بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قال ابن حبان رحمه الله تعالى في صحيحه:
باب نواقض الوضوء.
ذكر أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بالوضوء من أكل ما مسته النار.
1147- أخبرنا ابن قتيبة، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، وعمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، أن عمر بن عبد العزيز حدثه، أن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ حدثه، «أنه وجد أبا هريرة على ظهر المسجد يتوضأ، فسأله، قال أبو هريرة: إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها، إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: توضأ مما مسته النار».
(الشرح)
وأثوار الأقط هَذِه مطبوخة فتكون مستها النار, فيُستحب الوضوء, الصواب: أَنَّه يُستحب الوضوء من أكل ما مسته النار, أما لحم الإبل فَإِنَّهُ يَجِبُ الوضوء منها سواءٌ مستها النار أو لم تمسها النار, يقول النَّبِيِّ r: «توضئوا من لحوم الإبل ولا تتوضئوا من لحوم الغُنم».
ولم سًئل r: «أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قَالَ: نعم, أنتوضأ من لحوم الغُنم؟ قَالَ: إن شئت» فجعل الاختيار إليه, قَالَ الإمام أحمد: ليس عندي فيهِ شك في وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل.
(المتن)
قال أبو حاتم رضي الله عنه: هكذا أخبرنا ابن قتيبة وقال عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وإنما هو إبراهيم بن عبد الله بن قارظ.
ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «توضأ مما مسته النار» أراد به ما أنضجته النار.
1148- أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «توضأ مما مست النار».
ذكر الإباحة للمرء ترك الوضوء مما مست النار من لحوم الغُنم.
1149- أخبرنا الحسين بن محمد بن أبي معشر، قال: حدثنا محمد بن وهب بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل بن سعد الأنصاري، عن أبي رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة، فشوي له بطنها، فأكل منها، ثم قام يصلي ولم يتوضأ».
(الشرح)
هذا أخرجه مسلم في صحيحه.
(المتن)
ذكر الإباحة للمرء ترك الوضوء مما مسته النار من لحوم الغُنم.
1150- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ببست، ومحمد بن الحسن الخليل بنسا، قالا: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن صالح بن كيسان، عن الفضل بن عمرو بن أمية الضمري، عن عمرو بن أمية: «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتز من عرق يأكل، فأتى المؤذن بالصلاة، فألقى العرق والسكين من يده ولم يتوضأ».
(الشرح)
العَرق: العظم الذي فيهِ شيء من اللحم, فدل هذا عَلَى أَنَّه لا يَجِبُ الوضوء من أكل لحوم الغُنم.
(المتن)
قال إسحاق، عن الفضل بن عمرو بن أمية، عن أبيه، ولم يذكر الضمري وقال: يحتز من عرق فأتاه الإذن بالصلاة، وقال: من يده وصلى ولم يتوضأ.
(الشرح)
هذا فيهِ بيان الجواز.
(المتن)
ذكر البيان بأن ترك الوضوء من أكل كتف الشاة كان بعد الأمر بالوضوء مما مست النار.
1151- أخبرنا ابن خزيمة، قال: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من ثور أقط ثم رآه أكل كتف شاة فصلى ولم يتوضأ».
(الشرح)
«توضأ من ثور أقط» هذا لبيان الاستحباب, «ولم يتوضأ» لبيان الجواز.
(المتن)
ذكر إباحة ترك الوضوء مما مسته النار من الأسوقة.
1152- حدثنا الحسين بن إدريس الأنصاري، قال: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سويد بن النعمان، قال: «أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا على روحة من خيبر، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام فلم يوجد إلا سويق،، قال: فأكلناه، ثم دعا بماء فمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى ولم يتوضأ».
(الشرح)
السويق هو الحب المحموص من النار, هذا مما أصابته النار, فدل عَلَى عدم وجوب الوضوء من أكل ما مسته النار.
(المتن)
ذكر الإباحة للمرء إذا أكل لحما مسته النار أن يصلي من غير أن يمس ماء بيده ولا فمه.
1153- أخبرنا أحمد بن خالد بن عبد الملك أبو بدر بحران، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل عرقًا من شاة، ثم صلى ولم يتمضمض، ولم يمس ماء».
(الشرح)
وهذا مستحب كونه تمضمض لإزالة ما في فمه ويُزيل ما بين أسنانه هذا أفضل, وَلَكِن ليس بواجب.
قَالَ في التخريج: تقدم فيما سبق, وسبق أن النَّبِيِّ r: «شرب لبنًا وتمضمض وقال: إن له دسمًا» فالأفضل كونه يتمضمض ويغسل يديه ويخلل ما بين أصابعه هذا أفضل.
قَالَ: إسناده صحيح, وأخرجه الإمام أحمد وأخرجه مسلم.
(المتن)
ذكر البيان بأن الأمر بالوضوء مما مست النار منسوخ خلا لحم الإبل وحدها.
1154- أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، «أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، أتوضأ من لحوم الغنم؟، قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، توضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟، قال: لا».
(الشرح)
وهذا سبق, مبارك الإبل سميت مبارك لِأَنَّهَا تؤويها وتكون لها مُراح؛ لِأَنَّهَا قد تَأْتِيَ إِلَى مكانها ويحصل له ضرر, أما المبارك العادية اللي هي ليست مراح وَإِنَّمَا شيء عادي فيجوز, يَعْنِي مبارك مر بها مرورًا فهذا لا, لَكِنْ المقصود المبارك الَّتِي يأوي لها في الليل والنهار وهي مكان مُعد.
(المتن)
ذكر الخبر الدال على أن الوضوء لا يجب من أكل ما مسته النار خلا لحم الجزور للأمر الذي وصفناه قبل.
1155- أخبرنا أبو خليفة، قال: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، أن سويد بن النعمان أخبره: «أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كنا بالصهباء وهي من أدنى خيبر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فثري، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكلنا معه، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ولم يتوضأ».
ذكر الخبر الدال على أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل هو المستثنى، مما أبيح من ترك الوضوء، مما مست النار.
1156- أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، «أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، توضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟، قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟، قال: لا».
ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه.
1157- أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، قال: حدثنا بندار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا زائدة، وإسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، قال: «سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الغنم، فقال: توضأ إن شئت, وسُئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: صل إن شئت, وسُئل عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: توضأ, وسُئل عن الصلاة في مبات الإبل، فقال: لا تصلِ».
ذكر إباحة ترك الوضوء من شرب الألبان كلها.
1158- أخبرنا ابن سلم، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا، ثم دعا بإناء فمضمض وقال: إن له دسمًا».
(الشرح)
لَكِنْ هذا ليس عام في جميع الألبان, ما هو هذا اللبن الذي شربه؟ إذا كَانَ لبن الإبل فيهِ خلاف, وإن كَانَ الخلاف فيهِ أحاديث ضعيف, عند اِبْن ماجة أنها تنقض الوضوء ألبان الإبل إذا شربها وهو قول لبعض العلماء, وَلَكِن الجمهور والراجح: أَنَّه لا ينقض إِلَّا أكل اللحم, أما شرب اللبن هذا جاء فيهِ أحاديث ضعيفة, أما المرق فلا يؤثر, المرق ما فيهِ إشكال, أو الطعام الذي طُبخ فيهِ لحم الإبل ما يؤثر, وَلَكِن الحديث عن أكل لحم الإبل خاصة.
وذهب جمعٌ من أهل العلم إِلَى أَنَّه لا ينقض الوضوء إِلَّا أكل اللحم الأحمر فلو أكل عصبًا أو أكل لحم رأس أو كبد أو كرش أو أمعاء فهذه لا تنقض الوضوء.
والقول الثاني وهو الصواب: أن جميع أجزاء الإبل تنقض الوضوء مطلقًا, إذا أكل لحم الإبل سواء كَانَ لحم أحمر, أو غير أحمر أبيض, أو لحم الرأس, أو الكرش, أو الأمعاء أو غيرها؛ لِأَنّ الله تعالى لما حرم لحم الخنزير, قَالَ: «قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» لم يقل أحد من العلماء: إن شحمه جائز, وأنه يجوز أكله وغيره, جميع أجزاء الخنزير محرمة.
وَكَذَلِكَ لحم الإبل جميع أجزاءها ينقض الوضوء وهذا هو الصواب, إذا أكل ما يسمى لحمًا أما شرب المرق فلا, أو أكل الطعام الذي طُبخ فيهِ فلا, وأما ألبان الإبل فذهب بعض العلماء إِلَى أنه ينقض الوضوء, والجمهور عَلَى أَنَّه لا ينقض الوضوء وفي أحاديث ضعيفة في اِبْن ماجة تحتاج إِلَى مراجعة.
فإن قيل: حديث العرنيين ما يدل عَلَى أَنَّه لا ينقض في الصحيحين؟.
ما فيهِ تعارض للوضوء, إِنَّمَا فيهِ دليل عَلَى طهارة أبوال الإبل, استدل بِهِ العلماء عَلَى طهارة أبوال الإبل خلافًا للشافعية اللي يقولون: بول ما يؤكل لحمه نجس, واستدلوا بعموم: «تنزهوا من البول» فالصواب: أن أبوال الإبل ليست نجسة بل هي طاهرة؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r أمر العرنيين أن يشربوا من أبوالها وألبانها ولم يأمرهم بغسل أفواههم, لو كَانَ نجسًا لقال: واغسلوا أفواكهم؛ لِأَنَّهَا نجسة, فدل عَلَى أنها طاهرة.
وهذا هو الصواب: ما يؤكل لحمه جميع أجزاءها طاهرة من الإبل والبقر والغنم والصيد, وبوله, وروثه, وعرقه, ومنيه, كله طاهر, أما الذي لا يؤكل لحمه هذا هو النجس, كالبغل, والحمار, والكلب, والهرة؛ كل هَذِه نجسة لَكِنْ سؤر الهرة معفوٌ عنه, سؤرها يَعْنِي: ما شربت فيعفى عنه لمشقة التحرز منه, لقول النَّبِيِّ r في الهرة: «إنها ليست بنجس إِنَّمَا هي من الطوافين عليكم والطوافات».
وَكَذَلِكَ سؤر الحمار والبغل بعض العلماء رأى أَنَّه طاهر دفعًا للمشقة.
(المتن)
ذكر البيان بأن شرب اللبن لا يوجب على شاربه وضوءًا.
1159- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، «أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا، فدعا بماء فتمضمض وقال: إن له دسمًا».
(الشرح)
غير معين هنا ما فيهِ أَنَّه لبن الإبل, استدل بالعموم يَعْنِي, فأخذ بالعموم والإطلاق لبنًا.
فإن قيل: دليل العرنيين أَنَّه قَالَ لهم: اشربوا اللبن والبول ولم يذكر لهم وضوءًا؟.
استدل بِهِ العلماء عَلَى أن أبوال ما يؤكل لحمه طاهر؛ لِأَنَّهُ لم يأمرهم بغسلها, لَكِنْ الوضوء مسكوتٌ عنه ما فيهِ أنهم في وقت الصلاة؛ أنهم شربوه في وقت الصلاة ولم يتوضئوا.
فإن قيل: لما لم يذكر لهم غسل أفواههم ولم يذكر لهم وضوء دل عَلَى أَنَّه ليس اللبن ناقض؟.
إِنَّمَا اُستدل بِهِ عَلَى طهارة أبوال الإبل, أما كونه لا ينقض الوضوء هذا مسكوت عنه وليس بواضح الآن, هل هم شربوا وقت الصلاة وصلوا ولم يتوضئوا, لو كَانَ فيهِ هذا ممكن الاستدلال بِهِ, لَكِنْ مسكوت عنه, وهذا يؤخذ من أدلة أخرى, لَكِنْ الدليل الواضح في هذا طهارة الأبوال ما قَالَ: اغسلوا أفواهكم.
فإن قيل: ما دام النَّبِيِّ r لم يذكر لهم أن يغسلوا أفواههم كذلك لم يقل لهم يتوضئون فيهِ تأخير للبيان؟.
هذا يؤخذ من أدلة أخرى, هل هم شربوا في وقت الصلاة وصلوا ولم يتوضئوا؟! البيان ما يظهر هنا, وهذا ليس استدلال قوي في هذا, إِنَّمَا الاستدلال القوي هو الاستدلال عَلَى طهارة أبوال الإبل, أما مسألة نقض الوضوء ما يظهر هنا.