بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ ابن حبان رحمنا الله وإياه في صحيحه:
41 - أخبرنا محمد بن عمر بن يوسف بنسا قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: أخبرنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إيتوني بالكتف أو اللوح»، فكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين}[النساء/95]، وعمرو بن أم مكتوم خلف ظهره، فقال: هل لي من رخصة؟ فنزلت، {غير أولي الضرر}[النساء/ 95].
ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن أبا إسحاق السبيعي لم يسمع هذا الخبر من البراء
42 - أخبرنا أبو خليفة، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء، يقول: لما نزلت هذه الآية: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين}[النساء/95] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فجاء بكتف فكتبها فيه، فشكا ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت: {غير أولي الضرر}[النساء/95].
(الشرح)
يَعْنِي أبي إسحاق السبيعي سمع من البراء, قَالَ: سمعت, صرح بالسماع.
(المتن)
ذكر ما كان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتبة القرآن عند نزول الآية بعد الآية
43 - أخبرنا أبو خليفة، حدثنا عثمان بن الهيثم المؤذن، حدثنا عوف بن أبي جميلة، عن يزيد الفارسي، قال: قال ابن عباس: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن قرنتم بين الأنفال وبراءة، وبراءة من المئين، والأنفال من المثاني، فقرنتم بينهما؟ فقال عثمان: كان إذا نزلت من القرآن الآية دعا النبي صلى الله عليه وسلم بعض من يكتب فيقول له: ضعه في السورة التي يذكر فيها كذا، وأنزلت الأنفال بالمدينة، وبراءة بالمدينة من آخر القرآن، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخبرنا أين نضعها، فوجدت قصتها شبيها بقصة الأنفال، فقرنت بينهما، ولم نكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم»، فوضعتها في السبع الطول.
(الشرح)
وَهَذَا هُوَ الْحَقِّ ما فعله الصَّحَابَة هُوَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْقُرْآن محفوظ, وترتيب الآيات بالنص أَمَّا ترتيب السور ففيه خلاف, من العلماء من قَالَ بالاجتهاد ومنهم من قَالَ بالنص, والأقرب أَنَّهُ بالاجتهاد.
(المتن)
ذكر البيان بأن الوحي لم ينقطع عن صفي الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن أخرجه الله من الدنيا إلى جنته
44 - حدثنا أبو يعلى، حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، قال: أتاه رجل، وأنا أسمع، فقال: يا أبا بكر: كم انقطع الوحي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبل موته؟، فقال: ما سألني عن هذا أحد مذ وعيتها من أنس بن مالك، قال أنس بن مالك: «لقد قبض من الدنيا وهو أكثر مما كان».
(الشرح)
ومن حيث الترتيب فالإنسان لو قرأ هَلْ أتاك حديث الغاشية ثُمَّ قرأ في الثانية سبح نَقُوْلُ تركه أولى في الصَّلَاة وَكَذَلِكَ في القراءة.
(المتن)
كتاب الإسراء
ذكر ركوب المصطفى صلى الله عليه وسلم البراق، وإتيانه عليه بيت المقدس من مكة في بعض الليل
45 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: أتيت حذيفة، فقال: من أنت يا أصلع؟ قلت: أنا زر بن حبيش، حدثني بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس حين أسري به، قال: من أخبرك بِهِ يا أصلع؟ قلت: القرآن، قال: القرآن؟ فقرأت: «سبحان الذي أسرى بعبده من الليل»، وهكذا هي قراءة عبد الله إلى قوله: {إنه هو السميع البصير}[الإسراء/1]، فقال: هل تراه صلى فيه؟ قلت: لا، قال: إنه أتي بدابة قال حماد: وصفها عاصم لا أحفظ صفتها، قال: فحمله عليها جبريل، أحدهما رديف صاحبه، فانطلق معه من ليلته حتى أتى بيت المقدس، فأري ما في السماوات وما في الأرض، ثم رجعا عودهما على بدئهما، فلم يصل فيه، ولو صلى لكانت سنة.
(الشرح)
قوله: (إنه أتي بدابة), جاء في الأحاديث أَنَّهَا دابة دون البغل وفوق الحمار, دابة أبيض وأن خطوه مد بصره في الأحاديث الصحيحة, لكن هنا يَقُولُ: ما أدري كيف وصفها.
إسناده حسن وأخرجه أحمد والترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي, وجاء في بَعْضُ الروايات أَنَّهُ ربط الدابة بحلقة الباب, وجاء في بعضها أَنَّهُ صلى بالأنبياء إمامًا, قِيلَ: إِنَّهُ صلى بهم في بيت المقدس, وَقِيلَ: إِنَّهُ صلى بهم في السَّمَاءِ, قدمه جبرائيل.
(المتن)
ذكر استصعاب البراق عند إرادة ركوب النبي صلى الله عليه وسلم إياه
46 - أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن العباس السامي، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجًا ملجمًا ليركبه، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما يحملك على هذا، فوالله ما ركبك أحد أكرم على الله منه. قال: فارفض عرقًا».
(الشرح)
قوله: «فارفض عرقًا», أيْ البراق.
إسناده صحيح عَلَى شرط الشيخين وأخرجه أحمد والترمذي, والبيهقي في دلائل النبوة.
البراق دابة فوق الحمار ودون البغل أبيض خطوه مد بصره.
(المتن)
ذكر البيان بأن جبريل شد البراق بالصخرة عند إرادة الإسراء
47 - أخبرنا أبو يعلى، حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل المقرئ، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الزبير بن جنادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كان ليلة أسري بي، انتهيت إلى بيت المقدس، فخرق جبريل الصخرة بإصبعه وشد بها البراق».
(الشرح)
أخرج الترمذي في التفسير والحاكم بِهَذَا الإسناد, وَقَالَ الترمذي: حديث حسن غريب وَهُوَ كما قَالَ, وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(المتن)
ذكر وصف الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس
48 - أخبرنا الحسن بن سفيان الشيباني، حدثنا هدبة بن خالد القيسي، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به، قال: «بينما أنا في الحطيم - وربما قال: في الحجر - إذ أتاني آت، فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذَهَبَ مملوءًا إيمانًا وحكمة، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم، يقع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟، قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فسلمت، فردا ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم , قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح , فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا إدريس، قال هذا إدريس، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح , فلما خلصت إذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح , فلما خلصت إذا موسى، قال: هذا موسى، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح».
(الشرح)
عبر وآيات عظيمة في الإسراء والمعراج, فضائل وحكم عظيمة في قدرة الله العظيمة, وأن الله عَلَى كُلّ شَيْء قدير, {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون}[يس/82].
وَفِيهِ الرد عَلَى استبعاد بَعْض العقلانيين الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لا يمكن أن تصعد الأجساد البشرية إن من طبيعتها الثقل.
(المتن)
فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي حتى أتى السماء السابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان، فنهران في الجنة، وأما الظاهران، فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور».
- قال قتادة: وحدثنا الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رأى البيت المعمور، ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون فيه -.
(الشرح)
الحسن مَعَ سمع من أبي هريرة منقطع, لكنه جاء في اللفظ الآخر يدخله كُلّ يوم سبعون ألف ملك, والبيت المعمور في السَّمَاءِ السابعة, وظاهره هنا أَنَّهُ فوق سدرة المنتهى, وفي الأحاديث الصحيحة أَنَّهُ في السَّمَاءِ السابعة وأن إبراهيم عَلَيْهِ السلام مسند ظهره إِلَى البيت المعمور, هِيَ الكعبة السماوية مماثلة للكعبة الأرضية, يدخله كُلّ يوم سبعون ألف ملك للصلاة والطواف, ثُمَّ لا يعودون إليه, وَهَذَا من كثرة الملائكة فَهُوَ في السَّمَاءِ السابعة, أَمَّا هَذِهِ الرواية أَنَّهُ فوق سدة المنتهى هَذَا من رواية الحسن عَنْ أبي هريرة منقطعة.
(المتن)
ثم رجع إلى حديث أنس: «ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هذه الفطرة، أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة في كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت، فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت، فأمرت بخمس صلوات كل يوم.
(الشرح)
في الرواية الأخرى أَنَّهُ في كُلّ مرة يضع عنه خمسًا, وفي هَذِهِ الرواية وضع عنه عشرًا.
(المتن)
فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: قلت: سألت ربي حتى استحييت، لكني أرضى وأسلم، فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث ثابت في الصحيحين وفي غيرهما, حديث الإسراء, والإسراء ثابت في الْقُرْآن الكريم, قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}[الإسراء/1].
فمن أنكر الإسراء كفر, والمعراج ثابت في السُّنَّة أحاديث صحيحية ثابتة, وَفِيهِ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رأى في كُلّ سماء ملائكة فسلم عليهم, رأى في السَّمَاءِ الأولى آدم أباه, وفي السَّمَاءِ الثانية يحيى وعيسى ابنا الخالة, وفي الثالثة رأى يوسف, وفي الرابعة إدريس, وفي الخامسة هارون, وفي السادسة موسى, وفي السابعة إبراهيم, وَكُلّ واحد منهما يَقُولُ: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح, إِلَّا آدم قَالَ: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح؛ لِأَنَّهُ أبو البشر, وَكَذَلِكَ إبراهيم قَالَ: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح؛ لِأَنَّهُ أباه من سلالة إبراهيم, والباقي في الأخوة.
وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيل عَلَى أن السموات لها حراس, وأن جبريل يستفتح في كُلّ مرة, وَهَذَا يَدُلَّ أَيْضًا عَلَى أن السموات ليست شفافة؛ لِأَنَّهُ لو كانت شفافة, ما قَالَ: من هَذَا؟ قَالَ: جبريل, قَالَ: ومن معك؟ كونه لَمْ يره يَقُولُ: من هَذَا؟ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا ليست شفافة وَأَنَّهُ لا يرى من ورائها, قَالَ شيخ الإسلام فالأرواح تأخذ شكل الأجساد.
وفي الروايات الأخرى أَنَّهُ مر بموسى وَهُوَ قائم يصلي في قبره في الإسراء, رآه يصلي في قبره, ورآه لَمَّا عرج بِهِ في السَّمَاءِ السادسة, هَذَا دَلِيل عَلَى أن الأرواح لها شأن, والأرواح سريعة في الذهاب يَعْنِي من طبيعتها الخفة, فرآه يصلي في قبره ورآه في السَّمَاءِ السادسة.
إبراهيم يلي نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم في الفضل وَكَذَلِكَ موسى, وَأَمَّا عيسى فالله أعلم, عيسى في السَّمَاءِ الثانية هُوَ من أولي العزم, فوقه إدريس وهارون ويوسف, من أولي العزم الخمسة.
(المتن)
ذكر خبر أوهم عالما من الناس أنه مضاد لخبر مالك بن صعصعة الذي ذكرناه
49 - أخبرنا أبو خليفة، حدثنا مسدد، حدثنا عيسى بن يونس، عن سليمان التيمي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مررت ليلة أسري بي على موسى عليه السلام يصلي في قبره».
(الشرح)
الروح لها شأن غير الأجسام, وَهُوَ عليه الصلاة والسلام معلوم أَنَّهُ مات ودفن ورآه يصلي في قبره ليلة الإسراء, والتقى بِهِ في السَّمَاءِ السادسة, الأرواح لها شأن ليست كالأجساد, لها صفات ولها حركة ولها صعود في طبقات الجو ليست كالأجسام, فَهِيَ تأخذ شكل الجسد.
المعلوم أن العبادة انقطعت لكن هَذَا شَيْء خاص بموسى.
(المتن)
ذكر الموضع الذي فيه رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم موسى صلى الله عليه وسلم يصلي في قبره
50 - أخبرنا أبو يعلى، حدثنا هدبة وشيبان، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مررت بموسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر».
(الشرح)
هَذَا تحديد المكان.
(المتن)
قال أبو حاتم: الله جل وعلا قادر على ما يشاء، ربما يعد الشيء لوقت معلوم، ثم يقضي كون بعض ذلك الشيء قبل مجيء ذلك الوقت، كوعده إحياء الموتى يوم القيامة وجعله محدودًا، ثم قضى كون مثله في بعض الأحوال، مثل من ذكره الله وجعله الله جل وعلا في كتابه، حيث يقول: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[البقرة/259].
وكإحياء الله جل وعلا لعيسى ابن مريم صلوات الله عليه بعض الأموات.
(الشرح)
هَذَا مستثنى كأن ابن حبان رحمه الله يرى أَنَّهُ قام يصلي بجسمه وروحه, وأن الله تعالى قَدْ بعثه بالجسد, لكن الأقرب والله أعلم أَنَّهَا روحه, أن الروح أخذ شكل الجسد كما أَنَّهُ رآه في المعراج, وأن هَذَا لَيْسَ فِيهِ بعث للجسد, يَعْنِي فهم ابن حبان أن هَذَا بعث للجسد والروح, وأن هَذَا يبعثه يوم القيامة وَهَذَا بعث خاص, مثل ما بعث الرجل الَّذِي مر عَلَى قرية مثل ما بعث بَعْض الأموات بعيسى, لكن ظاهر الحديث أن هَذَا شَيْء خاص وَأَنَّهُ رآه قائمًا يصلي في قبره وأن هَذَا بالروح لَيْسَ بعثًا للجسد.
(المتن)
فلما صح وجود كون هذه الحالة في البشر، إذا أراده الله جل وعلا قبل يوم القيامة، لم ينكر أن الله جل وعلا أحيا موسى في قبره حتى مر عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وذاك أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين بيت المقدس.
(الشرح)
النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أسري بِهِ من مكة لكن كَأَنَّهُ مر عَلَى المدينة.
(المتن)
فرآه صلى الله عليه وسلم يدعو في قبره إذ الصلاة دعاء، فلما دخل صلى الله عليه وسلم بيت المقدس وأسري به، أسري بموسى حتى رآه في السماء السادسة.
(الشرح)
قوله: (فرآه يدعو), أَيْضًا هَذَا تأويل هَذَا حمل للصلاة عَلَى المعنى اللغوي, الصَّلَاة إِذَا أطلقت إِذَا أطلقها الشارع فالمراد بها الصَّلَاة الشرعية, وَأَمَّا الصَّلَاة في اللغة هِيَ الدعاء, وَهَذَا تأويل بغير دَلِيل, ظاهر الحديث أنه رآه يصلي الصلاة المعروفة, لكن الروح أخذت شكل الجسد, أَمَّا تأويل ابن حبان بِأَنَّهُ يدعو هذا خلاف.
(المتن)
وجرى بينه وبينه من الكلام ما تقدم ذكرنا له، وكذلك رؤيته سائر الأنبياء الذين في خبر مالك بن صعصعة.
(الشرح)
كَأَنَّهُ يرى أَنَّهُمْ بعثوا بأجسامهم, ورأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أَنَّهُمْ بأرواحهم, أن الروح أخذت شكل الجسد إِلَّا عسى فَإِنَّهُ بروحه وجسده فَإِنَّهُ لَمْ يمت.
(المتن)
فأما قوله صلى الله عليه وسلم في خبر مالك بن صعصعة: «بينما أنا في الحطيم إذ أتاني آت، فشق ما بين هذه إلى هذه»، فكان ذلك له فضيلة فضل بها على غيره، وأنه من معجزات النبوة، إذ البشر إذا شق عن موضع القلب منهم، ثم استخرج قلوبهم ماتوا.
(الشرح)
هَذَا من علامات النبوة وَهُوَ من دلائل نبوته, وَهُوَ دَلِيل عَلَى أن الله عَلَى كُلّ شَيْء قدير, {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون}[يس/82].
الَّذِي خلق الإنسان قادر عَلَى أن يحييه وأن يكون شقه وإخراج قلبه لا يؤثر.
(المتن)
وقوله: «ثم حشي» يريد: أن الله جل وعلا حشًا قلبه اليقين والمعرفة، الذي كان استقراره في طست الذهب، فنقل إلى قلبه، ثم أتي بدابة يقال لها: البراق، فحمل عليه من الحطيم أو الحجر، وهما جميعًا في المسجد الحرام، فانطلق به جبريل حتى أتى به على قبر موسى على حسب ما وصفناه, ثم دخل مسجد بيت المقدس، فخرق جبريل الصخرة بإصبعه، وشد بها البراق، ثم صعد به إلى السَّمَاءِ.
(الشرح)
الحجر هُوَ الحطيم, يسمى حطيم؛ لِأَنَّهُ حطم من الكعبة وأخرج مِنْهَا, إِنَّمَا أخرجته قريش, لَمَّا بنى إبراهيم وإسماعيل الكعبة ما في حجر, كَانَ البناء كامل, لكن ما جاءت قريش وأرادت بناء الكعبة من جديد وجمعوا أموالًا لبنائها وَقَالُوا: لا نريد أن نجمع إِلَّا مالًا حلال, فلم يجدوا مال حلال يكفي, المال الحرام طبق الأرض, وجدوا مال قليل وعجزوا أن يجدوا مالًا يكفيهم لبناء الكعبة كاملاً, فأخرجوا الحجر حطموه من الكعبة؛ لِأَنَّهُم ما عندهم مال حلال يبنون بِهِ البقية, أخرجوا الحجر حطموه من الكعبة, فكيف يسمى بحجر إسماعيل؟! كَانَ بناء الكعبة في أيام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وعمره خمسة وثلاثون في ذَلِكَ الوقت, أَمَّا بناء البيت عندما بناه إبراهيم وإسماعيل ما في حجر في ذَلِكَ الوقت.
من صلى في الحجر كأنما صلى في الكعبة, المعروف عِنْد العلماء أن الفريضة لا تصح داخل الكعبة؛ لِأَنَّهُ لَمْ يستقبل الكعبة بجميع جهاتها هَذَا هُوَ المعروف, وَكَذَلِكَ فوق الكعبة ما تصح الفريضة, إِنَّمَا تصح النافلة عندهم.
ولو قِيلَ بالجواز لكان له وجه, لكن الجمهور يَقُولُونَ: ما تصح لِأَنَّهُ لَمْ يستقبل الكعبة, جزء من الكعبة لَمْ يستقبله.
فَإِن قِيلَ: (..)؟ يَعْنِي إِلَى هواء الكعبة, يَعْنِي في ستة أذرع ونصف تقريبًا كلها, الحجر تابع الكعبة, معناه أَنَّهُ يستقبل الهواء وَإِلَّا أول الحجر قَدْ يكون خارج عَنْ الكعبة؛ لِأَنَّهُ ستة أذرع ونصف من الكعبة وفيه زيادة عن الكعبة.
إِذَا صلى النافلة يكون مستقبل هواء الكعبة وإن لَمْ يكن فِيهِ جدار؛ لِأَنَّ الجدار زائد عَنْ حد الكعبة, حد الكعبة قواعد إبراهيم, ولهذا لَمَّا هدمت قريش الكعب وأرادوا بنائها وصلوا إِلَى حجارة خضر وَهِيَ القواعد, ويقال: لَمَّا جاء أحدهم وحرك بَعْض القواعد زلزلت مكة, فترك الأساس.
فَإِن قِيلَ: (..)؟ كَانَ الحجر داخل الكعبة عَلَى ما هِيَ عَلَيْهِ, لها أركان أربعة, ولهذا لَمَّا هدمها ابن الزبير وأدخل الحجر؛ صار ابن الزبير يستلم الأركان الأربعة كلها؛ لِأَنَّهَا صارت عَلَى قواعد إبراهيم, كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ما يستلم إِلَّا الركن اليماني؛ لِأَنَّهُم عَلَى قواعد إبراهيم, وَأَمَّا الركن الشامي والعراقي فليسا عَلَى قواعد إبراهيم ولهذا لَمْ يستلمهما.
(المتن)
ذكر شد البراق بالصخرة في خبر بريدة، ورؤيته موسى صلى الله عليه وسلم يصلي في قبره ليسا جميعًا في خبر مالك بن صعصعة، فلما صعد به إلى السماء الدنيا، استفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عَلَيْهِ وسلم، قيل: وقد أرسل إليه؟ يريد به: وقد أرسل إليه ليسرى به إلى السماء، لا أنهم لم يعلموا برسالته إلى ذلك الوقت، لأن الإسراء كان بعد نزول الوحي بسبع سنين، فلما فتح له فرأى آدم على حسب ما وصفنا قبل، وكذلك رؤيته في السماء الثانية يحيى بن زكريا، وعيسى ابن مريم، وفي السماء الثالثة يوسف بن يعقوب، وفي السماء الرابعة إدريس، ثم في السماء الخامسة هارون، ثم في السماء السادسة موسى.
(الشرح)
الإسراء بَعْدَ نزول الوحي بسبع سنين, هَذَا قبل الهجرة بسنة, عَلَى أحد الأقوال, لَيْسَ متفقًا عَلَيْهِ.
فَإِن قِيلَ: (..)؟ تأوله المؤلف قَالَ: قَدْ أرسل إليه ليسر بِهِ, لَيْسَ المراد أَنَّهُمْ لَمْ يعلموا رسالته, يَقُولُ المؤلف: المراد قَدْ أرسل إليه لأجل أن يسرى بِهِ.
(المتن)
ثم في السماء السابعة إبراهيم، إذ جائز أن الله جل وعلا أحياهم لأن يراهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، فيكون ذلك آية معجزة يستدل بها على نبوته على حسب ما أصلنا قبل.
(الشرح)
هَذَا ما ذَهَبَ إليه المؤلف أن الله أحيانهم يعني بأرواحهم وأجسادهم, لكن شيخ الإسلام رحمه الله قرر في مجموع الفتاوى أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رآهم بأرواحهم وأن الروح أخذت شكل الجسد.
(المتن)
ثم رفع له سدرة المنتهى، فرآها على الحالة التي وصف، ثم فرض عليه خمسون صلاة، وهذا أمر ابتلاء أراد الله جل وعلا ابتلاء صفيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث فرض عليه خمسين صلاة، إذ كان في علم الله السابق أنه لا يفرض على أمته إلا خمس صلوات فقط، فأمره بخمسين صلاة أمر ابتلاء، وهذا كما نقول: إن الله جل وعلا قد يأمر بالأمر يريد أن يأتي المأمور به إلى أمره من غير أن يريد وجود كونه، كما أمر الله جل وعلا خليله إبراهيم بذبح ابنه، أمره بهذا الأمر أراد به الانتهاء إلى أمره دون وجود كونه.
(الشرح)
فِيهِ جواز النسخ قبل التمكن من الفعل, الله تعالى أمره بخمسين صلاة ثُمَّ نسخها قبل أن يتمكن العباد مِنْهَا.
(المتن)
فلما أسلما، وتله للجبين، فداه بالذبح العظيم، إذ لو أراد الله جل وعلا كون ما أمر، لوجد ابنه مذبوحًا، فكذلك فرض الصلاة خمسين أراد به الانتهاء إلى أمره دون وجود كونه، فلما رجع إلى موسى، وأخبره أنه أمر بخمسين صلاة كل يوم، ألهم الله موسى أن يسأل محمدا صلى الله عليهما وسلم بسؤال ربه التخفيف لأمته، فجعل جل وعلا قول موسى عليه السلام له سببًا لبيان الوجود لصحة ما قُلْنَا.
(الشرح)
هُوَ فضل من الله وَإِلَى الله هُوَ الَّذِي ألهم موسى وَهُوَ الَّذِي أَيْضًا حرك قلب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لقبول قوله.
(المتن)
إن الفرض من الله على عباده أراد إتيانه خمسًا لا خمسين، فرجع إلى الله جل وعلا فسأله، فوضع عنه عشرًا، وهذا أَيْضًا أمر ابتلاء أريد به الانتهاء إليه دون وجود كونه، ثم جعل سؤال موسى عليه السلام إياه سببًا لنفاذ قضاء الله جل وعلا في سابق علمه، أن الصلاة تفرض على هذه الأمة خمسًا لا خمسين، حتى رجع في التخفيف إلى خمس صلوات، ثم ألهم الله جل وعلا صفيه صلى الله عليه وسلم حينئذ حتى قال لموسى: «قد سألت ربي حتى استحييت، لكني أرضى وأسلم»، فلما جاوز ناداه مناد: أمضيت فريضتي، أراد به الخمس صلوات، وخففت عن عبادي، يريد: عن عبادي من أمر الابتلاء الذي أمرتهم به من خمسين صلاة التي ذكرناها، وجملة هذه الأشياء في الإسراء رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسمه عيانًا دون أن يكون ذلك رؤيا أو تصويرًا صور له.
(الشرح)
يَعْنِي أَنَّهُ شاهدهم بعينه, ليست رؤيا في النوم ولا تصوير, حقيقة يَعْنِي رآهم بعينه حقيقة بروحه وجسده, {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}[الإسراء/1].
والعبد اسم للروح والجسد, خلافًا لمن قَالَ الإسراء بروحه, وَهُوَ روي عَنْ بن إسحاق وَعَنْ عائشة, وَقِيلَ: الإسراء منامًا أو مرارًا, والصواب أَنَّهُ مرة واحدة بروحه وجسده.
(المتن)
إذ لو كان ليلة الإسراء وما رأى فيها نوما دون اليقظة، لاستحال ذلك، لأن البشر قد يرون في المنام السماوات والملائكة والأنبياء والجنة والنار وما أشبه هذه الأشياء.
(الشرح)
فما يستغرب ولو كَانَ الإسراء منامًا لما كذبته قريش؛ لِأَنَّهُم لا يكذبون بالرؤيا.
(المتن)
فلو كان رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم ما وصف في ليلة الإسراء في النوم دون اليقظة، لكانت هذه حالة يستوي فيها معه البشر، إذ هم يرون في مناماتهم مثلها، واستحال فضله، ولم تكن تلك حالة معجزة يفضل بها على غيره, ضد قول من أبطل هذه الأخبار، وأنكر قدرة الله جل وعلا وإمضاء حكمه لما يحب كما يحب، جل ربنا وتعالى عن مثل هذا وأشباهه.
(الشرح)
قصده من هَذَا الرد عَلَى من قَالَ الإسراء كَانَ منامًا.
(المتن)
ذكر وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم موسى، وعيسى، وإبراهيم صلوات الله عليهم حيث رآهم ليلة أسري به
51 - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة أسري بي لقيت موسى رجل الرأس، كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى، فإذا رجل أحمر، كأنه خرج من ديماس يعني من حمام ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به، فأتيت بإناءين: أحدهما خمر، والآخر لبن، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فقيل لي: هديت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك».
(الشرح)
وَهَذِهِ الرؤيا الَّتِي رآها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رأى أرواحهم أخذت شكل الأجساد, رأى موسى كَأَنَّهُ رجل طوال كَأَنَّهُ من رجال شنوءة, يَعْنِي من بلاد (..) رجال طوال, ورأى إبراهيم, قَالَ: أنا أشبهكم بِهِ, عليه الصلاة والسلام, وَأَمَّا عيسى فَإِنَّهُ رآه لِأَنَّهُ رفع بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام, لَمْ يتوفاه الله بَعْدَ وسينزل في آخر الزَّمَان, ويحكم بشريعة نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يتوفاه الله, الموتة الَّتِي كتبها الله عَلَيْهِ, وَأَمَّا موسى وإبراهيم فَإِنَّهُ رأى أرواحهما, لأنهما ماتا ودفنا عليهم الصَّلَاة والسلام, والروح تأخذ شكل الجسد.
(المتن)
ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم، فقيل: «هديت الفطرة» أراد به: أن جبريل قال له ذلك
52 - أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص، حدثنا كثير بن عبيد المذحجي، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أنه سمع أبا هريرة، يقول: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، ثم أخذ اللبن، فقال له جبريل عليه السلام: هديت الفطرة، ولو أخذت الخمر غوت أمتك».
(الشرح)
إسناده صحيح, وأخرجه البخاري "5576" في الأشربة: باب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... } ، والبيهقي في "السنن" 8/286 عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، والنسائي 8/312 في الأشربة: باب منزلة الخمر، والبيهقي في "دلائل النبوة" 2/357 من طريق عبد الله بن المبارك، عن يونس، كلاهما عن الزهري، بهذا الإسناد.
اللبن دَلِيل عَلَى الفطرة, والفطرة الإسلام, وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أن الإنسان مولود عَلَى الفطرة فَإِذَا ترك ونفسه من غير مؤثرات خارجية لا إِلَى الخير ولا إِلَى الشر فَإِنَّهُ يميل إلى الخير, ولهذا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أخذ اللبن, فقيل له: هديت إِلَى الفطرة.
(المتن)
ذكر وصف الخطباء الذين يتكلون على القول دون العمل حيث رآهم صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به
53 - أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن المنهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا هشام الدستوائي، حدثنا المغيرة ختن مالك بن دينار، عن مالك بن دينار، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ »، فقال: «الخطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون».
قال الشيخ روى هذا الخبر أبو عتاب الدلال، عن هشام، عن المغيرة، عن مالك بن دينار، عن ثمامة، عن أنس، ووهم فيه لأن يزيد بن زريع أتقن من مائتين من مثل أبي عتاب وذويه.
(الشرح)
وَهَذَا فِيهِ الوعيد الشديد عَلَى من كَانَ يَقُولُ الخير ويأمر بالخير ولا يفعله, وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أن هَذَا من الكبائر, تقرض شفاههم بمقارض من نار هَذَا وعيد شديد يَدُلَّ عَلَى أن هَذَا من الكبائر, والله تعالى نعى عَلَى من يَقُولُ الخير ولا يفعله, قَالَ الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون}[البقرة/44].
أنكر عَلَى اليهود كونهم يأمرون النَّاس بالخير وينسون أنفسهم, وَقَالَ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون}[الصف/2-3].
وَقَالَ سبحانه عَنْ نبيه شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}[هود/88].
وجاء في الحديث أَنَّهُ يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النَّارِ فتندلق أقطاب بطنه, فيدور كما يدور الحمار في الرحى, فيجتمع عَلَيْهِ أَهْلِ النَّارِ, يَقُولُونَ: ما لك يا فلان, ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عَنْ المنكر؟ قَالَ: بلى, كنت آمركم بالمعروف ولا آتية, وكنت أنهاكم عَنْ المنكر وآتيه, وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى الوعيد الشديد, وأن من يأمر بالخير وينسى نفسه يخالف قوله فعله فَإِن عَلَيْهِ هَذَا الوعيد الشديد, قَدْ ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.
(المتن)
ذكر وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم قصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الجنة حيث رآه ليلة أسري به
54 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا أبو نصر التمار، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هَذَا القصر؟ »، فقالوا: لفتى من قريش، فظننت أنه لي، قلت: «من هو؟ » قيل: عمر بن الخطاب.
«يا أبا حفص لولا ما أعلم من غيرتك لدخلته»، فقال: يا رسول الله، من كنت أغار عليه، فإني لم أكن أغار عليك.
(الشرح)
وفي لفظ: أَنَّهُ بكى عمر رضي الله عنه, إسناده صحيح على شرط مسلم. أبو نصر التمار: هو عبد الملك بن عبد العزيز، وأبو عمران الجوني: هو عبد الملك بن حبيب البصري.
وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" 2/390 من طريق أبي نصر التمار، بهذا الإسناد.
وأخرجه أحمد في "المسند" 3 /191، عن بهز، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ وحميد الطويل، عن أنس.
وأخرجه ابن أبي شيبة 12/27 عن أبي خالد الأحمر، والطحاوي, وأخرجه البخاري "3680" في فضائل الصحابة: باب مناقب عمر بن الخطاب.
الحديث صحيح وفيه فضل عمر رضي الله عنه ومنقبة له, وَفِيهِ أَنَّهُ بكى عمر رضي الله عنه وَقَالَ: «بأبي أنت وأمي أعليك أغار».
فِيهِ إثبات الْجَنَّةَ وأنها موجودة, وَفِيهِ الرد عَلَى الْمُعْتَزِلَة القائلين بأن الْجَنَّةَ وَالنَّارِ معدومتان الآن, وَإِنَّمَا تخلقان يوم القيامة؛ لِأَنَّ وجوهما الآن ولا جزاء عبث والعبث محال عَلَى الله, وَهَذَا من ضلالهم وجهلهم, من قال إن وجودهما الآن عبث؟ الله تعالى قال عن الْجَنَّةَ أعدت للمتقين, وَقَالَ عن النَّارِ أعدت للكافرين, والمؤمن يفتح له باب إلى الْجَنَّةَ وَهُوَ في قبره يأتيه من روحها وطيبها, والكافر يفتح له باب إِلَى النَّارِ يأتيه من حرها وسمومها, وأرواح الْمُؤْمِنِينَ تنعم في الْجَنَّةَ.
(المتن)
ذكر البيان بأن الله جل وعلا أرى بيت المقدس صفيه صلى الله عليه وسلم لينظر إليها، ويصفها لقريش لما كذبته بالإسراء
55 - أخبرنا ابن قتيبة، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أنبأنا يونس، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «لما كذبتني قريش، قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر».
(الشرح)
وَهَذَا من تأييد الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام كشف الله مَعَ بَعْدَ المسافة, فجعل يصف بيت المقدس وقريش يسألونه, تأييد من الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام.
(المتن)
ذكر البيان بأن الإسراء كان ذلك برؤية عين، لا رؤية نوم
56 - أخبرنا محمد بن المنذر بن سعيد، أنبأنا علي بن حرب الطائي، أنبأنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}[الإسراء/60]، قال: «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به».
(الشرح)
لا شك أن الإسراء كان بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام, وَأَنَّهُ كَانَ يقظةً لا منامًا هَذَا هُوَ الصواب؛ الَّذِي تدل عَلَيْهِ النصوص وَالَّذِي عَلَيْهِ المحققون؛ أن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة لا في ليلتين, وأن الإسراء بروحه وجسده, وأن الإسراء يقظةً لا منامًا, قَالَ بَعْض العلماء: إن الإسراء كَانَ منامًا, وَقَالَ آخرون: إن الإسراء كَانَ بروحه دون جسده, وَقَالَ آخرون: إن الإسراء كَانَ مرارًا, وَقِيلَ: الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة وَكُلّ هَذِهِ أقوال ضعيفة, والصواب أن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة, أسري بِهِ عليه الصلاة والسلام من مكة إِلَى بيت المقدس عَلَى البراق بصحبة جبرائيل, وربط البراق بالحلقة الَّتِي يربط بها الأنبياء وصلى بالأنبياء إمامًا, ثُمَّ أتي بالمعراج كهيئة الدرج, فعرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ, فتجاوز السبع الطباق في ليلة واحدة بروحه وجسده, يقظةً لا منامًا هَذَا هُوَ الصواب الَّذِي تدل عَلَيْهِ النصوص, قَالَ تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}[الإسراء/1]. فالعبد اسم لمجموع الروح والجسد.
(المتن)
ذكر الإخبار عن رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم ربه جل وعلا
57 - أخبرنا أحمد بن عمرو المعدل بواسط، حدثنا أحمد بن سنان القطان، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس، قال: «قد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه».
قال أبو حاتم: معنى قول ابن عباس: قد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه، أراد به بقلبه في الموضع الذي لم يصعده أحد من البشر ارتفاعا في الشرف.
(الشرح)
وَهَذَا هُوَ الصواب, ما قاله أبو حاتم المؤلف ابن حبان, أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه, وَلَمْ يره بعين رأسه, لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم}[الشورى/51].
ولقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ هَلْ رأيت ربك؟ قَالَ: «نورٌ أنى أراه», وفي لفظ: «رأيت نورًا», ولحديث أبي موسى الأشعري عِنْد مسلم أَيْضًا: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أَنَّهُ ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار, وعمل النهار قبل عمل الليل, حجابه النور -وفي لفظ- النَّارِ, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
فالنبي داخل في خلقه, فلا يستطع أحد أن يرى الله في الدنيا, لا يراه أحد في الدنيا؛ حَتَّى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا رؤيته بالقلب, وما جاء من الآثار أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه هُوَ محمول عَلَى رؤية القلب, وما جاء من الآثار أَنَّهُ لَمْ ير ربه محمول عَلَى رؤية البصر وَبِهَذَا تجتمع الأخبار, كما حقق ذَلِكَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من المحققين.
(المتن)
ذكر الخبر الدال على صحة ما ذكرناه
58 - أخبرنا أبو يعلى، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته عن كل شيء، فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟، قال: كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ فقال: سألته، فقال: «رأيت نورًا».
قال أبو حاتم: معناه أنه لم ير ربه، ولكن رأى نورا علويا من الأنوار المخلوقة.
(الشرح)
وَهَذَا رواه مسلم في صحيحه عَنْ أبي ذر, قَالَ: «هَلْ رأيت ربك؟ قَالَ: رأيت نورًا».
(المتن)
ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم، أنه مضاد للخبر الذي ذكرناه
59 - أخبرنا محمد بن صالح بن ذريح بعكبرا حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا ابن أبي زائدة، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى}[النجم/ 11]، قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة من ياقوت، قد ملأ ما بين السماء والأرض».
(الشرح)
قوله: (بعكبرا), مدينة.
قال أبو حاتم: قد أمر الله تعالى جبريل ليلة الإسراء أن يعلم محمدا صلى الله عليه وسلم ما يجب أن يعلمه كما قال: {علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى}[النجم/6] يريد به جبريل {ثم دنا، فتدلى}[النجم/ 8] يريد به جبريل {فكان قاب قوسين أو أدنى}[النجم/9] يريد به جبريل.
فكان يَعْنِي جبريل, قاب قوسين يَعْنِي من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
(المتن)
{فأوحى إلى عبده ما أوحى}[النجم/10] بجبريل {ما كذب الفؤاد ما رأى}[النجم/11] يريد به ربه بقلبه في ذلك الموضع الشريف، ورأى جبريل في حلة من ياقوت، قد ملأ ما بين السماء والأرض على ما في خبر ابن مسعود الذي ذكرناه.
ذكر تعداد عائشة قول ابن عباس، الذي ذكرناه من أعظم الفرية
60 - أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مخلد، حدثنا أبو الربيع، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، أن داود بن أبي هند حدثه، عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، أنه سمع عائشة، تقول: «أعظم الفرية على الله من قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غد»، قيل: يا أم المؤمنين، وما رآه؟، قالت: «لا، إنما ذلك جبريل رآه مرتين في صورته: مرة ملأ الأفق، ومرة سادًا أفق السماء».
(الشرح)
هَذَا هُوَ الصواب النَّبِيّ رأى جبريل مرتين مرة في الأرض ومرة في السَّمَاءِ, مرة في الأرض عِنْد البعثة, ومرة في السَّمَاءِ ليلة المعراج.
(المتن)
قال أبو حاتم: قد يتوهم من لم يحكم صناعة الحديث أن هذين الخبرين متضادان، وليسا كذلك، إذ الله جل وعلا فضل رسوله صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء، حتى كان جبريل من ربه أدنى من قاب قوسين، ومحمد صلى الله عليه وسلم يعلمه جبريل حينئذ، فرآه صلى الله عليه وسلم بقلبه كما شاء.
(الشرح)
هَذَا فِيهِ نظر كَانَ جبريل من ربه قاب قوسين؟ في آية النجم{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم/8-9]. ثُمَّ دنى جبريل فتدلى يَعْنِي من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, حَتَّى كَانَ جبريل من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى, هَذَا في سورة النجم, وفي حديث الإسراء كَذَلِكَ, وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أكثر الأحاديث, وما جاء في الحديث الآخر الَّذِي رواه شَرِيك بن أبي نمر أَنَّهُ فدنى الله تعالى من نبيه فكان قاب قوسين أو أدني قِيلَ: إن هَذَا من أوهام شَرِيك, ولكن ذكر ابن القيم رحمه الله أن الدنو والتدلي في حديث الإسراء غير الدنو والتدلي في سورة النجم, فالدنو والتدلي في سورة النجم دنو جبريل وتدنيه, والدنو الَّذِي في حديث الإسراء دنو الرب وتدليه هَذَا ذكره ابن القيم, مر معنا في البخاري في كتاب التوحيد قُلْنَا: ذكر العلماء أن هَذَا من أوهام شِرْكٌ, ينظر أن شَرِيك له أغلاط وأوهام هَلْ تابعه أحد؟ فَإِن لَمْ يتابعه أحد فيكون من أوهامه وأغلاطه كما ذكروا, وإن تابعه أحد فيكون هَذَا يَعْنِي موافق يؤيد ما قاله ابن القيم رحمه الله.
فَإِن قِيلَ: (..)؟ ما يراه أحد, حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه, وجبريل من خلقه, وبينه وبينه حجب عظيمة, حجب احتجب الله من خلقه جبريل وغيره, جاء في بَعْض الآثار أَنَّهَا حجب من برد جبال برد ونار وكذا حجب كثيرة, جاء في بعضها أن جبريل سُئِلَ هَلْ رأيت بربك؟ قَالَ: إن بيني وبينه سبعين حجابًا أو كذا, فالله لا يراه أحد في الدنيا, ولما سأله موسى الرؤيا, قَالَ الله له: {لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين}[الأعراف/143].
إِذَا كَانَ الجبل اندك اللب وَلَمْ يثبت لتجلي الله, فالمخلوق الضعيف من باب أولى!.
قَالَ: (حَتَّى كَانَ جبريل من ربه أدنى من قاب قوسين), هَذَا يحتاج على دَلِيل.
(المتن)
وخبر عائشة وتأويلها أنه لا يدركه، تريد به في النوم ولا في اليقظة.
(الشرح)
وَهَذَا لَيْسَ بصحيح في اليقظة ما في مانع؛ بَلْ شيخ الإسلام رحمه الله قرر بأن جميع الطوائف أثبتوا رؤية الله في المنام إِلَّا الجهمية, ولكن لا يلزم من ذَلِكَ التشبيه, وكون الإنسان يرى ربه عَلَى حسب اعتقاده, فَإِن كَانَ اعتقاده صحيحًا رأى ربه في صورة حسنة, وَإِلَّا رآه عَلَى حسب اعتقاده.
ولما كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أصح النَّاس اعتقادًا قَالَ: رأيت ربي في أحسن صورة, هُوَ اختصام الملأ الأعلى.
فقوله: (تريد به في النوم ولا في اليقظة), قول ابن حبان هَذَا المقصود بِهِ عائشة لَيْسَ بجيد, ابن حبان رحمه الله له ملحوظات سيأتينا في العقيدة.
(المتن)
وقوله: {لا تدركه الأبصار}[الأنعام/103] فإنما معناه: لا تدركه الأبصار، يرى في القيامة ولا تدركه الأبصار إذا رأته؛ لأن الإدراك هو الإحاطة، والرؤية هي النظر.
(الشرح)
والإحاطة قدر زائد عَلَى الرؤية, فالله يُرى ولا يحاط بِهِ رؤية, كما أَنَّهُ يعلم ولا يحاط بِهِ علم, فالله يُرى لكن لا يحاط بِهِ رؤية؛ لكمال عظمته يكون أكبر من كُلّ شَيْء, وَإِذَا كَانَ المخلوق يراه الإنسان ولا يحاط بِهِ رؤية؛ فأنت ترى السَّمَاءِ ولا تحيط بها رؤية, هَلْ تحيط بالسماء كلها من جميع الجهات؟ لا, إِنَّمَا ترى الجزء اللي أمامك, وَهِيَ مخلوقة, والإنسان في المدينة يرى المدينة ولا يحيط بها رؤية, فيرى الجبل ولا يحيط بِهِ رؤية, فالله أعلى وأجل وأعظم.
(المتن)
والله يرى ولا يدرك كنهه، لأن الإدراك يقع على المخلوقين، والنظر يكون من العبد ربه.
(الشرح)
الله تعالى يراه المؤمنون في الآخرة ما في إشكال, يرى ربه في الآخرة, الْمُؤْمِن يرى ربه.
(المتن)
وخبر عائشة أنه لا تدركه الأبصار، فإنما معناه: لا تدركه الأبصار في الدنيا وفي الآخرة، إلا من يتفضل عليه من عباده بأن يجعل أهلا لذلك.
واسم الدنيا قد يقع على الأرضين والسماوات وما بينهما، لأن هذه الأشياء بدايات خلقها الله جل وعلا لتكتسب فيها الطاعات للآخرة التي بعد هذه البداية، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الموضع الذي لا يطلق عليه اسم الدنيا، لأنه كان منه أدنى من قاب قوسين حتى يكون خبر عائشة، أنه لم يره صلى الله عليه وسلم في الدنيا من غير أن يكون بين الخبرين تضاد أو تهاتر.
(الشرح)
يَعْنِي ظاهره أَنَّهُ يثبت الرؤية ابن حبان, وَأَنَّهُ قاب قوسين من الرب, هَذَا الَّذِي جاء في حديث شَرِيك وَفِيهِ وهم, وَقَالَ العلماء: إِنَّهُ وهم من شَرِيك, قوله: قاب قوسين أن هَذَا الرب, بينما هَذَا جبريل, فِيهِ إيهام كلام ابن حبان.
(المتن)
كتاب العلم
ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة
61 - أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم خذلان من خذلهم حتى تقوم الساعة».
(الشرح)
قوله: (محمد الهمداني), نسبة إِلَى قبيلة همدان, أَمَّا بالذال همذان نسبة إِلَى بلدة الشرق همذان.
والحديث هذا رواه مسلم في صحيحه «لا تزال طائفة من أمتي على الْحَقِّ منصورة لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله».
قوله: (ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة), سُئِلَ الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة من هم؟ قَالَ: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم, لا تزال طائفة من أمتي والمعنى أن الطائفة المنصورة هم المستقيمون على طاعة الله, المؤدون لفرائض الله, في مقدمتهم العلماء والمحدثون, قد يكون منهم المزارع ومنهم التاجر, وفي مقدمتهم العلماء والمحدثون, الصَّحَابَة هم في مقدمتهم, والتابعون والمحدثون والعلماء ثم أتباعهم كلهم داخلون في الطائفة المنصورة.
والحديث أخرجه أحمد والترمذي, والبخاري ومسلم.
(المتن)
ذكر الإخبار عن سماع المسلمين السنن خلف عن سلف
62 - أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر البرمكي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم».
(الشرح)
إسناده صحيح وأخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي وأخرجه أحمد, وَفِيهِ الحدث عَلَى سماع السنن وأَنَّهُ ينبغي للعلماء أن يحدثوا وأن يسمع منهم من بعدهم ومن بعدهم يسمعوا من بعدهم.
(المتن)
ذكر الإخبار عما يستحب للمرء كثرة سماع العلم، ثم الاقتفاء والتسليم
63 - أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا أبو خيثمة، قال: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي حميد، وأبي أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه».
(الشرح)
لعله تُرون يَعْنِي تظنون, أما تُرون بالفتح تعلمون وتُرون تظنون, وإسناده صحيح على شرط مسلم, وأخرجه أحمد والبزار قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح.
والحديث يحتاج إِلَى تأمل في صحته نظر هذا المعنى؛ لِأَنَّ هذا غير منضبط, لو صح هُوَ محمول عَلَى أهل العلم وأهل الفقه, يحتاج إِلَى تأمل.
(المتن)
باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها
64 - أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا كثير بن يحيى صاحب البصري *، قال: حدثنا همام، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا عني إلا القرآن، فمن كتب عني شَيْئًا فليمحه».
قال أبو حاتم رضي الله عنه: زجره صلى الله عليه وسلم عن الكتبة عنه سوى القرآن، أراد به الحث على حفظ السنن دون الاتكال على كتبتها وترك حفظها والتفقه فيها.
والدليل على صحة هذا إباحته صلى الله عليه وسلم لأبي شاه كتب الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بالكتبة.
(الشرح)
هذا ذَهَبَ إليه المصنف رحمه الله ولكن جاء ما يَدُلَّ عَلَى أن النهي إِنَّمَا كَانَ لأجل ألا يختلط بالْقُرْآن غيره, حَتَّى لا يختلط شيء بالقرآن وَحَتَّى لا يشتبه, فَلَمَّا استقر الْأَمْرِ وزال الإشكال أمر النَّبِيّ بالكتابة أذن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بالكتابة ولذا قَالَ:اكتبوا لأبي شاه الخطبة, كَانَ عبد الله ن عمرو يكتب قَالَ أبو هريرة: إِن من أكثر النَّاس حديثًا إِلَّا ما كَانَ من عبد الله بن عمر فَإِنَّهُ يكتب ولا أكتب, يَعْنِي عبد الله بن عمرو.
المقصود أن النهي عَنْ الكتابة لئلا يختلط بالقرآن غيره, لا لئلا يتكلوا عَلَى الحفظ, المعنى الَّذِي ذكره ابن حبان رحمه الله في نظر؛ لئلا يعتمدوا عَلَى الكتابة ويتركوا الحفظ, بَلْ جاء ما يَدُلَّ عَلَى أن النهي إِنَّمَا هُوَ لئلا يختلط بالْقُرْآن في أول الْأَمْرِ, ثُمَّ رخص النَّبِيّ بَعْدَ ذَلِكَ.
والحديث إسناده قوي وأخرجه أحمد ومسلم والدارمي والنسائي في فضل الْقُرْآن, وقد جمع العلماء بين إباحته صلى الله عليه وآله وسلم كتابة الخطبة لأبي شاه أن النبي صلى الله عليه وسلم وبين حديث أبي سعيد الخدري؛ أن النهي في حديث أبي سعيد خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك، أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدم، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس، وهو أقربها مع أنه لا ينافيها، وقيل: النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك، ومنهم من أعل حديث أبي سعيد، وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره.
(المتن)
65 - أخبرنا الحسين بن أحمد بن بسطام بالأبلة، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان، عن فطر، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر، قال: «تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم».
قال أبو حاتم: معنى «عندنا منه» يعني بأوامره ونواهيه، وأخباره، وأفعاله، وإباحاته صلى الله عليه وسلم.
ذكر دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن أدى من أمته حديثًا سمعه
66 - أخبرنا محمد بن عمر بن يوسف، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا عبد الله بن داود، عن علي بن صالح، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود قال:، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع».
(الشرح)
دعا له بالنضارة, يَعْنِي جعل الله وجهه نضرًا, فرب مبلغ الَّذِي يبلغه أوعى له من السماع, ورب حامل فقه إِلَى من هُوَ أفقه منه, ورب حامل فقه لَيْسَ بفقيه, قَدْ يكون الَّذِي بلغ لَيْسَ بفقيه وَالَّذِي يبلغه فقيه, يستنبط منه أحكام وفوائد.
وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب, قَالَ الحافظ في التقريب: صدوق, وَقَدْ تغير بآخره فكان ربما تلقن فمثله لا يرقى حديثه إِلَى الصحة, وأخرجه ابن نعيم وأحمد والترمذي وابن ماجة.
(المتن)
ذكر رحمة الله جل وعلا، من بلغ أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحًا عنه
67 - أخبرنا أبو خليفة، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني عمر بن سليمان هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن عبد الرحمن بن أبان هو ابن عثمان بن عفان، عن أبيه، قال: خرج زيد بن ثابت من عند مروان قريبًا من نصف النهار، فقلت: ما بعث إليه إلا لشيء سأله، فقمت إليه فسألته، فقال: أجل، سألنا عن أشياء سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله امرأ سمع مني حديثًا فحفظه، حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ألاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم».
(الشرح)
إسناده صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي, وابن ماجة والطبراني.
وَفِيهِ بيان مشروعية التبليغ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من علم شَيْئًا وتأكد منه يبلغ, والغرور هُوَ الإخفاء, يَعْنِي لا يخفي هذا ويترك هذا الشيء, إِنَّمَا ينصح له, لزوم الجماعة مناصحة ولاة الأمور ومحبة الخير لهم, الإنسان يبديها هُوَ.
«ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ألاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم».
إخلاص العمل لله يَعْنِي يعتقد الإخلاص ويخلص عمله لله وَكَذَلِكَ أَيْضًا نصح ولاة الأمور, ويغل تشديد اللام, قَالَ ابن الأثير, ومعنى الغل وَهُوَ الحقد والشحناء أيْ لا يدخله حَقّ يزيله عَنْ الْحَقِّ, وروي يغل بالتحفيف من الوغول الدخول في الشر, ويروى بضم الياء من الإغلال وَهُوَ الخيانة, والمعنى أن هَذِهِ الخلال الثلاث تصطلح بها القلوب, من تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر, انظر النهاية.
(المتن)
ذكر البيان بأن هذا الفضل إنما يكون لمن أدى ما وصفنا، كما سمعه سواء، من غير تغيير ولا تبديل فيه
68 - أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا صفوان بن صالح، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثني سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «رحم الله من سمع مني حديثا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع».
(الشرح)
قوله: (ذكر البيان بأن هذا الفضل إنما يكون لمن أدى ما وصفنا، كما سمعه سواء، من غير تغيير ولا تبديل فِيهِ), يَعْنِي أن تبليغ الحديث لَابُدَّ أن يكون من غير زيادة ولا نقصان.
إسناده حسن.
(المتن)
ذكر إثبات نضارة الوجه في القيامة من بلغ للمصطفى صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة، كما سمعها
69 - أخبرنا ابن خزيمة، قال: حدثنا محمد بن عثمان العجلي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «نضر الله امرأ سمع منا حديثا، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع».
(الشرح)
قوله: (نضر الله), هذا خبر بمعنى الدعاء والمعنى دعاء له بالنضارة, والنضارة هِيَ الحسن والبهاء, والبهجة, وَهَذَا يكون سببه السرور؛ لِأَنَّ الله ينعمه يَوْم الْقِيَامَة, دعاء له بأن الله ينعمه في الْجَنَّةَ؛ حَتَّى تحصل له النضارة والبهجة والسرور.
(المتن)
ذكر عدد الأشياء التي استأثر الله تعالى بعلمها دون خلقه
70 - أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، مولى ثقيف، حدثنا أبو عمر الدوري حفص بن عمر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس: لا يعلم ما تضع الأرحام أحد إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة».
(الشرح)
وَهَذِهِ مفاتح الغيب الَّتِي ذكرها الله, في آخر سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}[لقمان/34].
حديث صحيح أخرجه البخاري في التفسير من طريق مالك, وأخرجه أحمد في المسند, الآن قَدْ يعلمون الأجنة بَعْدَ أن يُخَلّق, لكن قبل ذَلِكَ قبل أن يُخَلّق ما يعلم إِلَّا الله, ولهذا إِذَا جاء الملك قَالَ: يا رب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟
(المتن)
ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه
71 - أخبرنا محمد بن عبد الرحمن السامي، حدثنا يحيى بن أيوب المقابري، حدثنا إسماعيل بن جعفر، قال: وأخبرني عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله، ولا ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله».