شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب القواعد الحسان الدرس الثالث

00:00
00:00
تحميل
126

 

المتن

فجميعُ مَحَاسِن الأدْيَان، والكُتُب قد جَمَعها هذا الكتاب وهذا الدِّين، وفَاق عليها بمحاسن وأوصاف لم تُوجد في غيره، وقرَّر نبوته بأنه أمِّي لا يكتب ولا يقرأ، ولا جالس أحدًا من أهل العلم بالكتب السابقة، بل لم يَفْجَأ الناس حتى جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أَتوا، ولا قَدِرُوا، ولا هو في استطاعتهم، ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا، وأنه مُحَالٌ مع هذا أن يكونَ من تلقاءِ نفسه، أو متقوِّل، أو متوهِّم فيما جاء به.

الشرح

أو أنْ يكونَ قد تقوَّلَهُ على ربه، أو أن يكون على الغيب ضنينًا.

المتن

وأعاد في القرآن وأبدى في هذا النوع، وقَرَّر ذلك بأنه يخبرُ بقصص الأنبياء السابقين مُطوَّلةً على الوجه الواقع الذي لا يستريب فيه أحد، ثم يخبر تعالى أنه ليس له طريق ولا وصول إلى هذا إلا بما آتاه الله من الوحي، كمثل قوله تعالى لمَّا ذكر قصة موسى مطوَّلة: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 46]، وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ [القصص: 44]، وكما في قوله: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44].

الشيخ:

وهذه أيضا ساقطة عندك ولما ذكر قصة يوسف وإخوته مطوَّلة قال: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102].

الشرح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى الله وسلّم وبارك على عبد الله، ورَسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ:

هذه القاعدة السابقة في طريقة القرآن، في تقرير نبوَّة نبيِّنا مُحمد ﷺ، فَذَكر المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ أنَّ هذه القاعدة وهذا الأصلُ ذكره اللهُ في كتابه، بطُرُقٍ متنوعة، وهذه الطُّرق يُعرف بها كمالُ صِدقِ النَّبي ﷺ.

فأخبرَ: أولًا: أنه صدَّق المُرسلين عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وهذا دليلٌ على صِدق نبوته، صدَّق المرسلين؛ لأنَّ الأنبياء مُتضامِنون، فالمُتقَدِّم بشَّر بالمُتأخِّر، والمُتأخِّر صدَّق المُتَقدِّم.

والأنْبياء دِينهُم واحد؛ كما في الحديث: نَحْنُ مَعَاشِر الْأَنْبِيَاء إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ دِيننَا وَاحِد، وَأُمَّهَاتُنَا شَتَّى ([1]).

والأخْوَة لِعَلَّاتِ هم: الإخوة من الأب.

الدين واحد، والأُمَّهات شتّى، الإخوة من الأب، الأب واحد، والأمهات متعدّدة.

فالأنبياء كالأخوة لعلَّات؛ دينهم واحد، الدين واحد والأمهات هي الشرائع متعددة.

شريعةُ نبينا ﷺ مُهَيْمِنَة على جميع الشرائع، وكتابه مُهيمن على كل الكتب، يعني أن هذه الشريعة حاكمة على شرائع الأنبياء، تقرِّر التوحيد، وتوافق الحق وتصدقه، والباطل الذي حُرِّف وزِيدَ فيه ونُقِص من قِبل الذين حرَّفوا في الشرائع السابقة، تنفيه.

ولهذا جميع محاسن الأديان والكتب جمعها الله في هذا الكِتاب وهذا الدِّين، وفاق عليها هذا الدِّين وهذا الكِتاب بمحاسنَ وأوصافٍ لا تجدها في غيره.

ومن تقرير نبوَّة نبينا محمدٍ ﷺ أنه أُمِّي؛ لا يقرأ، ولا يكتب، ووصفُ الأُمية كمالٌ في حقِّ النبي ﷺ، وإن كان نقصًا في غيره، لكنه كمالٌ في حقِّ نبينا ﷺ؛ لأنه إذا كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وجاء بهذا القرآن الذي أعجزَ البشر أن يأتوا بمثله، أو بسورة مثله، أو بعشر سورٍ مثله، كان هذا أقوى في الاستدلال على نبوته.

لكن لو كان يقرأ ويكتب، لقال الناس: هذا يقرأ ويكتب، ألَّفه، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48].

لو كنتَ تقرأ وتكتب لارتابَ المُبطِلون، قالوا: هذا شخصٌ مُتعلِّم، درسَ دراساتٍ عليا، ويستطيع أنْ يقولَ مثل هذا، لكن إذا كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وأتى بهذا القرآن الذي أعجز البلغاء والفصحاء وأنصار البلاغة والفصاحة، دلَّ على أنه من عندِ الله.

ولهذا لما جاء جبريل إلى النبي ﷺ في أول البعثة في غار حراء، قال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فغَطَّه حتى بلغَ منه الجَهْد، حتى يتهيأ للاستعداد لحمل الرسالة غطه أشد من (.......) غطى الماء اقرأ، قال: ما أنا بقارئ،  

  هذا ليس رفضًا، ولا امتناعًا، بل يخبر عن حاله؛ يعني لستُ قارئًا، ما تعلمتُ، كيف أقرأ وأنا ما تعلمتُ؟!

ما تعلمتُ، ما أعرف القراءة والكتابة، اقرأ، يقول: ما أنا بقارئ، ليس رفضًا ولا امتناعًا، وإنما معناه: يخبِر عن حاله، يقول: أنا لستُ قارئًا، ما أنا بقارئ، ما تعلمتُ القراءة، كيف أقرأ؟!

حتى غطَّه في الثالثة، وقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5] ([2]).

فالأمية كمالٌ في حقِّ النبي ﷺ، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48].

فهذا من تقريرِ نبوة نبينا محمدٍ ﷺ؛ لأنه أُمِّيٌّ لا يكتب، ولا يقرأ، ولا جالسَ أحدًا من أهل العلم من الكتب السابقة، ثُم يفتن الناسَ بهذا الكتابِ العظيم الذي بهرَ العقول، بهر العالم، وأعجزَ الفصحاء، وفرسان البلاغة.

كانت العرب، وكانت قريش وصلوا إلى شأوٍ بعيدٍ في الفصاحة والبلاغة، فتحدَّاهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولو اجتمعَ بعضهم، لو اجتمع الجن والإنس ما استطاعوا.

ثُم تحداهم أن يأتوا بعشر سورٍ فعجزوا، ثُم تحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا.

وبيَّن أنه لم يأتِ بهذا القرآن من تلقاءِ نفسه، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ [يونس: 16]، لما قالوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15]، قال الله: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [يونس: 15].

وأعاد في القرآن، وأبدى في هذا النوع، وقرَّره؛ ذلك لأن هذا القرآن يأتي بقصص الأنبياء السابقين على أوجهٍ متعددة، مطولة، ومختصرة، ومتوسطة، على حسب أحوال المخاطَبين.

لما حكَى قصة موسى، قال: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص: 44]، وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [القصص: 46].

ولما ذكرَ قصة يوسف قال: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102].

كذلك لما ذكر قصة مريم وزكريا: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]، نعم.

المتن

فهذه الأمور والإخبارات المفصَّلة التي يفصِّلها تفصيلًا لم يتمكن أهل الكتاب الذين في وقته ولا من بعدهم على تكذيبه فيها ولا معارضته، من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقًّا.

الشرح

النسخة عندك فيها سَقْطٌ، النسخة هذي فيها زيادة، قال: "فهذه الأمور والإخبارات المفصَّلة التي يفصِّلها الرسولُ ﷺ بما أُوحي إليه تفصيلًا، صحَّحها في أكثر الأخبار والحوادث، التي كانت في كُتُبِ أهل الكتاب مُحرَّفةً ومُشوَّهةً، بما أضافوا إليها من خرافاتٍ وأساطيرَ، حتى ما يتعلق منها بعيسى وأمِّه وولادتها ونشأتهما، وبموسى وولادته ونشأته.

كلُّ ذلك وغيره لم يكن يعرفه أهل الكتاب على حقيقته، حتى جاء القرآنُ فقصَّ ذلك على ما وقعَ وحصلَ، مما أدهش أهل الكتاب وغيرهم، وأخرس ألسنتهم حتى لم يقدر أحدٌ منهم ممن كان في وقته، ولا ممن كانوا بعد ذلك أن يكذِّبوا بشيءٍ منها، فكان ذلك من أكبر الأدلة على أنه رسولُ الله حقًّا". هذا ساقطٌ عندكَ، "وتارة يقرِّر نبوته..".

المتن

 وتارة يقرِّر نبوته بكمال حكمة الله وتمام قدرته، وأن تأييده لرسوله، ونصره على أعدائه، وتمكينه في الأرض موافق غاية الموافقة لحكمة الله، وأن مَن قدح في رسالته فقد قدح في حكمة الله، وفي قدرته.

الشرح

لا، لا، يقول هنا في النسخة: "هو مقتضَى حكمة ورحمة العزيز الحكيم، وأنَّ مَن قدحَ في رسالته فقد قدحَ في حكمة الله، وفي قدرته، وفي رحمته، بل وفي ربوبيته".

فلا شكَّ أن هذا؛ يعني مَن قدح في نبوة النبي ﷺ فقد قدح في ربوبية الله، يعني مَن أنكر رسالة النبي ﷺ فقد قدح في ربوبية الله، كيف يترك مَن يَكْذِبُ عليه طول عمره، ويمكِّن له، وينصره على أعدائه، ويُهْلِكُ أعداءه، وهو كاذبٌ؟! هذا لا يمكن.

ولهذا قال الله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44 - 46]، لو تقوّل، هو معصوم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، معصوم، لكن هذا من باب مقادير الأشياء، لقول الله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]، هو معصوم من الشِّرك، لكن لبيان مقادير الأشياء، عِظم الشرك، أنَّ مَن أَشرك فقد حبِط عمله، مهما كان، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44 - 46].

الوتين: عِرقٌ متصلٌ بالقلب، إذا قطعه مات في ساعته.

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، والمعنى لو تقوّل بعض الأقاويل لعجّل له العقوبة، ولا أحد يستطيع دفعه عنه، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 47].

المتن

وكذلك نصره وتأييده الباهر على الأمم الذين هم أقوى أهل الأرض من آيات رسالته، وأدلة توحيده، كما هو ظاهر للمتأمِّلين.

الشرح

"كذلك نصره وتأييده الباهر" لهذا النبي "على الأمم الذين هم أقوى أهل الأرض من آيات رسالته، وأدلة توحيده، كما هو ظاهر للمتأمِّلين".

المتن

وتارة يقرر نبوته ورسالته بما حازه من أوصاف الكمال، وما هو عليه من الأخلاق الجميلة، وأن كل خُلق عالٍ سام فلرسول الله ﷺ منه أعلاه وأكمله.

الشرح

كل هذا في تقرير رسالة النبي ﷺ، يُقَرِّرُون نبوَّتَه؛ بما جمعَ له، وكلَّفه به من أوصاف الكمال.

المتن

فمَن عظُمت صفاته وفاقت نُعوتُه جميع الخَلْق التي أعلاها الصدق ، أليس هذا أكبر الأدلة على أنه رسول رب العالمين، والمصطفى المختار من الخَلق أجمعين؟

الشرح

أعلاها الصدق والأمانة، "أليس هذا أكبر الأدلة على أنه رسول رب العالمين"؟ بلى،  كل هذا من تقرير النبوة لنبينا ﷺ، صفاته عظُمت، وفاقت نُعوتُه جميع الخَلْق، وأعلاها الصدق والأمانة، هذا من أكبر الأدلة على أنه الرسول؛ رسول الله حقًّا.

المتن

وتارة يقرِّرها بما هو موجود في كتب الأولين، وبشارات الأنبياء والمرسلين، إما باسمه العلَم، أو بأوصافه الجليلة، وأوصاف أمته، وأوصاف دينه.

وتارة يقرِّر رسالته بما أخبر به من الغيوب الماضية، والغيوب المستقبلة، التي وقعت في زمانه، والتي لا تزال تقع في كل وقت.

الشرح

هنا سقط: وبشارات الأنبياء والمرسلين، إما باسمه اللقب، أو بأوصافه الجليلة، وأوصاف أمته، وأوصاف دينه، كما في قوله تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6]،

وتارة يقرِّر رسالته بما أخبر به من الغيوب الماضية، والغيوب المستقبلة، التي وقعت في زمان مضى على زمانه، أو وقعت في زمانه، والتي لا تزال تقع في كل وقت.

المتن

فلولا الوحي ما وصل إليه شيءٌ من هذا، ولا له ولا لغيره طريق إلى العلم به.

وتارةً يُقرِّرها بحفظه إياه، وعِصْمته له من الخلق، مع تكالب الأعداء وضغطهم، وجدهم التام في الإيقاع به بكل ما في وسعهم، والله يعصمه، ويمنعه، وينصره!! وما ذاك إلا لأنه رسوله حقًّا، وأمِينه على وحيه.

الشرح

قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67].

المتن

وتارة يقرِّر رسالته بذكر عظمة ما جاء به، وهو القرآن الذي لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]، وتحدَّى أعداءه ومن كَفر به أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة، فعجزوا، ونكصُوا، وباؤوا بالخيبة والفشل!!

الشرح

سقط..

وهم أهلُ الألسن المُبرِّزُونَ في ميدان القول والفصاحة، ومع ذلك ما استطاعوا -مع شدة حِرصهم ومحاولتهم- أن يأتوا بسورة منه، وما استطاعوا ولا قَدروا -مع شدة حِرصهم ومحاولتهم- أن يجدوا فيه نقصًا أو عيبًا به على أعلى درجات الفصاحة التي ملكت أَزِمَّة قلوبهم، فلجأوا إلى السيف وإراقة دمائهم، وما كانوا يَعمدون إلى هذا لولا أنهم لم يجدوا سبيلًا إلى محاربته بالقول، وما كانوا يزعمونه عندهم علومًا وحِكمًا، فكان عدولهم إلى السيف وإراقة الدماء أكبر الأدلة على صدق الرسول، وأنه لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]، وأقطع البراهين على أنه الحق والهدى من عند الله الذي جمع الله فيه لرسوله وللمؤمنين به كل ما يَكفلُ لهم سعادة الدنيا والآخرة في كل شئونهم.

وأن هذا القرآن لأكبر أدلة رسالته وأجلُّها وأعمُّها.

والله تعالى يقرر أن القرآن كافٍ جدًا أن يكون هو الدليل الوحيد على صدق رسول الله ﷺ في مواضع عدة؛ منها قوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51].

المتن

وتارة يقرر رسالته بما أظهر على يديه من المعجزات، وما أَجْرَى له من الخوارق والكرامات الدالة -كل واحد بمفرده منها، فكيف إذا اجتمعت- على أنه رسول الله الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4].

الشرح

تقرير الرسالة يعني لها أنواع متعددة، ومن هنا يظهر خطأ الأشاعرة؛ الأشاعرة يقولون: ما يُعرف نبوة النبي إلا بالمعجزات، يأتي بمعجزة، ونتحدث، وهذا من الأغلاط.

كما ذكر المؤلف: تقرير رسالة النبي في مواضع متعددة؛ تثبت نبوَّته بما جُمع له من أوصاف الكمال، ومنها: إخباره بالغيوب، وبعضها في المستقبل.

المتن

وتارة يقرِّرها بعظيم شفقته على الخَلْق، وحنوِّه الكامل على أمته، وأنه بالمؤمنين رؤوفٌ رَحيم، وأنه لم يوجد، ولن يوجد أحد من الخلق أعظم شفقة، وبرًّا، وإحسانًا، إلى الخَلق منه، وآثار ذلك ظاهرة للناظرين.

فهذه الأمور والطُرُق قد أكثر الله من ذكرها في كتابه، وقرَّرها بعبارات متنوعة ومعاني مفصَّلة، وأساليب عجيبة، وأمثلتها تفوق العد والإحصاء، والله أعلم.

الشرح

أي تقرير نبوَّة النبي ﷺ أيضًا لها.. متعددة؛ تارة بصدقه، تارةً بأخلاقه، وبصفاته.

فقولُ الأشاعرة: إنه لا تُعرف نبوة النبي إلا بالمعجزات، هذا من الغلط والأخطاء.

خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بماذا استدلت على نبوته؟ قالت: «كَلا وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَقْرِي الضيف، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وتعين على نوائب الحق»([3]).

وهذا هرقل لما سأل ما يَقْرُبُ من عشرة أسئلة، قال: هل من آبائه من مَلِكٍ؟ هل أحدٌ قال قوله؟ هل أتباعه يزيدون أم ينقصون؟ ثم قال: إن كنتَ كما قلتَ، فسيملك موضع قدميّ هاتين واستدلوا به على نبوته فالأدلة على صدق الصادق متعددة والإنسان يعرف في أحواله الإنسان يعرف في معاملاته مع الناس ومع أصحابه، مع الباعة الإنسان يعرف من يعامله وهذا الصادق الصحابة قالوا هذا صادق لتعامله معهم، نعم

المتن

القاعدة الثامنة:

طريقة القرآن في تَقريرِ المعاد.

وهذا الأصلُ الثالث من الأصول التي اتفقت عليها الرُّسُل والشَّرائع كُلُّها: التوحيد، والرسالة، وأمر المعاد، وحشر العباد.

وهذا قد أكثر الله من ذكره في كتابه، وقرَّره بطرق متنوعة:

منها: إخباره، وهو أصدق القائلين، ومع إكثار الله من ذكره فقد أقسم عليه في ثلاثة مواضع من كتابه.

الشرح

إخبار الله، (.............)، وعما يكون فيه من الجزاء الأوفى، مع إكثار الله من ذِكره. نعم

المتن

ومع إكثار الله من ذكره، فقد أقسم عليه في ثلاثة مواضع من كتابه.

الشرح

هذه القاعدة الثامنة في طريقة القرآن في تقرير المعاد يعني البعث، معاد الأجساد.

وهذا هو الأصل الثالث من الأصول التي اتفقت عليها الرُّسل؛ "التوحيد"، توحيد الله والإخلاص لدين الله، "والرِّسالة"؛ الإيمان بالرسالة، وأمر المعاد، المعاد: هو البعث، فمَن أنكر البعث فهو كافر بنص القرآن.

والمراد بالبعث: بعث الأجساد، والفلاسفة أنكروا بعث الأجساد، وقالوا: البعث للأرواح، قالوا: الأرواح هي التي تُبعث، أمَّا الأجسادُ.. فكفَّرهم اللهُ؛ لأن الأرواح ما تموت، إذا خرجت روحُ الميت، روحُ المؤمن تُنقل إلى الجَنَّة، ولها صلةٌ بالجسم، وروحُ الكافر تُنقل إلى النار، ولها صلةٌ بالجسم.

الموت: هو مفارقة الروح للجسم، الجسد يبلَى والروح باقية، في نعيمٍ أو في عذابٍ.

فبعْثُ الأجساد هو الذي قد أنكره الأمم الكافرة، فأمرَ اللهُ به نبيه أن يُقْسِمَ على البعث في ثلاثة مواضع من كتابه، قال: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7]، وفي سورة يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يونس: 53]؛ يعني: البعث، قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: 53]، وفي سورة سبأ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3].

فأمَرَ اللهُ نبيَّه أنْ يُقْسِمَ على البعثِ في ثلاثة مواطن، نعم.

وأيضًا بالقَسَم، كلها أمرَ نبيه أن يقسم على البعث، في هذه المواضع الثلاثة، نعم.

المتن

ومنها: الإخبار بكمال قدرة الله تعالى، ونفوذ مشيئته وأنه لا يعجزه شيء؛ فإعادة العباد بعد موتهم فردٌ من أفراد آثار قدرته.

ومنها: تذكيره العباد بالنشأة الأولى، وأن الذي أوجدهم ولم يكونوا شيئًا مذكورًا لا بد أن يعيدهم كما بدأهم. وأعاد هذا المعنى في مواضع كثيرة، بأساليب متنوعة.

الشرح

وأنَّ الإعادةَ أهون عليه، نعم.

المتن

ومنها: إحياؤه الأرض الهامدة الميتة بعد موتها، وأن الذي أحياها سيحيي الموتى. وقرر ذلك بقدرته على ما هو أكبر من ذلك وهو خَلْق السموات والأرض، والمخلوقات العظيمة، فمتى أثبت المنكرون لذلك -ولن يقدروا على إنكاره- فلأي شيءٍ يستبعدون إحياءه الموتى؟

وقرر ذلك بسعة علمه، وكمال حكمته، وأنه لا يليق به ولا يَحْسُنَ أنْ يتركَ خَلْقَه سُدًى مُهْمَلين، لا يُؤمرون، ولا يُنهون، ولا يُثابون، ولا يعاقبون! وهذا طريق قرَّر به النبوة وأمر المعاد.

الشرح

الله عَزَّ وَجَلَّ قال: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36]، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115].

يظن الإنسان أنه يُترك هملًا، لا يُؤمر، ولا يُنهى في الدنيا، ولا يُحاسَب، ولا يُعاقَب في الآخرة، نعم.

المتن

ومما قرَّر به البعث، ومجازاة المحسنين بإحسانهم، والمسيئين بإساءتهم: ما أخبر به من أيامه في الأمم الماضين، والقرون الغابرة، وكيف نجّى الأنبياء وأتباعهم، وأهلك المكذبين لهم، المنكرين للبعث، ونوَّع عليهم العقوبات، وأحلَّ بهم المثُلات، فهذا جزاءٌ مُعَجَّل، ونموذجٌ من جزاء الآخرة أراه الله عباده؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا من حَيَّ عن بيِّنة.

الشرح

وهذه عقوبةٌ عاجلة، ذكره الله في الدنيا، وأعدَّه لهم في الآخرة، نعوذ به، كما في قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شُعَيْب، وفرعون وقومه، نعم.

المتن

ومن ذلك ما أرى الله عباده من إحيائه الأموات في الدنيا، كما ذكره الله عن صاحب البقرة، والألوف من بني إسرائيل، والذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم الخليل والطيور، وإحياء عيسى ابن مريم للأموات، وغيرها مما أراه الله عباده في هذه الدار ليعلموا أنه قوي ذو اقتدار، وأن العباد لا بد أن يَرِدوا دار القرار، إما الجنة أو النار. وهذه المعاني أبداها الله وأعادها في مَحَالّ كثيرة. والله أعلم.

القاعدة التاسعة: في طريقة القرآن في أمْر المؤمنين وخطابهم بالأحكام الشرعية.

قد أمرَ الله تعالى بالدعاء إلى سبيله بالتي هي أحسن، أي: بأقرب طريق موصل للمقصود، محصِّل للمطلوب. ولا شك أن الطرق التي سلكها الله في خطاب عباده المؤمنين بالأحكام الشرعية هي أحسنها وأقربها، فأكثر ما يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر بالوصف الذي مَنَّ عليهم به وهو الإيمان، فيقول: يا أيها الذين آمنوا، افعلوا كذا، واتركوا كذا؛ لأن في ذلك دعوة لهم من وجهين:

أحدهما: من جهة الحث على القيام بلوازم الإيمان، وشروطه، ومكملاته، فكأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا، قوموا بما يقتضيه إيمانكم، من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والتخلق بكل خُلقٍ حميد، والتجنب لكل خُلقٍ رذيل؛ فإن الإيمان الحقيقي هكذا يقتضي؛ ولهذا أجمع السلف أن الإيمان يزيد وينقص، وأن جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة من الإيمان ولوازمه، كما دلت على هذا الأصل الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة، وهذا أحدها؛ حيث يُصدِّرُ اللهُ أمْرَ المؤمنين بقوله: يا أيها الذين آمنوا، أو يُعَلِّقُ فعْلَ ذلك على الإيمان، وأنه لا يتم الإيمان إلا بذلك المذكور.

والوجه الثاني: أنه يدعوهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا، افعلوا كذا، أو اتركوا كذا. أو يُعَلِّق ذلك بالإيمان، يدعوهم بمنَّته عليهم بهذه المنَّة التي هي أجل المنن، أي: يا مَن مَنَّ الله عليهم بالإيمان قوموا بشكر هذه النعمة بفعل كذا وترك كذا.

الشرح

نعم، وهذه طريقة القرآن في أمْرِ المؤمنين، وخطابهم  بالأحكام الشرعية، وذلك أن الله يدعوهم إلى سبيله بالتي هي أحسن، ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125]، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108]، يدعوهم إلى الخير، وينهاهم عن الشر، وقد يدعوهم من جهة الحثِّ على القيام بلوازم الإيمان وشروطه، ويدعوهم أيضًا، يخاطبهم خطابًا يا أيها الذين آمنوا، افعلوا كذا، أو لا تقولوا كذا، نعم.

المتن

فالوجه الأول: دعوة لهم أن يتمِّموا إيمانهم ويكملوه بالشرائع الظاهرة والباطنة.

والوجه الثاني: دعوة لهم إلى شُكْر نعمة الإيمان ببيان تفصيل هذا الشكر، وهو الانقياد التام لأمره ونهيه.

وتارة يدعو المؤمنين إلى الخير، وينهاهم عن الشر، بذكر آثار الخير، وعواقبه الحميدة، العاجلة والآجلة، وبذكر آثار الشر، وعواقبه الوخيمة، في الدنيا والآخرة.

وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر نعمه المتنوعة، وآلائه الجزيلة، وأن النعم تقتضي منهم القيام بشكرها، وشكرها هو القيام بحقوق الإيمان.

الشرح

نعم، (...........)يدعوهم إلى أن يتمموا إيمانهم، وأحيانًا يدعوهم إلى شكْرِ نعمة الإيمان، وأحيانًا يدعوهم إلى أنْ يَذْكُروا نِعمة المتنوعة وآلائه، وأنَّ نِعم الله تقتضي منهم الشكر، نعم.

المتن

وتارةً يدعوهم إلى ذلك بالترغيب والترهيب، وبذكر ما أعدَّ الله للمؤمنين الطائعين من الثواب، وما لغيرهم من العقاب.

وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر ما له من الأسماء الحسنى، وما له من الحق العظيم على عباده، وأن حقه عليهم أن يقوموا بعبوديته ظاهرًا وباطنًا، ويتعبَّدونه ويدعوه بأسمائه الحسنى، وصفاته المقدَّسة.

فالعبادات كلها تعظيم وتكبير لله، وإجلال وإكرام، وتودُّد إليه، وتقرُّب منه.

الشرح

العبادات كلها شُكْرٌ لله، وتعظيمٌ وتكبير، وإجلالٌ وإكرام، وتودُّد إليه، وتقرُّب منه، هذه طُرُقُ القرآن في خطابه للمؤمنين، أحيانًا يدعوهم إلى الترغيب والترهيب، إلى الترغيب في فعلِ الخير وما رتَّب اللهُ عليه من الثواب، وإلى التحذير من الشرِّ، وما رُتِّب عليه من العقوبة.

وتارةً يدعوهم إلى أن يتذكروا ما لله من الأسماء الحسنى، نعم.

المتن

وتارة يدعوهم إلى ذلك لأجل أن يتَّخذوه وحده وليًّا، وملجأ، ومَلَاذًا، ومعاذًا، ومَفْزَعًا إليه في الأمور كلها، وإنابةً إليه في كل حال، ويخبرهم أن هذا هو أصل سعادة العبد وصلاحه وفلاحه، وأنه إن لم يدخل في ولاية الله وتوليه الخاص تَوَلَّاه عدوه الذي يريد له الشر والشقاء، ويمنِّيه ويغرّه حتى يُفَوِّته المنافع والمصالح، ويوقعه في المهالك، وهذا كله مبسوط في القرآن بعبارات متنوعة.

الشرح

نعم، لا شك أن هذه الطريقة معروفة، يدعوهم لأجل أنْ يتخذوه وحده وليًّا، وملجأً وإلهًا، ومعاذًا، ومفزعًا إليه، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55]، نعم.

المتن

وتارة يحثُّهم على ذلك، ويحذرهم من التشبه بأهل الغفلة، والإعراض، والأديان المُبَدَّلَة؛ لئلا يلحقهم من اللوم ما لحق أولئك الأقوام، كقوله: فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [يونس: 95] فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 52]، وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16] إلى غير ذلك من الآيات.

الشرح

نعم، هذا من أنواع الخِطاب، التحذير من التشبه بأعداء الله، بأهل الغفلة والإعراض، نعم.

المتن

القاعدة العاشرة: في الطُّرُقِ التي في القرآن لدعوة الكفار على اختلاف مللهم ونِحلهم.

الشرح

في طُرُقِ القرآن إذا دعوتَ.. نعم.

المتن

يدعوهم إلى الدين الإسلامي والإيمان بمحمد ﷺ بما يصفه من محاسن شرعه ودينه، وما يَذْكُرُه من براهين رسالة محمد ﷺ؛ ليهتدي مَن قصده الحق والإنصاف، وتقوم الحجة على المُعانِد.

وهذه أعظمُ طريقٍ يُدعى بها جميع المخالفين لدين الإسلام؛ فإنَّ محاسن دين الإسلام، ومحاسن النبي ﷺ، وآياته، وبراهينه، فيها كفاية تامة للدعوة، بقطع النظر عن إبطال شبههم وما يحتجُّون به، فإن الحق إذا اتضح عُلم أنَّ ما خالفه فهو باطل ضلال.

ويدعوهم بما يخوِّفهم من أَخَذَات الأمم، وعقوبات الدنيا، وعقوبات الآخرة، وبما في الأديان الباطلة من أنواع الشرور، والعواقب الخبيثة، ويحذرهم من طاعة رؤساء الشر، ودعاة النار، وأنهم لابد أن تتقطع نفوسهم على طاعتهم حسرات.

الشرح

"ويدعوهم بما يخوِّفهم من أَخَذَات الأمم، وعقوبات الدنيا والآخرة، وبما في الأديان الباطلة من أنواع الشرور، والعواقب الخبيثة، وأنها إنما تقوم على الغفلة والتكذيب لآيات الله الكونية والعلمية، للوقوع تحت سلطان الجهل، والتقرير الأعمى للآباء والشيوخ والسادة، ويحذرهم من طاعة هؤلاء الرُّؤساء، فإنهم رؤساء الشر، ودعاة النار، وأنهم لابد أن تتقطع نفوسهم على ما عملوا وقدَّموا حسرات، وأنهم يتمنون أن لو أطاعوا الرسول ولم يطيعوا السادة والرؤساء، وأن مودتهم وصداقتهم وموالاتهم ستتبدَّل بغضًا وعداوة". عندكَ هذا؟

المتن

وأنهم يتمنون أن لو أطاعوا الرسول ولم يطيعوا السادة والرؤساء، وأن مودتهم وصداقتهم ستتبدَّل بغضاء وعداوة.

الشرح

هذا من الطريق في القرآن في دعوة الكفار، نعم.

المتن

ويدعوهم أيضًا بنحو ما يدعو المؤمنين بذكر آلائه ونعمه، وأن المنفرد بالخَلق والتدبير والنعم الظاهرة والباطنة هو الذي يجب على العباد طاعته، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.

ويدعوهم أيضًا بشرح ما في أديانهم الباطلة، وما احتوت عليه من القبح، والمقارنة بينها وبين دين الإسلام؛ ليتبين ويتضح ما يجب إيثاره، وما يتعيَّن اختياره.

ويدعوهم بالتي هي أحسن، فإذا وصلت بهم الحال إلى العناد والمكابرة الظاهرة توعَّدهم بالعقوبات الصوارم، وبيَّن للناس طريقتهم التي كانوا عليها، وأنهم لم يخالفوا الدين جهلًا وضلالًا، أو لقيام شبهة أوجبت لهم التوقف، وإنما ذلك جحود ومكابرة وعناد، ويبيِّن مع ذلك الأسباب التي منعتهم من متابعة الهدى، وأنها رياسات وأغراض نفسية، وأنهم لما آثروا الباطل على الحق طَبعَ على قلوبهم، وخَتمَ عليها، وسَدَّ عليهم طُرُق الهُدَى عقوبةً لهم على إعراضهم، وتوليهم للشيطان، وتخلِّيهم من ولاية الرحمن، وأنه وَلَّاهم ما تولوا لأنفسهم، وهذه المعاني الجزيلة مبسوطة في القرآن في مواضع كثيرة، فتأمَّل وتدبَّر القرآن تجدها واضحةً جلية، والله أعلم.

الشرح

نعم، هذا من الأسباب التي منعت الكفار من متابعة الهُدَى، منها: أسباب الرياسات، الرياسات تضيع عليهم، والمآكل، الأموال، ويزعمون أنهم إذا اتبعوا الرسول فاتت عليهم الزعامة، فاتت عليهم الأموال والمُكوس التي يأخذونها، فآثروا الدنيا على الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

فلما آثروا الباطلَ على الحقِّ طبعَ اللهُ على قلوبهم وختمَ عليها، فسَدَّ عليهم طُرُقَ الهُدَى عقوبةً لهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110]، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، نسأل الله السلامة والعافية، نعم.

المتن

القاعدة الحادية عشرة: كما أن المُفَسِّرَ للقرآن يراعي ما دلَّت عليه ألفاظُه مُطابَقةً، وما دخلَ في ضمنها، فعليه أن يراعي لوازم تلك المعاني، وما تستدعيه من المعاني التي لم يُصرِّح اللفظ بذكرها.

الشرح

لا، لمْ يُصرِّح الذِّكر؟ في النسخة: "التي لمْ يُعرَّج في اللفظ على ذِكرها".

المتن

وهذه القاعدة من أجلِّ قواعد التفسير وأنفعها، وتستدعي قوةَ فكرٍ، وحُسْنَ تَدبُّرٍ، وصحةَ قَصْدٍ؛ فإن الذي أنزله هو العالِمُ بكل شيء، الذي أحاط علمه بما تحتوي عليه القلوب، وما تَضَمّنه المعاني، وما يَتْبَعُهَا ويتقدمها وتتوقف هي عليه؛ ولهذا أجمع العلماء على الاستدلال باللازم في كلام الله لهذا السبب.

الشرح

هذه القاعدة العاشرة؛ مراعاة ما دلّت عليه الألفاظ، المُفسِّر يراعي ما دلَّت عليه الألفاظُ، مطابقة، وما دخلَ في ضمنها؛ لأن دلالة الألفاظ إما أنْ تكونَ مطابقة؛ دلالة مُطَابَقَة، أو دلالة تضمُّنٍ، أو دلالة التزامٍ.

فدلالةُ المُطَابَقَة: دلالةُ الشيء على جميع معناه.

ودلالة التضمُّن: دلالةُ الشيء على جزءِ معناه.

ودلالة الالتزام: دلالةُ الشيء على خارج معناه.

فمثلًا: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، متضمنة لتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فدلالتها على توحيد الألوهية ودلالتها على توحيد الربوبية دلالة مطابَقَة، لأنها دلت على جميع معناه، وإذا – (...........) على أحدهما، تكون دلالة تضمُّن، ودلالتها على ما تقتضيه الألوهية والربوبية والأسماء والصفات دلالتها دلالة تضمُّن، دلّت على الشيء خارج معناه، نعم.

المتن

والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني، فإذا فهمتها فهمًا جيدًا ففكِّر في الأمور التي تتوقف عليها، ولا تحصل بدونها، وما يُشترط لها، وكذلك فكِّر فيما يترتب عليها، وما يتفرَّع عنها، وينبني عليها، ولا تزال تُفَكِّرُ في هذه الأمور حتى يصير لك مَلَكة جيدة في الغوص على المعاني الدقيقة؛ فإن القرآن حق، ولازم الحق حق، وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرَّع على الحق حق.

فمن وُفِّق لهذه الطريقة، وأعطاه الله توفيقًا ونورًا، انفتحت له العلوم النافعة، والمعارف الجليلة. ولنمثل لهذا الأصل أمثلة توضحه:

الشرح

نعم، المؤلف يقول: "إجماع العلماء على الاستدلال باللوازم في كلام الله، والطريق إلى سلوك هذا الأصل أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني، فإذا فهمتها فهمًا جيدًا فكِّر في الأمور التي تتوقف عليها، ولا تحصل بدونها، وما يُشترط لها".

وقال: "وأكثرْ من هذا التفكير، وداوِمْ عليه؛ حتى يصير لك مَلَكةً جيدة، في الغوص على المعاني الدقيقة؛ فإن القرآن حق، ولازم الحق حق، وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرَّع عن الحق حق". ذلك كلُّه حقٌّ ولابد.

ثم المؤلف أراد أن يضربَ أمثلةً، قال: "ولنمثل لهذا الأصل أمثلة توضحه"، نعم.

المتن

منها: في أسمائه الحسنى: الرحمن الرحيم، فإنها تدل بلفظها على وصفه بالرحمة، وسعة رحمته، فإذا فهمت أن الرحمة التي لا يشبهها رحمةُ أَحَدٍ هي وصفه الثابت، وأنه أوصل رحمته إلى كل مخلوق، ولم يَخْلُ أحدٌ من رحمته طرفة عين، عرفتَ أن هذا الوصف يدل على كمال حياته، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته؛ لتوقُّف الرحمة على ذلك كله، ثم استدللت بسعة رحمته على أن شرعه نور ورحمة؛ ولهذا يعلِّل تعالى كثيرًا من الأحكام الشرعية برحمته وإحسانه؛ لأنها من مقتضاه وأثره.

ومنها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58].

الشرح

من أسماء الله: الرحمن الرحيم، يدلُّ الاسمُ بلفظه على وصفِ الله تعالى بالرحمة، وعلى سعةِ رحمة الله، فالرحمة وصْفُ الله الثابت.

فالرحمن الرحيم يدل على صفةِ الرحمة، ويدل أيضًا على كمال الحياة وكمال القدرة، فدلالته على الرحمة هذا دلالة مطابقة، ودلالته على كمال الحياة وكمال القدرة دلالة اقتداء والتزام، يعني الرحمن لابد أن يكون حيًّا، لابد أن يكون قادرًا، لابد أن يكون عالمًا.

فدلالة الرحمن على الرحمة هذه دلالة تضمُّن، دلالته على العِلم والقدرة والسمع والبصر دلالة التزام، نعم.

المتن

ومنها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58].

فإذا فهمت أن الله أمرَ بأداء الأمانات كلها إلى أهلها استدللت بذلك على وجوب حفظ الأمانات، وعدم إضاعتها والتفريط والتعدي فيها، وأنه لا يتم الأداء لأهلها إلا بذلك.

وإذا فهمت أن الله أمر بالحكم بين الناس بالعدل استدللت بذلك على أن كل حاكم بين الناس في الأمور الكبار والصغار لابد أن يكون عالمًا بما يحكم به، فإن كان حاكمًا عامًا فلابد أن يحصِّل من العلم ما يُؤَهِّلُه إلى ذلك، وإن كان حاكمًا ببعض الأمور الجزئية كالشِّقَاق بين الزوجين حيث أمر الله أن نبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فلابد أن يكون عارفًا بهذه الأمور التي يريد أن يحكم بها، ويعرف الطريق التي توصله إليها.

الشرح

نعم، هذه كلها طرقٌ في بيان دلالة الاقتضاء، والالتزام، التفسير باللوازم.

فمثلًا اللهُ أمرَ بأداء الأمانات، وأمرَ بالحكم بالعدل، وهذا يدل على وجوب حفْظِ الأمانات، فدلالته على وجوب حفْظِ الأمانات، هذا بدلالة الاقتضاء والالتزام.

أمرُ الله بأداء الأمانات يدل على أنها تُحفظ الأمانات، ولا تُضيَّع.

وكذلك إذا أمرَ الله بالحكم بين الناس بالعدل، دلَّ على أنَّ كلَّ حاكمٍ بين الناس لابد أن يكون عالمًا بما يحكم به، نعم.

المتن

وبهذا بعينه نستدل على وجوب طلب العلم، وأنه فرضُ عينٍ في كل أمرٍ يحتاجه العبد؛ فإن الله أمرنا بأوامر كثيرة، ونهانا عن أمور كثيرة.

الشرح

نعم، وإذا كان اللهُ قد أمرنا بأوامر كثيرة، ونهانا عن أمورٍ كثيرة، فلابد أنْ نَعْلَمَ هذا الأمر؛ حتى نُؤَدِّيَه، ونعلم هذا النهي كيف؛ حتى ننتهيَ عنه، ولا طريقَ لنا إلا بالتعلم، فدلّ ذلك على وجوب طلبِ العلم.

حتى نَعْلَمَ يجب على الإنسان أنْ يتعلم؛ حتى يَعْلَمَ ما يقيم به دينه، حتى يعلم الأمر الذي أمرنا اللهُ به فيفعله، ويعلم الأمر الذي نهى الله عنه فيجتنبه.

يعني يجب على الإنسان أن يتعلم كيف يصلي، ولا يُعذر أحدٌ؛ لأن اللهَ أوجبَ الصلاةَ على كل أحدٍ، يجب على مَن قدرَ على الصيام إذا جاء شهر رمضان أن يصومَ، يجب على مَن قدر على أداءِ الحج، أن يتعلم مناسك الحج، وإذا لم يستطع لا يجب عليه، يكون مستحبًّا في حقه وواجبًا في حق غيره، إذا كان عنده مال، يجب عليه أن يعرف أحكام الزكاة حتى يؤديها، وإذا لم يكن عنده مال لا يجب، إذا كان عنده زوجة يجب أن يتعلم حقوق الزوجة، وإذا لم يكن عنده فلا.. الناسُ تتفاوتُ في هذا، نعم.

المتن

ومن المعلوم أن امتثال أمره واجتناب نهيه يتوقف على معرفته وعلمه، فكيف يُتصور أن يمتثل الجاهل الأمر الذي لا يعرفه، أو يدع الأمر الذي يعرفه؟

وكذلك أمره لعباده أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، يتوقف ذلك على العلم بالمعروف والمنكر ليأمر بهذا، وينهى عن هذا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يحصل ترك المنهي عنه إلا به فهو واجب؛ فالعلم بالإيمان والعمل الصالح متقدِّمٌ على القيام به، والعلم بضد ذلك متقدِّم على تركه لاستحالة تركِ ما لا يعرفه العبد قصدًا وتقرُّبًا وتعبُّدًا.

الشرح   

حتى يعرفه ويميزه عن غيره، العلم بالإيمان والعمل الصالح متقدِّمٌ، يسبق العمل، ثم يأتي بعده العمل، كذلك إذا أمرَ اللهُ عباده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوقف ذلك على أن تَعْرِفَ المعروف، حتى تفعله، وتعرف المُنكَر حتى تتركه، تعرف المعروف حتى تأمرَ به، تعرف المنكر حتى تنهى عنه، نعم.

المتن

ومن ذلك: الأمر بالجهاد، والحث عليه، مِن لازِمِ ذلك: الأمر بكل ما لا يتم الجهاد إلا به، من تعلُّم الرمي، والركوب، وعمل آلاته وصناعاته، مع أن ذلك كله داخل دخولَ مُطابَقَةٍ في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] فإنها تتناول كل قوةٍ عقليةٍ، وبدنيةٍ، وسياسيةٍ، ونحوِها.

الشرح

"وسياسيةٍ، وصناعيةٍ، وماليةٍ، ونحوِها"، نعم.

المتن

ومن ذلك: أن الله استشهد بأهل العلم على توحيده، وقرنَ شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وهذا يدل على عدالتهم، وأنهم حُجَّةٌ من الله تعالى على مَن كذَّب، بمنزلة آياته وأدلته.

الشرح

نعم، وهذا في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18].

قرَنَ اللهُ شهادة العلماء بشهادته وشهادة الملائكة، على أجلِّ مشهودٍ به، وهو الشهادة لله تعالى بالوحدانية، وهذا يدل على فضلِ العلماء، أنْ نَوَّه بشأنهم، علماء الحق، علماء الشريعة، علماء الآخرة.

أمَّا علماء السوء؛ كاليهود وأشباههم، فهؤلاء مغضوب عليهم، حلّ عليهم الغضب واللعنة، نسأل الله السلامة والعافية، نعم.

المتن

ومن ذلك: سؤال عباد الرحمن ربهم أن يجعلهم للمتقين إمامًا يقتضي سؤالهم الله جميع ما تتم الإمامة في الدين به، من علوم، ومعارف جليلة، وأعمال صالحة، وأخلاق فاضلة؛ لأن سؤال العبد لربه شيئًا سؤال له ولما لا يتم إلا به، كما إذا سأل الله الجنة واستعاذ به من النار فإنه يقتضي سؤال كل ما يقرِّب إلى هذه ويبعد من هذه.

ومن ذلك أنه أمر بالصلاح والإصلاح، وأثنى على المصلحين، وأخبر أنه لا يصلح عمل المفسدين، فيُستدل بذلك على أن كل أمرٍ فيه صلاح للعباد في أمرِ دينهم ودنياهم، وكل أمرٍ يُعِين على ذلك، فإنه داخل في أمر الله وترغيبه، وأن كل فسادٍ وضررٍ وشرٍّ فإنه داخل في نهيه والتحذير عنه، وأنه يجب تحصيل كل ما يَعُودُ إلى الصلاح والإصلاح بحسب استطاعة العبد، كما قال شعيب ﷺ: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88].

الشرح

الإنسان يبذل جُهْدَه ووسْعَهُ في معرفة الأحكام الشرعية، ويجاهد نفسه على الإخلاص، نعم.

المتن

ومن ذلك قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 223]، وحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [الأنفال: 65] يقتضي الأمر بكل ما لا تتم البشارة إلا به، والأمر بكل ما فيه حَضٌّ وتحريض، وما يتوقف على ذلك ويتبعه من الاستعداد والتمرُّن على أسباب الشجاعة والسعي في القوة المعنوية، من التآلف، واجتماع الكلمة، ونحو ذلك.

ومن ذلك، الأمر بتبليغ الأحكام الشرعية، والتذكير بها وتعليمها، فإن كل أمرٍ يحصل به التبليغ وإيصال الأحكام إلى المكلَّفين يدخل في ذلك، حتى إنه يدخل فيه إذا ثبتت الأحكام الشرعية، ووُجدت أسبابها، وكانت تخفى عادة على أكثر الناس، كثبوت الأهلَّة -بالصيام والفطر والحج وغيره- إبلاغها بالأصوات، والرمي، وإبلاغها بما هو أبلغ من ذلك كالبرقيات، ونحوها.

وكذلك يدخل فيه كلُّ ما أعان على إيصال الأصوات إلى السامعين من الآلات الحادثة، فحدوثها لا يقتضي منعها، فكل أمرٍ ينفع الناس فإن القرآن لا يمنعه، بل يدل عليه لمَن أحسن الاستدلال به، وهذا من آيات القرآن، وأكبر براهينه، أنه لا يمكن أن يحدث علمٌ صحيح ينقض شيئًا منه، فإنه يَرِدُ بما تشهد به العقول جملةً أو تفصيلًا، أو يرد بما لا تهتدي إليه العقول.

وأمَّا ورودُه بما تحيله العقول الصحيحة، وتمنعه، فهذا محال.

الشرح

يعني محالٌ أنْ يأتي القرآنُ بشيءٍ تنكره العقول السليمة، ولكن يأتي القرآن بشيء تتحير فيه العقول، ولا تدركه على استقلالها، وهذا هو معنى قول العلماء: الشريعةُ لا تأتي بمحالات العقول، وإنما تأتي بمحاراتها.

ما الفَرق بينهما؟ يقول العلماء: الشريعة لا تأتي بمحالات العقول، ولكن تأتي بمحاراتها.

المعنى: أن الشريعة لا تأتي بشيءٍ تحيله العقول وتنكره، ولكن تأتي بشيءٍ تتحير فيه، ولا تدركه على استقلاله، نعم.

المتن

والحِسُّ والتجربة شاهدان بذلك؛ فإنه مهما توسَّعت الاختراعات، وعَظُمَتِ الصناعات، وتوسَّعت المعارف الطبيعية، وظهرَ للناس في هذه الأوقات ما كانوا يجهلونه قبل ذلك، فإن القرآن -وللَّه الحمد- لا يُخبِر بإحالته، بل تجد بعض الآيات فيها إجمالٌ أو إشارة تدل عليه. وقد ذكرنا شيئًا من ذلك في غير هذا الموضع، والله أعلم وأحكم، وبالله التوفيق.

القاعدة الثانية عشرة: الآيات القرآنية التي ظاهرها التضاد يجب حملُ كل نوع منها على حال بحسب ما يليق ويناسب المقام.

الشرح

يعني يُفهم منها قُصَّار النظر التعارُض، يعني يفهم قاصِر النظر التعارُض، يُحمل كلُّ نوعٍ منها على ما يليق به، مثال ذلك: -- (.............) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ۝ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35، 36]، أخبر أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة، ولا يعتذرون، وفي موضعٍ آخر قال الله تعالى أنهم: قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23]، لما سألهم، نطقوا وأنكروا، كيف الجمعُ بينهما؟

هذا يُحمل على حال، وهذا على حالٍ، كلامُ اللهِ يُصدِّق بعضه بعضًا، ولذلك إن مَشَاهِدَ القيامة متعددة، ففي وقتٍ لا ينطقون ولا يتكلمون، وفي وقتٍ يتكلمون وينكرون، في وقتٍ يتكلمون وينكرون، ثُم في وقتٍ آخر يُختم على أفواههم ولا يتكلمون.

فمَشاهِدُ يوم القيامة متعددة، وهذه القاعدة تقول: هناك آيات قرآنية يَفهم منها قاصر النظر، ضعيف البصيرة والعِلم أنها متعارضة، وليست متعارضةً، لكن كلُّ آيةٍ تُفسَّر على حالٍ، نعم.

المتن

وهذا في مواضعَ متعددة من القرآن:

منها: الإخبار في بعض الآيات أن الكفار لا ينطقون ولا يتكلمون يوم القيامة، وفي بعضها: أنهم ينطقون، ويَحاجُّون، ويَتعذَّرون، ويعترفون.

فحَمْلُ كلامهم ونطقهم: أنهم في أول الأمر يتكلَّمون ويعتذرون، وقد يُنكرون ما هم عليه من الكفر، ويُقْسِمُون على ذلك، ثم إذا خُتم على ألسنتهم، وشهدت عليهم جوارحهم بما كانوا يكسبون، ورأوا أن الكذب غير مفيد لهم، أُخرسوا فلم ينطقوا.

الشرح

واضح هذا؟ إذن في أولِ الأمر ينطقون، ويحاجُّون، ويعتذرون، وينكرون، ثُم إذا.. بعد ذلك تُختم على ألسنتهم وأفواههم، وتشهد عليهم جوارحهم، فحينئذٍ يرون أن الكذب غير مفيد لهم فأُخرسوا ولم ينطقوا.

فأول الأمر ظنوا أن الكذب ينفعهم، فلما شهدت عليهم أيديهم وأرجلهم، علموا أنه لا فائدة، فأُخرسوا، لم يتكلموا، نعم.

المتن

وكذلك الإخبار بأن الله تعالى لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة، مع أنه أثبت الكلام لهم معه، فالنفي واقع على الكلام الذي يسرهم ويجعل لهم نوع اعتبار.

الشرح

نعم، اللهُ تعالى أخبر أنه لا يكلمهم، ولا ينظر إليهم، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم، وفي آياتٍ أخبرَ اللهُ أنهم يتكلمون، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] في النار، فيكف نجمع بينهما؟

فالآية التي فيها أنهم لا يكلمهم ولا ينظر إليهم، أي: لا يكلمهم كلام تكريم ورحمة، وإنما يكلمهم كلام عذاب، والآية التي فيها: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]، هذا كلام عذاب.

فلا يكلمهم كلام رحمةٍ، وإنما يكلمهم كلامَ عذابٍ، نعم.

المتن

 وكذلك النظر، والإثبات واقع على الكلام الواقع بين الله وبينهم على وجه التوبيخ لهم والتقريع؛ فالنفي يدل على أن الله ساخط عليهم، غير راض عنهم، والإثبات يوضح أحوالهم، ويبين للعباد كمال عدل الله بهم إذ وضعَ العقوبة موضعها.

ونظير ذلك أن في بعض الآيات أخبر أنه: لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جَآنٌّ [الرحمن: 39] وفي بعضها أنه يسألهم: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ [الشعراء: 92] و مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] ويسألهم عن أعمالهم كلها، فالسؤال المنفي: هو سؤال الاستعلام والاستفهام عن الأمور المجهولة؛ فإنه لا حاجة إلى سؤالهم مع كمال علم الله، واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم، وجليل أمورهم ودقيقها. والسؤال المثبت واقع على تقريرهم بأعمالهم، وتوبيخهم، وإظهار أن الله حكمَ فيهم بعدله وحكمته.

ومن ذلك: الإخبار في بعض الآيات أنه لا أنساب بين الناس يوم القيامة، وفي بعضها أثبت لهم ذلك؛ فالْمُثْبَتُ: هو الأمر الواقع والنسب الحاصل بين الناس، كقوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس: 34، 35] إلى آخرها. والمنفي: هو الانتفاع بها؛ فإن كثيرًا من الكفار يدَّعون أن أنسابهم تنفعهم يوم القيامة، فأخبر تعالى أنه يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ۝ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].

الشرح

في قوله سبحانه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101]، ما ينفع النسب، ما ينفع إلا العمل، ولهذا قال النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح: ومَن بَطَّأَ به عمله، لمْ يُسرِعْ به نسبه([4]).

إذا أخّره العمل، إنسان عمله سيئ، ما ينفعه النسب ولو كان شريفًا، ولو كان من أولاد الأنبياء، ولو كان قرشيًّا، ما نفعَ أبا لهبٍ شرفه، وأنه من قريش، وأنه من بني هاشم، ما نفعه، قال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ۝ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد: 1، 2].

ولا ضرّ سلمان الفارسي أنه من فارس لمَّا آمن بالله ورسوله.

صُهَيب الرومي، وبلال الحبشي رفعهم الله بالدِّين، ووضع أبا لهبٍ وأبا جهلٍ لما كفروا بالله، فصاروا في النار، نسأل الله العافية، نعم.

المتن

ونظيرُ ذلك: الإخبار في بعض الآيات أن النسب نافع يوم القيامة، كما في إلحاق ذرية المؤمنين لآبائهم في الدرجات، وإن لم يبلغوا منزلتهم، وأن الله يجمع لأهل الجنَّات والدرجات العالية مَن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم؛ فهذا لما اشتركوا في الإيمان وأصل الصلاح زادهم من فضله وكرمه من غير أن ينقص من أجور السابقين لهم شيئًا.

ومن ذلك: الشفاعة؛ فإنه أثبتها في مواضع، ونفاها في مواضع من القرآن، وقيَّدها في بعض المواضع بإذنه، ولمَن ارتضى من خلقه، فتعيَّن حملُ المُطْلَقِ على المُقَيَّدِ، وأنه حيث نُفيت فهي الشفاعة التي بغير إذنه، ولغير مَن رضي الله قوله وعمله، وحيث أُثبتت فهي الشفاعة التي بإذنه، لمَن رضيه وأذن فيه.

الشرح

نعم، الشفاعة مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18]، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 254]، هذه الشفاعة منفية عن الكفار. وكذلك الشفاعة التي تكون بغير إذن الله.

وأمَّا الشفاعة المُثْبَتَة فتكون بإذن الله، ورضاه عن المشفوع له، نعم.

المتن

ومن ذلك: أن الله أخبر في آيات كثيرة أنه لا يهدي القوم الكافرين، والفاسقين، والظالمين، ونحوها، وفي بعضها: أنه يهديهم ويوفقهم، فيتعيَّن حملُ المنفيَّات على مَن حقَّت عليه كلمة الله، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس: 96، 97] وحملُ المثبتات على مَن لمْ تَحِقَّ عليهم الكلمة، وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.

ومن ذلك: الإخبار في بعض الآيات أنه العلي الأعلى، وأنه فوق عباده، وعلى عرشه، وفي بعضها: أنه مع العباد أينما كانوا، وأنه مع الصابرين، والصادقين، والمحسنين، ونحوهم؛ فَعُلُوُّه تعالى أمرٌ ثابت له، وهو من لوازم ذاته، ودُنُوُّه ومعيَّته لعباده؛ لأنه أقرب إلى كل أحد من حبل الوريد، فهو على عرشه عَلِيٌّ على خَلقه، ومع ذلك فهو معهم في كل أحوالهم.

الشرح

وليس معناه أنه يختلط بالمخلوقات، تعالى الله، إنما معهم بعلمه، واطّلاعه، وإحاطته، ومع المؤمنين بنصره وتوفيقه، فالمعية معيتان: معية عامة للمؤمن والكافر، وهذه تأتي في سياق المحاسبة والمجازاة، فهو معهم بعلمه واطّلاعه وإحاطته، وأنه كله في مُلكه ومشيئته.

والثانية: معية خاصة للمؤمنين، ورُسُلِ الله، معية بمعنى التوفيق والتسديد، وتأتي في سياق المدح والثناء، نعم.

المتن

ولا منافاة بين الأمرين؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وما يُتوهم بخلاف ذلك فإنه في حق المخلوقين.

وأما تخصيص المعية بالمحسنين ونحوهم فهي معية أخص من المعية العامة.

الشرح

هذه المعية الخاصة، نعم.

المتن

فإنها تتضمن محبتهم، وتوفيقهم، وكلاءتهم، وإعانتهم في كل أحوالهم، فحيث وقعت في سياق المدح والثناء فهي من هذا النوع، وحيث وقعت في سياق التحذير والترغيب والترهيب فهي من النوع الأول.

ومن ذلك: النهي في كثير من الآيات عن موالاة الكافرين، وعن مودَّتهم والاتصال بهم، وفي بعضها: الأمر بالإحسان إلى مَن له حقٌّ على الإنسان منهم، ومصاحبته بالمعروف، كالوالدين ونحوهم.

فهذه الآيات العامَّات من الطرفين قد وضَّحها الله غاية التوضيح في قوله: لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ [الممتحنة: 8، 9].

فالنهي واقع على التولي والمحبة لأجل الدين، والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان، لأجل القرابة، أو لأجل الإنسانية على وجه لا يخلُّ بدين الإنسان.

ومن ذلك: أنه أخبر في بعض الآيات أن الله خلقَ الأرض ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن سبع سموات، وفي بعضها: أنه لما أخبر عن خلقِ السموات أخبر أن الأرض بعد ذلك دحاها، فهذه الآية تفسِّر المراد، وأن خلق الأرض متقدِّم على خلقِ السموات، ثم لما خلق الله السموات بعد ذلك دحى الأرض، فأودع فيها جميع مصالحها المحتاج إليها.

ومن ذلك: تارة يخبر أنه بكل شيء عليم، وتارة يخبر بتعلق علمه ببعض أعمال العباد ببعض أحوالهم، وهذا الأخير فيه زيادة معنى، وهو أنه يدل على المجازاة على ذلك العمل، سواءٌ كان خيرًا أو شرًا، فيتضمن مع إحاطة علمه: الترغيب والترهيب.

ومن ذلك: الأمر بالجهاد في آيات كثيرة، وفي بعض الآيات الأمر بكف الأيدي والإخلاد إلى السكون، فهذه حين كان المسلمون ليس لهم قوة ولا قدرة على الجهاد باليد، والآيات الأُخر حين قووا، وصار ذلك عين المصلحة، وهو الطريق إلى قمعِ الأعداء.

الشرح

يعني هذه الآيات التي يوهِم ظاهرها التعارض محمولة، كل آية منها على حال، فالأمرُ بالجهاد أدلته كثيرة، وفي بعض الآيات الأمرُ بكف الأيدي، كفوا أيديكم، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ [البقرة: 193]، و كُفُّوا [النساء: 77]، أمرهم بالكفِّ.

فهذا له حال، وهذا له حال، الأمرُ بالكف وقتُ ضعفٍ وسِلْمٍ، والأمر بالجهاد ومقاتلة الأعداء في وقتِ قوة المسلمين، نعم.

المتن

ومن ذلك: أنه تارة يضيف الأشياء إلى أسبابها التي وقعت وتقع بها، وتارة يضيفها إلى عموم قدره، وأن جميع الأشياء واقعة بإرادته ومشيئته، فيفيد مجموع الأمرين: إثبات التوحيد، وتفرد الباري بوقوع الأشياء بقدرته ومشيئته، وإثبات الأسباب والمُسَبَّبَات، والأمر بالمحبوب منها، والنهي عن المكروه، وإباحة مستوي الطرفين، فيستفيد المؤمن الجد والاجتهاد في عملِ الأسباب النافعة، والنظر وملاحظة فضلِ الله في كل أحواله، وألا يتكل على نفسه في أمرٍ من الأمور، بل يتكل ويستعين بربه.

وقد يخبر أن ما أصاب العبد من حسنة فمَن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه؛ ليُعَرِّف عباده أن الخير والحسنات والمَحَابّ تقع بمحض فضله وجوده، وإن جرت ببعض الأسباب الواقعة من العباد؛ فإن الأسباب هو الذي أنعم بها، وهو الذي يسَّرها، وأن السيئات -وهي المصائب التي تصيب العبد- أسبابها من نفس العبد وبتقصيره في حقوق ربه، وتعدِّيه لحدوده، فاللَّه وإن كان هو المقدِّر لها فإنه أجراها على العبد بما كسبت يداه، ولهذا أمثلة يطول عدُّها.

الشرح

نعم، والخلاصة أن الآيات التي يُوهِم ظاهرها التعارض تُحمل منها.. كلها، هذه على حالٍ، وهذه على حالٍ، والتعارض إنما هو في فهْمِ بعض الناس ، وإلا فهو كلامُ الله يُصدِّق بعضه بعضًا.

نقف على هذا، وفَّقَ اللهُ الجميعَ، وصلى الله على محمدٍ وصحبه.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء- باب قول الله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (3443)، ومسلم في كتاب الفضائل- باب فضائل عيسى عليه السلام (2365).

([2])أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي- باب بدء الوحي (4)، ومسلم في كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله (160).

([3])أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي- باب بدء الوحي (4)، ومسلم في كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله (160).

([4])أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار- باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد