الحمد لله، والصَّلاة والسَّلامُ عَلَى عَبْده ورَسُولِه مُحَمَّد، وَعَلى آلهِ، وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى:
المتن
القاعدة الثالثة عشرة
طَرِيقة القرآن في الحِجَاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة.
قد أمر الله بالمجادلة بالتي هي أحسن، ومن تأمل الطرق التي نصب الله المحاجَّة بها مع المبطلين على أيدي رُسله رآها من أوضح الحجج، وأقواها، وأقومها، وأدلها على إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، على وجه لا تشويش فيه، ولا إزعاج، فتأمل محاجة الرسل مع أممهم، وكيف دعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، من جهة أنه المتفرد بالربوبية، والمتوحِّد بالنعم، وهو الذي أعطاهم العافية، والأسماع، والأبصار، والعقول، والأرزاق، وسائر أصناف النعم، كما أنه المنفرد بدفع النقم، وإن أحدًا من الخلق ليس عنده نفع ولا دفع، ولا ضرٌّ ولا نفع؛ فإنه بِمجرّد معرفة العبد بذلك، واعتِرافه به، لا بد أن ينقاد للدين الحق الذي به تتم النعمة، وهو الطريق الوحيد لشكرها، وكثيرًا ما يَحتَجُّ على المشركين.
الشرح
في شِركهم وعبادتهم لآلهتهم من دون ربهم بإلزامهم.
المتن
بإلزامهم باعترافهم بربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء، والرَّازق لكل شيء، فيتعيَّن أنه المعبود وحده؛ فانظر إلى هذا البرهان كيف ينتقل الذهن منه بأول وهلةٍ إلى وجوب عبادة من هذا شأنه، ووجوب الإخلاص له.
ويجادل المبطلين أيضًا بذكر عَيْب آلهتهم، وأنها ناقصة من كل وجه، لا تغني عن أهلها شيئًا.
الشرح
بِسْمِ اللَّهِ، الحَمْدُ للهِ، والصَّلاة والسَّلامُ على رَسول الله، وعَلى آلِهِ وصحبه، أمَّا بَعْدُ:
فهذه القاعدة الثالثة عشرة، في "طَرِيقة القرآن في الحِجَاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة".
والخلاصة: أن المُجادلة بالتي هي أحسن، قال تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، والطُّرُق التي نَصَبها الله، وحاج بها مع المُبطلين طُرقٌ سليمة، كيف يدعو الرُّسل أُممهم إلى عبادة الله، يدعو لهم، يدعونهم يقولون لهم: أن الله هو المنفرد بالربوبية، وأنه هو المُنْعِم المُتفضِّل، والذي أعطاهم العافية، والأسماع والأبصار، والعقول وسائر النِّعم، وهوالمنفرد بدفعِ النِّقم.
فإذا عَرف العَبْدُ ذلك لابد أن يَنْقاد لهذا الدِّين، الذي به تتمُّ النعمة، الرّب الذي خَلقَك، ووَجدك من العَدم، وأعطاك السَّمع، والبصر، والعقل، ودَفع عنك النِّقم، هو المُسْتَحِق للعبادة.
هذا بُرهانٌ واضح، يَنتقل الذِّهن من أول وَهلة إلى أنه لا تكون العبادة إلَّا لله عَزَّ وَجَلَّ.
كذلك جاء حجاج المُبْطِلِين في ذِكر عيْبِ آلهتهم، وأنها ناقصة، لا تَسمع ولا تُبصر، ولا تَنْصُر مَن دعاها، ولا تتكلم، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف: 148].
قالوا عن إبراهيم، لما كَسَر الأصنام، ما لهم لا ينطقون، فالذي لا ينطق ولا يَتكلّم، ولا يُجيب، كيف إنه يُصلح للألوهية؟!
هذا جدال واضح يبيّن عيْب آلهتهم وبطلانها، وأنها لا تستحق العبادة.
المتن
ويقيم الأدلَّة على أهل الكتاب بأنهم لهم من سوابق المخَالفَات لرُسِلهم ما لا يُستغرب معه مخالفتهم لمحمد ﷺ، وينقض عليهم دعاويهم الباطلة، وتزكيتهم لأنفسهم، ببيان ما يضاد ذلك من أحوالهم، وأوصافهم.
الشرح
نعم، ولذلك يقول اليهود: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة: 18]، لو كُنتم أبناء الله وأحبابه، لو كنتم أبناء الله وأحبابه، قل: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة: 94، 95].
المتن
ويجادلهم بتوضيح الحقِّ، وبيان بَرَاهِينه، وأن صدقه وحقِّيته تدفع بمجردها جميع الشبه المعارضة له فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ [يونس: 32].
وهذا الأصل في القرآن كثير؛ فإنّه يفيدُ الدعوة للحقِّ، وردّ كل ما ينافيه، ويجادلهم بوجوب تنزيل الأمور منازلها، وأنه لا يليق أن يجعل للمخلوق العبد الفقير العاجز من كل وجه بعض حقوق الرب الخالق الغنيّ الكامل من جميع الوجوه.
ويتحدَّاهم أن يأتوا بكتاب أو شريعة أهدى وأحسن من هذه الشريعة، وأن يُعارضوا القرآن فيأتوا بمثله إن كانوا صادقين، ويأمر نبيّه بمباهلة من ظهرت مكابرته وعِناده، فينكصون عنها؛ لعلمهم أنه رسول الله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وأنهم لو باهَلوه لهلكوا.
وفي الجملة لا تجد طريقًا نافعًا فيه إِحْقَاق الحق، وإبطال الباطل، وإلا وقد احتوى عليه القرآن على أكمل الوجوه.
الشرح
وهذه هي أيضًا الطريقة المُثلى التي تُحتذى، يعني ينبغي للدعاة أن يحتذوا هذا القرآن، وأنْ يستفيدوا من الطريقَةِ التي سلَكها القرآن الكريم في جدال أهلِ الباطلِ والرّد عليهم.
المتن
القاعدة الرابعة عشرة:
حذف المُتَعَلَّق -المعمول فيه- يُفيد تعميم المعنى المناسب له.
وهذه قاعدة مفيدة جدًّا، متى اعتبرها الإنسان في الآيات القرآنية أكسبته فوائد جليلة.
الشرح
حذف المُتَعَلَّق -المعمول فيه- يُفيد تعميم الحُكْم، من قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
تتَّقون أيّ شيء؟ عام، حذف المتعلّق؛ لعلّكم تتّقون النار، تتّقون الله، تتّقون محارم الله، تتّقون بأس الله؛ حُذِف لدلالة العموم، لعلّكم تَتَّقون الله، ولعلَّكم تَحْذرون أيضًا بأْسَ الله، لعلّكم تتقون النار، وهكذا.
المتن
وذلك أن الفعل، أو ما هو في معناه، متى قُيِّدَ بشيء تقيَّد به، فإذا أطلقه الله تعالى، وحَذف المُتَعَلَّق فعمَّم ذلك المعنى، ويكون الحذف هُنا أحسن وأفيَد كثيرًا من التصريح بالمُتَعَلَّقَات، وأجمع للمعاني النافعة؛ ولذلك أمثلة كثيرة جدًّا:
منها: أنه قال في عدة آيات لَعَلَّكُمْ تعقلون [النور: 61]، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152]، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21].
فيدلُّ ذلك على أن المراد: لعلكم تَعْقِلون عن الله كل ما أرشدكم إليه، وكل ما علَّمكموه، وكل ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة، لعلكم تذكرون جميع مصالحكم الدينية والدنيوية، لعلكم تتَّقون جميع ما يجب اتقاؤه من جميع الذنوب والمعاصي.
الشرح
هنا قال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152]؛ فلا تَنْسون، ولا تغفلون، فتكونون دائمًا متيقظين مُرهَفي الحواس، تُحسُّون كلَّ ما تمرُّون به من سُنن الله وآياته، فتذكَّرون جميع مصالحكم الدينية والدنيوية، ولعلكم تتَّقون، هذه ساقطة عندكَ.
المتن
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] جميع ما يجب اتقاؤه، من جميع الذنوب والمعاصي، ويدخل في ذلك ما كان السياق فيه، وهو فردٌ من أفراد هذا المعنى العام.
الشرح
هنا فيه: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] ما يجب اتقاؤه، من الغفلة والجهل والتقليد، وكلّ ما يحاول عدوكم أن يوقعكم فيه من جميع الذنوب والمعاصي.
المتن
ويدخل في ذلك ما كان السياق فيه وهو فرد من أفراد هذا المعنى العام؛ ولهذا كان قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، يفيد كل ما قيل في حكمة الصيام، أي: لعلكم تتقون المحارم عمومًا، ولعلّكم تَتَّقون ما حرم على الصائمين من المفطرات والممنوعات، ولعَلَّكم تتصفون بصفة التقوى وتتخلَّقون بأخلاقها، وهكذا سائر ما ذكر فيه هذا اللفظ، مثل قوله: هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 1] أي المتقين لكل ما يُتَّقى من الكفر والفسوق والعصيان، أي: المؤدِّين للفرائض والنوافل التي هي خصال التقوى.
وكذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201]؛ أي: إن الذين كانت التقوى وصفهم، وترك المحارم شعارهم، متى زين لهم الشيطان بعض الذنوب تذكروا كل أمر يوجب لهم المبادرة إلى المتاب، كعظمة الله، وما يقتضيه الإيمان، وما توجبه التقوى، وتَذكَّروا عقابه ونكاله، وتذكَّروا ما تحدثه الذنوب من العيوب والنقائص، وما تسلُبه من الكمالات، فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ من أين أُتوا، ومبصرون الوجه الذي فيه التخلص من هذا الذنب الذي وقعوا فيه، فبادروا في التوبة النصوح، فعادوا إلى مَرتبتهم، وعاد الشيطان خاسئًا مدحورًا.
وكذلك ما ذَكَره على وجه الإطلاق عن المؤمنين، بلفظ: المؤمنين، أو بلفظ: إن الذين آمنوا، ونحوها، فإنه يدخل فيه جميع ما يجب الإيمان به من الأصول والعقائد، مع أنه قيد ذلك في بعض الآيات، مثل قوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الآية [البقرة: 136]، ونحوها.
وكذلك ما أمر به من الصلاح والإصلاح، وما نهى عنه من الفساد والإفساد مطلقًا، يدخل فيه كل صلاح، كما يدخل في النهي كل فساد.
الشرح
يدخل فيه كل صلاح في الدُّنيا والدِّين، كما يدخل في النهي كل فساد في الدُّنيا والدّين.
المتن
وكذلك قوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195]، وَأَحْسِنُوا [البقرة: 195]، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس: 26]، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن: 60].
يدخل في ذلك كله: الإحسان في عبادة الخالق بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى المخلوقين بجميع وجوه الإحسان، من قول، وفعل، وجاه، وعلم، ومال، وغيرها.
الشرح
نعم، يشمل الإحسان في سُنَنِ الله وآياته ونعمه وآلائه.
يشمل الإحسانَ في عبادة الخالق، ولإحسان المخلوقين، عام، ولذلك قال: {الْمُحْسِنِينَ} ولمْ يقيده.
فهذه من القواعد؛ أنه إذا حُذف المعمول دلَّ على العموم.
المتن
وكذلك قوله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1] فحذف المُتَكَاثَر به ليعمَّ جميع ما يقصد الناس فيه المكاثرة من الرياسات، والأموال، والجاه، والضيعات، والأولاد، وغيرها مما تتعلق به أغراض النفوس، ويلهيها عن طاعة الله.
وكذلك قوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 1، 2] أي في خسارة من جميع الوجوه، إلا من اتصف بالإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والصبر.
وقوله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل: 43] فذكر المسؤولين، وأطلق المسؤل عنه؛ ليعم كل ما يحتاجه العبد ولا يعلمه.
وكذلك أمره تعالى بالصبر، ومحبة الصابرين، وثناؤه عليهم، وبيان كثرة أجرهم، من غير أن يُقيِّدَ ذلك بنوع؛ ليشمل أنواع الصبر الثلاثة: وهي الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة.
ومقابل ذلك: ذمه للكافرين، والظالمين، والفاسقين، والمشركين، والمنافقين، والمعتدين، ونحوهم، من غير أن يقيده بشيء؛ ليشمل جميع ذلك المعنى.
ومن هذا قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة: 196] ليشمل كل حصرٍ.
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة: 239] ليعم كل خوفٍ.
وقد يُقيِّد ذلك ببعض الأمور فيتقيد به ما سبق الكلام لأجله، وهذا شيء كثير لو ذهبنا نذكر الأمثلة لطالت، ولكن قد فُتح لك الباب فامشِ على هذا السبيل المفضي إلى رياض بهيجة من أصناف العلوم.
الشرح
نعم، والخلاصة أن حذْفَ المعمول يفيد العموم، فيكون أوسع، بخلاف ما لو قُيِّد فإنه يتقيد بهذا الأمر الذي قُيِّد به. نعم.
المتن
القاعدة الخامسة عشرة:
جعلَ الله الأسباب للمطالب العالية مبشِّرات لتطمين القلوب وزيادة الإيمان.
وهذا في عدة مواضع من كتابه، فمن ذلك:
النصر، قال في إنزاله الملائكة: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [الأنفال: 10].
وقال في أسباب الرزق..
الشرح
لأنَّ الملائكة التي قاتلت مع المؤمنين في غزوة بدرٍ، الحكمةُ منها تطمين قلوب المؤمنين، والبشارة لهم، وإلا فإنَّ اللهَ قادر على أن ينصرهم بلحظة، بكلمة: كُنْ.
كلمة: كُنْ، ينصرهم ويهلك الكافرين، لكنَّ اللهَ جعل الملائكة تقاتل، وجعل كذلك المؤمنين يحملون السلاح، ويقاتلون العدو، وكرٌّ وفَرٌّ.. هذه أسبابٌ، من فوائدها طمأنينة القلب والبشارة، ولهذا قال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 126].
النصرُ من عند الله، لكن هذه الأسباب بشارة وطمأنينة للقلوبِ، نعم.
قالَ: "جعلَ الله الأسباب للمطالب العالية مبشِّرات".
المطالب العالية للمؤمنين، ما هو المطلبُ العالي؟ رضا الله، تبتغي بذلك كرامته وجَنَّته.
الطريقُ إلى هذه المطالبِ العالية بالأسباب، تأخذ السلاحَ وتقاتِل وتجاهِد، ويُرسِل اللهُ الملائكة تقاتِل مع المؤمنين؛ لطمأنينة القلوب والبُشرَى، وإلا فالنصرُ من عندِ الله، نعم.
المتن
وقال في أسباب الرزق ونزول المطر: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم: 46].
وأعمُّ من ذلك كله قوله: أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس: 62-64].
وهي كل دليل وعلامة تدلهم على أن الله قد أراد بهم الخير، وأنهم من أوليائه وصفوته، فيدخل فيه الثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، ويدخل فيه ما يشاهدونه من اللطف، والتوفيق، والتيسير لليسرى، وتجنيبهم العُسرى.
ومن ذلك، بل من ألطف ذلك: أنه يجعل الشِّدَّات مبشِّرة بالفرج.
الشرح
الشَّدائد.
المتن
أنه يجعل الشَّدائدَ مبشِّرة بالفرج، والعُسر مؤذنًا باليُسر، وإذا تأملت ما قصَّه عن أنبيائه وأصفيائه، وكيف لما اشتدت بهم الحال، وضاقت بهم الأرض بما رحبت وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] رأيت من ذلك العجب العُجاب.
وقال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح 5، 6] سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7].
وقال ﷺ: واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا([1])، وأمثلة ذلك كثيرة، والله أعلم.
الشرح
ومن الأذكار قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5].
افعل التقوى، تقوى الله، التوحيد وإخلاصه لله، وتأتيك هذه الفوائد، يفرِّجُ اللهُ كرباتك، يُيسِّر أمركَ، يكفِّر الله سيئاتك، يغفرُ ذنبك، ويرفع درجاتك.. كل هذا بسبب التقوى.
والتقوى -الحمد لله- تفعلها أنتَ، أعطاكَ اللهُ الأسبابَ، توحِّدُ اللهَ، وتُخْلِص له العبادة، وتقوم بأداء الواجبات، وترْك المحرّمات، هذه هي التقوى، نعم.
المتن
القاعدة السادسة عشرة:
حذفُ جواب الشرط يدل على تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد.
وذلك كقوله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة: 12] وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ [سبأ: 51] وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة: 165] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: 27].
فَحَذْفُ الجواب في هذه الآيات وشبهها أولى من ذكره؛ ليدل على عظمة ذلك المقام، وأنه لهوله، وشدته، وفظاعته، لا يُعبَّر عنه، ولا يُدرك بالوصف.
ومثل قوله تعالى: كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر: 5]؛ أي: لَمَا أقمتم على ما أنتم عليه من التفريط، والغفلة، واللهو.
الشرح
نعم، هذه القاعدة فيها: حذْفُ جواب الشرط يدل على تعظيم الأمر، وشدته، "وذلك كقوله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة: 12]".
رؤوسهم مُنَكَّسَةٌ، المجرمون، أين الجواب؟ ماذا يحصل؟
والتقدير: لرأيتَ أمرًا عظيمًا وهولًا فظيعًا، وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة: 12]، لحصلَ الأمر العظيم، فحُذف.
وكذلك قال: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30]، ماذا يحصل لهم؟ يحصل لهم أمرٌ عظيم.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: 27]، أين الجواب؟ ماذا يحصل لهم؟ يحصل لهم الشدة، والهَول، والضَّنْك، وهكذا.
لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر: 5]، أين الجواب؟ لَمَا أقمتم عليه من الذنوب والمعاصي، نعم.
المتن
القاعدة السابعة عشرة:
بعض الأسماء الواردة في القرآن الكريم إذا أُفرد
دلَّ على المعنى العام المناسب له، وإذا قُرن مع غيره
دلَّ على بعض المعنى، ودلَّ ما قُرن معه على باقيه.
ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة:
منها: الإيمان، أُفرد وحده في آيات كثيرة، وقُرن مع العمل الصالح في آيات كثيرة، فالآيات التي أُفرد فيها يدخل فيه جميع عقائد الدِّين، وشرائعه الظاهرة والباطنة؛ ولهذا يُرتِّبُ الله عليه حصول الثواب، والنجاة من العقاب، ولولا دخول المذكورات ما حصلت آثاره، وهو عند السلف: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.
والآيات التي قُرن الإيمان فيها للعمل الصالح؛ كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة: 277] يُفَسَّر الإيمان فيها: بما في القلوب من المعارف، والتصديق، والاعتقاد، والإنابة. والعمل الصالح: بجميع الشرائع القولية والفعلية.
الشرح
نعم، هذه القاعدة، بعض الأسماء الواردة في القرآن تُفرد، فتدلّ على المعنى المناسب له، وتُقرن مع غيره فتدلّ على بعض المعنى، مثل: الإيمان، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، فيُفرد الإيمان، فإذا أُفرد الإيمان دخلت فيه الأعمال، ودخل فيه جميع الخصال.
وأحيانًا يُقْرَن مع العمل الصالح، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء: 227]، فإذا عُطف مع العمل الصالح صار المراد به ما في القلوب، والأعمال أُفردت، وإذا أُفرد: دخلتْ فيه أعمال القلوب وأعمال الجوارح، نعم.
المتن
وكذلك لفظُ: البر، والتقوى، فحيث أُفرد البر دخل فيه امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك إذا أُفردت التقوى؛ ولهذا يُرتِّب الله على البر وعلى التقوى عند الإطلاق الثواب المطلق، والنجاة المطلقة، كما يرتبه على الإيمان، وتارة يفسر أعمال البر بما يتناول أفعال الخير، وترك المعاصي. وكذلك في بعض الآيات تفسير خصال التقوى، كما في قوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران: 133، 134] إلى آخر ما ذكره من الأوصاف التي تتم بها التقوى.
وإذا جمعَ بين البر والتقوى، مثل قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2] كان البِرُّ اسمًا جامعًا لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأفعال، الظاهرة والباطنة. وكانت التقوى اسمًا جامعًا يتناول ترك جميع المحرمات.
وكذلك لفظُ: الإثم، والعدوان، إذا قُرنت فُسِّر الإثم: بالمعاصي التي بين العبد وبين ربه. والعدوان: بالتجري على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم. وإذا أُفرد الإثم دخل فيه كل المعاصي التي تُؤثِّم صاحبها، سواء كانت بينه وبين ربه، أو بينه وبين الخلق. وكذلك إذا أُفرد العدوان.
وكذلك لفظ: العبادة، والتوكل، ولفظُ: العبادة والاستعانة، إذا أُفردت العبادة في القرآن تناولت جميع ما يحبه الله ويرضاه ظاهرًا وباطنًا، ومن أول ما يدخل فيها: التوكل، والاستعانة، وإذا جُمع بينها وبين التوكل والاستعانة نحو: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]، فُسِّرت العبادة بجميع المأمورات الباطنة والظاهرة، وفُسِّر التوكل باعتماد القلب على الله في حصولها، وحصول جميع المنافع، ودفعِ المضار، مع الثقة التامة بالله في حصولها.
الشرح
وهذه الألفاظ المعروفة، إذا أُطلق البِرُّ يشمل جميع الدين، وكذلك الأعمال والأقوال، وفعْل الأوامر وترْك النواهي، كذلك التقوى، والبر، والهُدى.
لكن إذا اجتمع البر والتقوى فُسِّر البر بفعلِ الأوامر، والتقوى بتركِ النواهي.
وهكذا، الإثم والعدوان، إذا أُطلق الإثم شمل جميع المحرمات، وكذلك العدوان، وإذا اجتمعا فُسِّر الإثم بالمعاصي التي تخص الإنسان، والعدوان بالمعاصي التي يعتدي فيها على الناس، وهكذا، نعم.
كذلك الفقير والمسكين، إذا أُطلق الفقير دخلَ فيه المسكين، وإذا أُطلق المسكين دخلَ فيه الفقير، وإذا اجتمعا فُسِّر الفقير بأنه أشد حاجَة، الذين لا يجدون بالمرة شيئًا، أو يجد نصف الكفاية لمدة سنة، والمسكين أحسن حالًا منه، يجد ما يكفي نصف السنة، لكن لا يجد ما يكمل السنة، فيُعطى من الزكاة ما يكمل نفقته، نعم.
المتن
وكذلك الفقير، والمسكين، إذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر كما في أكثر الآيات، وإذا جُمع بينهما كما في آية الصدقات: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة: 60] فُسر الفقير بمَن اشتدت حاجته، وكان لا يجد شيئًا، أو يجد شيئًا لا يقع منه موقعًا. وفُسر المسكين بمَن حاجته دون ذلك.
ومثل ذلك الألفاظ الدالة على تلاوة الكتاب، والتمسُّك به، وهو: اتباعه، يشمل ذلك: القيام بالدين كله، فإذا قُرنت معه الصلاة كما في قوله تعالى: اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ [العنكبوت: 45]، وقوله: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ [الأعراف: 170] كان ذِكْرُ الصلاة تعظيمًا لها، وتأكيدًا لشأنها، وحثًّا عليها، وإلا فهي داخلة بالاسم العام، وهو التلاوة، والتمسك به، وما أشبه ذلك من الأسماء.
القاعدة الثامنة عشرة:
في كثير من الآيات يخبر بأنه يهدي مَن يشاء، ويضل مَن يشاء.
وفي بعضها يذكر مع ذلك الأسباب المتعلقة بالعبد، الموجبة للهداية، أو الموجبة للإضلال، وكذلك حصول المغفرة وضدها، وبسط الرزق وتقديره.
وذلك في آيات كثيرة، فحيث أخبر أنه يهدي مَن يشاء، ويضل مَن يشاء، ويغفر لمَن يشاء، ويعذِّب مَن يشاء، ويرحم مَن يشاء، ويبسط الرزق لمَن يشاء، ويَقْتُره على مَن يشاء، دلَّ ذلك على كمال توحيده، وانفراده بخَلق الأشياء، وتدبير جميع الأمور، وأن خزائن الأشياء بيده، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، فيقتضي مع ذلك من العباد أن يعترفوا بذلك، وأن يعلِّقوا أملهم ورجاءهم به في حصول ما يحبون منها، وفي دفعِ ما يكرهون، وألا يسألوا أحدًا غيره، كما في الحديث القدسي: يا عبادي، كلكم ضال إلا مَن هديته، فاستهدوني أهدكم، إلى آخره([2]).
وفي بعض الآيات يذكر فيها أسباب ذلك؛ ليعرف العباد الأسباب والطرق المفضية إليها، فيسلكوا النافع، ويدعوا الضار، كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5-10].
فبيَّن أن أسباب الهداية والتيسير: تصديق العبد لربه، وانقياده لأمره، وأن أسباب الضلال والتعسير ضد ذلك.
وكذلك قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [المائدة: 16] وقوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأعراف: 30].
فأخبر أن الله يهدي مَن كان قصده حسنًا، ومَن رغب في الخير واتبع رضوان الله، وأنه يضل مَن فسق عن طاعة الله تعالى وتولى أعداءه الشياطين، ورضي بولايتهم عن ولاية رب العالمين.
الشرح
نعم، وهذه القاعدة فيها أن الله تعالى يخبر أنه يهدي مَن يشاء، ويضل مَن يشاء، وأحيانًا يذكر الأسبابَ، وأحيانًا لا يذكر الأسباب، تكون الأسباب متعلقة بالعبد.
فالله تعالى يهدي العبدَ إذا جاهَد نفسه، وقَبِلَ شرْعَ الله، ويضله ويخذله إذا لمْ يَقْبَل هُدَى الله، وانحرف عن طاعة الله، قال: تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5].
لمَّا لمْ يقبلوا الحقَّ من أول مرة أزاغ اللهُ قلوبهم، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110]، نعم.
المتن
وكذلك قوله فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110].
وكذلك يَذْكُر في بعض الآيات الأسباب التي تُنال بها المغفرة والرحمة ويُستحق بها العذاب، كقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [الأعراف: 156، 157]، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].
ثم ذكر الأسباب التي تُنال بها المغفرة والرحمة، وهي خصال التقوى المذكورة في هذه الآية وغيرها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة: 218] وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204] وأعمُّ من ذلك كله قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132].
فطريق الرحمة والمغفرة سلوك طاعة الله ورسوله عمومًا، وهذه الأسباب المذكورة خصوصًا.
وأخبر أن العذاب له أسباب متعددة، وكلها راجعة إلى شيئين: التكذيب لله ورسوله، والتولي عن طاعة الله ورسوله، كقوله تعالى: لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل: 15- 18] إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48].
وكذلك يَذْكُر أسباب الرزق، وأنه لزوم طاعة الله ورسوله، والسعي الجميل مع لزوم التقوى، كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3] وانتظار الفرج والرزق، كقوله: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] وكثرة الذكر والاستغفار: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا الآية [نوح: 10-11].
فأخبر أن الاستغفار سببٌ يُستَجلَبُ به مغفرة الله، ورزقه، وخيره، وضدُّ ذلك سببٌ للفقر والتيسير للعسرى. وأمثلة هذه القاعدة كثيرة قد عرفتَ طريقها فالزمه.
الشرح
نعم، يخبر في كثير من الآيات أنه يهدي مَن يشاء، ويضل مَن يشاء، وأحيانًا يَذْكُر الأسباب، وأحيانًا لا يذكر الأسباب، نعم.
المتن
القاعدة التاسعة عشرة:
خَتْمُ الآيات بأسماء الله الحسنى يدل على أن الحُكْمَ المذكور، له تعلُّق بذلك الاسم الكريم.
وهذه قاعدة لطيفة نافعة، عليك بتتبعها في جميع الآيات المختومة بها تجدها في غاية المناسبة، وتدلك على أن الشرع والأمر والخَلق كله صادر عن أسمائه وصفاته، ومرتبط بها.
وهذا بابٌ عظيم من معرفة الله، ومعرفة أحكامه، من أَجَلّ المعارف وأشرف العلوم.
الشرح
يعني هذه القاعدة في ختْمِ الآيات في أسماء الله الحُسنى، فمثلًا إذا كانت الآية فيها عقوبة أو حد، يختم بقوله: وهو العزيز الحكيم القوي، وإذا كانت الآيات في توبةٍ، يختم: وهو الغفور الرحيم، توبوا إلى الله وهو الغفور الرحيم.
ولهذا قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38]، عزيز قوي حكيم.
يُقال: إن شخصًا قرأ هذه الآية وأخطأ، قال: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا، واللهُ غفورٌ رحيم، وكان أعرابيٌّ يسمعه، فقال: لا، ليست الآية هكذا، ليست صحيحة، كيف يقطع وهو غفورٌ رحيم؟! يقطع يده وهو غفورٌ رحيم؟! الرحمة لا تناسب قطْعَ اليد، أعرابيٌّ بالفطرة، فأعادها فقال: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38]، قال: نعم، عزَّ، فحكمَ، فقطعَ.
فختْمُ الآيات بالأسماء المناسبة، آيات التوبة؛ تُختم بالمغفرة؛ غفورٌ رحيم، وآيات القصاص والقطع والحدود؛ تُختم بالعِزَّة والحكمة، نعم.
المتن
تجد آية الرحمة مختومةً بأسماء الرحمة، وآيات العقوبة والعذاب مختومة بأسماء العِزَّة، والقدرة، والحكمة، والعلم، والقهر.
ولا بأس هنا أن نتتبع الآيات الكريمة في هذا، ونشير إلى مناسبتها بحسب ما وصل إليه علمنا القاصر، وعبارتنا الضعيفة، ولو طالت الأمثلة هنا؛ لأنها من أهم المهمات، ولا تكاد تجدها في كتب التفسير إلا يسيرًا منها، فقوله تعالى في قوله: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 29] ذِكْرُ إحاطة علمه بعد ذِكْر خلقه للأرض والسموات يدل على إحاطة علمه بما فيها من العوالم العظيمة، وأنه حكيم حيث وضعها لعباده، وأحكم صنعها في أحسن خَلْقٍ وأكمل نظام، وأن خلقه لها من أدلة علمه، كما قال في الآية الأخرى: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
فخلقُه للمخلوقات من أكبر الأدلة العقلية على علمه، فكيف يخلقها وهو لا يعلمها؟!
الشرح
نعم، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]، كيف يخلق الخَلق وهو لا يَعْلَمُه؟! لا يمكن، فيه إثباتُ العِلم، نعم.
المتن
ولما ذكرَ كلام الملائكة حين أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة، ومراجعتهم لربهم في ذلك، فلما خلقَ آدم، وعلَّمه أسماء كل شيء، وعجزت الملائكة عنها، وأنبأهم آدم بها قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 32]، فاعترفوا لله تعالى بسعة العلم، وكمال الحكمة، وأنهم مخطئون في مراجعتهم في استخلافه في الأرض.
وفي هذا أن الملائكة على عظمتهم، وسعة معارفهم بربهم، اعترفوا بأن علومهم تضمحل عند علم ربهم، وأنه لا علم لهم إلا منه.
فخَتْمُ هذه الآيات بهذين الاسمين الكريمين -الدالين على علم الله بآدم، وتمام حكمته في خلقه، وما يترتب على ذلك من المصالح المتنوعة- من أحسن المناسبات.
وأما قوله عن آدم: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] وخَتْمُه كثيرًا من الآيات بهذين الاسمين بعد ذِكْرِ رحمته، ومغفرته، وتوفيقه، وحلمه، فمناسبته جلية لكل أحد، وأنه لما كان هو التواب الرحيم أقبل بقلوب التائبين إليه، ووفَّقهم لفعل الأسباب التي يتوب عليهم ويرحمهم بها، ثم غفر لهم ورحمهم فتاب عليهم أولًا بتوفيقهم للتوبة والأسباب، وتاب عليهم ثانيًا حين قبل مَتَابَهُم، وأجاب سؤالهم.
ولهذا قال في الآية الأخرى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة: 118] أي: أقبل بقلوبهم؛ فإنه لولا توفيقه وصَرْف قلوبهم إلى ذلك لم يكن لهم سبيل إلى ذلك حين استولت عليهم النفس الأمارة؛ فإنها لا تأمر إلا بالسوء إلا مَن رحم الله فأعاذه منها ومن نزغات الشيطان.
ولما ذكرَ الله النسخ أخبر عن كمال قدرته وتفرده بالمُلك فقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 106، 107]، وفي هذا ردٌّ على مَن أنكر النسخ كاليهود، وأن نسخه لما ينسخه من آثار قدرته وتمام ملكه؛ فإنه تعالى يتصرَّف في عباده، ويحكم بينهم في أحكامه القَدَرِيّة وأحكامه الشرعية، فلا حَجْر عليه في شيء من ذلك.
ولما قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115] أي: واسع الفضل، واسع الملك، جميع العالم العلوي والسفلي داخل في مُلْكِه، ومع سعته في ملكه وفضله فهو محيطٌ علمه بذلك كله، ومحيطٌ علمه في الأمور الماضية والمستقبَلة، ومحيط علمه بما في التوجه إلى القِبل المتنوعة من الحكمة، ومحيط علمه بنيَّات المستقبلين لجهة من الجهات إذا أخطؤوا القِبلة المعنية، فحيث تيمَّم المصلي تيمَّم إلى وجه ربه.
الشرح
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]، نعم.
المتن
وأما قول الخليل وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد من البيت: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] فإنه توسُّلٌ إلى الله بهذين الاسمين إلى قبول هذا العمل الجليل؛ حيث كان الله يعلم نياتهما ومقاصدهما، ويسمع كلامهما، ويجيب دعاءهما؛ فإنه يُراد بالسميع في مقام الدعاء -دعاء العبادة، ودعاء المسألة- معنى المستجيب، كما قال الخليل في الآية الأخرى: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم: 39].
وأما خَتْمُ قوله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] بقوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] أي: فكما أن بعثتك لهذا الرسول فيه الرحمة السابغة، ففيه تمام عزة الله، وكمال حكمته، فإنه ليس من حكمته أن يترك الخلق سُدًا عبثًا، لا يُرسِلُ إليهم رسولًا، فحقَّق الله حكمته ببعثته؛ لئلا يكون للناس على الله حجة. والأمور كلها -قدرِيُّها وشرعيُّها- لا تقوم إلا بعزة الله ونفوذ حُكمه.
وقد يكتفي الله بذكر أسمائه الحسنى عن التصريح بذكرِ أحكامها، وجزائها؛ لينبه عباده أنهم إذا عرفوا الله بذلك الاسم العظيم عرفوا ما يترتب عليه من الأحكام، مثل قوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة: 209] لم يقل: فلكم من العقوبة كذا، بل قال: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 209] أي: فإذا عرفتم عِزَّته؛ وهو قهْرُه، وغلبته، وقوته، وامتناعه، وعرفتم حكمته؛ وهو وضعُه الأشياءَ مواضعها، وتنزيلها مَحَالّها، أوجب لكم الخوف من البقاء على ذنوبكم وزللكم؛ لأن من حكمته معاقبة مَن يستحق العقوبة -وهو المصرُّ على الذنب مع علمه- وأنه ليس لكم امتناع عليه، ولا خروج عن حكمه وجزائه؛ لكمال قهره وعزته.
وكذلك لما قال: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 34] لم يقل: فاعفوا عنهم، أو: اتركوهم، ونحوها، بل قال: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34] يعني: فإذا عرفتم ذلك وعلمتموه عرفتم أن مَن تاب وأناب فإن الله يغفر له ويرحمه فيدفع عنه العقوبة.
ولما ذكرَ عقوبة السارق قال في آخرها: نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38] أي: عَزَّ وحكم فقطع يد السارق، وعَزَّ وحكم فعاقبَ المعتدين شرعًا، وقَدَرًا، وجزاء.
ولما ذكرَ الله مواريث الورثة وقَدَّرها، قال: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 11] فكونه عليمًا حكيمًا يعلم ما لا يعلم العباد، ويضع الأشياء مواضعها، فاخضعوا لما قاله وفَصَّله في توزيع الأموال على مستحقيها، الذين يستحقونها بحسب علم الله وحكمته، فلو وُكِل العباد إلى أنفسهم، وقيل لهم: وزِّعوه أنتم بحسب اجتهادكم؛ لدخلها الجهل والهوى، وعدم الحكمة، وصارت المواريث فوضى، وحصل في ذلك من الضرر ما الله به عليم، ولكن تولاها وقسمها بأحكم قسمة وأوفقها للأحوال، وأقربها للنفع؛ ولهذا مَن قدحَ في شيء من أحكامه، أو قال: لو كان كذا، أو كذا، فهو قادحٌ في علم الله، وفي حكمته.
ولهذا يذكر الله العلم والحكمة بعد ذكر الأحكام، كما يذكرها في آيات الوعيد؛ ليبيِّن للعباد أن الشرع والجزاء مربوط بحكمته، غير خارج عن علمه، ويختم الأدعية بأسماء تناسب المطلوب، وهذا من الدعاء بالأسماء الحسنى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] أي: تعبدوا لله بها، واطلبوه بكل اسم مناسب لمطلوبكم.
وقوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج: 59]، والآيات المتتابعة التي بعدها، كل واحدة خُتمت باسمين كريمين، فالأولى منها هذه، خَتْمُها بالعلم والحلم يقتضي علمه بنيَّاتهم الجميلة، وأعمالهم الجليلة، ومقاماتهم الشامخة، فيجازيهم على ذلك بالفضل العظيم، ويعفو ويحلم عن سيئاتهم، فكأنهم ما فعلوها.
وخَتَم الثانية بالعفوِّ الغفور؛ فإنه أباح المعاقبة بالمثل، وندب إلى مقام الفضل -وهو العفو وعدم معاقبة المسيء-، وأنه ينبغي لكم أن تَعَبَّدُوا لله بالاتصاف بهذين الوصفين الجليلين؛ لتنالوا عفوه ومغفرته.
وخَتْمُ الآية الثالثة بالسميع البصير، يقتضي سمعه لجميع أصوات ما سكن في الليل والنهار، وبصره بحركاتهم على اختلاف الأوقات، وتباين الحالات.
وخَتْمُ الآية الرابعة بالعلي الكبير؛ لأن علوَّه المطلق، وكبرياءه، وعظمته، ومجده، تضمحل معها المخلوقات، ويبطل معها كل ما عُبد من دونه، وبإثبات كمال علوه، وكبريائه، يتعين أنه هو الحق، وما سواه باطل.
وخَتَمَ الآية الخامسة باللطيف الخبير، الدالين على سعة علمه وخبرته بالبواطن كالظواهر، وبما تحتوي عليه الأرض من أصناف البذور، وألوان النباتات، وأنه لطفَ بعباده حيث أخرج لهم أصناف الأرزاق بما أنزله من الماء النمير والخير الغزير.
وخَتَمَ الآية السادسة بالغني الحميد بعد ما ذَكَر مُلكه للسموات والأرض، وما فيهما من المخلوقات، وأنه لم يخلقها حاجة منه لها؛ فإنه الغني المطلق، ولا ليتكمَّل بها؛ فإنه الحميد الكامل؛ وليدلهم على أنهم كلهم فقراء إليه من جميع الوجوه، وأنه حميدٌ في أقداره، حميد في شرعه، حميد في جزائه، فله الحمدُ المطلق ذاتًا، وصفاتًا ، وأفعالًا.
وخَتْمُ الآية السابعة بالرؤوف الرحيم، أي: من رأفته، ورحمته، تسخيره المخلوقات لبني آدم، وحفظ السماوات والأرض، وإبقاؤها لئلا تزولا فتختل مصالحهم، ومن رحمته سخَّر لهم البحار؛ لتجري في منافعهم، ومصالحهم، فرحمهم حيث خلقَ لهم المسكن، وأودع فيه كل ما يحتاجونه، وحفظه عليهم، وأبقاه.
ولما ذكرَ في سورة الشعراء قصص الأنبياء مع أممهم ختم كل قصة بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 9، 68، 104، 122، 140، 159، 175، 191].
فإنَّ كلَّ قصةٍ تضمَّنت نجاة النبي وأتباعه، وذلك برحمة الله ولطفه، وإهلاك المكذبين له، وذلك من آثار عزته.
وقد يتعلق مقتضى الاسمين بكل من الحالتين؛ فإنه نجَّى الرسول وأتباعه بكمال قوته، وعزته، ورحمته، وأهلك المكذبين بعزته، وحكمته.
ويكون ذِكْرُ الرحمة يقتضي عظم جرمهم، وأنه لولا أن جرمهم تعاظم، وسدوا على أنفسهم أبواب الرحمة، ولم يكن لهم طريق إليها، لما أحل بهم العقاب.
وأما قولُ عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] ولم يقل: أنت الغفور الرحيم. فإن المقام ليس مقام استعطافٍ واسترحام، وإنما هو مقامُ غضبٍ وانتقام ممَّن اتخذه إلهًا مع الله، فناسبَ ذِكْرَ العزة والحكمة، وصار أولى من ذِكْرِ الرحمة.
ومن ألطف مقامات الرجاء: أنه يذكر أسباب الرحمة، وأسباب العقوبة، ثم يختمها بما يدل على الرحمة، مثل قوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 129] وقوله: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 73].
وذلك يدل على أن رحمته سبقت غضبه وغلبته، وصار لها الظهور، وإليها ينتهي كل مَن وُجد فيه أدنى سببٍ من أسباب الرحمة؛ ولهذا يخرج من النار مَن كان في قلبه أدنى حبةِ خردلٍ من الإيمان، ولنقتصر على هذه الأمثلة فإنه يُعرف بها صفة الاستدلال بذلك.
الشرح
نعم، والخلاصة: أن الله تعالى يختم الآيات بأسماء مناسبة لما تضمنته الآية، فإنْ كانت الآية فيها حثٌّ على التوبة والمغفرة، ختمها باسمِ الغفور الرحيم، وإنْ كانت الآية فيها قصاص وحدود ختمها بالعزة والحكمة؛ باسم العزيز والحكيم، وهكذا، نعم.
المتن
القاعدة العشرون: القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار، وبعضه مُحْكَمٌ، وبعضه متشابه باعتبار ثالث.
وقد وصفه الله تعالى..
الشرح
نعم، قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان: 2]، فوصَف القرآن بأنه محكم، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود: 1]، فوصَف القرآن بأنه كله محكمٌ، ومعنى محكم: مُتْقَن، ليس فيه خللٌ.
فالإحكام، هو: الإتقان؛ لتمييز الصِّدْق من الكذب في أخباره، وتمييز الرُّشد من الغَيِّ في أوامره.
ووصِف القرآن بأنه متشابه في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر: 23]، والمتشابه: هو المتماثل، يعني يماثِلُ بعضه بعضًا، ويُشْبِه بعضُه بعضًا، ويؤيِّد بعضه بعضًا، ويُصدِّق بعضه بعضًا، متماثل في الصِّدق.
فالقرآنُ كلُّه مُحكمٌ وكله مُتشابِهٌ، كله محكم بمعنى مُتقَن؛ يتميز الصدق من الكذب في أخباره، والرُّشد من الغي في أوامره.
وكلُّه متشابه بمعنى: متماثل، ومتناسب، يوافق بعضه بعضًا، ويصدِّق بعضه بعضًا، ويؤيِّد بعضه بعضًا، فإذا أمرَ بأمرٍ لمْ يأمر بنقيضه في موضعٍ آخر، وإنما يأمرُ به أو نظيره أو بما دونه، وإذا نهى عن شيءٍ في موضعٍ لمْ يأمر به في موضعٍ آخر، بل ينهى عن نظيره، وعن (............)
والمحكم والمتشابه كلٌّ منهما متلازم، فالكلام المحكم مُتقَن هو المتماثل المتلازم، والمتماثل المتلازم يصدِّق بعضه هو المحكم المتقن، ووصْفُ القرآن بأنه هنا محكم وهنا محكمٌ، متشابه، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7]، فبعضُه محكمٌ، وبعضه متشابه.
فالمراد بالمحكم هنا: يعني النسبي، هو متشابه عند بعض الناس، وإذا كان متشابهًا عند بعض الناس، فلا يكون متشابهًا عند البعض الآخر.
فالمحكم والمتشابه النسبي، هذا محكمٌ ومتشابه نسبي، هو بالنسبة لبعض الناس، فإذا تشابه عند بعض الناس بعض الآيات، يأتي المحكم ويزيل هذا المتشابه.
مثالُ ذلك: إذا احتجَّ النصرانيُّ على تعدد الآلهة بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9].
قال النصراني:نَحْنُ ضميرُ جمعٍ، هذا يدل على أن الآلهة متعددة، فاللهُ عيسى ومريم تعالَى اللهُ.
يأتي المحكم فيقضي على هذا المتشابه، وهو قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163]، وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة: 73]، ويكون ضميرُ الجمع، يُؤتى به ليدل على العَظمة، وعلى عظمة أسمائه وصفاته، وطاعة الملائكة له، فيكون: نحن؛ للتعظيم.
إذا كان الملوك وغيرهم في مراسمهم الملكية يقولون: نحن، نحن فلان فعلنا كذا وكذا، فاللهُ أولى بالتعظيم، نعم.
المتن
وصفه اللهُ تعالى بكل واحدة من هذه الأوصاف الثلاثة، فوصفه بأنه محكم في عدة آيات، وأنه: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].
ومعنى ذلك: أنه في غاية الإحكام، ونهاية الانتظام، فأخباره كلها حقٌّ وصِدقٌّ لا تناقض فيها ولا اختلاف، وأوامره كلها خيرٌ وبركة وصلاح، ونواهيه متعلِّقة بالشرور، والأضرار، والأخلاق الرذيلة، والأعمال السيئة، فهذا إحكامه.
ووصفَه بأنه متشابه في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر: 23] أي: متشابهًا في الحسن، والصدق، والحق، ووروده بالمعاني النافعة المزكية للعقول، المطهِّرة للقلوب، المصلِحة للأحوال. فألفاظه أحسن الألفاظ، ومعانيه أحسن المعاني.
ووصفَه بأن: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] فهنا وصفه بأن بعضه هكذا، وبعضه هكذا، وأن أهل العلم بالكتاب يردون المتشابه منه إلى المحكم فيصير كلُّه محكمًا، ويقولون: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] أي: وما كان من عنده فلا تناقض فيه، فما اشتبه منه في موضع فسَّره الموضع الآخر المحكم، فحصل العلم، وزال الإشكال.
ولهذا النوع أمثلة:
منها: ما تقدم من الإخبار بأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي مَن يشاء، ويضل مَن يشاء، فإذا اشتبهتْ على مَن ظنَّ به خلاف الحكمة، وأن هدايته وإضلاله يكون جُزافًا لغير سببٍ، وضَّحت هذا الإطلاق الآيات الأُخَر، الدالة على أن هدايته لها أسباب يفعلها العبد ويتصف بها، مثل قوله: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ [المائدة: 16] وأن إضلاله لعبده لها أسباب من العبد، وهو توليه للشيطان فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأعراف: 30] فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5].
وإذا اشتبهتْ على الجَبْرِيِّ، الذي يرى أن أفعال العباد مجبورون عليها، بيَّنتها الآيات الأخر الكثيرة، الدالة على أن الله لم يجبر العباد، وأن أعمالهم واقعة باختيارهم وقدرتهم، وأضافها إليهم في آياتٍ غير منحصرة.
كما أن هذه الآيات التي أضاف الله فيها الأعمال إلى العباد، حَسَنَها وسَيِّئَها، إذا اشتبهت على القدرية النُّفَاة، وظنوا أنها منقطعة عن قضاء الله وقَدَرِه، وأن الله ما شاءها منهم، ولا قدّرها، تُليت عليه الآيات الكثيرة الصريحة بتناول قدرة الله لكل شيء من الأعيان، والأعمال، والأوصاف، وأن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أعمال العباد، وأن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
وقيل للطائفتين: إن الآيات والنصوص كلها حق، ويجب على كل مُسْلِمٍ تصديقها، والإيمان بها كلها، وأنها لا تتنافى، فهي واقعةٌ منهم، وبقدرتهم وإرادتهم، والله تعالى خالقهم، وخَلَق قدرتهم وإرادتهم، وما أُجمل في بعض الآيات فسَّرته آياتٌ أُخَر، وما لم يتوضح في موضع توضح في موضع آخر، وما كان معروفًا بين الناس، ووردَ فيه القرآن، أمرًا، أو نهيًا، كالصلاة، والزكاة، والزنى، والظلم، ولم يفصِّله، فليس مجملًا؛ لأنه أرشدهم إلى ما كانوا يعرفون، وأحالهم على ما كانوا به متلبسين، فليس فيه إشكال بوجه، والله أعلم.
القاعدة الحادية والعشرون: القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان، والأحوال، في أحكامه الراجعة للعُرْفِ، والعوائد.
الشرح
الزمان والمكان والأحوال في أحكامه الراجعة للعُرْفِ.. نعم.
المتن
القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان، والمكان، والأحوال، في أحكامه الراجعة للعُرْفِ، والعوائد.
وهذه قاعدة جليلة المقدار، عظيمة النفع؛ فإنَّ الله أمرَ عباده بالمعروف؛ وهو: ما عُرف حُسنه شرعًا، وعقلًا، وعُرفًا، ونهاهم عن المنكر؛ وهو: ما ظهر قبحه شرعًا، وعقلًا، وعُرفًا، وأمرَ المؤمنين بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ووصفهم بذلك.
فما كان من المعروف لا يتغير في الأحوال، والأوقات، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من الشرائع الراتبة، فإنه أمرَ به في كل وقت، والواجب على الآخِرين نظير الواجب على الأولين من هذه الأُمة.
وما كان من المنكر لا يتغير كذلك بتغير الأوقات كالشرك، والقتل بغير حق، والزنى، وشُرْب الخمر، ونحوها، ثبتت في كل زمان ومكان، لا تتغير، ولا يختلف حكمها.
وما كان يختلف باختلاف الأمكنة، والأزمنة، والأحوال، هو المراد هنا؛ فإن الله تعالى يَرُدُّهم فيه إلى العُرف، والعادة، والمصلحة المتعينة في ذلك الوقت؛ وذلك أنه أمر بالإحسان إلى الوالدين بالأقوال والأفعال، ولم يعيِّن لعباده شيئًا مخصوصًا من الإحسان والبر؛ ليعم كل ما تجدَّد من الأوصاف، والأحوال، فقد يكون الإحسان إليهم في وقت غير الإحسان في الوقت الآخر، وفي حق شخص دون حق الشخص الآخر.
الشرح
نعم، فاللهُ أمرَ بالإحسان إلى الوالدين بكل ما يُسمى إحسانًا، مثلًا: من الإحسان للوالدين مثلًا في زمنٍ يختلف عن الزمن الآخر، مثلًا من الإحسان إلى الوالدين الآن: وُجد الآن أشياء جَدَّت ليست موجودةً في السابق، مثلًا يحسن إلى الوالدين بما يحتاجون إليه من أمور التقنية أيضًا الحديثة، ووسائل التدفئة، وكذلك وسائل التبريد، والهاتف، وما أشبه ذلك..
هذه الأمور ما كانت في السابق، الآن صارت من الإحسان، في الأول ما كانت، ما تُعرف هذه الأشياء، فهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان.
الإحسان يختلف، الإحسان في هذا الزمن غير الزمن السابق، في الزمن السابق يعطيهما أشياء، نوعًا من الأكل خاصًّا، إذا ما كان عنده إلا تمر، يعطيهم تمرًا، ويكفي، هذا اللي عنده.
لكن في هذا الزمن، لا، ما يكفي يعطيهم تمرًا، يذهب يقول: أحسنتُ إليه مثل ما عملَ الناس.
لا، نقول: يختلف هذا باختلاف الأزمان، لازِم عطيهم ما يناسبهم في هذا الزمن، وهكذا، نعم.
المتن
فالواجب الذي أوجبه الله: النظر في الإحسان المعروف في وقتك، ومكانك، في حق والديك.
الشرح
نعم، المكان والزمان هو الوقت، نعم.
المتن
ومثلُ ذلك ما أمر به من الإحسان إلى الأقارب، والجيران، والأصحاب، ونحوهم؛ فإن ذلك راجع في نوعه وجنسه وأفراده إلى ما يتعارفه الناس إحسانًا، وكذلك ضده من العقوق، والإساءة، يُنظر فيه إلى العرف.
وكذلك قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 228].
فردَّ الله الزوجين في عشرتهما وأداء حقِّ كلٍّ منهما على الآخر على المعروف المعتاد عند الناس في قطرك، وبلدك، وحالك، وذلك يختلف اختلافًا عظيمًا لا يمكن إحصاؤه عدًّا، فدخل ذلك كله في هذه النصوص المختصرة، وهذا من آيات القرآن، وبراهين صدقه.
وقال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا [الأعراف:31] يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف: 26].
فأمرَ عباده بالأكل، والشرب، واللباس، ولم يعيِّن شيئًا من الطعام، والشراب، واللباس، وهو يَعْلَمُ أن هذه الأمور تختلف باختلاف الأحوال، فيتعلَّق بها أمرُه حيث كانت، لا يُنظر إلى ما كان موجودًا منها وقت نزول القرآن فقط.
وكذلك قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] ومن المعلوم أن السلاح والقوة الموجودة وقت نزول القرآن غير نوع القوة الموجودة بعد ذلك، فهذا النص يتناول كل ما يُستطاع من القوة في كل وقت بما يناسبه ويليق به.
الشرح
نعم، إذا كان في الزمن الأول القوة مثلًا السيف، والبندقية، والخيل، إعداد الخيل، هذه القوة، لكن جَدَّت الآن قوة جديدة، القنابل والأسلحة الجديدة، وكذلك المركوبات الجديدة والطائرات، إلى غيرِ ذلك.
والنبي ﷺ قال: ألا إنَّ القوةَ الرَّمي ([3])، وهذا من جوامع الكَلِم، ولمْ يحدد الرمي، الرمي قد يكون بالسيف، بالعصا، يكون بالقنبلة إلى غير ذلك، ألا إنَّ القوةَ الرَّمي، هذا من جوامع الكلم، نعم.
المتن
وكذلك لما قال تعالى: إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] لم يُعيِّن لنا نوعًا من التجارة، ولا جنسًا، ولم يحدِّد لنا ألفاظًا يحصل بها الرضى، وهذا يدل على أن الله أباح كل ما عُدَّ تجارة ما لم ينهَ عنه الشارع، وأن كل ما حصل به الرضى من الأقوال والأفعال انعقدت به التجارة، فما حقَّق الرضى من قولٍ أو فعلٍ انعقدت به المعاوضات، والتبرعات. وكم في القرآن من هذا النوع شيء كثير.
القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصدِ أمثلةِ القرآن.
اعلم أن القرآن الكريم احتوى على أعلى، وأكمل، وأنفع، المواضيع التي يحتاج الخَلق إليها في جميع الأنواع؛ فقد احتوى على أحسن طُرُقِ التعليم، وإيصال المعاني إلى القلوب بأيسر شيء وأوضحه.
فمن أنواع تعاليمه العالية: ضربُ الأمثال، وهذا النوع يذكره الباري في الأمور المهمَّة، كالتوحيد، وحال الموحِّد، والشرك، وحالة أهله، والأعمال العامة الجليلة، ويقصد بذلك كله توضيح المعاني النافعة، وتمثيلها بالأمور المحسوسة؛ ليصير القلبُ كأنه يشاهد معانيها رأي عين.
وهذا من عناية الباري بعباده، ولطفه؛ فقد مثَّل الله الوحي والعلم الذي أنزله على رسوله في عدة آيات بالغيث والمطر النازل من السماء، وقلوب الناس بالأراضي والأودية، وأن عمل الوحي والعلم في القلوب كعمل الغيث والمطر في الأراضي، فمنها أراضٍ طيبة تَقْبَلُ الماء، وتُنْبِتُ الكَلَأَ والعُشْب الكثير، كمَثَلِ القلوب الفاهمة، التي تفهم عن الله ورسوله وَحْيَهُ، وكلامه، وتَعْقِلُه، وتعمل به: علمًا، وتعليمًا، بحسب حالها، كالأراضي بحسب حالها.
ومنها أراضٍ تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، فينتفع الناس بالماء الذي تمسكه، فيشربون، ويسقون مواشيهم وأراضيهم، كالقلوب التي تحفظ الوحي من القرآن والسنة، وتلقيه إلى الأُمة، ولكن ليس عندها من الدراية والمعرفة بمعانيه ما عند الأولين، وهؤلاء على خير، ولكنهم دون أولئك.
ومنها أراضٍ لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، كمثل القلوب التي لا تنتفع بالوحي، لا علمًا، ولا حفظًا، ولا عملًا.
ومناسَبَةُ الأراضي للقلوب كما ترى في غاية الظهور. وأما مناسبة تشبيه الوحي بالغيث فكذلك؛ لأن الغيث فيه حياة الأرض، والعباد، وأرزاقهم الحسية. والوحي فيه حياة القلوب، والأرواح، ومادة أرزاقهم المعنوية.
وكذلك مثَّل الله كلمة التوحيد بالشجرة الطيبة التي تؤتي أُكُلها كل حينٍ بإذن ربها، فكذلك شجرة التوحيد ثابتة بقلب صاحبها، معرفةً، وتصديقًا، وإيمانًا، وإرادةً لمُوجِبِهَا، وتؤتي أُكُلَها وهو منافعها كل وقتٍ، من النيَّات الطيبة، والأخلاق الزَّكية، والأعمال الصالحة، والهدي المستقيم، ونفعٍ صاحبها، وانتفاع الناس به، وهي صاعدة إلى السماء؛ لإخلاص صاحبها، وعلمه، ويقينه.
ومثَّل اللهُ الشرك والمشرك بأن مَن اتخذ مع الله إلهًا يتعزَّز به، ويزعم منه النفع، ودفع الضرر، في ضعفه ووهنه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت، وأوهاها، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا إلى ضعفها! كذلك المشرك ما ازداد باتخاذه وليًّا ونصيرًا من دون الله إلَّا ضعفًا؛ لأن قلبه انقطع عن الله، ومَن انقطع قلبه عن الله حلَّه الضعف من كل وجهٍ، وتعلقه بالمخلوق زاده وهنًا إلى وهنه؛ فإنه اتَّكَلَ عليه، وظنَّ منه حصول المنافع، فخاب ظنه، وانقطع أمله!
وأما المؤمن فإنه قويٌّ بالله بقوة إيمانه، وتوحيده، وتعلُّقه بالله وحده الذي بيده الأمر، والنفع، ودفعُ الضرر، وهو متصرِّف في أحواله كلها، فالعبد الذي على صراطٍ مستقيم، في أقواله، وأفعاله، منطلق الإرادة، حرًّا عن رِقِّ المخلوقين، غيرَ مُقيّدٍ لهم بوجه من الوجوه؛ بخلاف المشرك؛ فإنه كالعبد الأصم الأبكم، الذي هو كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأتي بخير؛ لأن قلبه متقيد للمخلوقين، مُسْتَرقٌّ لهم، ليس له انطلاقٌ وتصرُّفٌ في الخير، فمثله أيضًا كالذي خرَّ من السماء فَتَخَطَّفَتْه الطيور، ومزَّقته كل ممزَّق.
وهؤلاء الذين زعموا أنهم آلهة ينفعون ويُدعون، لو اجتمعوا كلهم على خلقِ أضعف المخلوقات -وهو الذباب- لم يَقْدِرُوا باجتماعهم على خَلقِه، فكيف ببعضهم؟ فكيف بفردٍ من مَلِيَّاتِ الألوف منهم؟
وأبلغُ من ذلك أن الذباب لو يسلبهم شيئًا لم يقدروا على استخلاصه منه وردِّه، فهل فوق هذا الضعف ضعف؟ وهل أعظم من هذا الغرور الذي وقع فيه المشرك شيء؟ وهو مع هذا الغرور، وهذا الوهن والضعف منقسمٌ قلبه بين عدَّة آلهة، كالعبد الذي بين الشركاء المتشاكِسين، لا يتمكن من إرضاء أحدهم دون الآخر، فهو معهم في شرٍّ دائمٍ، وشقاء متراكم.
فلو استحضر المشرك بعض هذه الأحوال الوخيمة لربأ بنفسه عما هو عليه، ولعلم أنه قد أضاع عقله ورأيه بعدما أضاع دينه.
وأما الموحِّد فإنه خالصٌ لربه، لا يعبد إلا هو، ولا يرجو ويخشى إلا هو، وقد اطمأنَّ قلبه واستراح، وعَلِمَ أنه على الدين الحق، وأن عاقبته أحمد العواقب، ومآله الخير، والفلاح، والسعادة الأبدية، فهو في حياةٍ طيبة، ويطمع في حياة أطيب منها.
الشرح
وهذا واضح؛ لأن المُوحِّد مثله مثل العبد الذي له سيدٌ واحد، فهو يسترضيه، ويعلم ما يرضيه، ويقوم بما يرضيه، فهو مستريح.
ومَثَلُ المُشرِك كمثل العبدِ المشترك؛ له عدة أسياد، ما يدري متى يرضيهم، إن أرضى هذا أغضب هذا، وإن أغضب هذا.. فهو مُتعَب من تطاحُنِ الشركاء فيه، قال اللهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 29].
هذا في بيان حِصْنِ التوحيد وصحته، وهذا في بيان سوء الشرك وعاقبته، نعم.
المتن
ومثَّل الله الأعمال بالبساتين، فذكر العمل الكامل الخالص له، الذي لم يَعْرِضْ له ما يفسده كبستان في أحسن المواضع وأعلاها، تنتابه الرياح النافعة، وقد ضَحَى وبرز للشمس، وفي خلاله الأنهار الجارية المتدفقة، فإن لم تكن غزيرة فإنها كافية له، كالطَّلِّ الذي ينزل من السماء، ومع ذلك فأرضه أطيب الأراضي وأزكاها، فمع توفُّر هذه الشروط لا تسأل عما هو عليه من زهاء الأشجار، وطيب الظلال، ووفور الثمار، فصاحبه في نعيمٍ ورَغَدٍ متواصِل، وهو آمنٌ عن انقطاعه وتلفه، فإن كان هذا البستان لإنسان قد كبر وضعف عن العمل، وعنده عائلة ضعاف، لا مساعدة منهم ولا كفاءة، وقد اغتبط به حيث كان مادته، ومادة عائلته، ثم إنه جاءته آفة وإعصار أحرقه، وأتلفه عن آخره، فكيف تكون حسرة هذا المغرور؟ وكيف تكون مصيبته؟
وهذا هو الذي جاء بعد العمل بما يبطل عمله الصالح من الشرك، أو النفاق، أو المعاصي المحرقة، فيا ويحه بعد ما كان بستانه زاكيًا زاهيًا أصبح تالفًا، قد أيس من عوده، وبقي بحسرته مع عائلته!
فهذا من أحسن الأمثال وأنسبها، فقد ذكر الله صفة بستانِ مَن ثبَّته الله على الإيمان والعمل، وبستانَ مَن أبطل عمله بما ينافيه ويضاده.
ويُؤخذ من ذلك: أن الذي لم يُوَفَّقْ للإيمان ولا للعمل أصلًا، أنه ليس له بستانٌ أصلًا.
ووجهُ تشبيه الأعمال بالبساتين: أن البساتين تمدها المياه، وطيب المحل، وحسن الموقع، فكذلك الأعمال، يمدها الوحي النازل لحياة القلوب الطيبة.
وقد جمعَ العامل جميع شروط قبول العمل، من الاجتهاد، والإخلاص، والمتابعة، فأثمر عمله كل زوج بهيج.
وقد مثَّل الله عمل الكافر بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، فيأتيه وقد اشتد به الظمأ، وأنهكه الإعياء، فيجده سرابًا! ومثَّله بالرماد الذي أُحرق، فجاءته الرياح فَذَرَّتْهُ فلمْ تُبْقِ منه باقية، وهذا مناسِبٌ لحاله، وبطلان عمله، فإن كفره ومعاصيه بمنزلة النار المحرقة، وعمله بمنزلة الرماد والسراب الذي لا حقيقة له، وهو كان يعتقده نافعًا له، فإذا وصله ولم يجده شيئًا تقطعت نفسه حسرات، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه.
كما مثَّل نفقات المخلصين بذلك البستان الزكي الزاهي، ومثَّل نفقات المرائين بحجرٍ أملس عليه شيء من تراب، فأصابه مطرٌ شديد تَرَكَهُ صَلْدًا لا شيء فيه؛ لأن قلب المرائي لا إيمان فيه، ولا إخلاص، بل هو قاسٍ كالحجر، فنفقته حيث لم تَصْدُرْ عن إيمان، بل رياء وسمعة، لم تُؤَثِّرْ في قلبه حياة، ولا زكاة، كهذا المطر الذي لم يُؤَثِّرْ في هذا الحجر الأملس شيئًا.
وهذه الأمثال إذا طُبقت على ممثَّلاتها وضَّحتها، وبيَّنتها، وبيَّنت مراتبها من الخير، والشر، والكمال، والنقصان.
ومثَّل الله حال المنافقين بحال مَن هو في ظلمة فاستوقد نارًا من غيره، ثم لما أضاءت ما حوله وتبيَّن له الطريق ذهبَ نورهم، وانطفأ ضوؤهم، فبقوا في ظلمة عظيمة أعظم من الظلمة التي كانوا عليها أولًا!
وهكذا المنافق، استنار بنور الإيمان، فلما تبيَّن له الهدى غلبت عليه الشقوة، واستولت عليه الحيرة، فذهب عنه نوره أحوج ما هو إليه، وبقي في ظلمة متحيِّرًا، فهم لا يرجعون؛ لأن سنة الله في عباده أن مَن بان له الهدى، واتضح له الحق، ثم رجع عنه أنه لا يوفقه بعد ذلك للهداية؛ لأنه رأى الحق فتركه، وعرف الضلال فاتبعه، وهذا المثل ينطبق على المنافقين، الذين تبصَّروا وعرفوا، ثم غلبت عليهم الأغراض الضارة، فتركوا الإيمان.
والمثال الثاني هو قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة: 19] ينطبق على المنافقين، الضالين، المتحيِّرين، الذين يسمعون القرآن ولم يعرفوا المراد منه، وأعرضوا عنه، وكرهوا سماعه اتباعًا لرؤسائهم وسادتهم.
ومثَّل الله الحياة الدنيا، وزهرتها، والاغترار بها، بحالة زهرة الربيع، تعجب الناظرين، وتغر الجاهلين، ويظنون بقاءها، ولا يُؤَمِّلُون زوالها، فَلَهَوا بها عما خُلقوا له، فأصبحت عنهم زائلة، وأضحوا لنعيمها مفارقين في أسرع وقت، كهذا الربيع إذا أصبح بعد الاخضرار هشيمًا، وبعد الحياة يبسًا رميمًا، وهذا الوصف قد شاهده الخَلق، واعترف به البر والفاجر، ولكن سُكْر الشهوات، وضعْف داعي الإيمان، اقتضى إيثار العاجل على الآجل.
الشرح
لا شك أن هذه الأمثال كما قال الله: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43].
([1]) أخرجه أحمد (2803), والحاكم (6304), وصححه الألباني في صحيح الجامع (2961).
([2])أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة- باب تحريم الظلم (2577).
([3])أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب فضل الرَّمي والحثّ عليه وذمّ مَنْ علمه ثم تركه (1917).