شعار الموقع

شرح كتاب الإخنائية الدرس الأول

00:00
00:00
تحميل
273

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني, أشهد أنه رسول الله إلى الثقلين الجن والإنس وإلى العرب والعجم, أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده؛ حتى أتاه من ربه اليقين, فصلوات الله وسلامه عليه, وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين, وعلى آله وعلى أصحابه وعلى أتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فإني احمد الله إليكم وأُثني عليه الخير كله, وأسأله المزيد من فضله, وأسأله أن يُصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا وذرياتنا, كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا, وألا يجعل فينا ولا منا شقيًا ولا محرومًا, كما أسأله سبحانه أن يجعل جمعنا هذا جمع خيرٍ وعلمٍ ورحمة تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة, ويذكره الله فيمن عنده, فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده».

أيها الإخوان, نسأل الله أن نكون في روضة من رياض الجنة, نحن في مجلس علم, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يشرح صدورنا وأن يهدي قلوبنا, وأن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أيها الإخوان, تعلم العلم وتعليمه من أشرف القربات وأجل الطاعات, والله سبحانه وتعالى نوه بشأن العلم والعلماء, وقرن شهادة العلماء بشهادته وشهادة الملائكة على أجل مشهودٍ به, وهو الشهادة لله تعالى بالوحدانية, يقول الله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران/18].

ونفى سبحانه وتعالى أن يستوي أهل العلم مع أهل الجهل, قال سبحانه وتعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر/9].

  والمسلم الذي مَنَّ الله عليه بالإسلام خصه بنعمة دينية, المسلم أعظم نعمة أنعم الله بها عليك؛ هي أن هداك للإسلام, ووفقك للإيمان, فهذه نعمة دينية خص الله بها المسلم دون الكافر, جعله يختار الإسلام ويرضاه ويفضله ويؤثر الآخرة على الدنيا فجعله يكره الكفر والفسوق والمعاصي, وجعله راشدًا, هذه نعمته وفضله وإحسانه سبحانه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً)[الحجرات/7-8].

لله على المؤمن نعمة خصه بها دون الكافر, فعلى المسلم أن يغتبط بهذه النعمة ويفرح بها, ويسأل الله الثبات عليها, وعلى المسلم أن يقوي إيمانه, الصحابة كان يقول بعضهم لبعض: اجلس بنا نؤمن ساعة, حتى يزداد إيمانهم بالعمل الصالح والإخلاص وحضور حلقات الدروس, والإكثار من تلاوة القرآن, ومصاحبة الأخيار؛ بهذا يقوى الإيمان, والإكثار من ذكر الله عز وجل؛ هذه نعمة عظيمة.

ثم إذا مَنَّ الله عليك أيها المسلم بسلوك طريق العلم فهذه نعمة أخرى عظيمة جعلك من أتباع الرسل, وجعلك كالعالم الرباني من الصديقين الذين مرتبتهم تلي مرتبة الأنبياء, فعلى طالب العلم أن يغتبط بهذه النعمة, وعليه أن يتأدب بآداب طالب العلم, الآداب العظيمة التي أعظمها وأجلها؛ الإخلاص لله عز وجل, بأن يقصد بطلبه العلم وجه الله والدار الآخرة, لا رياء ولا سمعة, ولا الدنيا, ولا حطامها, ولا مماراة العلماء ولا مجاراة السفهاء, وإنما يقصد وجه الله والدار الآخرة, يقصد بطلبه العلم أن يتقرب إلى الله عز وجل, وأن يرفع الجهل عن نفسه ثم يرفع الجهل عن غيره.

  قيل للإمام أحمد رحمه الله ماذا ينوي طالب العلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه ثم رفع الجهل عن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان انه لا يعلم, قال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ)[النحل/78].

هذا مِنة مَن الله بها عليك أيها المسلم, فعليك أن تجاهد نفسك على الإخلاص, العبادة التي خُلق الثقلان لها: الجن والإنس, لا تصح ولا تكون نافعة عند الله إلا إذا توفر فيها هذان الأصلان: أن تكون لله ومرادًا بها وجه الله والدار الآخرة, وأن تكون موافقة للشريعة على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتعلم العلم وتعليمه من أفضل القربات وأجل الطاعات, فلابد من توفر هذين الأصلين: الإخلاص لله, والمتابعة لنبينا صلى الله عليه وسلم.

ومن علامات إرادة الله الخير للعبد؛ أن يوفقه لسلوك طريق العلم وأن يفقهه في دين الله فيتبصر ويكون على بصيرة في دينه, ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين وأنا قاسمٌ والله يعطي».

  • قال العلماء: هذا الحديث له منطوق وله مفهوم:

فمنطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيرًا.

ومفهومه: أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرًا.

والفقه يكون في أسماء الله وفي صفاته, وفي معرفة الحكم؛ حكم الشريعة والأسرار, وأفضل العلم وأجل العلم؛ معرفة المعبود سبحانه وتعالى بأسمائه, وصفاته, وأفعاله, بأن تعلم أن ربك سبحانه وتعالى هو الرب وغيره مربوب, وهو الخالق وغيره مخلوق, وهو المالك وغيره مملوك, وهو المدبر وغيره مُدَبر سبحانه وتعالى.

تعلم ربك بأسمائه, وصفاته, وأفعاله, تتفقه في أسماء الله وصفاته, في معنى: العليم, الحكيم, الخبير, السميع, البصير, الله: أنا الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين, الله سبحانه وتعالى لا يسمى به غيره, مشتمل على صفة الألوهية, وهو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين سبحانه وتعالى.

من أسمائه: الحي؛ الذي له الحياة الكاملة سبحانه وتعالى, القيوم: القائم بنفسه المقيم لغيره, أعظم الفقه أن تتفقه في أسماء الله وصفاته, ثم بعد ذلك إذا عرفت ربك بأسمائه وصفاته فإنك تعبده سبحانه وتعالى بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله, تتعبد بالله, فالألوهية التأله لله والتعبد له سبحانه وتعالى, وهذا بعد معرفة المعبود, إذا عرفت ربك فإنك لابد أن تعرف العبادة التي خلقك الله لأجلها, فلابد من معرفة المعبود أولًا, ثم معرفة العبادة التي خُلق الخلق لأجلها, ثم التعبد الله بهذه العبادة.

ولابد من معرفة الجزاء والثواب الذي أعده الله تعالى لأهل التوحيد والإيمان, ومعرفة ضد التوحيد وهو الشرك والبدع والمعاصي, ومعرفة جزاء من خرج عن التوحيد من المشركين, والعصاة, والمبتدعة الذين ضعف إيمانهم, فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح, ولابد من جهاد النفس على تصحيح النية؛ لأن هي الأساس.

ثم من الآداب: تخلق طالب العلم بالخُلق الحسن؛ في معاملة الناس, والإحسان إليهم, مع الزملاء في التعاون على فهم ما يُشكل, تقييد الفوائد العلمية حتى لا تفوت, كما قال الناظم:

العلمُ صيدٌ والكتابة قيده  

 

 

قيد صيودك بالحبال الواثقة
 


 

 

والتعاون ببين طلبة العلم فيما بينهم والبعد عن الحسد, ثم أيضًا جهاد النفس على العمل بما علمه الإنسان, فإن العلم هو الدليل والعمل هو الثمرة, وإذا لم يحصل العمل ارتحل العلم, ثم أيضًا ينبغي لطالب العلم أن يدعو غيره ويُفيد غيره, ويوصل العلم الذي استفاده إلى غيره؛ إلى أهله وأولاده, وجيرانه, وزملائه, وأهل حيه, وأهل بلده؛ حتى يكون مباركًا وحتى يكون من الرابحين, من أتباع الرسل الذين مَن الله عليهم بالعلم والعمل والدعوة إلى الله, ولابد من الصبر على تعلم العلم, والصبر على العمل, والصبر على الدعوة, والصبر على الأذى الذي يحصل للإنسان.

إن طريق العلم وطريق الدعوة إلى الله عز وجل ليس مفروشًا بالورود, لكن لابد من الصبر والتحمل, والعلماء الذين مَن الله عليهم بالعلم من أسباب ذلك؛ أنهم تعبوا حتى حصلوا العلم, وسهروا وتحملوا المشاق, وتغربوا عن أوطانهم, "من طلب العلا سهر الليالي", فلابد من المواظبة والاستمرار على حضور الدروس والحلقات والدورات العلمية, يكون الإنسان مواظب.

أما ما يفعل بعض الطلبة من كونه يحضر بعض الدروس, أو يحضر في الأسبوع مرة أو مرتين فهذا تذوق العلم, العلم يحتاج إلى الاستمرار, ثم أيضًا لابد من اليقظة والانتباه وعدم الغفلة, البعض قد يأتي ولكنه ينام وينعس أو يكون عنده وساوس وخواطر, يسرح ويخرج عن موضوع الدرس والعلم, لابد من جهاد النفس على اليقظة والاستمرار, فنسأل الله التوفيق والسداد وصلاح النية والعمل.

فنحن إن شاء الله في هذه الدورة كما هو معلن أو معلوم ندرس إن شاء الله الرسائل التي أُعلن عنها وهي في الصباح رسالتان, وفي المساء كذلك أيضًا رسالة بعد العصر وكذلك "زاد المستقنع" بعد المغرب إن شاء الله, نبدأ الآن بالرسالة الأولى على بركة الله. 

(المتن)

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم اغفر لنا ولعموم مشايخنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات.

سُئل شيخ الإسلام: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله تعالى وغفر لنا وله: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين في رجل نوى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل نبينا محمد نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره، فهل يجوز له في سفره هذا قصر الصلاة؟ وهل هذه زيارة شرعية أم لا؟ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني، ومن زارني بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا»؛ أفتونا مأجورين.

(الشرح)

يعني هذه الرسالة وهي الرسالة الشرعية والبدعية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عبارة عن جواب عن سؤال, وُجه إلى شيخ الإسلام رحمه الله, وصورة السؤال كما سمعتم:

يقول السائل: (ما تقول السادة العلماء أئمة الدين) هذا السائل وصف أئمة الدين بانهم سادة ولاشك أنهم سادة, هم سادة الناس, أئمة الدين وهم العلماء الربانيون, هم السادة, وهم الأئمة الذين يُقتدى بهم بسبب اليقين والإيمان والصبر, قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ)[السجدة/24].

فهم سادة الناس وخير الناس وأفضل الناس, أما ما يقوله أصحاب الإذاعات حينما يقول: أيها السادة, والذي يستمع له عامة الناس وفيهم الجهلة وفيهم الفساق, وفيهم النساء وفيهم الصبيان, فهذا من الأغلاط التي وقع الناس فيها, فليس كلنا السادة, كل من يستمع يقول: أيها السادة, ليسوا كلهم سادة, فيهم فسوق, وفيهم جهال, وفيهم ضعفاء البصائر, فيهم ضعفاء العقول, كلهم سادة؟! هذا من الخطأ والأغلاط, وسبب هذا عدم البصيرة, إذا كان عندهم بصيرة ما نادوا على الناس كلهم باسم السادة, أيها الناس أو أيها المسلمون, أو أيها الإخوان, أو أيها المستمعون, أما أن يُقال للناس كلهم سادة فلا.

وكذلك ما يفعله بعض الناس ينادي يقول: يا سيد, أو يكتب إذا كتب خطاب السيد فلان, أو إذا كان له شيء عند صاحب الحاجة يكتب السيد فلان, فليس الناس كلهم سادة, قد يكون فاسق يسمى باسم السيد, قد يكون منافق, وجاء النهي عن تسجيلات الفساق والسادة, والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: «أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا, قال: أيها الناس قولوا بقولكم أو ببعض قولكم, ولا يستجرينكم الشيطان», هذا محمد عبد الله ورسوله: «ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فالسائل رحمه الله, هذا مما يدل على أنه طالب علم؛ لأنه قال: (ما تقول السادة العلماء أئمة الدين) وصف السادة وهم الأئمة, ولاشك أن أئمة الدين هم السادة, هؤلاء هم سادة الناس, والناس ليس كلهم سادة, منهم سادة ومنهم غير سادة, وأهل الإذاعات يجعلون الناس كلهم سادة, ما في مسود, الناس كلهم سادة! كل الناس على الدرجة العالية!.

(ما تقول السادة العلماء أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين) أيضًا هذا من نصح هذا السائل كونه يدعو لهم, يدعو لهم بأن ينفع الله بهم, إذا نفع الله بهم المسلمين استفاد المسلمون وهم استفادوا من الثواب والأجر, المسلمون يستفيدون من هذه الفتوى ويتبصرون في شريعة الله, ويتعبدون لله بما شرعه فيحصلون على الثواب ويسلمون من الوقوع في البدعة, والسادة أئمة الدين الذين أفتوا الناس يحصلون على الأجر والثواب ويكون لهم مثل وجود من انتفع بعلمهم وفتاواهم.

   (ما تقول السادة العلماء أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين في رجل نوى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل نبينا محمد نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره، فهل يجوز له في سفره هذا قصر الصلاة؟) يعني: السائل يسأل عن شخص يريد أن يسافر من بلده أو من غيرها لزيارة قبر الأنبياء والصالحين, يسافر مسافة قصد للزيارة, وبهذا يخرج الزيارة لمن كان في البلد ليست داخلة فيها, من كان في البلد لا بأس أن يزوره زيارة شرعية, الذي في البلد له أن يزور زيارة شرعية, والزيارة الشرعية: هو أن يسلم على الميت ويترحم عليه ويدعو له, يقول: السلام عليك يا فلان ورحمة الله وبركاته غفر الله لك ورحمك.

كذلك إذا زار قبر نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: السلام عليك يا رسول الله أشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده, فجزاك الله عن أمتك خير ما يجزي نبيًا عن أمته, ثم يتأخر قليلًا ويقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله غفر الله لك ورحمك وجزاك عن أمة محمدٍ خيرًا, ثم يتأخر ويقول: السلام عليك يا عمر الفاروق غفر الله لك ورحمك وجزاك الله عن أمة محمدٍ خيرًا, ثم ينصرف, وكذلك إذا زار الإنسان قبر أبيه أو أمه, هذه الزيارة الشرعية يسلم عليه ويدعو له وينصرف, تكون الدعوات قليلة, دعواته تابعة للزيارة.

أما إذا أراد الدعاء فإنه لا يدعو عند القبر وإنما يتجه للقبلة في المسجد أو في البيت ويدعو له, لكن الدعوة التابعة للزيارة لا بأس بها, أما الزيارة البدعية أن يزور مثلًا الميت ويتوسل بذاته إلى الله, أو بجاهه, يقول: أسألك بجه فلان, أو بفلان بذاته أو بحرمته, أو يُطيل المكث عنده, أو يقرأ القرآن عند قبره, أو يدعو عند قبره, أو يصلي عند قبره, هذه من وسائل الشرك وهذه بدع, هذه زيارة بدعية وهي من وسائل الشرك.

وهناك نوعٌ ثالث من الزيارة وهي الزيارة الشركية, كأن يزور الميت ثم يذبح له من دون الله, يذبح عند قبره أو يدعوه من دون الله يقول: يا فلان أغثني, فرج كربتي, سواءً قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره, يقول: يا رسول الله أغثني, يا رسول الله فرج كربتي, كما يُسمع من بعض الزوار, هذا شرك مُخرج من الملة, يدعو الميت من دون الله أو يذبح له أو ينذر له أو يطوف بقبره تقربًا إليه, هذه الزيارة شركية.

  • فالزيارة على هذه الأنواع الثلاثة:

الأول: زيارة شركية؛ وهي أن يزور الميت ويذبح له, أو ينذر له, أو يطوف بقبره, أو يدعوه من دون الله.  

الثاني: زيارة بدعية؛ ليست شرك لكنها مبتدعة كأن يزور الميت ويتوسل به بذاته في الدعاء, أو يتوسل بحرمته أو بجاهه, أو يطيل المكث عند قبره, أو يقرأ القرآن عند قبره, أو يدعو الله عند قبره, أو يصلي عند قبره, ولو كان لله, يدعو لله ويصلي لله ويسأل الله, ولكن صلاته عند الميت في هذا المكان وسيلة للشرك.

الثالث: زيارة شرعية؛ وهي أن يزور الميت في البلد ما يسافر, بدون سفر وبدون شد الرحال, في البلد يزور الميت ويسلم عليه ويدعو له ويترحم وينصرف.

وهذا السؤال الذي وُجه للإمام شيخ الإسلام رحمه الله يسأل عن: زيارة قبور الأنبياء والصالحين من مكانٍ بعيد, من شخصٍ يريد السفر, ليس في البلد, ولهذا قال: (فهل يجوز له في سفره هذا قصر الصلاة؟)

  • السؤال هذا مكون من عدة أسئلة:

السؤال الأول: (فهل يجوز له في سفره هذا قصر الصلاة؟).

السؤال الثاني: (وهل هذه زيارة شرعية أم لا؟) يعني أم بدعية؟ حينما يسافر هذه الزيارة هل هي مشروعة أو غير مشروعة أو مبتدعة؟.

ثم أيضًا روى أحاديث وقال: (وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني، ومن زارني بعد موتي كان كمن زارني في حياتي») سيبين المؤلف رحمه الله أن هذا الحديث ليس بصحيح وهذا الحديث مكون من حديثين:

الحديث الأول: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» وهو حديثٌ ضعيف جدًا أو موضوع.

الحديث الثاني: «من زارني بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» كذلك ضعيف جدًا, إما ضعيف أو موضوع.

قال: (وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا») هذا حديث صحيح كما سيبين المؤلف رحمه الله, قال المؤلف: (أفتونا مأجورين) يعني أعطونا الفتوى مأجورين, ومأجورين هذا خبر بمعنى الدعاء, والمعنى: أسأل الله أن يأجركم على هذه الفتوى, مأجورين: هذا خبر بمعنى الدعاء, قصده أن يدعو الله أن يثيبه أجرًا على فتواه.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى:

الحمد لله رب العالمين، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:

أحدهما: وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوّزون القصر في سفر المعصية، ويقولون إن هذا سفر معصية كأبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهي عنه في الشريعة فلا يقصر فيه الصلاة.

والقول الثاني: أن يقصر وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى، ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالي وأبي الحسن بن عبدوس الحراني وأبي محمد بن قدامة المقدسي.

(الشرح)

قال المؤلف رحمه الله: (الجواب: الحمد لله رب العالمين) ابتدأ بالجواب وقال: الحمد لله رب العالمين, كثيرًا ما يفتتح المؤلف شيخ الإسلام أجوبته بقوله: الحمد لله رب العالمين, وأل: للاستغراق, والحمد: معناه هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية مع حبه وإجلاله.

والحمد أبلغ من المدح, المدح هو أن تثني على الممدوح بصفاته, وقد تكون هذه الصفات اختيارية وقد تكون ليست اختيارية, يعني تثني على الإنسان بأنه طويل القامة, بأنه جميل, هذا ليس له اختيار فيه, لكن إذا أثنيت عليه بأنه كريم أو بأنه شجاع أو بأنه ذو خُلق حسن هذا يسمى حمد مع الحب, ولذلك الحمد أكمل من المدح, ولهذا جاء في القرآن الكريم وفي السنة: الحمد لله رب العالمين, ولم يأتي: أمدح الله رب العالمين؛ لأن الحمد: الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية مع حبه وتعظيمه.

قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله رب العالمين، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين) قوله: لمجرد يعني: ما سافر لأجل الصلاة في المسجد النبوي, مفهومه أنه إذا سافر للصلاة أو لأجل الصلاة في المسجد النبوي ثم الزيارة أو سافر للأمرين: للصلاة في المسجد النبوي وللزيارة فلا بأس, إذا سافر لأجل الصلاة في المسجد النبوي ثم بعد ذلك يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه, هذا لا بأس به وليس فيه خلاف.

وكذلك إذا سافر للأمرين: سافر للصلاة في المسجد النبوي ولزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

الحالة الثالثة: أن يسافر لمجرد الزيارة فقط لا يريد المسجد النبوي, إنما يريد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره هذا هو محل الخلاف.

  • فتكون الأحوال ثلاثة:

الحالة الأولى: أن يسافر لزيارة المسجد النبوي, هذه لا بأس بها.

الحالة الثانية: أن يسافر لزيارة المسجد النبوي ولزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم, كذلك لا بأس بها على الصحيح.

الحالة الثالثة: أن يسافر لمجرد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم, كلمة مجرد يعني: جرد الأمر لهذا الشيء ليس معه شيء آخر, ليس معه قصد المسجد النبوي.

قال: (أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:

أحدهما: وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوّزون القصر في سفر المعصية، ويقولون إن هذا سفر معصية كأبي عبد الله بن بطة) من الحنابلة, (وأبي الوفاء بن عقيل) كذلك من الحنابلة.

(وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهي عنه في الشريعة فلا يقصر فيه الصلاة).

في الحاشية قال: في العقود الذرية ومذهب مالك والشافعي وأحمد أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا يُقصر فيه, إذًا هذا القول الأول.

القول الأول: قول المتقدمين من العلماء وقول المحققين وأهل البصيرة وأهل العلم؛ المنع, ويرون أن هذا سفر معصية, وكونه سفر معصية؛ لأنه منهي عنه, منهي عنه بالحديث الذي ساقه السائل : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد» يعني لا تُشد الرحال إلى مكان عبادة للتعبد, لا تشد الرحال إلى موضع عبادة إلا إلى ثلاث مساجد: «المسجد الحرام, ومسجدي هذا, والمسجد الأقصى».

وإذا شد الرحل إلى القبر شده إلى غير الثلاثة, فيكون منهيًا عنه فيكون معصية, وعلى هذا القول الأول قول المحققين المتقدمين من أهل العلم وأهل البصيرة أن السفر منهيٌ عنه, السفر حدده السائل قال: (أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين) كلمة مجرد تُخرج ما إذا زار للأمرين: المسجد وزيارة القبر, أو للمسجد النبوي.

وهو قول أبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين يرون المنع ويرون أنه سفر معصية وعليه فلا يقصر الصلاة؛ لأن سفر المعصية لا يُقصر فيه الصلاة, والمسافر له أحوال من أحواله: أن يسافر لطاعة, أو يسافر لأمرٍ مباح, أو يسافر سفرًا فيه معصية.

فإذا سافر للعبادة فهو يترخص فيه رخصة القصر من غير خلاف كأنه يسافر للحج أو للعمرة أو للجهاد, أما إذا سافر سفر مباح ما فيه خلاف, من العلماء من قال أنه يترخص, ومنهم من قال لا يترخص, والصواب أنه يترخص كما قال المحققين, وإذا سافر سفر معصية ففيه خلاف كما سمعتم.

قدامى من أهل العلم يقولوا: لا يترخص ولا يُعان؛ لأنه عاصي, وذهب بعض العلماء المتأخرين أنه يترخص ولو كان سفر معصية, كأن يسافر مثلًا للتجارة في الخمر أو الدخان أو غير ذلك, فمن العلماء من قال: أنه لا يترخص؛ لأنه عاصي ولا يُعان على معصيته, ومنهم من قال: له أن يترخص وعليه إثم المعصية, هذا القول الأول.

القول الأول: أنه لا يجوز له القصر وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم أنه لا يجوز للإنسان أن يسافر لأجل زيارة القبر فقط, لمجرد زيارة القبر, وهذه المسألة تسمى مسألة شد الرحل, شد الرحل لزيارة القبور, هي مسألة كمما سمعتم خلافية ولكن قول المحققين المنع, وهو ظاهر الحديث: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد».

القول الثاني: قول المتأخرين من العلماء أنه يجوز له أن يقصر, قال المؤلف: (وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى، ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين) يعني: هذا القول وأنه يجوز له أن يقصر إذا زار القبر يقوله طائفتان من أهل العلم:

الطائفة الأولى: الذين يُجوزون الترخص للعاصي, كأبي حنيفة.

والقول الثاني: الذين يرون أن السفر لزيارة القبور ليس معصية, وإنما هو جائز, فهم يرخصون له لاعتقادهم أنه غير عاصي وأنه جائز: (كأبي حامد الغزالي وأبي الحسن بن عبدوس الحراني وأبي محمد بن قدامة المقدسي).

(المتن)

قال رحمه الله تعالى:

وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور».

(الشرح)

    يعني: هؤلاء الذين يجوزون السفر لمجرد زيارة القبر يقولون: السفر ليس بمحرم, السفر لزيارة القبر جائز ويستدلون بأدلة, من أدلتهم: (لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة») قالوا: هذا عام, لكن يخصصه حديث: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد», فيكون معنى زوروا القبور ما دمتم في البلد من دون شد رحل, أما شد الرحل فهو منهيٌ عنه في الحديث الآخر: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد», والحديث «زوروا القبور» لا بأس به.

فذكر المحقق: رواه الدارقطني في سننه ورواه الطبراني أيضًا وغيرهما, ورواه مسلم في صحيحه, وهو حديث صحيح.

فالزيارة إلى القبور في البلد سنة مستحبة إذا كانت زيارة شرعية ليست زيارة بدعية ولا شكرية فهي مستحبة؛ لأن الأمر أقل أحواله الاستحباب, فالزيارة إذا كانت زيارة شرعية في البلد من دون سفر ومن دون شد رحل مستحبة ومشروعة في هذا الحديث وأمثاله: «زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة».

(المتن)

قال رحمه الله تعالى:

وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» رواه الدارقطني.

(الشرح)

 يقول: بعض من ليس عنده خبرة في الحديث قد يحتج على الزيارة, زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي».

وهذا الحديث ضعيف, هذا الحديث رواه الدارقطني وفي سنده ليث بن أبي سنيم وهو ضعيف جدًا, قد كبه ابن معين, والحديث الذي فيه كذاب هذا موضوع, والذي فيه متهمٌ بالكذب كذلك ضعيف جدًا, فهذا الحديث إما ضعيفٌ جدًا أو هو حديث موضوع مكتوب على النبي صلى الله عليه وسلم, فلا حجة فيه.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى:

وأما ما يذكره بعض الناس من قوله: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» فهذا لم يرويه أحد من العلماء، وهو مثل قوله: «من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» فإن هذا أيضًا باطل باتفاق العلماء لم يروه أحد ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني.

(الشرح)

يقول المؤلف: (وأما ما يذكره بعض الناس من قوله: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» فهذا لم يرويه أحد من العلماء) بين المحقق أنه ذكره ابن عدي في الكامل ليبين ضعفه, وذكره شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتبه ونص على أن معناه مخالفٌ للإجماع, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حج ولم يزرني فقد جفاني».

قال شيخ الإسلام: جفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبائر, بل هو كفرٌ ونفاق كيف يقول: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» معناه: لو كان صحيح لكان الذي يحج ولا يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم يكون جافي, والجافي مرتكب للكبيرة, أو من جفا النبي صلى الله عليه وسلم قد كفر, إما منافق أو كافر أو على الأقل مرتكب للكبيرة لو صح, فكيف يقول: «من حج ولم يزرني فقد جفاني»؟.

لو كان ترك زيارة النبي صلى الله عليه وسلم من الحاج جفاء لوجب على كل حاج أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع في الجفاء, الذي يجفو النبي صلى الله عليه وسلم إما كافر أو منافق أو على الأقل مرتكب للكبيرة, وهذا دليل على بطلان هذا الحديث, يعني: هذا الحديث ضعيف السند منكر المتن, متنه منكر, وسنده ضعيف جدًا, فهو باطلًا سندًا ومتنًا.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: فهذا لم يرويه أحدٌ من العلماء, لكن ذكره ابن عدي في الكامل ليبين ضعفه.

قال المؤلف شيخ الإسلام: (وهو مثل قوله: «من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» فإن هذا أيضًا باطل باتفاق العلماء لم يروه أحد ولم يحتج به أحد) يعني: من أهل العلم, (وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني) فنص شيخ الإسلام رحمه الله على أن هذا الحديث كذب موضوع فيه عدد من كتبه فلا يعول عليه.

    (وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني) حديث الدار قطني الذي سبق: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» يحتجون بهذا.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى:

وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور والمساجد بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قُباء, وأجاب عن حديث: «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.

(الشرح)

أبو محمد المقدسي هو: الموفق بن قدامة رضي الله عنه صاحب المغني, كتاب المغني, وعمدة الفقه, والكافي, وذكر هذا في آخر المناسك من كتابه "المغني" مع أنه من العلماء الكبار ومع ذلك غلط رحمه الله في هذا, احتج على جواز السفر لزيارة القبور بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء.

(وأجاب عن حديث: «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب)

هل الموفق بن قدامة الآن دليله استدلالًا صحيح؟ أي أنه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء كل سبت ماشيًا أو راكبًا, وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «من تطهر في بيته وأتى إلى قباء وصلى فيه ركعتين كان كعمرة» ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يزوره من بيته في المسجد النبوي, والذهاب من المسجد النبوي إلى مسجد قباء ليس سفرًا ولكن قريب.

فاحتجاج أبي محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء, يُقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما سافر, ليس سفرًا ولكن المسافة قريبة, ممكن يمشي الإنسان على قدميه ويصل بعدما يقارب نصف ساعة أو أقل, فيقال لأبي محمد المقدسي: إن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء ليس سفرًا.

والسؤال إنما هو عن السفر والبحث إنما هو في السفر, وعلى هذا فيكون الدعوى: السفر لزيارة القبور, والدليل: زيارة النبي صلى الله عليه وسلم قباء, فهل الدليل مطابق للدعوى؟ غير مطابق, الدعوى السفر لزيارة القبور, والدليل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء من بيته في المدينة, فيقال: إن الدليل غير مطابق للدعوى, وإذا كان غير مطابق للدعوى فلا يصح أن يكون دليلًا, زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء خارجة عن المسألة التي فيها البحث, المسألة التي فيها البحث: السفر لزيارة القبور, وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة من بيته إلى مسجد قباء ليس سفرًا, ولهذا سأل: هل تُقصر الصلاة أو لا تُقصر؟ ومن المعلوم أن ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء لا تقصر فيه الصلاة.

(وأجاب عن حديث: «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب)

 «لا تُشد الرحال» نهي, والنهي يفيد ماذا؟ الأصل أن النهي للتحريم, والأصل أن الأمر للوجوب إلا بصارف, إذا جاء الأمر فهو للوجوب إلا بصارفٍ يصرفه, مثال ذلك في الأمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام إذا مرت الجنازة, قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا» وهذا الأمر للوجوب, لكن جاء ما يصرفه عن ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قام وقعد, قال العلماء: إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيءٍ ثم تركه صار فعله الترك صارفًا الأمر عن الوجوب والاستحباب.

فعلى هذا إذا مر بك الجنازة فالأفضل أن تقوم, وإن جلست فلا حرج, لكن لو لم يأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يبقى الأمر للوجوب, قال تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ)[النور/63].

وكذلك النهي, النهي للتحريم, إذا جاء النهي فهو للتحريم إلا إذا جاء ما يصرفه عن التحريم إلى التنزيه, مثال ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الشرب قائمًا» وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم في حجة الوداع جاء إلى الناس وهم يسقون في بئر زمزم فشرب من الدلو قائمًا, فشرب النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا يصرف النهي عن الشرب قائمًا من التحريم إلى التنزيه, فيكون الشرب قاعدًا أفضل, والشرب قائمًا جائز بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

هذا هو الصواب, وهذه القاعدة معروفة: أن الأمر بالوجوب إلا إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به أو ترك ما أمر به, والنهي للتحريم إلا إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما نهى عنه, هذا هو الصواب والقاعدة معروفة, وابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" يرى أن الشرب قائمًا لا يجوز ومحرم ويشدد في هذا وهو قول بعض أهل العلم, لكن هذا هو الصواب, الصواب: أن القاعدة الأصولية معروفة عند أهل العلم؛ أن الأمر بالوجوب إلا بصارف والنهي للتحريم إلا بصارف, وقد وُجد الصارف.

وبهذا يتبين أن احتجاج أبي محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم غير صحيح, وكذلك حمله في الحديث: «لا تُشد الرحال» على نفي الاستحباب غير صحيح؛ لأنه لم يوجد صارف يصرفه.

إذًا نقف على قوله: (وأما الأولون).

  

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد