شعار الموقع

الدرس الخامس

00:00
00:00
تحميل
13

 

بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ

الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(المتن)

قَالَ ابن حبان رحمنا الله وإياه في صحيحه:

ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه

143 - أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان بن مهران، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: مر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمجنونة بني فلان قد زنت، أمر عمر برجمها فردها علي وقال لعمر: يا أمير المؤمنين، أترجم هذه؟ قال: نعم، قال: أوما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم»؟ قال: صدقت، فخلى عنها.

(الشرح)

رجاله ثقات رجال مسلم. أبو ظبيان: هو حصين بن جندب بن الحارث الجنبي، وهو في "صحيح ابن خزيمة" برقم "1003" و"3048".

وأخرجه أبو داود "4401" في الحدود: باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا، والنسائي في الرجم من الكبرى كما في "التحفة"7/413، والدارقطني 3/138-139، والبيهقي 8/264 من طرق عن ابن وهب، بهذا الإسناد. وصححه الحاكم 1/258 و2/59، ووافقه الذهبي.

وأخرجه النسائي من طريق إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي ظبيان، عن علي موقوفًا عليه.

وأخرجه الترمذي "1423"، والنسائي في الرجم كما في "التحفة" 7/360،

وأحمد 1/116 و118، والبيهقي 8/265، من طريقين، عن الحسن البصري عن علي مرفوعًا.

(..)ابن جندب بن عمرو بن الحارث الجنبي بفتح الجيم أبو ظبيان الكوفي, عَنْ حذيفة وسلمان وعلي وطائفة, وعنه ابن قابوس وحسين بن عبد الرحمن وسماك وعطاء, وثقه ابن معين قَالَ ابن سعدي: توفي سُنَّة تسعين, وَقِيلَ: سُنَّة خمس أو ست وتسعين.

(المتن)

ذكر الخبر الدال على صحة ما تأولنا الخبرين الأولين اللذين ذكرناهما، بأن القلم رفع عن الأقوام الذين ذكرناهم في كتبة الشر عليهم، دون كتبة الخير لهم

144 - أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، حدثنا عبد الجبار بن العلاء، حدثنا سفيان، قال: سمعته من إبراهيم بن عقبة، قال: سمعت كريبا يخبر، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صدر من مكة، فلما كان بالروحاء استقبله ركب، فسلم عليهم، فقال: «من القوم؟ » قالوا: المسلمون، فمن أنتم؟ قال: «رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ففزعت امرأة منهم، فرفعت صبيًا لها من محفة وأخذت بعضلته، فقالت: يا رسول الله، هل لهذا حج؟، قال: «نعم، ولك أجر».

(الشرح)

وَهَذَا رواه مسلم في صحيحه, وَفِيهِ دَلِيل عَلَى صحة حج الصبي,؛ ولو كَانَ طفلاً في المهد, فِيهِ دَلِيل عَلَى أن الخير يكتب له «هل لهذا حج؟، قال: نعم، ولك أجر», لها أجر المعونة والسبب.

وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أن الصبي إِذَا فعل الخير يكون الأجر له, بَعْض العامة يَقُولُ: إِذَا حج يكون لأبيه أو لأمة أو لجده أو جدته هَذَا لا أصل له, يكون له الأجر له, لكن له معونة السبب له أجر آخر وليه له أجر آخر أجر المعونة والسبب والأجر للصبي إِذَا حج.

إِذَا كَانَ طفل يجنبه وليه إِذَا كَانَ ذكر يكشف رأسه ويلبس إزار ورداء, ويطوف بِهِ, وينوي عنه, ولو كَانَ في المهد, وَكَذَلِكَ يقصر عنه, يطوف بِهِ ويسعى له ثُمَّ يقصر عنه.

الطفل إِذَا بلغ يحج وَكَذَلِكَ العبد إِذا أذن له سيده يصح حجه ولا يكفي عنه الفرض, كما جاء في الحديث «أيما صبي حج ثُمَّ بلغ الحلم فعليه حجة أخرى, وأيما عبد حج ثُمَّ أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى».

قوله: (قَالَ إبراهيم: فحدثت بِهَذَا الحديث ابن المنكدر فحج بأهله أجمعين), حج بأهله أجمعين حَتَّى يستفيدوا, يَعْنِي بأهله وأولاده أطفاله.

الحديث رواه مسلم في باب صحة حج الصبي.

(المتن)

ذكر الإخبار عما وضع الله من الحرج عن الواجد في نفسه ما لا يحل له أن ينطق به

145 - أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله، إنا لنجد في أنفسنا أشياء ما نحب أن نتكلم بها، وإن لنا ما طلعت عليه الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد وجدتم ذلك؟ » قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان».

(الشرح)

قوله: (ذكر الإخبار عما وضع الله من الحرج عن الواجد في نفسه ما لا يحل له أن ينطق به), يَعْنِي الوساوس الَّتِي تكون في نفس الإنسان, إِذَا وجد في نفسه وساوس فَلَيْسَ عَلَيْهِ شيء, لكن عَلَيْهِ أن يدافعها, إِذَا كانت الوساوس تمر ولا تستقر ما يضره, لكن عليها أن يدافعها ويحاربها, ولا ينطق بها, فلا تضره.

يَعْنِي كتم الوسوسة ودفعها ومحاربتها صريح الإيمان, وفي اللفظ الآخر أَنَّهُ قَالَ: «يا رسول الله إنا لنجد في أنفسنا ما لا أن يخر الإنسان من السَّمَاءِ خيرٌ له من أن ينطق بِهِ», وفي لفظ: «ما لا أن يكون حممة», يَعْنِي فحمة «خير له من أن يتكلم بِهِ, قَالَ: أو قَدْ وجدتموه؟ قَالُوا: نعم, قَالَ: ذاك صريح الإيمان».

يَعْنِي كتم الوسوسة ومحاربتها ومدافعتها واستعظام التكلم بها ذاك صريح الإيمان, ليست الوسوسة هِيَ صريح الإيمانا, لكن كتمها ومحاربتها ودفعها واستعظام التكلم بها صريح الإيمان, قَالَ: يتمنى أن يسقط الواحد من السَّمَاءِ ولا يتكلم بها, أو يكون حممة فحمة ولا يتكلم بالوساوس.

في اللفظ الآخر؛ قَالَ: «الحمد لله الَّذِي رد كيده إِلَى الوسوسة», الشيطان.

إسناده حسن، محمد بن عمرو: هو ابن علقمة بن وقاص الليثي المدني، حسن الحديث، وأخرجه أحمد 2/441 عن محمد بن عُبيد ويزيد، عن محمد بن عمرو، بهذا الإسناد.

(المتن)

ذكر خبر أوهم من لم يتفقه في صحيح الآثار، ولا أمعن في معاني الأخبار أن وجود ما ذكرنا هو محض الإيمان

146 - أخبرنا أبو عروبة بحران، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم ابن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا لنجد في أنفسنا شَيْئًا لِأَنَّ يكون أحدنا حممة أحب إليه من أن يتكلم به، قال: «ذاك محض الإيمان».

قال أبو حاتم رضي الله عنه: إذا وجد المسلم في قلبه، أو خطر بباله من الأشياء التي لا يحل له النطق بها، من كيفية الباري جل وعلا، أو ما يشبه هذه، فرد ذلك على قلبه بالإيمان الصحيح، وترك العزم على شيء منها، كان رده إياها من الإيمان، بل هو من صريح الإيمان، لا أن خطرات مثلها من الإيمان.

(الشرح)

صريح الإيمان يَعْنِي محص الإيمان, يَعْنِي يَقُولُ: ليست الوسواس هِيَ الإيمان؛ بَلْ المراد كتمها ومحاربتها ودفعها.

قوله: (إذا وجد المسلم في قلبه، أو خطر بباله من الأشياء), من الوساوس يَعْنِي,

قوله: (لا أن خطرات مثلها من الإيمان), يَعْنِي لَيْسَ المراد الوساوس؛ لِأَنَّ المراد دفع الوساوس.

(المتن)

ذكر الإباحة للمرء أن يعرض بقلبه شيء من وساوس الشيطان، بعد أن يردها، من غير اعتقاد القلب على ما وسوس إليه الشيطان

147 - أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، مولى ثقيف، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن ذر، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه الشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة».

(الشرح)

إسناده صحيح على شرطهما، وذر هو ابن عبد الله المرهبي, وأخرجه الطيالسي وأحمد وأبو داود.

قوله: (ذكر الإباحة للمرء أن يعرض بقلبه شيء من وساوس الشيطان، بعد أن يردها، من غير اعتقاد القلب على ما وسوس إليه الشيطان), يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا: يا رسول الله يجد أحدنا في نفسه ما لا أن يكون حممة, يَعْنِي أَنَّهُ ردها بَعْض أن عرضت فلا يضره؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة».

(المتن)

ذكر البيان بأن حكم الواجد في نفسه ما وصفنا، وحكم المحدث إياها به سيان ما لم ينطق به لسانه

148 - أخبرنا أبو خليفة، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا خالد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء يعظم على أحدنا أن يتكلم به، قال: «أوقد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان».

(الشرح)

قوله: (ذكر البيان بأن حكم الواجد في نفسه ما وصفنا، وحكم المحدث إياها به سيان ما لم ينطق به لسانه), يَعْنِي يجد في نفسه أو يحدث نفسه, يَعْنِي لا فرق بين إِن وجد في نفسه أو حدث نفسه, ما دام أَنَّهُ لَمْ يتكلم حكم واحد معفو عنه, وحد في نفسه أو حدث نفسه.

 قوله: «أوقد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان», يَعْنِي دفعه ومحاربته ذَلِكَ صريح الإيمان.

(المتن)

ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه

149 - أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولي، ومحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري بمكة، وعدة قالوا: حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء، قال: سمعت علي بن عثام، يقول: أتيت سعير بن الخمس أسأله عن حديث الوسوسة، فلم يحدثني، فأدبرت أبكي، ثم لقيني، فقال: تعال، حدثنا مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الرجل يجد الشيء لو خر من السماء، فتخطفه الطير كان أحب إليه من أن يتكلم، قال: «ذاك صريح الإيمان».

(الشرح)

إسناده صحيح على شرط الصحيح.

(المتن)

ذكر الأمر للمرء بالإقرار لله جل، وعلا بالوحدانية، ولصفيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة عند وسوسة الشيطان إياه

150 - أخبرنا العباس بن أحمد بن حسان السامي بالبصرة، حدثنا كثير بن عبيد المذحجي، حدثنا مروان بن معاوية، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يدع الشيطان أن يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماوات والأرض؟ فيقول: الله، فيقول فمن خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فإذا حس أحدكم بذلك، فليقل: آمنت بالله وبرسله».

(الشرح)

فِيهِ مشروعية هَذَا القول عِنْد الوسوسة آمنت بالله ورسوله, وجاء في اللفظ الآخر قول: «الله أحد الله الصمد لَمْ يلد وَلَمْ يولد وَلَمْ يكن له كفوًا أحد», وفي اللفظ الآخر: «فليقل آمنت بالله ولينتهي», يَعْنِي يقطع التفكير.

إسناده صحيح وفي الباب عَنْ أبي هريرة عِنْد أحمد والبخاري.

(المتن)

باب فضل الإيمان

151 - أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، حدثنا حفص بن عمر الحوضي، حدثنا محرر بن قعنب الباهلي، حدثنا رياح بن عبيدة، عن ذكوان السمان، عن جابر بن عبد الله، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ناد في الناس: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة». فخرج فلقيه عمر في الطريق، فقال: أين تريد؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، قال: ارجع، فأبيت، فلهزني لهزة في صدري ألمها، فرجعت ولم أجد بدا، قال: يا رسول الله، بعثت هذا بكذا وكذا؟ قال: «نعم»، قال: يا رسول الله، إن الناس قد طمعوا وخشوا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اقعد».

(الشرح)

الحديث هَذَا أصله في الصحيحين أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه نعليه وَقَالَ: «اذهب فمن وجدتم من وراء هَذَا الحائط يشهد ألا إله إِلَّا الله وأن محمد رسول الله بشره بالجنة», فلقيه عمر فسأله فَقَالَ: إِن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أخبرني بِذَلِكَ, فلهزه لهزة أوجعته, ضربه في صدره, فرجع إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يجيش بالبكاء فلحقه عمر وَقَالَ: يا رسول الله أبعثت هَذَا يَقُولُ كذا وكذا, قَالَ: نعم, قال: (..) لا تفعل فيتكلوا, هَذَا أصل الحديث في الصحيحين.

وَهُوَ في الباب عَنْ أبي هريرة عِنْد مسلم, ومحرر بن القعنب وثقه أبو زرعة, والحديث فِيهِ فضل التوحيد, من مات عَلَى التوحيد فَهُوَ من أهل الْجَنَّةَ عاجلاً أو آجلاً, من مات عَلَى التوحيد السالم من الشكر والبدع والكبائر دخل الْجَنَّةَ من أول وهلة, وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى خطر, إِن مات عَلَى الكبائر من غير توبة, فَهُوَ عَلَى خطر من دخول النَّارِ.

واللهز الضرب بجمع الكف في الصدر.

(المتن)

ذكر البيان بأن أفضل الأعمال هو الإيمان بالله

152 - أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، حدثنا سفيان، والدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي مراوح الغفاري، عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله».

(الشرح)

وَهَذَا فِيهِ فضل الإيمان بالله ورسوله, وأَنَّهُ عمل في تسميته عمل, سمى الإيمان عمل؛ لِأَنَّ الإيمان تصديق بالقلب وإقرار, والإيمان إِذَا أطلق يشمل الأقوال والأعمال والاعتقاد, الإيمان إِذَا أطلق يشمل الأعمال والأقوال وأعمال القلوب وأعمال الجوارح, يشمل تصديق القلب وإقراره, ويشمل قول اللسان ويشمل عمل القلب وعمل الجوارح, النية والإخلاص والصدق والمحبة من أعمال القلوب كلها داخلة في الإيمان.

وَفِيهِ أَنَّهُ أفضل الأعمال, النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أيْ الأعمال الأفضل قَالَ: «الإيمان بالله ورسوله», فجعله من العمل, وَفِيهِ الرد عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.

النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سمى الإيمان عمل, أفضل الأعمال إيمان بالله رسوله والجهاد في سبيله, وفي اللفظ الآخر: «أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أيْ العمل أفضل؟ قَالَ: إيمان بالله ورسوله, قِيلَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: الصَّلَاة عَلَى وقتها, قِيلَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: بر الوالدين, قِيلَ ثُمَّ من؟ قَالَ: الجهاد في سبيل الله», وفي بعضها قدم الجهاد عَلَى الوالدين.

إسناده صحيح عَلَى شرط مسلم وأخرجه البخاري والدارمي.

(المتن)

ذكر البيان بأن الواو الذي في خبر أبي ذر الذي ذكرناه ليس بواو وصل، وإنما هو واو بمعنى ثم

153 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي بعسقلان حدثنا ابن أبي السري، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: «الإيمان بالله»، قال: ثم ماذا؟ قال: «ثم الجهاد في سبيل الله»، قال: ثم ماذا؟ قال: «ثم حج مبرور».

(الشرح)

قوله: (ذكر البيان بأن الواو الذي في خبر أبي ذر الذي ذكرناه ليس بواو وصل، وإنما هو واو بمعنى ثم), «إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيل الله», يَقُولُ: الواو معناها ثُمَّ؛ لِأَنَّهُ جاء في حديث آخر قَالَ: ثُمَّ, «قِيلَ: أيْ العمل أفضل؟ قَالَ: إيمان بالله روسوله, قَالَ: ثُمَّ ماذا؟ قَالَ: الجهاد في سبيل الله», يَقُولُ: إِن الواو ليست للعطف والجمع, وَإِنَّمَا هِيَ بمعنى ثُمَّ, يَعْنِي يفسرها الأحاديث الأخرى.

والحديث فِيهِ أن الجهاد بَعْدَ الإيمان بالله ورسوله ثُمَّ الحج المبرور.

(المتن)

باب فرض الإيمان

154 - أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، قال: حدثنا عيسى بن حماد، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنس بن مالك، يقول: بينا نحن جلوس في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، قال: فقلنا له: هذا الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أجبتك»، فقال الرجل: يا محمد إني سائلك فمشتد عليك في المسألة، فلا تجدن علي في نفسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سل ما بدا لك»، فقال الرجل: نشدتك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم»، قال: فأنشدك الله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم»، قال: فأنشدك الله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم»، قال: فأنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا، فتقسمها على فقرائنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم»، فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.

(الشرح)

وَهَذَا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما وَهُوَ حديث عظيم, فِيهِ من الفوائد أن من أدى الفرائض وترك المحرمات فَهُوَ من أهل الْجَنَّةَ, يدخل الْجَنَّةَ من أول وهلة؛ لِأَنَّهُ أدى ما عَلَيْهِ, ولو لَمْ يأت بالنوافل, وَهَذَا يسمى من المقتصدين وهم أصحاب اليمين, وهم الَّذِينَ يقتصرون عَلَى الفرائض والواجبات, لكن السابقون أفضل منهم, وهم الَّذِينَ تقربوا إِلَى الله بالنوافل بَعْدَ الفرائض, فهذا قَالَ: إِنَّهُ يصوم الشهر, ويؤدي الصَّلَاة ولا يزيد.

قَالَ: «آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي», وفي اللفظ الآخر, قَالَ: «لا أزيد عَلَى هَذَا ولا أنقص», وَهُوَ ضمام بن ثعلبة.

وَفِيهِ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن متميزًا عَنْ أصحابه, ولهذا يأتي الغريب وَيَقُولُ: أين محمد؟ فيقال: هَذَا الرجل الأبيض المتكئ, ما هُوَ متميز, لو كَانَ متميز بلباس أو بشيء لعرفه, لكن لَيْسَ متميزًا عنهم عليه الصلاة والسلام, ولا يلبس ثياب شهرة تميزه بَلْ هُوَ كغيره.

وَفِيهِ أن الجد أب, نسبة الإنسان إِلَى جده كنسبته إِلَى أبيه, قَالَ: فأيهم ابن عبد المطلب؟ فَقَالَ النَّبِيّ: أنا, وَذَلِكَ لِأَنَّ عبد المطلب كَانَ مشهور بخلاف عبد الله والد النَّبِيّ؛ فَإِنَّهُ مات شابًا, وعبد المطلب كَانَ رئيسًا في قومه مشهور, ولهذا ينسب إِلَى جده, والجد أب, قَالَ: أيكم ابن عبد المطلب.

وَفِيهِ عناية ضمام بن ثعلبة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «نشدتك», (..) قَالَ: آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات؟ آلله أمرك أن نصوم؟ آلله أمرك أن نتصدق؟ يستحلفه فِيهَا من باب التأكيد, وَكَانَ الصَّحَابَة رضوان الله عَلَيْهِمْ يهابون النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ويجلونه؛ حَتَّى إِنَّهُمْ لا يطلقون النظر إليه إجلالًا له, واحترامًا وتوقيرًا, فيعجبهم الرجل يأتي من البادية ما يستحي يسأل وهم يستفيدون, الصَّحَابَة ما يستطيعون أن يسألون مثل هَذِهِ الأسئلة, لكن الأعرابي اللي يأتي عنده جفاء فيسأل وَالصَّحَابَة يستفيدون من أسألتهم.

والمقتصدون هم أصحاب اليمين, يَعْنِي اقتصروا عَلَى الواجبات, القاسطون شيء آخر, القاسط بالسين غير الصاد, القاسط هَذَا الجائر الظالم, والمقتصد العادل, فرق بينهما, القاسط من قسط وَهُوَ ثلاثي جاز وظلم, أَمَّا المقتصد الرباعي عدل, المقتصدون عَلَى منابر من نور, {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}[الجن/15].

القاسطون الجائرون الظالمون, والمقتصدون العادلون, المقسط من الرباعي أقسط يقسط, وَأَمَّا قاسط من من الثلاثي قسط بالسين, قسط من ظلم وأجار, وأقسط بمعنى عدل, الفرق بينهما الهمزة.

(المتن)

155 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن الخطاب البلدي، قال: حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، قال: حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله، ونحن نسمع، فأتاه رجل منهم، فقال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: «صدق»، قال: فمن خلق السماء؟ قال: «الله»، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله»، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: «الله»، قال: فمن جعل فيها هذه المنافع؟ قال: «الله»، قال: فبالذي خلق السماء والأرض، ونصب الجبال، وجعل فيها هذه المنافع، آلله أرسلك؟ قال: «نعم»، قال: زعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: زعم رسولك أن علينا صدقة في أموالنا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: زعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا، قال: «صدق»، قال فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن شَيْئًا، فلما قفى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن صدق ليدخلن الجنة».

(الشرح)

هَذَا هُوَ المقتصد, قَالَ: والله لا أزيد عَلَى هَذَا ولا أنقص, ما يزيد عَلَى الفرائض, دَلَّ عَلَى أن المقتصد يدخل الْجَنَّةَ وهم أصحاب اليمين من أول وهلة, ولكن أفضلهم منهم السابقون بالخيرات وهم الَّذِينَ يؤدون النوافل بَعْدَ الفرائض, أَمَّا الظالمون لأنفسهم فهم الَّذِينَ يقصرون في الواجبات ويفعلون بَعْض المحرمات.

وَفِيهِ هَذِهِ الأسئلة وَأَنَّهَا مؤكدة ومشددة, قَالَ: «وزعم رسولك», يَعْنِي قَالَ, الزعم يطلق ويراد بِهِ الادعاء الكاذب, ويطلق ويراد بِهِ مجرد القول, هنا مجرد القول, زعم رسولك يَعْنِي قَالَ رسولك كذا وكذا, لَيْسَ المراد أَنَّهُ ادعى كذبًا لا.

قَدْ يأتي الزعم {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا}[التغابن/7], يَعْنِي زعموا زعمًا كاذبًا, أَمَّا هنا زعم بمعنى قَالَ, والحديث أخرجه مسلم في الإيمان.

(المتن)

قال أبو حاتم رضي الله عنه: هذا النوع مثل الوضوء، والتيمم، والاغتسال من الجنابة، والصلوات الخمس، والصوم الفرض، وما أشبه هذه الأشياء التي هي فرض على المخاطبين في بعض الأحوال لا الكل.

(الشرح)

هَذَا مجمل مثل غسل الجنابة فرض عَلَى من أصابته الجنابة ومن لَمْ تصبه الجنابة لَيْسَ عَلَيْهِ غسل, لكن الصلوات الخمس واجبة عَلَى الجميع, والتيمم عِنْد العجز لَيْسَ كُلُّ أحد يتيمم, العاجز أو العادم للماء, كلام مجمل يَعْنِي, وصوم رمضان كَذَلِكَ للقادر, يَعْنِي المقصود في بَعْض الأحيان عَلَى حسب الأدلة اختلف أحوال النَّاس فِيهَا, فمن أصابته جنابة يَجِبُ عَلَيْهِ الغسل, ومن لَمْ تصبه جنابة لا يَجِبُ, كَذَلِكَ من فقد الماء يتيمم ومن لَمْ يفقد الماء لا يتيمم, ومن كَانَ قادرًا أن يصوم فليصم ومن لا يقدر لا يصوم, يطعم إِذَا كَانَ عاجز أو يفطر ويقضي إِذَا كَانَ مسافر أو مريض.

(المتن)

156 - أخبرنا الحسن بن سفيان الشيباني، قال: حدثنا أمية بن بسطام، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، وإذا فعلوها فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم، فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بهذا فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس».

(الشرح)

وَهَذَا رواه الشيخان وحديث معاذ مشهور, وَفِيهِ البدء أن الداعي يبدأ بالأهم فالأهم يبدأ بالتوحيد, قَالَ: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله»، وفي لفظ: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إِلَّا الله», واختلاف الألفاظ يَدُلَّ عَلَى أن المراد من الشهادتين توحيد الله, ولَيْسَ المراد النطق باللسان فقط, بدليل الروايات الأخرى, «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله»، يَعْنِي توحيد الله, وفي اللفظ الآخر: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إِلَّا الله», لَيْسَ المراد قولها باللسان فقط واعتقاد معناها.

وكما في الحديث الآخر: «أمرت أن أقاتل النَّاس؛ حَتَّى يشهدوا ألا إله إِلَّا الله», وفي لفظ: «إِلَى أن يوحدوا الله», المراد معناها وَفِيهِ أن الداعية يبدأ بالأهم فالأهم يتدرج في الدعوة, إِن كَانَ المخاطبين كفار يدعوهم إِلَى التوحيد, ثُمَّ يدعوهم إِلَى الصَّلَاة, إِذَا استجابوا دعاهم إِلَى الزَّكَاة, وَكَانَ اليمن في ذَلِكَ أهل كتاب كما في الحديث الآخر: «إنك تَقَدم قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إِلَّا الله», يَعْنِي استعد لمناظرتهم لِأَنَّهُم أهل علم, ليسوا كالمشركين الَّذِينَ لَيْسَ عندهم علم بَلْ هم أهل كتاب, وَفِيهِ أن الداعية ينبغي أن يعرف حال المدعوين؛ حَتَّى تكون الدعوة مناسبة, ولهذا أخبرهم النَّبِيّ بحالهم, قَالَ: «فليكن أول ما تدعوهم هُوَ شهادة ألا إله إِلَّا الله», وَفِيهِ قَالَ: «الزَّكَاة تؤخذ من أغنيائهم فترد عَلَى فقرائهم», الجمهور عَلَى أن الضمير يعود إِلَى أهل اليمن, تؤخذ من أغنيائهم تنفق عَلَى فقرائهم, قَالُوا: فلا تنفق الزَّكَاة عَلَى بلد آخر.

والبخاري والأحناف قَالُوا: المضير يعود إِلَى الْمُسْلِمِين, تؤخذ من أغنيائهم فترد عَلَى فقرائهم, وَعَلَى هَذَا فلا بأس بنقل الزَّكَاة إِلَى بلد آخر, توسط آخرون كشيخ الإِسْلامُ ابن تيمية وَقَالُوا: لا تنقل الزَّكَاة من بلد إِلَى آخر إِلَّا إِذَا كَانَ لمصلحة راجحة, كأن يكون هناك قريب أو فقير أشد حاجة تنقل وَإِلَّا فإنها تصرف في بلد المال.

البخاري بوب في هَذَا قَالَ: تؤخذ من أغنيائهم فترد عَلَى فقرائهم أينما كَانُوا, قوله: أينما كَانُوا يَعْنِي في أيْ بلد, اختار مذهب الأحناف هَذَا.

وَفِيهِ قول: «اتَّقِ دعوة المظلوم», أن الإنسان يحذر دعوة المظلوم فلا يأخذ الزَّكَاة من أنفس المال وَإِنَّمَا يأخذ من الوسط, وفي اللفظ الآخر: «وتوق كرائم أموالهم وَاتَّقِ دعوة المظلوم», يَعْنِي إِذَا أخذت النفيس من الزَّكَاة هَذَا ظلم, فاحذر دعوة المظلوم, فيأخذ من وسط المال لا يأخذ من شراره ولا من خياره, يأخذ من الوسط.

(المتن)

قال أبو حاتم رضي الله عنه: هذا النوع مثل الحج والزكاة وما أشبههما من الفرائض التي فرضت على بعض العاقلين البالغين في بعض الأحوال لا الكل.

(الشرح)

يَعْنِي الزَّكَاة لا تجب عَلَى كُلُّ أحد وَإِنَّمَا تجب عَلَى من عنده مال.

(المتن)

157 - أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عباد بن عباد، حدثنا أبو جمرة، عن ابن عباس، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنا هذا الحي من ربيعة، قد حالت بيننا وبينك كفار مضر، ولا نخلص إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به، وندعو إليه من وراءنا، قال: «آمركم بأربع: الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمقير».

(الشرح)

وَهَذَا الحديث حديث وفد عبد القيس حديث مشهور رواه الشيخان وغيرهما, وَفِيهِ أَنَّهُ فسر الإيمان بالأعمال, قَالَ: «آمركم بأربع: الإيمان بالله»، أتدرون بالله وحده؟ ثُمَّ فسر شهادة ألا إله إِلَّا الله وأن محمد رسول الله «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم»، ففسر الإيمان بالأعمال فدل عَلَى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان, وَهَذَا من أصرح الأدلة في الرد عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان, فسر الإيمان بالأعمال, أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم, كلها تسمى إيمان.

وَالْمُرْجِئَةِ يَقُولُونَ: الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان, «وأنهاكم عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمقير».

يَعْنِي رضي الله عنها الأمور الأربعة؛ لِأَنَّ هَذِهِ الأشياء الصلبة لا تنبذ فِيهَا النبيذ, النقير جذع النخل ينقر فيكون كالإناء, يجعل فِيهِ العصير, والمقير يَعْنِي المطلي بالقار, والحنتم الجرار الخضر يشبه الزير صلبة, والدباء القرع يؤخذ اللب ويكون يابس, يجعلون فِيهَا العصير من التمر أو من العنب أو من غيرها, ثُمَّ يتخمر, إِذَا جلس يومين ثلاثة في شدة الحر صار خمرًا, ثُمَّ يشربونه وَهُوَ خمر, فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن ينتبذوا فِيهَا الأشياء الصلبة؛ لِأَنَّهُ قَدْ يتخمر وهم لا يشعرون, وَإِنَّمَا أمرهم أن ينتبذوا في الأسقية في الجلد؛ لِأَنَّهَا إِذَا صار النبيذ في الأسقية وتخمرت تشققت, فيعرفون أَنَّهَا خمر, أَمَّا هَذِهِ الصلبة هَذِهِ الأشياء الصلبة يتخمر العصير ولا يعلمون, فلهذا نهاهم وَهَذَا في أول الإِسْلامُ؛ قبل أن تستقر الشريعة ويعلم النَّاس الحكم, فَلَمَّا استقرت الشريعة وعرف النَّاس الحكم نسخ ذَلِكَ, وأباح لهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن ينتبذوا في كُلُّ وعاء, قَالَ: «انتبذوا في كُلُّ وعاء ولا تشربوا الخمر», لما استقر الإِسْلامُ وعرفوا الكم بَعْدَ ذَلِكَ رخص لهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في أن ينتبذوا في كُلُّ وعاء «انتبذوا في كُلُّ وعاء ولا تشربوا الخمر».

لكن في أول الإِسْلامُ نهاهم أن ينتبذوا في الأشياء الصلبة؛ لئلا يتخمر وهم لا يشعرون, وَإِنَّمَا ينتبذوا في الأشياء الرقيقة الَّتِي تتشقق كالجلود والأسقية, وَهَذَا قديم, قاله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس لما أسلموا قديمًا.

ولهذا هم أهل جواثا يَعْنِي ثاني جمعة جمعت في مسجد جواثا بَعْدَ مسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, في منطقة البحرين في الأحساء, في كُلُّ (..) يسمى البحرين, وَهُوَ موجود الآن محوط عَلَيْهِ في الأحساء يسمونه جواثه.

(المتن)

قال أبو حاتم: روى هذا الخبر قتادة، عن سعيد بن المسيب، وعكرمة، عن ابن عباس، وأبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري.

ذكر البيان بأن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد

158 - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا وكيع، عن حنظلة بن أبي سفيان، سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوسًا، أن رجلاً قال لابن عمر: ألا تغزو؟ فقال عبد الله بن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت».

(الشرح)

هَذَا رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمه الله؛ لِأَنَّ الإِسْلامُ بني عَلَى خمس, شهادة ألا إله إِلَّا الله وأن محمد رسول الله, وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة, المؤلف استدل بِهِ عَلَى أن البيان وَالإِسْلامُ شيء واحد.

(المتن)

قال أبو حاتم: هذان خبران خرج خطابهما على حسب الحال، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر الإيمان، ثم عده أربع خصال، ثم ذكر الإسلام وعده خمس خصال، وهذا ما نقول في كتبنا: بأن العرب تذكر الشيء في لغتها بعدد معلوم، ولا تريد بذكرها ذلك العدد نفيًا عما وراءه، ولم يرد بقوله صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان لا يكون إلا ما عد في خبر ابن عباس، لأنه ذكر صلى الله عليه وسلم في غير خبر أشياء كثيرة من الإيمان ليست في خبر ابن عمر، ولا ابن عباس اللذين ذكرناهما.

(الشرح)

المؤلف استدل بهذين الحديثين على أن الإيمان وَالإِسْلامُ شيء واحد, فَإِن حديث وفد عبد القيس في الصحيحين, أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «آمركم بأربع وأنهاكم عَنْ أربع, الإيمان بالله», ثُمَّ فسر الإيمان بالشهادتين شهادة ألا إله إِلَّا الله وأن محمد رسول الله, وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة, وفي لفظ: «وصوم رمضان وأن تؤدوا الخمس».

وفي حديث ابن عمر قَالَ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت».

فالإسلام فسره بالشهادتين والصلاة وَالزَّكَاة والصوم والخمس, وفسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة في لفظ: والصوم, واحتج المؤلف بهذين الحديثين عَلَى أن الإيمان وَالإِسْلامُ شيء واحد, فالإسلام هُوَ الإيمان وَالإِسْلامُ هُوَ الإيمان وَهَذَا اختيار البخاري في صحيحه وَهُوَ قول لبعض أهل العلم.

والقول الثاني للجمهور أن الإيمان وَالإِسْلامُ لَيْسَ شَيْئًا واحد, وَإِنَّمَا يختلفان في الاجتماع والافتراق, فَإِذَا ذكر أحدهما وحده دخل فِيهِ الآخر, وَإِذَا اجتمعا صار لكل واحد منهم تفسير, وَهَذَا هُوَ الصواب الَّذِي عَلَيْهِ الجماهير, وَهُوَ اختيار شيخ الإِسْلامُ ابن تيمية.

وَالدَّلِيل أن الله تعالى فرق بين الإيمان وَالإِسْلامُ, {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}[الحجرات/14].

ففرق بين الإِسْلامُ والإيمان, وفي حديث صعد بن أبي وقاص «ما لك عَنْ فلان إني لأراه مؤمنًا أو مسلمًا», وَأَمَّا في حديث وفد عبد القيس ذكر الإيمان وحده يدخل فِيهِ الإِسْلامُ, وفي حديث جبريل ذكر الإِسْلامُ وحده يدخل فِيهِ الإيمان, لكن في حديث جبريل سأله عَنْ الإيمان وَعَنْ الإِسْلامُ, لما اجتمعا فرق بينهما, سأل عَنْ الإسلام فسره بالأركان الخمس, ولما سأل عَنْ الإيمان فسره بالأعمال الباطنة, أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر.

فالإسلام والإيمان إِذَا اجتمعا افترقا وَإِذَا افترقا اجتمعا, إِذَا ذكر الإِسْلامُ وحده دخل فِيهِ الإيمان, وَإِذَا ذكر الإيمان وحده دخل فِيهِ الإِسْلامُ, وَإِذَا اجتمعا فسر الإِسْلامُ بالأعمال الظاهرة, وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة؛ كما في حديث جبريل هَذَا هُوَ الصواب.

قول ابن حبان قول مرجوح وقول لبعض أهل العلم وَهُوَ اختيار البخاري في الصحيحين؛ لِأَنَّ الترجمة عندكم (ذكر البيان بأن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد), والصواب أَنَّهُمْ يختلفان بالاقتران والافتراق, إذا ذكر أحدهما دخل فِيهِ الآخر, وَإِذَا اجتمعا فسر الإِسْلامُ بالأعمال الظاهرة, والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل, وَهَذَا له نظائر مثل الفقير والمسكين, الفقير إِذَا أطلق وحده دخل فِيهِ المسكين, والمسكين إِذَا أطلق دخل فِيهِ الفقير, وَإِذَا اجتمعا صار الفقير الأكثر حاجة, ومثل الربوبية والإلوهية, الرب إِذَا أطلق الرب يدخل فِيهِ الإله, الرب هُوَ الإله, وَإِذَا اجتمعا صار الرب له والإلوهية لها معنى, مثل{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1) مَلِكِ النَّاس (2) إِلَهِ النَّاس}[الناس/1-3], إله النَّاس يَعْنِي معبودهم, رب النَّاس مربيهم, فهذا له نظائر.

(المتن)

ذكر الخبر الدال على أن الإيمان، والإسلام اسمان بمعنى واحد

159 - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، عن أبي حيان التيمي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس، إذ أتاه رجل يمشي، فقال: يا محمد، ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، ورسله، ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر»، قال: يا رسول الله، فما الإسلام؟ قال: «لا تشرك بالله شَيْئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان»، قال: يا محمد، ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، قال: يا محمد، فمتى الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، ورأيت العراة الحفاة رءوس الناس، في خمس لا يعلمهن إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}[لقمان/34] الآية، ثم انصرف الرجل، فالتمسوه فلم يجدوه، فقال: «ذاك جبريل جاء ليعلم الناس دينهم».

(الشرح)

هَذَا حديث أبي هريرة وَهُوَ مختصر, حديث جبريل رواه عمر أطول من هَذَا, حديث أبي هريرة رواه الشيخان, حديث عمر انفرد بِهِ مسلم الطويل في بيان الإِسْلامُ والإيمان.

هَذَا الحديث حجة عَلَى المؤلف؛ لِأَنَّ الحديث فرق بينهما, الإيمان فسره بالأعمال الباطنة قَالَ: أن تؤمن بالله وملائكته ولقائه والبعث الآخر, هَذِهِ أعمال باطنة, وَالإِسْلامُ فسره بالأعمال الظاهرة, قَالَ: أن تعبد الله ولا تشرك بِهِ شيئًا وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة فرق بينهما, هَذَا حجة عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فرق بين الإيمان وَالإِسْلامُ, وَهُوَ يَقُولُ: الإيمان وَالإِسْلامُ شيء واحد.

قوله: «أن تلد الأمة ربتها», يَعْنِي سيدتها, الأمة إِذَا سراها الملك فتلد بنت فتكون سيدة عَلَى أمها؛ لِأَنَّهَا بنت الملك, إِذَا تسرى الملك عبدة صارت البنت سيدة عَلَى أمها وَعَلَى غيرها, وَكَذَلِكَ الابن ربها, ابن الملك ملك مثله, يكون سيد عَلَى أمه وَعَلَى غيرها, أن تلد الأمة ربتها وفي لفظ ربها يَعْنِي سيدها.

قوله: « في خمس لا يعلمهن إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}[لقمان/34] الآية», هَذِهِ مفاتيح الغيب{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}[لقمان/34].

(المتن)

ذكر الخبر الدال على أن الإسلام والإيمان اسمان بمعنى واحد، يشتمل ذلك المعنى على الأقوال والأفعال معا

160 - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي قزعة، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، أنه قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه أن لا آتيك، فما الذي بعثك به؟ قال: «الإسلام»، قال: وما الإسلام؟، قال: «أن تسلم قلبك لله، وأن توجه وجهك لله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل الله من عبد توبة أشرك بعد إسلامه».

(الشرح)

إسناده صحيح. وأبو قَزْعة هو سويد بن حُجَيْر البصري، ومعاوية هو ابن حَيْدة بن معاوية بن كعب القشيري، صحأبي نزل البصرة، ومات بخراسان، وهو جد بهز بن حكيم، وأخرجه أحمد 5/3 عن عفان، والطبراني19/"1036" من طريق أسد بن موسى، كلاهما عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد.

عَلَى كُلُّ حال لَيْسَ فِيهِ حجة للمؤلف عَلَى أن الإِسْلامُ بمعنى الإيمان, فسره باللسان أن تسلم قلبك وأن تبتعد الْمُشْرِكِينَ كُلُّ هَذِهِ أعمال.

(المتن)

ذكر الخبر الدال على أن الإيمان والإسلام اسمان بمعنى واحد

161 - أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري، أنبأنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء».

(الشرح)

إسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو في الموطأ 3/109 في الجامع: باب ما جاء في معي الكافر، ومن طريق مالك أخرجه البخاري "5396" في الأطعمة: باب المؤمن يأكل في معي واحد.

والشاهد قوله الْمُؤْمِن أو اَلْمُسْلِم يأكل في إناء واحد استدل بِهِ ابن حبان عَلَى أن الإيمان وَالإِسْلامُ شيء واحد, وَهُوَ قول لبعض العلماء وَهُوَ اختيار البخاري, والقول الثاني أن الإِسْلامُ والإيمان ليسا بمعنى واحد, بَلْ يتفقان ويختلفان, فَإِذَا ذكر أحدهما دخل فِيهِ الآخر, وَإِذَا اجتمعا فسر الإِسْلامُ بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة, كما في حديث جبريل, جبريل فسر الإِسْلامُ بالأعمال الظاهرة, والإيمان بالأعمال الباطنة لما اجتمعا, أَمَّا إِذَا جاء أحدهما {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَاب}[آل عمران/19].

يشمل الإيمان وَالإِسْلامُ, «الْمُؤْمِن القوي خير وأحب إِلَى الله من الْمُؤْمِن الضعيف», الْمُؤْمِن يشمل الْمُؤْمِن وَاَلْمُسْلِم, هَذَا هُوَ الصواب, ابن حبان مشى عَلَى أن الإِسْلامُ والإيمان واحد, مثل ما اختاره البخاري, والصواب الَّذِي عَلَيْهِ الجمهور وَهُوَ اختيار المحققين كشيخ الإِسْلامُ ابن تيمية أن الإِسْلامُ والإيمان يختلفان بالافتراق والاتفاق, الإِسْلامُ إِذَا ذكر وحده دخل فِيهِ الآخر, وَإِذَا اجتمعا لصار كُلُّ واحد منهم معنى, مثل الفقير والمسكين, ومثل الربوبية والإلوهية, أشياء كثيرة من هَذَا الباب.

يأتي أن رجلاً كَانَ كافر وحلبت له سبع شياه شربها ثُمَّ لما أسلم حلبت له واحدة فشرب وَلَمْ يستطع شرب الثانية.

(المتن)

ذكر الخبر الدال على أن هذا الخطاب مخرجه مخرج العموم، والقصد فيه الخصوص، أراد به بعض الناس لا الكل.

162 - أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان الطائي بمنبج أنبأنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف كافر، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة، فشرب حلابها، ثم أخرى فشرب حلابها، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة، فحلبت فشرب حلابها، ثم أمر له بأخرى، فلم يستتمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يشرب في معى واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء».

(الشرح)

قوله: (ذكر الخبر الدال على أن هذا الخطاب مخرجه مخرج العموم، والقصد فيه الخصوص، أراد به بعض الناس لا الكل), يَقُولُ: هَذَا لَيْسَ كُلُّ النَّاس, يَعْنِي هَذَا شخص واحد اللي شرب سبع شياه أو كذا, ابن حبان يَقُولُ: هَذَا خاص ببعض النَّاس لَيْسَ كُلُّ الْكُفَّار.

قوله: «إِن الْمُؤْمِن», يَعْنِي اَلْمُسْلِم, هَذَا استدل بِهِ عَلَى أن الإيمان هُوَ الإِسْلامُ.

وإسناده صحيح عَلَى شرط مسلم وَهُوَ في الموطأ ومن طريق مالك أخرجه أحمد ومسلم.

ما ذهب إليه ابنُ حبان من أن الحديث ورد في كافر مخصوص قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو جعفر الطحاوي، وجزم به ابنُ عبد البَرّ، فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله. وقال غيرهم: ليس المراد به ظاهره، وإنما هو مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معي واحد، والكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا. انظر "الفتح" 9/538 -540.

الأصل أن يحمل النص عَلَى ظاهره, القول بِأَنَّهُ كافر معين إِذَا وحد الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ كافر معين قول ابن حبان يكون أقرب, الأصل حمل الحديث عَلَى ظاهره هَذَا هُوَ الأصل, ولا يعدل عنه إِلَّا بدليل.

الحديث صريح الكافر يأكل في سبعة أمعاء, وَالْمُؤْمِن يأكل في معى واحد, العلة الإيمان والكفر, هَذَا هُوَ الأصل, لكن ابن حبان سيقول هَذَا في كافر خاص.

(المتن)

ذكر خبر أوهم عالمًا من الناس، أن الإسلام والإيمان بينهما فرقان

163 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، حدثنا ابن أبي السري، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً، ولم يعط رجلاً منهم شَيْئًا، فقلت: يا رسول الله، أعطيت فلانًا وفلانًا، ولم تعط فلانًا شَيْئًا وهو مؤمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مسلم» قالها ثلاثًا قال الزهري: نرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل.

(الشرح)

الكلمة يَعْنِي نطق الشهادتين, والإيمان العمل, ولَيْسَ مقصود الزهري رحمه الله أن الإِسْلامُ لا يكون إِلَّا الكلمة, لكن مقصوده أن كالكافر إِذَا نطق بالشهادتين حكم بإسلامه, يَقُولُ: هذا الدَّلِيل استدل بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أن الإِسْلامُ والإيمان شيئان؛ لِأَنَّ سعد بن أبي وقاص قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى رجلاً ما لك عَنْ فلان فوالله إني أراه (..) قَالَ: أو مسلمًا؟ يَعْنِي ما بلغه الإيمان, أقرها ثلاثًا, هَذَا دَلِيل من أدلة الجمهور عَلَى أن الإيمان غير الإِسْلامُ, وأنهما يجتمعان ويفترقان.

(المتن)

ذكر خبر أوهم بعض المستمعين ممن لم يطلب العلم من مظانه، أنه مضاد للخبرين اللذين ذكرناهما

164 - أخبرنا ابن قتيبة، قال: حدثنا يزيد بن موهب، قال: حدثني الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن المقداد بن الأسود أنه أخبره، أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة وقال: أسلمت لله، أفأقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتله»، قلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال».

(الشرح)

يَعْنِي إِن قتلته تكون بمنزلته قبل أن تقتله يَعْنِي تكن مهدر الدم, وَهُوَ بمنزلتك قبل أن تقتله فَهُوَ معصوم الدم, إِذَا قَالَ: لا إله إِلَّا الله صار معصوم الدم, وأنت إذا قتلته تصير مهدر الدم, فأنت بمنزلته قبل أن يَقُولُ كلمته مهدر الدم, وَهُوَ بمنزلتك بَعْدَ أن قالها معصوم الدم, ولَيْسَ المراد أَنَّهُ يكون كافرًا لا, أنت بمنزله قبل أن يَقُولُ يَعْنِي مهدر الدم؛ لأنك اعتديت, وَهُوَ يكون معصوم الدم؛ لِأَنَّهُ عصم دمه بالإسلام, هَذَا رواه مسلم في صحيحه, أخرجه مسلم والبخاري في المغازي.

(المتن)

قال أبو حاتم رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله» يريد به: أنك تقتل قودًا، لأنه كان قبل أن أسلم حلال الدم، وإذا قتلته بعد إسلامه صرت بحالة تقتل مثله قودًا به، لا أن قتل المسلم يوجب كفرا يخرج من الملة، إذ الله قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[البقرة/178].

(الشرح)

قوله: «تقتل قودًا», قودًا يَعْنِي قصاصًا لأنك مهدر الدم.

ولَيْسَ المراد أنك إِذَا قتلته تكون كافرًا لا, إِذَا قتلته تكون مهدر الدم يقتص منك؛ لأنك قتلته بغير حَقّ.

قوله: (ذكر خبر أوهم بعض المستمعين ممن لم يطلب العلم من مظانه، أنه مضاد للخبرين اللذين ذكرناه), المراد بالخبرين: هذا الخبر الذي قبل هذا، والخبر الذي ترجمه" بالخبر الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ اسْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ" يَشْتَمِلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ قبل هذا الخبر بثلاثة أحاديث".

(المتن)

ذكر إثبات الإيمان للمقر بالشهادتين معًا

165 - أخبرنا الفضل بن الحباب، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن حجاج الصواف، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: كانت لي غنيمة ترعاها جارية لي في قبل أحد، والجوانية، فاطلعت عليها ذات يوم، وقد ذهب الذئب منها بشاة، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتها صكة، فعظم ذلك علي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أفلا أعتقها؟ قال: «ائتني بها»، فأتيته بها، فقال: «أين الله؟ » قالت: في السماء، قال: «من أنا؟ » قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أعتقها، فإنها مؤمنة».

(الشرح)

وَهَذَا الحديث فِيهِ دَلِيل عَلَى أن لمقر بالشهادتين يكون مؤمنًا, هَذَا حديث معاوية بن الحكم السلمي رواه مسلم في الصحيح, وَفِيهِ أن له جارية أعجمية ترى الغنم خلف أحد, فاطلع عليها وَهِيَ ترعى فرأى الذئب أخذ شاةً وأكلها فغضب عليها, كيف تترك الذئب يأكل الشاة, فصكها صكة ثُمَّ عظم عَلَيْهِ ذَلِكَ, هَذِهِ مسكينة لَيْسَ لها حيلة, ما استطاعت أن تخلص الشاة من الذئب, فعظم ذَلِكَ عَلَيْهِ, فَذَهَبَ إِلَى رسول الله وَقَالَ: يا رسول الله إني صككت هَذِهِ, فعظم عَلَيْهِ ذَلِكَ فأراد أن يعتقها, فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إِمَّا إنك لو لَمْ تفعل ذَلِكَ للفحتك النَّارِ», أو كما قَالَ صلى الله عليه وسلم.

فَقَالَ: «ائتني بها», يختبرها, قَالَ: «أين الله؟ قالت في السَّمَاءِ, قَالَ: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله, قَالَ: أعتقها فإنها مؤمنة».

احتج بِهِ أهل العلم عَلَى إثبات العلو وأن الله فوق العرش في السَّمَاءِ, وَفِيهِ الرد عَلَى المعطلة الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ (..) ولا ترفع أصبعك إِلَى السَّمَاءِ, لو رفعت أصبعك وعندك جهمي يقطع أصبعك, احذر أن ترفع أصبعك وعندك جهمي, يقطع اصبعك يَقُولُ: هَذَا تنقص لله تجعل الله في مكان معين هُوَ في كُلُّ مكان, تعالى الله عما يَقُولُونَ.

ويعترضون عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أين الله؟ يَقُولُ الرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم سأله سؤال فاسد, لكن هَذِهِ الجارية أعجمية سألها سؤال فاسد يناسب عقلها, وأقرها عَلَى الجواب الفاسد, هكذا اتهموا الرَّسُوْل عليه الصلاة والسلام, يَقُولُ: مقصد الرَّسُوْل من الله, لَيْسَ المقصود أين الله المقصود من الله؟ لكن قَالَ: أين الله من أجل الجارية الأعجمية ما تفهم إلا هَذَا, الرَّسُوْل ما يعرف أن يَقُولُ: من الله؟! الرَّسُوْل أفصح النَّاس, ثُمَّ من أخصر حرفين وأين ثلاثة حروف, فهؤلاء والعياذ بالله بلغت بهم الحال إِلَى أن يتهمون النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام؛ لِأَنَّ في هَذَا مناقضة لمذهبهم.

يَقُولُونَ: ما يقال إِن الله في السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا تحيز وتنقص لله, اللي يكون في مكان جسد متحيز وَهَذَا تنقص لله, فالله ما يكون في مكان, وأين يسأل بها عَنْ المكان, فلهذا اتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام, قَالُوا: إِنَّهُ سأل سؤال فاسد ما يناسب, لكن اضطر إِلَى هَذَا السؤال؛ لِأَنَّ الجارية أعجمية ما تفهم إِلَّا هَذَا, وأقرها لما قالت: في السَّمَاءِ, أقرها عَلَى جواب فاسد؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي تفهمه, نسأل الله السلامة والعافية.

المؤلف يَقُولُ: من أقر بالشهادتين فَهُوَ مؤمن, لكن هَلْ في الشهادتان الآن؟ قالت: الله في السَّمَاءِ, يَعْنِي شهدت لله بالعلو, أثبتت وحدانية الله.

أخرجه ابن شيبة وأحمد ومسلم في المساجد قَالَ: تحريم الكلام في الصَّلَاة.

والجّوّانية: بفتح أوله، وتشديد ثانيه، وكسر النون، وياء مشددة: موضع قرب المدينة. وآسَفُ: أغضب. وصككتُها: لطمت وجهها.

(المتن)

ذكر البيان بأن الإيمان أجزاء، وشعب لها أعلى وأدنى

166 - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا جرير، حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، فأرفعها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».

(الشرح)

وَهَذَا رواه الشيخان, في رواية البخاري «الإيمان بضع وستون شعبة», ورواية مسلم: «الإيمان بضع وسبعون», وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فِيهِ الرد عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان.

الحديث صريح «بضع وسبعون شعبة», كلها داخلة في مسمى الإيمان؛ حَتَّى إِن البيهقي رحمه الله تتبع هَذِهِ الشعب وأوصلها إِلَى أعلى البضع, إِلَى تسع وسبعين, أعلى البضع من ثلاثة إِلَى تسعة, تتبعها من النصوص, وَهَذَا فِيهِ الرد عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يولون الأعمال تصديق بالقلب فقط, وأعمال القلوب وأعمال الجوارح ليست داخلة في مسمى الإيمان.

ومثل حديث وفد عبد القيس: «أن تؤمنون بالله وحده وشهادة ألا إله إِلَّا الله وإقامة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وأداء الخمس», فأدخل الأعمال في مسمى الإيمان.

(المتن)

قال أبو حاتم: أشار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر إلى الشيء الذي هو فرض على المخاطبين في جميع الأحوال، فجعله أعلى الإيمان.

(الشرح)

أعلاها قول: لا إله إِلَّا الله, وأدناها أماطة الأذى, وبين الأعلى والأدنى شعب متفاوتة مِنْهَا ما يقرب من شعبة الشَّهَادَةِ, وَمِنْهَا ما يقرب من إماطة الأذى, الصَّلَاة شعبة وَالزَّكَاة شعبة والصوم شعبة, أعلاه كلمة التوحيد, وأدنى شيء إماطة الأذى عَنْ الطريق, والحياء شعبة من الإيمان وعمل قلبي.

قوله: (قال أبو حاتم: أشار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر إلى الشيء الذي هو فرض على المخاطبين في جميع الأحوال), وَهُوَ كلمة التوحيد الشاهد.

(المتن)

 ثم أشار إلى الشيء الذي هو نفل للمخاطبين في كل الأوقات، فجعله أدنى الإيمان.

(الشرح)

وَهُوَ إماطة الأذى عَنْ الطريق.

(المتن)

 فدل ذلك على أن كل شيء فرض على المخاطبين في كل الأحوال، وكل شيء فرض على بعض المخاطبين في بعض الأحوال، وكل شيء هو نفل للمخاطبين في كل الأحوال، كله من الإيمان.

(الشرح)

الفرائض والنوافل كلها من الإيمان.

(المتن)

 وأما الشك في أحد العددين، فهو من سهيل بن أبي صالح في الخبر، كذلك قاله معمر، عن سهيل.

(الشرح)

يَعْنِي بضع وستون وبضع وسبعون.

(المتن)

 وقد رواه سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح مرفوعًا، وقال: «الإيمان بضع وستون شعبة».

(الشرح)

وَهَذَا في البخاري.

(المتن)

 ولم يشك، وإنما تنكبنا خبر سليمان بن بلال في هذا الموضع.

(الشرح)

تنكبنا يَعْنِي تركناه ملنا عنه.

(المتن)

 واقتصرنا على خبر سهيل بن أبي صالح لنبين أن الشك في الخبر ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو كلام سهيل بن أبي صالح كما ذكرناه.

(الشرح)

هَذَا فِيهِ الرد عَلَى بَعْض الأحناف المتعصبين الْمُرْجِئَةِ؛ الَّذِينَ يرون أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان, الحديث فِيهِ شك, الإيمان بضع وستون شعبة وبضع وسبعون, قَالُوا: عَلَى هَذَا ما يعتمد, نصرة لمذهبه أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان, هَذَا كلام باطل الشك من الرواي.

(المتن)

ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به سهيل بن أبي صالح

167 - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا أبو قدامة عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان».

قال أبو حاتم: اختصر سليمان بن بلال هذا الخبر، فلم يذكر ذكر الأعلى والأدنى من الشعب، واقتصر على ذكر الستين دون السبعين، والخبر في بضع وسبعين خبر متقصى صحيح لا ارتياب في ثبوته، وخبر سليمان بن بلال خبر مختصر غير متقصى، وأما البضع، فهو اسم يقع على أحد أجزاء الأعداد، لأن الحساب بناؤه على ثلاثة أشياء: على الأعداد، والفصول، والتركيب، فالأعداد من الواحد إلى التسعة، والفصول هي العشرات والمئون والألوف، والتركيب ما عدا ما ذكرنا.

وقد تتبعت معنى الخبر مدة، وذلك أن مذهبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم قط إلا بفائدة، ولا من سننه شيء لا يعلم معناه، فجعلت أعد الطاعات من الإيمان.

(الشرح)

أبي حاتم يعد, ابن حبان يعد الشعب.

(المتن)

 فإذا هي تزيد على هذا العدد شَيْئًا كثيرًا، فرجعت إلى السنن، فعددت كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، فإذا هي تنقص من البضع والسبعين، فرجعت إلى ما بين الدفتين من كلام ربنا، وتلوته آية آية بالتدبر، وعددت كل طاعة عدها الله جل وعلا من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين.

فضممت الكتاب إلى السنن، وأسقطت المعاد منها، فإذا كل شيء عده الله جل وعلا من الإيمان في كتابه، وكل طاعة جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان في سننه تسع وسبعون شعبة لا يزيد عليها ولا ينقص منها شيء.

(الشرح)

ما شاء الله, ابن حبان عِنْد عناية رحمه الله, يَقُولُ: الرَّسُوْل قَالَ: «الإيمان بضع وسبعون شعبة», والبضع من ثلاث إِلَى تسعة, يَعْنِي يمكن يصل إِلَى تسعة وسبعين, يَقُولُ: جعلت أعد كُلُّ ما سماه الله طاعة, وجدتها تنقص عَنْ البضع والسبعين, فرجعت إِلَى السُّنَّة فعددت كُلُّ طاعة سماها الرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم طاعة وجدتها تنقص, ورجعت مرة أخرى تدبرت الْقُرْآن آية آية, ثُمَّ ضممت ما في السُّنَّة إِلَى ما في الكتاب وأسقطت المكرر فوصلت إِلَى تسعة وسبعين, يَعْنِي ما أعده الله طاعة وما أعده الرَّسُوْل طاعة ضممت بعضها إِلَى بَعْض والمكرر أسقط فصار الجميع تسعة وسبعون مثل البيهقي, وافق البيهقي, البيهقي سمى كتابه اسمه " شعب الإيمان " وصلت إِلَى تسعة وسبعين, عد الشعب تتبعها من النصوص.

(المتن)

فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخبر أن الإيمان بضع وسبعون شعبة في الكتاب والسنن، فذكرت هذه المسألة بكمالها بذكر شعبة في كتاب «وصف الإيمان وشعبه».

(الشرح)

قال القاضي عياض فيما نقله الحافظ في "الفتح" 1/52: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بِكَوْن ذلك هو المراد صعوبة. ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان.

قال الحافظ: "وأقربها إلى الصواب طريقةُ ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره وَهُوَ..." ثم سردها.

(المتن)

 بما أرجو أن فيها الغنية للمتأمل إذا تأملها، فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب، والدليل على أن الإيمان أجزاء بشعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خبر عبد الله بن دينار: «الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله»، فذكر جزءًا من أجزاء شعبه، هي كلها فرض على المخاطبين في جميع الأحوال، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: وأني رسول الله.

(الشرح)

داخلة في كلمة التوحيد, إذا أطلق أحدهما دخل فِيهِ الأخرى, إِذَا أطلقت الشهادتين دخلت فِيهَا الأخرى.

(المتن)

 والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار وما يشبه هذا من أجزاء هذه الشعبة، واقتصر على ذكر جزء واحد منها، حيث قال: «أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله»، فدل هذا على أن سائر الأجزاء من هذه الشعبة كلها من الإيمان، ثم عطف فقال: «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»، فذكر جزءًا من أجزاء شعبه هي نفل كلها للمخاطبين في كل الأوقات، فدل ذلك على أن سائر الأجزاء التي هي من هذه الشعبة وكل جزء من أجزاء الشعب التي هي من بين الجزأين المذكورين في هذا الخبر اللذين هما من أعلى الإيمان وأدناه كله من الإيمان.

(الشرح)

يَعْنِي ذكر أعلاها وأدناها وترك ما بينهما من الشعب.

(المتن)

 وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «الحياء شعبة من الإيمان»، فهو لفظة أطلقت على شيء بكناية سببه، وذلك أن الحياء جبلة في الإنسان، فمن الناس من يكثر فيه، ومنهم من يقل ذلك فيه، وهذا دليل صحيح على زيادة الإيمان ونقصانه، لأن الناس ليسوا كلهم على مرتبة واحدة في الحياء، فلما استحال استواؤهم على مرتبة واحدة فيه، صح أن من وجد فيه أكثر، كان إيمانه أزيد، ومن وجد فيه منه أقل، كان إيمانه أنقص، والحياء في نفسه: هو الشيء الحائل بين المرء وبين ما يباعده من ربه من المحظورات، فكأنه صلى الله عليه وسلم جعل ترك المحظورات شعبة من الإيمان بإطلاق اسم الحياء عليه، على ما ذكرناه.

ذكر الإخبار عن وصف الإسلام، والإيمان بذكر جوامع شعبهما

168 - أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن المنهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، وقلنا: لعلنا لقينا رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فنسأله عن القدر، فلقينا ابن عمر، فظننت أنه يكل الكلام إلي، فقلنا: يا أبا عبد الرحمن، قد ظهر عندنا أناس يقرءون القرآن يتقفرون العلم تقفرًا، يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: فإن لقيتهم، فأعلمهم أني منهم بريء، وهم مني برآء، والذي يحلف به ابن عمر: لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهبًا، ثم لم يؤمن بالقدر لم يقبل منه، ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسًا، إذ جاء شديد سواد اللحية، شديد بياض الثياب، فوضع ركبته على ركبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ما الإسلام؟ قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت»، قال: صدقت، فعجبنا من سؤاله إياه، وتصديقه إياه، قال: فأخبرني: ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه رسله، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره حلوه ومره»، قال: صدقت، قال: فعجبنا من سؤاله إياه، وتصديقه إياه، قال: فأخبرني: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، قال: فأخبرني متى الساعة؟ قال: «ما المسئول بأعلم من السائل»، قال: فما أمارتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان»، قال: فتولى وذهب، فقال عمر: فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثالثة، فقال: «يا عمر، أتدري من الرجل؟ » قلت: لا، قال: «ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».

(الشرح)

هَذَا رواه الإمام مسلم في صحيحه.

قوله: (يتقفرون العلم تقفرًا), يَعْنِي يطلبون العلم, يقرؤون الْقُرْآن يَعْنِي في البصرة, ناس يقرؤون الْقُرْآن ويطلبون العلم, لكن عندهم هَذِهِ العقيدة الخبيثة ينفون القدر.

قوله: (يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف), يَعْنِي ينفون القدر يَقُولُونَ: ما قدر الله شيء, وأن الْأَمْرِ أنف يَعْنِي مستأنف وجديد, ما يعلم بِهِ الله حَتَّى يقع, إِذَا وقع علم بِهِ, فَهُوَ مستأنف, هؤلاء كفرة القدرية الأولى؛ الَّذِينَ أنكروا علم الله ونسبوا الله إِلَى الجهل كفرة, انقرض هؤلاء, ثُمَّ بقيت الفرقة عامة القدرية؛ الَّذِينَ يثبتون العلم والكتابة ولكن لا يثبتون عموم المشيئة عموم الإرادة (..)الخلق.

قوله: «شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت», هَذِهِ خصال الإِسْلامُ الظاهرة, الشهادتين وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة والصوم الحج, هَذِهِ خصال الإِسْلامُ الظاهرة.

قوله: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه رسله، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره حلوه ومره»، هَذِهِ خصال الإيمان, الإيمان أمور باطنة الإيمان بالله, والإيمان بالملائكة, كتبه, ورسوله, واليوم الآخر, والإيمان بالقدر خيره وشره, وَالإِسْلامُ خصال ظهاره.

وَهَذَا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه مطولًا, ورواه الشيخان من حديث أبي هريرة مختصرًا, وَفِيهِ بيان خصال الإِسْلامُ وخصال الإيمان, وفي آخر الحديث قَالَ: «ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».

وفي لفظ: «أمر دينكم», فدل عَلَى أن الدين له مراتب ثلاثة: الإِسْلامُ, والإيمان, والإحسان, الدين يشمل المراتب الثلاثة, والمؤلف أتى بِهِ ليبين خصال الإِسْلامُ وخصال الإيمان.

قَالَ في الترجمة: (ذكر الإخبار عن وصف الإسلام، والإيمان بذكر جوامع شعبهما), وَعِنْد المحققين من أهل العلم أن الإِسْلامُ والإيمان يختلف معناهما بالاقتران والتجرد, فَإِذَا اقترنا كما في هَذَا الحديث حديث جبريل فسر الإِسْلامُ بالأعمال الظاهرة, وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة.

 

logo
2025 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد