بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ اِبْن حبان رحمه الله تعالى في صحيحه:
ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «غفر له ما تقدم من ذنبه» أراد به من الصلاة إلى الصلاة.
1043- أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن جامع بن شداد، أنه سمع حمران بن أبان يحدث أبا بردة، عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من أتم الوضوء كما أمره الله جل وعلا، فالصلوات الخمس كفارة لما بينهن».
(الشرح)
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه, تكون صلاة الظهر يكفر الله بها الخطايا إِلَى صلاة العصر, وصلاة العصر يكفر الله بها الخطايا إِلَى صلاة المغرب, وصلاة المغرب يكفر الله بها الخطايا إِلَى صلاة العشاء, وصلاة العشاء يكفر الله بها الخطايا إِلَى صلاة الفجر, وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه, والمراد الصغائر, أما الكبائر فلابد لها من توبة.
قَالَ: الحديث خرجه مسلم في صحيحه, وهذا الإسناد إسناده صحيح وأخرجه الطيالسي عن شعبة بهذا الإسناد, وأخرجه مسلم في الطعام.
وفي صحيح مسلم في حديث عن أبي هريرة: «الصلوات الخمس والجمعة إِلَى الجمعة ورمضان إِلَى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اُجتنبت الكبائر» فيهِ تقييد باجتناب الكبائر.
(المتن)
ذكر البيان بأن الله جل وعلا إنما يغفر ذنوب المتوضئ التي ذكرناها إذا كان مجتنبا للكبائر دون من لم يجتنبها.
1044- أخبرنا أبو خليفة، حدثنا أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك، حدثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت مع عثمان بن عفان، فدعا بطهور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره الصلاة المكتوبة فيحسن وضوءها وركوعها وخشوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله».
(الشرح)
وهذا رواه مسلم في الصحيح, قَالَ: إسناده صحيح وخرجه مسلم في صحيحه في الطهارة باب الوضوء.
هو صريح في أن الصلاة تغفر الخطايا ما لم يرتكب كبيرة, والكبيرة لابد لها من توبة, لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء/31].
«وذلك الدهر كله» يَعْنِي: إذا استمر عَلَى هذا كل صلاة تكفر بها الخطايا.
(المتن)
ذكر البيان بأن حلية أهل الجنة تبلغهم مبلغ وضوئهم في دار الدنيا, نسأل الله الوصول إلى ذلك
1045- أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا عبد الغفار بن عبد الله الزبيري، حدثنا علي بن مسهر، عن سعد بن طارق، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «تبلغ حلية أهل الجنة مبلغ الوضوء».
(الشرح)
أهل الجنة يُحلون: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}[الكهف/31]؛ عَلَيْهِمْ أسورة في أيديهم, ليسوا كالدنيا, في الدنيا الرجال ما يتحلون, وَإِنَّمَا يتحلى النساء, لَكِنْ الجنة ليس كدار الدنيا إِنَّمَا هي دار نعيم, ولهذا أهل الجنة سُردٌ مُرد مكحلون عَلَيْهِمْ الأساور, تبلغ الحلي منهما حيث يبلغ الوضوء, يُحلى في يديه ورجليه وأماكن الوضوء, وأبو هريرة قَالَ: «من استطاع منكم أن يُطيل غرته فليفعل» حتى تزيد الحلية يَعْنِي.
(المتن)
ذكر البيان بأن أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم تُعرف في القيامة بالتحجيل بوضوئهم كان في الدنيا.
1046- أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، حدثنا القعنبي، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين , وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, وددت أني قد رأيت إخواننا, قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بل أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطكم على الحوض, قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ فقال: أرأيت لو كانت لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله, قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك, فأقول: فسحقًا, فسحقًا، فسحقًا».
(الشرح)
«وأنا فرطهم عَلَى الحوض» يتقدمهم ويهيئ لهم المكان ويستقبلهم إذا أتوا, يَعْنِي: يسبهم عَلَى الحوض r, «فليذادن» يَعْنِي: يُطردون؛ لِأَنَّهُم غيروا وبدلوا, وفي لفظ آخر: «فليذادن قومٌ عن الحوض فأقول: ربي أصحابي أصحابي, فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, إنهم لم يزالوا مرتدين عَلَى أعقابهم منذ فارقتهم».
قال أبو حاتم: الاستثناء يستحيل في الشيء الماضي، وإنما يجوز الاستثناء في المستقبل من الأشياء.
«وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» يَعْنِي: كيف يستثني الآن مع أن الحكم لابد بِهِ, الموت لابد منه, لمَ لم يقل: وإنا بكم للاحقون؛ لِأَنّ الآخر سيموت, الآخر يتبع الأول فلماذا استثنى؟ فأبو حاتم يبين يقول: الاستثناء أقسام وأنواع:
قال أبو حاتم: الاستثناء يستحيل في الشيء الماضي، وإنما يجوز الاستثناء في المستقبل من الأشياء؛ الشيء اللي مضى ما تقول: فعلت كذا إن شاء الله, أنت فعلت وانتهى, اللي مضى قد مضى, لَكِنْ في المستقبل تقول: إن شاء الله أفعل كذا وكذا إذا كنت لا تدري هل تفعل أو لا تفعل.
وحال الإنسان في الاستثناء على ضربين، إذا استثنى في إيمانه: فضرب منه يطلق مباح له ذلك، وضرب آخر إذا استثنى فيه الإنسان كفر.
وأما الضرب الذي لا يجوز ذلك، فهو أن يقال للرجل: أنت مؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والجنة والنار، والبعث والميزان، وما يشبه هذه الحالة؟ فالواجب عليه أن يقول: أنا مؤمن بالله حقًا، ومؤمن بهذه الأشياء حقًا، فمتى ما استثنى في هذا كفر؛ يَعْنِي: إن استثنى شاكًا كفر, أما لو استثنى جاهلًا لا يكفر.
والضرب الثاني: إذا سُئل الرجل: إنك من المؤمنين الذي يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم فيها خاشعون، وعن اللغو معرضون؟ فيقول: أرجو أكون منهم إن شاء الله.
أو يقال له: أنت من أهل الجنة؟ فيستثني أن يكون منهم.
- يَعْنِي الاستثناء يكون عَلَى ضربين:
الضرب الأول: لا يَجِبُ الاستثناء فيهِ وهو الشك في أصل الإيمان, ما يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
الضرب الثاني: هو أن يعود الاستثناء إِلَى الواجبات الَّتِي أوجبها الله عَلَى الإنسان, فَإِنَّهُ لا يجزم بأنه أدى ما عليه, بل يُذري بنفسه يقول: أنا إن شاء الله أرجو أن أكون أديت ما عليَ, فهذا لا بأس بِهِ.
- فيجوز الاستثناء في هَذِه الحالات:
أولًا: إذا استثنى بالنسبة إِلَى الواجبات المتعددة وأنه لا يجزم أَنَّه أدى ما عليه.
ثانيًا: استثنى وأراد التبرك باسم الله.
ثالثًا: استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة.
فكل هذا يجوز, أما لو استثنى في أصل الإيمان فهذا لا يجوز.
والفائدة في الخبر حيث، قال صلى الله عليه وسلم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون», أنه صلى الله عليه وسلم دخل بقيع الغرقد في ناس من أصحابه، فيهم مؤمنون ومنافقون، فقال: «إنا إن شاء الله بكم لاحقون», واستثنى المنافقين أنهم إن شاء الله يسلمون، فيلحقون بكم، على أن اللغة تسوغ إباحة الاستثناء في الشيء المستقبل وإن لم يشك في كونه، لقوله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[الفتح/ 27].
وهم سيدخلونها جزمًا ولهذا لما سأل عمر قَالَ: يا رسول الله ألم تعدنا أننا سندخله؟ قَالَ: وهل وعدتكم هذا العام؟ قَالَ: لا, قَالَ: لكنكم داخلون, {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[الفتح/ 27].
فهذا استثناء مع أنهم سيدخلونه جزمًا هذا يكون تحقيق للدخول.
(المتن)
ذكر وصف هذه الأمة في القيامة بآثار وضوئهم كان في الدنيا.
1047- أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود، أنهم قالوا: يا رسول الله , كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: «غرٌ محجلون بلقٌ من آثار الطهور».
(الشرح)
هَذِه أوصافهم: «غر» البياض, «محجلون» هذا في أعضاء الوضوء, «بلق» كأنه أيضًا بياض.
(المتن)
ذكر البيان بأن التحجيل بالوضوء في القيامة إنما هو لهذه الأمة فقط, وإن كانت الأمم قبلها تتوضأ لصلاتها.
1048- أخبرنا أبو يعلى، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تردون غرًا محجلين من الوضوء سيما أمتي ليس لأحد غيرها».
(الشرح)
«سيما» يَعْنِي: علامة هَذِه الأمة, وهذا مختص بهذه الأمة.
(المتن)
ذكر البيان بأن التحجيل يكون للمتوضئ في القيامة مبلغ وضوئه في الدنيا.
1049- أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم بن عبد الله، «أنه رأى أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إن أمتي يوم القيامة غر محجلون من أثر الوضوء, فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل».
(الشرح)
وهذا اجتهاد من أبي هريرة رضي الله عنه كونه يغسل يديه حتى كاد يصل إِلَى المنكب والكتف يَعْنِي, ويغسل رجليه حتى كاد يصل إِلَى الركبة, هذا اجتهادٌ منه, والأفضل عدم الإطالة هكذا, الرسول r كَانَ إذا توضأ غسل مرفقيه حتى يشرع في العضد, وإذا غسل رجليه غسل الكعبين حتى يشرع في الساق, ولا يطيل إِلَى المنكب ولا إِلَى الركبة.
(المتن)
ذكر إيجاب دخول الجنة لمن شهد لله بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة بعد فراغه من وضوئه.
1050- أخبرنا ابن قتيبة بعسقلان حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، سمعت معاوية بن صالح يحدث , عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خدام أنفسنا نتناوب الرِعية رِعية إبلنا فكنت على رعية الإبل، فرحتها بعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فسمعته، يقول: «ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيركع ركعتين، يُقبل عليهما بقلبه ووجهه، فقد أوجب», قال: فقلت: ما أجود هذه، فقال رجل: الذي قبلها أجود, فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب، قلت: ما هو يا أبا حفص؟ قال: إنه، قال آنفًا، قبل أن تجيء: «ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقول حين يفرغ من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت أبواب الجنة الثمانية له يدخل من أيها شاء».
(الشرح)
وهذا رواه الشيخان فيهِ: فضل هذا الدعاء وأن إحسان الوضوء والدعاء بعده من أسباب دخول الجنة, يُحسن الوضوء ثم يقول هذا الدعاء: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله» وزاد الترمذي فيهِ: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» هذا مشروع.
قَالَ معاوية اِبْن صالح: وحدثنيه ربيعة بْنُ يزيد عن أبي إدريس عن عقبة بْنُ عامر.
قال أبو حاتم: أبو عثمان هذا يشبه أن يكون حريز بن عثمان الرحبي، وإنما اعتمادنا على هذا الإسناد الأخير، لأن حريز بن عثمان ليس بشيء في الحديث.
هذا من تعنت اِبْن حبان وتهوره فينحاز لابن عثمان وهو حمصي مشهور من صغار التابعين قد وثقه الأئمة كأحمد بْنُ حنبل ويحي بْنُ معين والمديني وعمرو بْنُ علي الفلاس ودُحيم وأبو حاتم, وخرج البخاري حديثه في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة والمسانيد, ولم ينقموا عليه سوى النصب.
وقد قَالَ أبو اليمان فيما نقله عنه البخاري: كَانَ حريز يتناول من رجل ثم تركه.
قال أبو حاتم: أبو عثمان هذا يشبه أن يكون حريز بن عثمان الرحبي، وإنما اعتمادنا على هذا الإسناد الأخير، لأن حريز بن عثمان ليس بشيء في الحديث.