عَلَى من أنكر إثبات العلو لله عز وجل.
قوله: (ذكر وصف أهل السماوات عند نزول الوحي), وَأَنَّهُمْ يصيبهم الصعق والغشي, هَذَا دَلِيل عَلَى دَلِيل أَنَّهُمْ لا يصلحون للعبادة, الَّذِي يصيبه الغشي والموت والنعاس فَإِنَّهُ لا يصلحوا للعبادة لضعفهم.
(المتن)
ذكر وصف نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم
38 - أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان، أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانًا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فينفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني، فأعي ما يقول».
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشاتي الشديد البرد، فينفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقًا.
(الشرح)
وَهَذِهِ فِيهِ أن الوحي أنواع, مِنْهَا أَنَّهُ يأتيه مثل صلصلة الجرس, وهو أشده علي، فينفصم عني وقد وعيت ما قَالَ, وَمِنْهَا أَنَّهُ يتمثل الملك له رجلاً فيكلمه, جبريل يأتي في صورة رجل, وَمِنْهَا أَنَّهُ يلقيه في روعه, يَعْنِي في قلبه, ومنه أن الله يكلمه من وراء حجاب؛ كما كلم موسى, وكما كلم نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم, قَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم}[الشورى/51].
ومنه الرؤيا فَإِن رؤيا الأنبياء وحي, فَهُوَ أنواع يلقيه في روعه أو يأتيه مثل صلصلة الجرس, أو يتمثل له رجل فيكمله, أو يكلمه الله من وراء حجاب.
تخريج الحديث السابق: إسناده صحيح عَلَى شرط الشيخين وأخرجه أحمد والبخاري والترمذي.
وأنزل الله تعالى اقرأ أولًا وَهُوَ في أول البعثة, ثُمَّ أنزل عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ يا أَيُّهَا المدثر, جاء ما يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ بينهما ثلاث سنوات انقطع الوحي, فاقرأ هَذَا أولًا في حراء أول ما نزل عَلَيْهِ جبريل, ثُمَّ يا أَيُّهَا المدثر نزلت بَعْدَ ذَلِكَ.
أول ما أرسل بِهِ المدثر, أول آية النبوة نبئ بــــ اقرأ فصار نبيًا, ثُمَّ لَمَّا نزلت عَلَيْهِ المدثر صار رسولًا.
(المتن)
ذكر استعجال المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلقف الوحي عند نزوله عليه
39 - أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد، حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}[القيامة/16]، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: «أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، فأنزل الله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه}[القيامة/17]، قال: جمعه في صدرك، ثم تقرؤه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}[القيامة/18]، قال: فاستمع له وأنصت، {ثم إن علينا بيانه}[القيامة/19] ثم إن علينا أن تقرأه.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما كان أقرأه».
(الشرح)
أخرجه البخاري في التوحيد ومسلم والنسائي, رواه الشيخان وغيرهما, وَفِيهِ بيان حفظ الله تعالى لكتابه, وَكَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من حرصه يحرك لسانه إِذَا قرأ جبريل خشية أن ينساه, فالله تعالى وعده بأن يجمعه في صدره, وأمره أن يستمع لبقراءة الملك جبريل, فَإِذَا قرأه وعده الله تعالى بأن يجمعه في صدره, ولهذا قَالَ الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه}[القيامة/17].
يَعْنِي عَلَيْنَا جمعه في صدرك, هُوَ قرآن تقرأه, {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}؛ يَعْنِي قرأه جبريل {فَاتَّبِعْ قُرْآنَه (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه}[القيامة/18-19].
هَذَا من فضل الله تعالى وإحسانه, جمعه للنبي في صدره, فكان عَلَيْهِ السلام بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا ينزل عَلَيْهِ الوحي يستمع وينصب ولا يحرك لسانه, فَإِذَا انتهى جبريل قرأه؛ لِأَنَّ الله تكفل بحفظه وجمعه في صدره.
(المتن)
ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن الله جل وعلا لم ينزل آية واحدة إلا بكمالها
40 - أخبرنا النضر بن محمد بن المبارك الهروي، قال: حدثنا محمد بن عثمان العجلي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما نزلت: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء/95]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادع لي زيدا ويجيء معه باللوح والدواة، أو بالكتف والدواة»، ثم قال: «اكتب: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» قال: وخلف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى، قال: يا رسول الله، فما تأمرني، فإني رجل ضرير البصر؟ قال البراء: فأنزلت مكانها: {غير أولي الضرر}[النساء/95].
(الشرح)
يَعْنِي هَذَا دَلِيل عَلَى أن الآية قَدْ ينزل بعضها, نزلت الآية {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ}[النساء/95].
فَقَالَ عبد الله بن أم مكتوم: يا رسول الله أنا أعمى أنا أتمنى أن أجاهد فما أستطيع, ألا يكون لي أجر, فأنزل الله {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}[النساء/95].
دل عَلَى أن الآية قَدْ ينزل بعضها, المصنف أراد من هَذَا الرد عَلَى من قَالَ: إن الآية لا تنزل بكمالها.
واختلف في اسم عبد الله بن أم مكتوم قِيلَ عبد الله وَقِيلَ عبد الله.
فَإِن قِيلَ: (..) الْقُرْآن نزل جملة واحدة؟ هَذَا ثابت عَنْ ابن عباس, صحيح عَنْ ابن عباس, يحتمل أَنَّهُ أخذه عَنْ بني إسرائيل, لو صح أَنَّهُ أنزل مرة واحدة ما يمنع من أن ينزل منجمًا, يَقُولُ في السَّمَاءِ الدنيا هَذَا المروي عَنْ ابن عباس, (..) في السَّمَاءِ الدنيا.
والبيت المعمور هَذَا في السَّمَاءِ السابعة, كعبة سماوية, كهذه الكعبة المشرفة.