شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب الإخنائية الدرس الثاني

00:00

00:00

تحميل
100

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نبينا محمد, وَعَلَى آله وصحبه أجمعين, وَعَلَى شيخ الْإِسْلَام والمسلمين أحمد بْنَ عبد الله بْنَ تيمية غفر الله له.

(المتن)

وَأَمَّا الأولون فإنهم يحتجّون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى», وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحّته والعمل به.

فلو نذر الرجل أن يصلّي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير المساجد الثلاثة؛ لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نبينا محمد, وَعَلَى آله وصحبه أجمعين؛ أَمَّا بعد: ...

قَدْ سبق أَن المؤلف شيخ الْإِسْلَام ابْنَ تيمية رحمه الله لَمَّا سُئِلَ عَنْ زيادة قبور الأنبياء والصالحين وهل يجوز له فِي سفره أَن يقصر الصلاة؟ أجاب أَن من سافر لمجرد الزيارة فقط, بقصد زيارة المسجد النبوي أو للأمرين جميعًا فَإِن فيه قولين لأهل العلم:

القول الأول: قول المتقدمون, قول العلماء المتقدمون لاَّ يجوزن القصر فِي سفر المعصية؛ ولأنه سفر منهي عنه.

القول الثَّانِيَ: للمتأخرين من أهل العلم أَنَّهُ يقصر وهذا يجوزه من يجوز القصر فِي السفر المحرم كأبي حنيفة وَقَدْ احتج المجيزيون بعموم حديث: «زوروا القبور», واحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة وبيّن المؤلف رحمه الله أَن هَذِهِ الأحاديث موضوعة.

وَأَمَّا الَّذِينَ منعوا السفر شد الرحل إِلَى زيارة القبور فهم أسعد بالدليل, هم العلماء المتقدمون وَهُوَ الْحَقّ وَهُوَ الصواب, واحتجوا بالحديث الصحيح: «لاَّ تشد الرحال إِلاَّ إِلَى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هَـذَا والمسجد الأقصى».

قَالَ المؤلف: (وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحّته والعمل به), وَهُوَ حديث صحيح وَهُوَ واضح الدلالة فِي المنع من شد الرحل والسفر وزيارة القبور, «لاَّ تشد الرحال», يَعْنِي إِلَى بقعة للعبادة إِلاَّ إِلَى ثلاثة مساجد, لاَّ تشد الرحال إِلَى بقعة يتعبد فيها بالتعبد إِلاَّ إِلَى هَذِهِ المساجد الثلاثة, المسجد الحرام ومسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى.

 قَالَ المؤلف رحمه الله: (فلو نذر), يَعْنِي شخص بأن يشد الرحال (أن يصلّي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير المساجد الثلاثة؛ لم يجب عليه ذلك باتفاق الْأَئِمَّةِ), لاَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الوفاء بنذره لَـكِن هَلْ يجوز له أم لاَّ يجوز؟ هَـذَا محل البحث.

(المتن)

ولو نذر أن يسافر إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء.

(الشرح)

نعم هَذِهِ المسألة الثانية, لو نذر أَن يسافر ويأتي المسجد الحرام فِي حج أو عمرة يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ باتفاق العلماء؛ لِأَنَّهُ طاعة بالاتفاق, وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الحديث الصحيح: «من نذر أَن يطيع الله فليطعه», فَإِذا نذر أَن يَأْتِيَ إِلَى المسجد الحرام بحج أو عمرة قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ بالاتفاق, إِذَا نذر إِلَى أَن يعتكف أَن يصلي فِي غير الثلاثة لاَّ يَجِبُ عَلَيْهِ بالاتفاق.

(المتن)

 ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة؛ لِأَنَّهُ لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع.

(الشرح)

إِذَا ندر أَن يَأْتِيَ مسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الوفاء بالنذر عِنْدَ مالك والشافعي وأحمد؛ لِأَنَّهُ نذر طاعة, ولا يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ أبي حنيفة؛ لِأَنَّ عنده أصل وَهُوَ ما كان جنسه واجبًا فَهَذَا يَجِبُ, وجنس النذر ليس بواجب, لَـكِن ما كان جنسه واجبًا كالصلاة فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ, الصلاة جنسها واجب, والنذر جنسه غير واجب وَإِنَّمَا أوجبه عَلَى نفسه.

فَإِذا نذر أَن يَأْتِيَ المسجد الحرام لحج أو عمر هَـذَا يَجِبُ عِنْدَ الجميع؛ حَتَّىَ عِنْدَ أبي حنيفة,وإِذَا نذر أَن يَأْتِيَ مسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لاَّ يَجِبُ عِنْدَ أبي حنيفة ويجب عِنْدَ الجمهور وهذا هُوَ الصواب؛ لِأَنَّهُ نذر طاعة.

الصواب أَنَّهُ يَجِبُ الوفاء لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «من نذر أَن يطيع الله فليطعه».

(المتن)

وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة لما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه». والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به.

(الشرح)

نعم هَـذَا مذهب جمهور العلماء وَهُوَ الصواب, وَهُوَ وجوب الوفاء لِكُلِّ طاعة, كُلّ طاعة يَجِبُ الوفاء بها, والنذر طاعة, النذر إِذَا نذر أَن يصلي أويصوم أو يحج أو يعتمر, إِذَا نذر أَن يصلي فِي المسجد الحرام فِي المسجد الأقصى, مسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الوفاء لعموم هَـذَا الحديث, «من نذر أَن يطع الله», المعروف فِي الحديث: «من نذر أَن يطيع الله فليطعه, ومن نذر أَن يعصي الله فلا يعصه», والسفر إِلَى المسجدين يَعْنِي المسجد النبوي والمسجد الأقصى طاعة, فلهذا وجب الوفاء به.

(المتن)

وَأَمَّا السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره، حَتَّىَ نص العلماء على أَنَّهُ لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ليس بشد رحل كما في الحديث الصحيح: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة». وقالوا: لِأَنَّ السفر إِلَى قبور الأنبياء والصالحين بدعة لَمْ يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الْأَئِمَّةِ، وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في " الإبانة الصغرى " من البدع المخالفة للسنة.

وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد المقدسي؛ لِأَنَّ زيارة النبي صلى الله عليه وسلّم لمسجد قباء لم تكن بشدّ رحل، والسفر إليه لا يجب بالنذر.

(الشرح)

يَقُول المؤلف رحمه الله: (وَأَمَّا السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب ذلك أحد من العلماء), يَعْنِي ما قَالَ أحدٌ من أهل العلم أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَن يسافر إِلَى غير المساجد الثلاثة, المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى, إِذَا نذر ذَلِكَ يَعْنِي إِذَا نذر أَن يصلي إِلَى مسجد فِي الرياض, أو إِلَى مسجد فِي الطائف, أو إِلَى مسجد فِي الشام, أو إِلَى مسجد فِي مصر, أو فِي أي مكان فلا يَجِبُ عَلَيْهِ الوفاء بالاتفاق لاَّ يَجِب.

لَـكِن هَلْ يجوز؟ هَـذَا محل البحث.

ولهذا قَالَ المؤلف رحمه الله: (وَأَمَّا السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب ذلك أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره، حَتَّىَ نص العلماء على أَنَّهُ لا يسافر إلى مسجد قباء لِأَنَّهُ ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة).

حَتَّىَ نص العلماء أَنَّهُ لاَّ يسافر إِلَى مسجد قباء, من هون الَّذِي يسافر إِلَى مسجد قباء؟ البعيد, من كان خارج المدينة؛ لِأَنَّ من كان فِي المدينة يذهب إليه لاَّ يسمى سفرًا, حَتَّىَ نص العلماء عَلَى أَنَّهُ لاَّ يسافر إِلَى مسجد قباء؛ يَعْنِي من كان خارج المدينة من كان بعيدًا؛ لِأَنَّهُ ليس من الثلاثة.

إذًا الثلاثة المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى يسافر إليها, مسجد قباء هَلْ يسافر إليه؟ لاَّ, ولو فِي فضل ولو فِي فضيلة, فالفضيلة لمن لاَّ يسافر بأن كان قريبًا منه, أَمَّا من يحتاج إِلَى سفر فليس له أَن يسافر إِلَى قباء, مع أَنَّهُ فيها هَذِهِ الفضيلة؛ لِأَنَّهُ ليس من الثلاثة.

قَالَ: (مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة), فَمَنْ كان يجيء من المدينة فلا يسمى سفر؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ليس شد رحل, كما في الحديث الصحيح: «من تطهر فِي بيته ثُمَّ أتي إِلَى مسجد قباء لاَّ يريد إِلاَّ الصلاة فيه كان كعمرة», وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد فِي مسنده وأخرجنه النسائي كما ذكر المحقق, وأخرجه جمع من أهل العلم «من تطهر فِي بيته ثُمَّ أتي إِلَى مسجد قباء لاَّ يريد إِلاَّ الصلاة فيه كان كعمرة», هَـذَا للقريب لمن كان فِي المدينة أو قريب منها.

(قَالُوا), يَعْنِي الجمهور الَّذِينَ منعوا السفر إِلَى غير الثلاثة (لِأَنَّ السفر إِلَى قبور الأنبياء والصالحين بدعة لَمْ يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد), أَن السفر إِلَى زيارة القبور عبادة وفعله (فهو مخالف للسنة ولإجماع الْأَئِمَّةِ, وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في " الإبانة الصغرى " من البدع المخالفة للسنة).

وعبد الله بْنَ بطة هُوَ عبيد الله بْنَ محمد بْنَ حمدان بْنَ بطة, وهذا لقبه لأحد أجداده ينتهي نسبه إِلَى عتبة بْنَ فرقد الصحابي, ذكر فِي الإبانة الصغرى البدع, ذكر السفر إِلَى مسجد قباء من البدع المخالفة للسنة والإجماع.

قَالَ المؤلف رحمه الله: (وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد المقدسي), من هُوَ أبو محمد؟ ابْنَ قدامة المقدسي رحمه الله؛ لِأَنَّهُ نقل عنه المؤلف رحمه الله فِي الصفحة ثمانية, قَالَ: وَقَدْ احتج أبو محمد المقدسي عَلَى جواز السفر لزيارة القبور؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء, وأجاب عَنْ حديث: «لاَّ تشدوا الرحال», بأن ذَلِكَ محمول عَلَى نفي الاستحباب.

المؤلف رحمه الله يَقُول: بِهَذَا يظهر ضعف حجة أبي محمد فِي قوله إِنَّ الاحتجاج عَلَى جواز السفر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء, الجواب: أَن زيارة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لَمْ يكن سفرًا, لَمْ يكن بشد رحل ولا سفر, أتى إليه من قريب وأن السفر إليه لاَّ يَجِبُ بالنذر, زيارة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء ليس سفرًا والسفر إليه لاَّ يَجِبُ بالنذر, ولو نذر بالسفر إِلَى مسجد قباء لاَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الوفاء به.

وكذلك أجاب عَنْ حديث: «لاَّ تشدوا الرحال», أَن ذَلِكَ محمول عَلَى نفي الاستحباب, المؤلف رحمه الله أجاب عنهم بجوابين, أبو محمد ابْنَ قدامة أجاب عَنْ حديث: «لاَّ تشد الرحال إِلاَّ لثلاثة مساجد», بأنه محمول عَلَى نفي الاستحباب, والمؤلف أجاب عنه بجوابين.

(المتن)

وقوله في قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال»، محمول على نفي الاستحباب عنه؛ جوابان: أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا هو من الحسنات. فإذن من اعتقد السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرمًا بإجماع المسلمين، فصار التحريم من هذه الجهة. ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك. وأما إذا قدّر أن الرجل سافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب.

الوجه الثاني: أن هذا الحديث يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم. وما ذكره السائل من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يخرج أحد من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلّم. ولو كان هذا اللفظ معروفًا عندهم أو مشروعًا أو مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكرهه عالم المدينة.

والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لَمَّا سُئِلَ عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام». وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله أجاب عَنْ استدلال أبي محمد بْنَ قدامة عَنْ حديث «لاَّ تشد الرحال إِلاَّ إِلَى ثلاث مساجد», وأن هَـذَا محمول عَلَى نفي الاستحباب, أجاب المؤلف عنه بجوابين:

الجواب الأول: وَهُوَ أَن يقال عَلَى فرض أَن هَـذَا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هُوَ من الحسنات, فَمَنْ اعتقد أَن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع, يَعْنِي يَقُول: لو سلمنا أَن السفر أَنَّهُ ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا وَهُوَ من الحسنات, فَمَنْ اعتقد أَن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع, وإِذَا سافر لاعتقاد أنها طاعة كان ذَلِكَ محرمًا بإجماع الْمُسْلِمِين, ومعلومٌ أَن أحدًا لاَّ يسافر إليها إِلاَّ لذلك.

يَعْنِي يَقُول المؤلف: لو سُلم يَعْنِي عَلَى الفرض والتقدير أَن هَـذَا السفر ليس بعمل صالح, قلنا: إِنَّ هَـذَا السفر ليس لعمل صالح, ولا قربة ولا طاعة ولا هُوَ من الحسنات, فَمَنْ اعتقد أَن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعباد وطاعة يكون خالف الإجماع, وإِذَا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذَلِكَ محرمًا بإجماع الْمُسْلِمِين, ومعلوم أَن أحدًا لاَّ يسافر إليها إِلاَّ لذلك, إِلاَّ لأجل أنها قربة وطاعة, فيكون مخالف للإجماع.

وَأَمَّا إِذَا نذر الرجل أَن يسافر إليها لغرض مباح فَهَذَا جائز وليس من هَـذَا الباب, إِذَا نذر أَن يسافر إليها إِلَى أي بقعة؛ لأجل أمر مباح للتجارة أو لغيرها, فَهَذَا جائز؛ لِأَنَّهُ ليس من باب العبادة.

سافر مثلاً إِلَى بلد للتجارة أو لزيارة لزيارة أقاربه, أو سافر لطلب العلم ما يقصد البقعة, يطلب العلم فيها علماء, فَهَذَا لاَّ يدخل فِي هَـذَا الباب, فَهَذَا الأَمْر الأول أو الجواب الأول.

الجواب الثَّانِيَ: أَن الحديث يقتضي النهي, الحديث: «لاَّ تشد الرحال», إما نهي أو نفي, إِذَا قلنا: نهي, فالنهي يقتضي التحريم, معنى «لاَّ تشد الرحال», يَعْنِي يحرم أَن تشد الرحال إِلاَّ لثلاث مساجد, وإِذَا قلنا: إِنَّهُ نفي فالنفي أبلغ من النهي, لاَّ تشد الرحال أي  يَنبَغِي أَن يكون هناك شد الرحل, وهذان الجوابان عَنْ قول أبي محمد أَن النفي للاستحباب.

  يَقُول: الجواب الأول: لو سلمنا أَن هَـذَا السفر ليس بقربة ولا طاعة فَمَنْ اعتقد أَن السفر لزيارة قبور الأنبياء قربة وطاعة قَدْ خالف الإجماع, وحينئذٍ إِلاَّ سافر لاعتقاد أنها طاعة كان ذَلِكَ محرمًا بالإجماع, ومعلوم أَن المسافر إِنَّمَا يسافر؛ لأجل أنها طاعة.

والوجه الثَّانِيَ: أَن الحديث يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم, وإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ للنفي يكون النفي أبلغ فِي المنع من النهي.

ثُمَّ أجاب المؤلف عَنْ الأحاديث الَّتِي ذكرت فِي فضل زيارة قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مثل حديث: «من حج وَلَمْ يزني فقد جافني», «من زارني بعد مماتي فكأنما زانر " فِي حياتي», «من زارني وزار قبر أبي إبراهيم فِي عام واحد ضمنت له عَلَى الله الجنة».

يَقُول المؤلف: (كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث, بَلْ موضوعة), يَعْنِي مكذوبة عَلَى الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعول عليها, ولهذا لَمْ يروها أحدٌ من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها, ويدل عَلَى ذَلِكَ أَن الإمام مالك, إمام أهل المدينة وإمام دار الهجرة, وأهل المدينة هم أعلم النَّاس بحكم هَذِهِ المسألة؛ لِأَنَّهُمْ سكنوا المدينة وتوارثوا ذَلِكَ عَنْ الصحابة وعن التابعين.

الإمام مالك يَقُول: أكره أَن يَقُول الرجل: زرت قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا يَقُول: زرت مسجده, الإمام مالك كره أَن يَقُول الرجل: رزت قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا يَقُول: زرت مسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .

قَالَ: (ولو كان هذا اللفظ معروفًا عندهم أو مشروعًا أو مأثورًا عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلّم لم يكرهه عالم المدينة, والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لَمَّا سُئِلَ عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث).

ما عنده حديث يستدل به عَلَى شد الرحل لزيارة قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ حديث أبي هريرة, وحديث أبي هريرة إِنَّمَا هُوَ فِي السلام, حديث أبي هريرة أَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ما من رجلٍ يسلم عليَّ إِلاَّ رد الله عليَّ روحي حَتَّىَ أرد عَلَيْهِ السلام».

وَعَلَى هَـذَا اعتمد أبو داود فِي سننه, أبو داود فِي سننه فِي المناسك قَالَ: باب زيارة القبور, ثُمَّ ذكر حديث أبي هريرة بالسند, قَالَ: حدَّثنا محمدُ بنُ عوفٍ، حدَّثنا المقرئ، حدَّثنا حيوةُ، عن أبي صَخْرٍ حميدِ بنِ زياد، عن يزيدَ بنِ عبد الله بن قُسيطٍ عن أبي هريرة أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ أحَدٍ يُسلِّمُ علي إلا ردَّ اللهُ عليَّ رُوحي حتى أردَّ عليه السَّلامَ». ورواه الإمام أحمد فِي مسنده من طريق عبد الله بْنَ يزيد المقري, وأخرجه البيهقي وغيره.

فَهَذَا الحديث فيه أَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يرد السلام, لَـكِن ليس فيه مشروعية السفر لزيارة القبور, وَإِنَّمَا فيه أَن من سلم عَلَى النَّبِيّ رد الله عَلَيْهِ روحه, من سلم عَلَيْهِ من أي مكان, فِي أي مكان فِي الأرض فِي الشرق أو فِي الغرب, تسلم عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يرد عليك السلام, لَـكِن السفر ممنوع.

(المتن)

وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت» ثم ينصرف.

(الشرح)

(وكذلك مالك في الموطأ), يَعْنِي روى هَـذَا الحديث «ما مِنْ أحَدٍ يُسلِّمُ علي إلا ردَّ اللهُ عليَّ رُوحي حتى أردَّ عليه السَّلامَ», وكذلك مالك فِي الموطأ روى حديث آخر ليس هَـذَا الحديث.

قَالَ: (وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت» ثم ينصرف), وهذا رواه الإمام مالك فِي الموطأ فِي باب قصر صلاة السفر, فَهَذَا عبد الله بْنَ عمر رضي الله عنهما من أشد النَّاس حرصًا عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ, وَعَلَى التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم, كان إِذَا دخل المسجد قَالَ: السلام عليك يا رسول الله, ثُمَّ يتأخر قليلاً ويَقُول: السلام عليك يا أبا بكر, ثُمَّ يتأخر ويقول: السلام عليك يا أبتي ثُمَّ ينصر ولا يزيد خشية الغلو.

(المتن)

 

وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني». وفي سنن سعيد بن منصور أن الحسن بْنَ الحسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء.

(الشرح)

(وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني».), هَـذَا رواه أبو داود فِي سننه فِي كتاب المناسك, ورواه غيره وهذا الحديث فيه النهي عَنْ اتخاذ قبره عيدًا, «لاَّ تتخذوا قبري عيدًا», يَعْنِي لاَّ تكثروا من الترداد عَلَيْهِ, فتجعلوه بمثابة العيد الَّذِي يعود ويتكرر, فيه النهي عَنْ التكرار.

 «وصلوا عليّ», فِي أي مكان من الأرض «فَإِن صلاتكم تبلغني حيث كنتم», فَهَذَا فيه النهي عَنْ جعل قبره عيدًا؛ يَعْنِي عيد يعود ويتكرر فنهي عَنْ التكرار, بأن يتخذوه عيدًا, ويكتفي بالصلاة عَلَيْهِ فِي أي مكان.

(وفي سنن سعيد بن منصور أن الحسن بْنَ الحسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء).

هَـذَا رواه إسماعيل عَنْ إسحاق القاضي فِي فضل الصلاة عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, ورواه عَنْ زيد العابدين بْنَ علي بْنَ الحسين أيضًا, هَـذَا الحديث رواه أيضًا عَنْ علي بْنَ الحسين بْنَ أبي شيبة فِي المصنف, والبخاري فِي التاريخ, فَهَذَا الحديث مخرجه من آل بيت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, عبد الله بْنَ الحسن بْنَ علي بْنَ أبي طالب من أهل البيت, كله مسلسل بالبيت, مخرجه من أهل البيت.

رأى رجل عبد الله بْنَ الحسن بْنَ علي بْنَ أبي طالب, عبد الله هَـذَا أبوه الحسن وجده علي بْنَ أبي طالب, رضي الله عنهم, رأى رجلاً يتردد إِلَى قبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي للسلام ويكثر, فَقَالَ له عبد الله بْنَ الحسن: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَّ تتخذوا قبري عيدًا», يَعْنِي لاَّ تكثروا من الترداد فيكون كالعيد, «وصلوا عليّ فَإِن صلاتكم تبلغني حيث كنتم», صلوا فِي أي مكان, ثُمَّ قَالَ له:( أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء), أنت فِي المدينة تصلي عَلَى النَّبِيّ واللي فِي أسبانيا يصلي عَلَى النَّبِيّ سواء, ما أَنتُمْ إِلاَّ سواء, وَهَذِهِ السُّنَّةِ مخرجها من بيت النبوة, وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنه يَنبَغِي لإنسان ألا يتكلف, وألا يكثر التكرار.

(المتن)

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما فعلوا، قالت عائشة: «ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا». وهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدًا فيتخذ قبره وثنًا.

(الشرح)

(وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»), اللعن لاَّ يكون إِلاَّ عَلَى كبيرة«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد», قالت عائشة: يحذّر ما فعلوا، الرسول لعن اليهود والنصارى عَلَى اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد, والمعنى أَنَّهُمْ يصلون عندها عِنْدَ القبور, فالمكان الَّذِي يصلي فيه يسمى مسجد, أي مكان تصلي فيه مسجد, قَالَ عليه الصلاة والسلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا», فأي مكان يصلى فيه يكون مسجد.

والرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى عَلَى اتخاذ قبور أنبائهم مساجد, وفي اللفظ الآخر فِي صحيح مسلم: «اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد».

(قالت عائشة: يحذر ما صنعوا), الرسول صلى الله عليه وسلم حينما لعن اليهود والنصارى عَلَى اتخاذ قبورهم مساجد له مقصد له غرض, مقصوده تحذير هَذِهِ الأمة أَن تفعل مثل فعل اليهود والنصارى فيصيبهم ما أصابهم؛ لِأَنَّهُمْ مضوا وانتهوا لَـكِن المراد هَذِهِ الأمة, كما قَالَ بعض السلف: مضى القوم وَلَمْ يعنى به سواكم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى عَلَى اتخاذ القبور مساجد تحذيرًا لهذه الأمة أَن تسلك مسلكهم فيصبهم ما أصابهم, ولهذا قَالَ عائشة: يحذر ما فعلوا.

(قالت عائشة: «ولولا ذلك لأبرز قبره»), لولا أَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خشي أَن يتخذ قبره مسجدًا لأبر قبره ودفن فِي البقيع أو فِي أي مكان, وَلَـكِن خشي أَن يتخذ مسجدًا «ولكن كره أن يتخذ مسجدًا». وهذا رواه البخاري فِي كتاب المغازي, ورواه مسلم فِي كتاب المساجد, وَهُم دفنوه فِي حجرة عائشة خلاف ما اعتاده من الدفن فِي الصحراء, لماذا؟ لئلا يصلي أحد عِنْدَ قبره ويتخذه مسجدًا فيتخذ قبره وثنًا, وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الحديث الصحيح: «اللهم لاَّ تجعل قبري وثنًا يعبد, اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد», فلهذا دفن فِي غرفة عائشة, وَلَمْ يدفن فِي الصحراء عَلَى خلاف العادة, (لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدًا فيتخذ قبره وثنًا).

وأيضًا جاء في الحديث أَن كُلّ نبي يدفن فِي المكان لذي مات فيه, ذكر المحقق فِي رواية الترمذي وأحد عَنْ أبي بكر رضي الله عنهما, قَالَ: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ما نسيته قَالَ: ما قبض الله نبيًا إِلاَّ فِي الموضع الَّذِي يَجِبُ أَن يدفن فيه», وفي لفظ لأحمد: «لَمْ يقبر نبيٌ إِلاَّ حيث يموت», فأخروا فراشه وحفروا له تحت فراشه صلى الله عليه وسلم .

(المتن)

وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك؛ لا يدخل أحد إلى عنده لا لصلاة هناك ولا لتمسّح بالقبر ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما يفعلونه في المسجد. وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا على النبي صلى الله عليه وسلّم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة لم يستقبلوا القبر.

وأما وقوف المسلّم عليه، فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضا لا يستقبل القبر. وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام عليه خاصة. ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر عند الدعاء، أي الدعاء الذي يقصده لنفسه، إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها.

(الشرح)

يَقُول المؤلف: (وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك؛ لا يدخل أحد إلى عنده لا لصلاة هناك ولا لتمسّح بالقبر ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما يفعلونه في المسجد).

يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فن فِي بيته حجر عائشة, حجرة عائشة خارج المسجد, استمر هَـذَا إِلَى زمن الوليد بْنَ عبد الملك, ثُمَّ أراد الخليفة الأموي عبد الملك بْنَ مروان أَن يوسع المسجد, فأدخل الحجرة النبوية فنصحه العلماء بألا يوسع من الجهة الشرقية وَإِنَّمَا يوسعه من الجهة الأخرى الَّتِي ليس فيها حجرة, لكنه وسع من هَذِهِ الجهة, فأدخل البيت كاملاً فِي المسجد, وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ما دفن فِي المسجد ولا بني المسجد عَلَى قبره.

بعض النَّاس يشكل عَلَيْهِ الأَمْر, يَقُول: الآن الفتوى عِنْدَ المحققين أَنه لاَّ يجوز دفن الميت فِي المسجد, ولا يجوز بناء المسجد عَلَى القبر, وإِذَا وجد قبر فِي مسجد فالحكم للسابق.

إِنَّ كان القبر هُوَ السابق هدم المسجد وبني فِي مكان آخر, وإن المسجد هُوَ الأول ودفن فِيه القبر, ينبش القبر ويدفن مع المقابر, النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يحصل له واحد من الأمرين, لَمْ يدفن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي المسجد ولا بني المسجد عَلَى قبره, لاَّ هَـذَا ولا هَـذَا, النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دفن فِي بيته والبيت خارج المسجد, وَلَمْ يبنى مسجده عَلَى قبره, وهذا ما حدث فِي حياته, لَـكِن الخطأ إِنَّمَا جاء من إدخال الحجرة, إدخال البيت كامل, أدخل للتوسعة, وقبل إدخال الوليد البيت فِي المسجد ماذا كان النَّاس يعلمون؟ كان الصحابة والتابعون لَمَّا كانت الحجرة منفصلة عَنْ المسجد إِلَى زمن الوليد بْنَ عبد الملك لاَّ يدخل أحد إِلَى القبر, البيت خارج المسجد مستقل, فلا يدخل أحد إِلَى القبر, لاَّ لصلاة لاَّ لتمسح, ما يَأْتِيَ أحد إِلَى الحجرة النبوية, ولا يصلي هناك ولا يتمسح بالقبر, ولا يَدْعُو هناك, بَلْ هَـذَا جميع إِنَّمَا كانوا يفعلونه فِي المسجد.

من أراد الدُّعَاء ذهب إِلَى المسجد, (وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا على النبي صلى الله عليه وسلّم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة لم يستقبلوا القبر), يَعْنِي كان السلف الصحابة يسلمون عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ويشهدون له بالبلاغ, ثُمَّ إِذَا أرادوا الدُّعَاء دخل المسجد ودعوا, ولا يدعون عِنْدَ الحجرة النبوية.

(وَأَمَّا وقوف المسلّم عَلَيْهِ)، فما السُّنَّةِ؟ ما السُّنَّةِ فِي الوقوف إِذَا أراد أَن يسلم عَلَى النَّبِيّ؟ هَلْ يقف مستقبل القبلة ويسلم عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أو يقف مستقبل القبر مستدبر القبلة؟ قَالَ أبو حنيفة: إِذَا أراد أَن يسلم عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة ثُمَّ يسلم عَلَيْهِ, فيجعل القبلة أمامه وظهره إِلَى القبر.

وَقَالَ الجمهور: بالعكس, الصواب بالعكس, هُوَ أَنَّهُ يستقبل القبر ويستدبر القبلة, مثل الحي الآن, إِذَا أردت أَن تسلم عَلَى الحي تقابله فِي وجهه, النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وجهه إِلَى القبلة, فَإِذا أردت أَن تسلم عَلَيْهِ تستقبل وجهه عليه الصلاة والسلام وتستدبر القبلة, وهذا هُوَ السُّنَّةِ الَّذِي أقره الجماهير خلافًا لأبي حنيفة, كالحي, كما أَن الحي تقابله تقف أمام وجهه فكذلك الميت تقابله وتقف تمام وجهه, ووجه الميت إِلَى القبلة فأنت يكون وجهك إِلَى الميت وظهرك إِلَى القبلة, وهذا هُوَ الَّذِي أقره الْأَئِمَّةِ خلاف لأبي حنيفة.

أبي حنيفة يَقُول: يستقبل القبلة ولا يستقبل القبر, وجماهير الْأَئِمَّةِ جماهير العلماء يَقُولُونَ: يستقبل القبر عِنْدَ السلام خاصة, ثُمَّ إِذَا أراد الدُّعَاء يتجه إِلَى القبلة.

قَالَ: (ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر عند الدُّعَاء), ما قَالُوا وَإِنَّمَا قَالُوا الكلام فِي السلام, فِي السلام نعم يستقبل القبر, لَـكِن عِنْدَ الدُّعَاء لاّ.

قَالَ: (وليس فِي ذَلِكَ إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها), يَعْنِي روي عَنْ مالك حكاية مكذوبة أَنَّهُ يستقبل القبر عِنْدَ الدُّعَاء, إِذَا أراد أَن يَدْعُو استقبل القبر, ذكر فِي الحاشية قَالَ: الحكاية مكذوبة يزعمون أنها وقعت بينه وبين أبي جعفر المنصور, ذكرها الشيخ وفندها فِي قاعدة التوسل والوسيلة فِي الاستغاثة والرد عَلَى البكري, لَـكِن ما ذكرها هنا هَذِهِ القصة, هُوَ أَن مالك قَالَ لأبي جعفر المنصور لَمَّا أراد أَن يسلم عَلَيْهِ قَالَ: أستقبل القبر أم أستقبل القبلة؟ قَالَ: وَلَمَ تصرف وجهك عَنْ وجه نبيك, وَهَذِهِ الحكاية مكذوبة عَلَى الإمام مالك لَمْ يقل هَـذَا.

أستقبل القبر أم أستقبل القبلة؟ قَالَ: وَلَمَ تصرف وجهك عَنْ وجه نبيك, وَهُوَ وسيلتك أو كما جاء, فَهَذِهِ القصة مكذوبة, وما قَالَ أحدٌ من الْأَئِمَّةِ: أَنَّهُ يستقبل القبر عِنْدَ الدُّعَاء إِلاَّ فِي حكاية مكذوبة عَنْ الإمام مالك, ومذهب الإمام مالك بخلافه, مذهب مالك موجود مسطر أَنَّهُ يستقبل القبلة عِنْدَ الدُّعَاء, ولا يستقبل القبر إِلاَّ عِنْدَ السلام, يستقبل القبر عِنْدَ السلام, فَإِذا أراد الدُّعَاء يستقبل القبلة.

نقف عَلَى هَـذَا وننتقل إِلَى الرسالة الثانية.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد