بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ ابن حبان رحمنا الله وإياه في صحيحه:
ذكر البيان بأن القارئ لا يقرأ شيئا أبلغ له عند الله جل وعلا من قل أعوذ برب الفلق
795 - أخبرنا الفضل بن الحباب، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، عن عقبة بن عامر، قال: تبعت النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو راكب، فوضعت يدي على يده، فقلت: يا رسول الله، أقرئني من سورة هود ومن سورة يوسف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تقرأ شَيْئًا أبلغ عند الله من قل أعوذ برب الفلق».
(الشرح)
هَذَا عَلَى لفظ الحديث, قل أعوذ برب الفلق من إحدى المعوذتين يشرع قراءتهما بَعْدَ الصلوات, مَعَ كُلّ هُوَ الله أحد وَعِنْد النوم وفي الصباح والمساء{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}[الفلق/1]. فِيهَا الاستعاذة بالله من جميع الشرور, فلق الصبح {مِن شَرِّ مَا خَلَق}[الفلق/2]. عام جميع المخلوقات, {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب}[الفلق/3].وَهُوَ الليل إِذَا دخل في الظلام؛ لِأَنَّهُ تنتشر الشرور ويخرج أهل الشر, وتخرج الحيات والعقارب, {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد}[الفلق/4]؛ النفاثات السواحر الَّتِي يعقدن وينفثن في عقدهن, {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد}[الفلق/5]. هِيَ عامة استعاذة بالله من جميع الشرور.
وفي الحديث الآخر أن قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب النَّاس لَمْ يتعوذ متعوذ بمثلهما.
(المتن)
ذكر البيان بأن القارئ لا يقرأ شَيْئًا يشبه قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس
796 - أخبرنا محمد بن الحسين بن مكرم البزار بالبصرة، قال: حدثنا عمرو بن علي بن بحر، حدثنا بدل بن المحبر، قال: حدثنا شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي، قال: حدثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ يا جابر»، قال: قلت: ما أقرأ بأبي وأمي أنت؟، قال: «{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}[الفلق/1], و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}[الناس/1]»، فقرأتهما، فقال صلى الله عليه وسلم «اقرأ بهما، ولن تقرأ بمثلهما».
(الشرح)
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1) مَلِكِ النَّاس (2) إِلَهِ النَّاس}[الناس/1-3]؛ استعاذة بالربوبية والإلوهية والملك, رب النَّاس, ملك النَّاس, إله النَّاس, ربوبية الله وملكه وإلوهيته, {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ}؛ الشيطان, {الْخَنَّاس}[الناس/4]. الَّذِي إِذَا ذكر الله خنس واختفى, وَإِذَا غفل الإنسان ظهر, {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاس}[الناس/5-6].
وَهَذَا فِيهِ دلل عَلَى أن الوسوسة قَدْ يكون الصدر عَلَى أن الشيطان قَدْ يكون في الصدور, فِيهِ الرد عَلَى من قَالَ بِأَنَّهُ لا يمكن أن يتلبس بالإنسان, قَالَ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاس}[الناس/5-6].
(المتن)
ذكر الإخبار عما يستحب للمرء قراءة المعوذتين في أسبابه
797 - أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، قال: قلت لأبي بن كعب: إن ابن مسعود لا يكتب في مصحفه المعوذتين، فقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}[الفلق/1] فقلتها، وقال لي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}[الناس/1] فقلتها» فنحن نقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الإباحة للمرء أن يقرأ القرآن، وهو واضع رأسه في حجر امرأته إذا كانت حائضا
798 - أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، قال: حدثنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن عائشة، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر إحدانا، فيتلو القرآن وهي حائض».
(الشرح)
وَهَذَا لا يضر؛ لِأَنَّ حيضها لا يؤثر, وَإِنَّمَا هِيَ ممنوع من خصوص الصَّلَاة, لما قَالَ النَّبِيّ لعائشة أَنَّهُ يريد الخمرة وَهِيَ سجادة صغيرة من سعف في المسجد, فقالت: إني حائض, قَالَ: «ليست حيضتك في يدك».
(المتن)
ذكر الإباحة لغير المتطهر أن يقرأ كتاب الله ما لم يكن جنبًا
799 - أخبرنا أبو قريش محمد بن جمعة الأصم، قال: حدثنا محمد بن ميمون المكي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن شعبة، ومسعر، وذكر أبو قريش آخر معهما، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن ما خلا الجنابة».
(الشرح)
إسناده حسن عبد الله بن سلمة بكسر اللام هُوَ المرادي الكوفي بن سلمة, روى له أصحاب السنن ووثقه العجلي, ويعقوب بن شيبة وَقَالَ شبعة عَنْ عمرو بن مرة: كَانَ عبد الله بن سلمة يحدثنا فكان قَدْ كبر, فكنا نعرف وننكر, وَقَالَ الحافظ في التقريب: صدوق تغير حفظه, وأخرج الحديث الحميدي والطيالسي وأحمد وأبو داود والنسائي, وأخرجه أَيْضًا ابن أبي شيبة والنسائي, وَقَالَ الترمذي: حديث حسن صحيح.
لا بأس أن يقرأ الْقُرْآن وَهُوَ عَلَى غير طهارة, إِذَا كَانَ عَنْ ظهر قلب لا يمس المصحف, إِلَّا إِذَا كَانَ جنبًا, وَإِذَا قرأها بنية الدعاء لا بنية القراءة لا بأس.
وقد تأول أبو بكر الباقلاني في كتاب "الانتصار"، وتبعه عياض وغيره، ما حُكي عن ابن مسعود، فقال: لم ينكر ابن مسعود كونَهما من القرآن، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شَيْئًا إلا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذَلِكَ.
يَعْنِي ما أنكر قراءنيتهما ولكن أنكر وضعهما في المصحف, لكن غيره حفظ هَذَا من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ومن حفظ حجة عَلَى من لَمْ يحفظ هَذَا الَّذِي بلغه رضي الله عنه.
(المتن)
800 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا حامد بن يحيى، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن مسعر، وشعبة، وذكر ابن قتيبة آخر معهما، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه من قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبًا».
ذكر خبر قد يوهم من لم يحكم صناعة العلم أنه مضاد لخبر علي بن أبي طالب الذي ذكرناه
801 - أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على أحيانه».
(الشرح)
هَذَا عام وذاك خاص, ذكر الله عَلَى جميع أحواله ما عدا قراءة الْقُرْآن فَإِنَّهُ مستثنى من حديث علي.
(المتن)
ذكر خبر قد يوهم غير المتبحر في صناعة الحديث أنه مضاد لخبر علي بن أبي طالب الذي ذكرناه
802 - أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا زكريا بن يحيى الواسطي، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: حدثني أبي، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على أحيانه».
قال أبو حاتم: قول عائشة: يذكر الله على أحيانه، أرادت به الذكر الذي هو غير القرآن، إذ القرآن يجوز أن يسمى الذي ذكر، وقد كان لا يقرؤه وهو جنب، وكان يقرؤه في سائر الأحوال.
(الشرح)
القرى، ذكر عام يشمل الْقُرْآن وغيره وَالْقُرْآن مستثنى, لكن الحديث فِيهِ يَعْنِي بَعْضُهُمْ حسنه, وهناك من يضعفه, الشيخ سليمان العلوان يرى أَنَّهُ يجوز للجنب أن يقرأ, الحديث هنا حسنه, لكن الجماهير معروف جماهير العلماء عَلَى أَنَّهُ الجنب لا يقرأ, والعمل بحديث علي هَذَا.
(المتن)
ذكر خبر قد يوهم غير طلبة العلم من مظانه أنه مضاد للخبرين الأولين اللذين ذكرناهما
803 - أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، وخالد بن عمرو بن النضر،، قالا: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن الحضين بن المنذر، عن المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر، أو، قال: على طهارة».
قال أبو حاتم رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر»، أراد به صلى الله عليه وسلم الفضل، لأن الذكر على الطهارة أفضل، لا أنه كان يكرهه لنفي جوازه.
(الشرح)
قوله: (ذكر خبر قد يوهم غير طلبة العلم من مظانه), غير الَّذِينَ يطلبون العلم من مظانه,، أَمَّا الَّذِينَ يطلونه من غير مظانه فهؤلاء هم الَّذِينَ يشكل عَلَيْهِمْ.
وَهَذِهِ الكراهة كراهة تنزيه ليست كراهة تحريم, الرَّسُوْل أراد الفضيلة وَإِلَّا الإنسان يذكر الله ولو لَمْ يتوضأ, بَعْض النَّاس يظن أَنَّهُ مخالف للأحاديث السابقة, وحديث عائشة أَنَّهُ يذكر الله عَلَى كُلّ أحيانه, فالجمع بينهما وبين حديث عائشة, حديث عائشة يفيد الجواز, يجوز للإنسان أني ذكر الله وَهُوَ غير متوضئ, وَهَذَا الحديث يَدُلَّ عَلَى فضيلة الذكر عَلَى الظهر, وأن الأفضل أن يذكر الله عَلَى طهارة, وإن ذكره على غير طهارة فلا حرج.
وقراءة التفسير عَلَى غير طهارة لا بأس من باب أولى, الْقُرْآن يجوز أن تقرأه عَنْ ظهر قلب عَلَى غير طهارة, بشرط ألا تمس المصحف, والتفسير من باب أولى, ما في إشكال في التفسير؛ حَتَّى الجنب يقرأ التفسير.
فَإِن قِيلَ: إِذَا قرأت الْقُرْآن عَلَى غير طهارة وَكَانَ في موضع سجدة أأسجد؟ نعم عَلَى القول بأن سجدة التلاوة ليست صلاة, هَذَا اختيار البخاري وابن عمر أَنَّهَا خضوع لله لا يشترط لها الطهارة, والجمهور يرون أَنَّهُ يشترط لها الطهارة, واستقبال القبلة والسلام.
فَإِن قِيلَ: الحائض تقرأ في التفسير؟ وتقرأ الْقُرْآن عَلَى الصحيح عَنْ ظهر قلب؛ لِأَنَّ الجمهور قاسوها عَلَى الجنب وَهَذَا قياس مَعَ الفارق, والأحاديث في هَذَا أحاديث ضعيفة, في أحاديث ضعيفة وقياس هَذَا دليلهم, الجمهور قَالُوا: الحائض ما تقرأ قياسًا عَلَى الجنب وَهَذَا قياس مَعَ الفارق؛ لِأَنَّ الجنب مدته لا تطول والحائض مدتها تطول؛ ولأنها قَدْ تنسى الْقُرْآن إِذَا كانت حافظة, وَقَدْ تحتاج إِلَى قراءته إِذَا كانت مدرسة أو طالبة, ولَيْسَ هناك دَلِيل يمنعها من القراءة عَنْ ظهر قلب, وَكَذَلِكَ النفساء قَدْ تطول مدتها, والجمهور المنع قياسًا عَلَى الجنب, وهناك حديث ضعيف.